يحيى بن أكثم

يحيى بن أكثم (159-242هـ/775-857م) أبومحمد، يحيى بن أكثم بن محمد التَّميمي المَرْوَزي، نسبة إلى قبيلة تميم التي ينتمي إليها، وإلى مدينة «مرو» عاصمة خراسان التي وُلد فيها. وهوأحد أحفاد أكثم بن صيفي حكيم العرب في الجاهلية. كان قاضياً من القضاة المعدودين في عصره، رفيع القدر، عظيم الشأن، اشتهر بين الناس بفهمه وفضله، ورياسته وسياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء وأصحاب السلطان.

تلقى العلوم الفقهية في شبابه عن أشهر فهماء القرن الثاني الهجري، فسمع من عبد الله بن المبارك وسـفيان ابن عُيَيْنة ووَكِيع بن الجرَّاح وغيرهم، حتى أصبح عالماً بالفقه، بصيراً بالأحكام، صارماً في القضاء لا يطعن أحد عليه فيه. وكان يقوم بنفسه باختبار المرشحين لمنصب القضاء، ولا يُقرُّ لهم إلاّ بعد تحققه من صلاحهم وحسن تأهلهم لهذا المنصب الجليل.

ومن أبرز تلامذته الذين رووا عنه علي بن المديني إمام المحدِّثين في عصره، ومحمد بن إسماعيل البخاري صاحب «الجامع السليم» وأبوحاتم الرازي المحدِّث المفسِّر وغيرهم.

وكان الخليفة المأمون قد برع في مختلف العلوم والفنون، وكان مجلسه يغصُّ بأهل الفهم والفضل، فلما سمع بيحيى بن أكثم، وعهد ما عليه من الفهم والعقل؛ استنادىه إليه في سنة 202هـ، وامتحنه في بعض المسائل الفقهية، فأخذ بمجامع قلبه، وأمر بألاَّ يُحجب عنه ليلاً ولا نهاراً، فكان حتى ولاَّه القضاء في البصرة، ثم قلَّده منصب قاضي القضاة في بغداد وجعل في يده تدبير أهل مملكته، فأصبح الوزراء ورجال الدولة آنئذ لا يبرمون شيئاً من أحكامهم إلاّ بعد مطالعة يحيى بن أكثم واستشارته.

وقد توثقت العلاقة بين المأمون وبينه، فكانا يخرجان معاً إلى النزهات، ويزوره يحيى في قصره ويبيت عنده، ويروي أخباره، ويفضي إليه المأمون بأسراره. ولا يُعهد أحد غلب على سلطان الخليفة المأمون وصار من أخلص المقربين إليه إلا يحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن أبي دؤاد.

ولما توجه المأمون إلى مصر في سنة 215هـ صَحِبه القاضي يحيى بن أكثم، فولاه قضاء مصر مدة ثلاثة أيام فقط، ثم خرج مع المأمون وقفلا راجعين إلى بغداد.

بيد حتى يحيى بن أكثم ـ مع ما تبوأه من المكانة الفهمية ومع ما ينبغي للقاضي الفقيه حتى يتصف به من الرزانة والوقار ـ كان عـذب اللسان، حلوالحديث، حسن العِشرة، لا يدع الهزل في مجالسه، ولا النادىبة في مسامراته، فقد سئل أحد البلغاء عن يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد: أيُّهما أنبلُ،يا ترى؟ فنطق: «كان أحمد يَجِدُّ مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوِّه». وقد عرَّضه هذا المزاح لنقد الحسَّاد وتجريحهم إياه، حتى هجاه بعض الشعراء ورموه بالتهم الشنيعة، بيد حتى الإمام أحمد بن حنبل كان يدافع عنه ويُجلُّه وينكر ما ينسب إليه، ويقول: «سبحان الله! من يقول هذا،يا ترى؟ ما عهدتُ في يحيى بن أكثم بدعة قط».

وقد استطاع بذكائه وقوة حجته حتى يحمل المأمون على تحريم زواج المتعة بعد حتى كان مقتنعاً به. وكان جريئاً ثابت الرأي في قضية «خَلْق القرآن» التي نادى بها المأمون وحمل الناس عليها، وأوذي من جَرَّائها لفيف من الفهماء، فوقف يحيى يعارض المأمون ويتصدى لـه، ويقول: «القرآن كلام الله، فمن نطق إنه مخلوق يُستتاب، فإن تاب وإلا ضُرِبت عنقه». ولعل هذا الخلاف مما أثار نقمة المأمون وسخطه عليه في آخر حياته، فأبعده عنه، وأوصى أخاه المعتصم بألاَّ يُقَرِّبه ولا يستوزره، متَّهماً إياه بخبث السريرة وسوء الطوية.

فلما تولى المعتصم الخلافة بعد وفاة أخيه المأمون سنة 218هـ سار سيرة أخيه في تبني فكرة خلق القرآن، وأخذ يمتحن الناس بها، وهويفهم برأي يحيى بن أكثم ومجاهرته برفضها، فعزلـه عن القضاء، فلزم يحيى بيته وانبتر عن الناس، وامتدت عزلته إلى آخر أيام الواثق بالله. حتى إذا آل الأمر إلى المتوكل على الله سنة 232هـ ردّه إلى عمله في القضاء بتزكية من الإمام أحمد بن حنبل، بيد حتى المتوكل ما لبث حتى عزله سنة 240هـ، واستصفى أمواله، فرحل إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ومعه أخته، وعزم على المجاورة هناك، ثم تناهى إليه حتى المتوكل رضي عنه وصفا قلبه عليه، فانقلب راجعاً إلى العراق، فما كاد يصل إلى «الرَّبَذة» وهي من قرى المدينة المنورة حتى سقم وأدركته المنية فيها، وكان آنئذٍ قد بلغ من العمر ثلاثاً وثمانين سنة.

يذكر ابن خلكان حتى الخط التي ألَّفها القاضي يحيى بن أكثم كانت أجلَّ الخط في الفقه، فهجرها الناس لطولها. ولـه خط في الأصول، وكتاب سماه «التنبيه»، ولكن هذه الخط طواها الزمان ولم يُكشف عنها.