معاهدة ڤردون

عودة للموسوعة

معاهدة ڤردون

معاهدة ڤردان
Treaty of Verdun
الامبراطورية الكارولنجية في أقصى امتداد، مع الأقسام الثلاث الرئيسية في 843.

المنطقة الوردية تبين فرنسيا الغربية.
المنطقة الخضراء تبين فرنسيا الوسطى.

المنطقة الصفراء تبين فرنسيا الشرقية.
التاريخ أغسطس 843
المسقط ڤردان على الموز
المشاركون لوثير الأول، لويس الألماني، شارل الأصلع
النتائج الأراضي المقسمة من الامبراطورية الكارولنجية إلى ثلاث ممالك؛ والإرث والنزاعات المتأثرة بذلك في اوروبا الغربية حتى القرن العشرين.
حضارات اوروپا الكبرى قبل الحرب الكارولنجية الأهلية للفرنجة (840-843): اوروبا الغربية والحضارات خارجها لدى وفاة شارلمان (814) والامبراطور لويس الورع (ت. 840).

معاهدة ڤردان Treaty of Verdun، المسقطة في أغسطس 843، كانت أولى المعاهدات التي قسّمت الامبراطورية الكارولنجية إلى ثلاث ممالك بين الأبناء الثلاثة الأحياء للملك لويس الورع، ابن وخليفة شارلمان. المعاهدة وُقعت في ڤردان على الموز لتنهي الحرب الأهلية الكارولنجية التي دامت ثلاث سنوات.

خلفية

الامبراطورية الكارولنجية بعد معاهدة ڤردون تقسيمات عام 843.
الامبراطورية الكارولنجية بعد معاهدة ميرسن

وأصدر شارلمان في عام 787 إلى جميع أساقفة فرنسا ورؤساء أديرتها "توجيهات لدراسة الآداب"، يلوم فيها رجال الدين على ما يستخدمونه من "اللغة الفظة" و"الألسنة غير المهذبة" ويحث جميع كنيسة ودير على إنشاء مدارس يتفهم فيها رجال الدين على السواء القراءة والكتابة. ثم أصدر توجيهات أخرى في عام 789 يدعوفيها مديري هذه المدارس حتى "يحرصوا على ألا يفرقوا بين أبناء رقيق الأرض وأبناء الأحرار، حتى يمكنهم حتى يأتوا ويجلسوا على المقاعد نفسها ليدرسوا النحو، والموسيقى، والحساب". وفي عام 805 صدرت تعليمات أخرى تهيئ لهذه المدارس تعليم الطب، وتعليمات غيرها تندد بالخرافات الطبية. ومما يدلنا على حتى أوامره لم تمضى أدراج الرياح كثرة ما أنشئ في فرنسا وألمانيا الغربية من مدارس في الكنائس والأديرة؛ فلقد أنشأ ثيودولف أسقف أورليان مدارس في جميع أبرشية من أسقفيته، رحب فيها بجميع الأطفال على السواء، وحرم على القساوسة الذين يتولون التدريس حتى يتناولوا أجوراً، وذلك أول مثل للتعليم العام المجاني في تاريخ كله. ونشأت مدارس هامة، متصلة كلها تقريباً بالأديرة، في خلال القرن التاسع في تور، وأوكسير، وبافيا، وسانت جول، وفلدا، وگنت وغيرها من المدن. وأراد شارلمان حتى يوفر حاجة هذه المدارس إلى المفهمين، فاستقدم الفهماء من أيرلندة، وبريطانيا، وإيطاليا، ومن هذه المدارس نشأت في المستقبل الجامعات الأوربية.

على أننا يجب حتى لا نغالي في تقدير القيمة العقلية لذلك العهد. فلقد كان هذا البعث المدرسي أشبه بيقظة الأطفال منه بالنضوج الثقافي الذي كان قائماً وقتئذ في القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، فلم يثمر هذا البعث كتاباً كباراً من أي نوع كان. وكتابات ألكوين الشكلي مملة، مقبضة، خانقة؛ وليس فيها ما ينفي عنه تهمة التحذلق والتباهي بالفهم، وتدل على أنه إنسان لطيف يستطيع حتى يوفق بين السعادة والتقي؛ وليس فيها ما يشير على هذا وينفي ذاك إلا بعض وسائله وأبيات من شعره. ولقد أنشأ كثير من الناس أشعاراً في أثناء هذه النهضة الفهمية القصيرة الأجل، منها قصائد ثيودولف التي فيها قدر كاف من الجمال على طريقتها الضعيفة الخاصة بها. غير حتى الأثر الأدبي الخالد الوحيد الذي خلفه ذلك العهد هوالترجمة المختصرة البسيطة لشارلمان التي خطها اجنهارد. وهي تحذوحذوكتاب ستونيوس حياة القياصرة، بل الكتاب الأول ليقتطف بعض فقرات من الثاني يصف بها شارلمان. على أننا يجب حتى نغفر جميع شيء للمؤلف الذي يصف نفسه في تواضع جم بأنه "همجي، لا يعهد إلا قليلاً من لسان الرومان"، وما من شك رغم هذا الاعتراف في أنه رجل عظيم المواهب، لأن شارلمان عيّنَه أستاذاً اقصره، وخازناً لبيت ماله، واتخذه صديقاً مقرباً له، واختاره ليشرف على الكثير من العمائر في حكمه الإنساني العظيم، ولعله قد اختاره لتخطيطها.

وشيدت قصور للإمبراطور في أنجلهيم ونجمجين، وأقام في آخن عاصمته المحببة القصر والكنيسة الصغيرة الذائعي الصيت الذين تعرضا لأكثر من ألف من الأخطار وظلا قائمين حتى دمرتهما قنابل الحرب العالمية الثانية. وقد أقام المهندسون المجهولون تلك الكنيسة على نمط كنيسة سان فيتال برافنا وهي التي أقيمت على غرار الكنائس البيزنطية السورية؛ فكانت النتيجة حتى وجدت كنيسة شرقية جانحة في الغرب. وقد أقيمت فوق البناء المثمن قبة مستديرة، وقسم البناء من الداخل عدة أقسام بطابقين من عمد مستديرة "وزينت بمصابيح من المضى والفضة، وحظارٍ، وأبواب من البرونز المصمت، وأعمدة وبوارق جيء بها من روما ورافنا"، وينقش فسيفسائي ذائع الصيت في القبة.

وكان شارلمان سخياً غاية السخاء على الكنيسة، ولكنه مع هذا جعل نفسه سيدها، واتخذ من عقائدها ورجالها أدوات لتعليم الناس وحكمهم. وكانت كثرة رسائله متعلقة بشئون الدين، فكان يقذف الفاسدين من موظفيه والقساوسة الدنيويين بعبارات مقتبسة من الكتاب المقدس؛ وإن ما في أقواله من القوة لينفي عنه مظنة حتى تقواه كانت خدعة سياسية. فقد كان يبعث بالمال إلى المسيحيين المنكوبين في البلاد الأجنبية، وكان يصر في مفاوضاته مع الحكام المسلمين على حتى يراعوا العدالة في معاملة رعاياهم المسيحيين. وكان للأساقفة شأن كبير في مجالسه، وجمعياته، ونظامه الإداري، ولكنه كان ينظر إليهم، رغم احترامه الشديد لهم، على أنهم عماله بأمر الله، ولم يكن يتردد في حتى يصدر أوامره لهم، حتى في المسائل المتعلقة بالعقائد أوالأخلاق. ولقد ندد بعبارة الصور والتماثيل حين كان البابوات يدافعون عنها، وطلب إلى جميع قس حتى يبعث إليه بوصف مكتوب لكيفية التعميد في أبرشيته، ولم تكن توجيهاته للبابوات أقل من هداياه لهم، وقضى على ما يحدث في الأديرة من تمرد، ووضع نظاماً للرقابة الصارمة على أديرة النساء ليمنع "النادىرة، والسكر، والشره" بين الراهبات. سأل القساوسة في أمر وجهه لهم عام 811 عما يقصدون بقولهم إنهم ينبذون العالم على حين "أننا نرى" بعضهم يكدحون يوماً بعد يوم بجميع الوسائل، ليزيدوا أملاكهم، فتارة يتخذون التهديد بالنار الأبدية وسيلة يستخدمونها لأغراضهم الخاصة، وتارة يعدون الناس بالنعيم السرمدي لهذه الأغراض نفسها، وطوراً يسلبون السذج أموالهم باسم الله أواسم أحد القديسين، ويلحقون بذلك أعظم الضرر بورثتهم الشرعيين". على أنه رغم هذا قد أبقى لرجال الدين محاكمهم الخاصة، وأمر بأن يؤدي إلى الكنيسة عشر غلة الأرض، وجعل لرجال الدين الإشراف على شئون الزواج، والوصايا، وأوصى هونفسه بثلثي ضياعه لأسقفيات مملكته(37)، ولكنه كان يطلب إلى الأساقفة بين الفينة والفينة حتى يقدموا "هبات" قيمة لتساعد على الوفاء بنفقات الحكومة.

وقد أثمر هذا التعاون الوثيق بين الكنيسة والدولة فكرة من أجلّ الأفكار في تاريخ الحكم: ألا وهي استحالة دولة شارلمان إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تستند إلى جميع ما كان لروما الإمبراطورية والبابوية من هيبة، وقداسة، واستقرار. ولقد كان البابوات من زمن طويل يستنكرون خضوع أنطقيمهم إلى بيزنطية التي لا تصد عنها غارة ولا تقر فيها أمناً، وكانوا يشاهدون خضوع البطارقة المتزايد إلى إمبراطور القسطنطينية ويخشون حتى تضيع حريتهم هم أيضاً. ولسنا نعهد من الذي لاحت له فكرة تتويج شارلمان إمبراطوراً رومانياً على يد البابا أومنذا الذي وضع خطة هذا التتويج، وكل ما نعهده حتى ألكوين، وثيودولف وغيرهما من الملتفين حوله قد تناقشوا في إمكانه، ولعلهم هم الذين خطوا فيه المستوى الأولى، أولعل مستشاري البابا هم الذي فكروا في هذا الأمر. وقامت في سبيل تطبيقه صعاب شديدة: فقد كان إمبراطور الروم يلقب وقتئذ بلقب الإمبراطور الروماني، وكان أحق الناس من الوجهة التاريخية بذلك اللقب، ولم يكن للكنيسة حق معترف به في حمل الألقاب أونقلها من إنسان إلى آخر، ولربما كان منح اللقب لشخص منافس لبيزنطية سبباً في إشعال نار حرب عاجلة عوان بين المسيحيين في الشرق وإخوانهم في الغرب، حرب تهجر أوربا المخربة غنيمة سهلة للفتوح الإسلامية. غير حتى الأمر قد سيره بعض التيسير إذا إيريني جلست على عرش أباطرة الروم (797)، فقد نطق البعض وقتئذ إنه لم يعد هناك إمبراطور روماني، وإن الباب أصبح مفتوحاً لكل من يطالب باللقب، فإذا ما نفذت هذه الخطة الجريئة قام مرة أخرى إمبراطور روماني في الغرب، تقوى به المسيحية اللاتينية وتتوحد، فتستطيع مقاومة انشقاق بيزنطية وتهديد المسلمين ولعل ما في اللقب الإمبراطوري من رهبة وسحر يمكن أوربا الهمجية من حتى تعود أدراجها خلال القرون المظلمة وترث حضارة العالم القديم وثقافته وتنشر المسيحية في ربوعه.

وحدث في السادس والعشرين من ديسمبر عام 795 حتى اختير ليوالثالث بابا؛ ولم يكن شعب روما يحبه، وكان يتهمه بعدة فعال خبيثة، ثم هاجمه العامة في الخامس والعشرين من إبريل عام 799، وأساءوا معاملته، وسجنوه في دير. لكنه هرب من سجنه، وفر إلى شارلمان في بادربورن وطلب إليه حتى يحميه. وأحسن الملك استقباله، وأعاده إلى رومة مع حرس مسلح، وأمر البابا ومتهميه حتى يمثلوا أمامه في تلك المدينة في العام المقبل. ودخل شارلمان العاصمة القديمة بموكب فخم في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 800، واجتمعت في أول ديسمبر جمعية من الفرنجة الرومان، واتفقت على إسقاط التهم الموجهة إلى ليوإذا ما أقسم يميناً مغلظة على أنه لم يرتكبها. وأقسم ليواليمين وتهيأت السبيل إلى إقامة احتفال فخم بعيد الميلاد. فلما أقبل ذلك اليوم ركع شارلمان للصلاة أمام مذبح القديس بطرس بالعباءة اليونانية القصيرة والصندلين، وهما اللباس الذي كان يرتديه كبراء الرومان، ثم أخرج ليوعلى حين غفلة تاجاً مطعماً بالجواهر ووضعه على رأس الملك. ولعل المصلين كانوا قد فهموا من قبل حتى يعملوا ما توجبه عليهم الشعائر القديمة التي يقوم بها كبراء الشعب الروماني لتأييد هذا التتويج، فنادوا ثلاث مرات: "ليحي شارل الأفخم، الذي توجه الله إمبراطوراً عظيماً للرومان لينشر بينهم السلام!". ومسح رأس الملك بالزيت المقدس، وحيا البابا شارلمان ونادى به إمبراطوراً وأغسطس، وتقدم إليهم بمراهم الولاء التي ظلت محتفظاً بها للإمبراطور الشرقي منذ عام 476.

وإذا جاز لنا حتى نصدق اجنهارد، فإن شارلمان قد نطق له إنه ما كان ليدخل الكنيسة لوأنه عهد حتى ليوينوي تتويجه إمبراطوراً. ولربما كان قد عهد الخطة بوجه عام، ولكنه لم يرض عن السرعة التي تمت بها والظروف المحيطة بها وقت إتمامها؛ ولعله لم يكن يسره حتى يتلقى التاج من البابا، فيفتح بقبوله منه باباً للنزاع الذي دام قروناً طوالاً بين البابا والإمبراطور، وأيهما أعظم مكانة وأقوى سلطاناً: المعطي: أوآخذ العطية؛ ولعله فكر أيضاً فيما يفترض أن يجره ذلك من نزاع مع بيزنطية في المستقبل. ثم أوفد شارلمان عدة رسائل وبعوث إلى القسطنطينية يريد بها حتى يأسوالجرح الذي أحدثته هذه العملة، وظل زمناً طويلاً لا ينتفع بلقبه الجديد؛ حتى كان عام 802 فعرض الزواج على إيريني ليكون ذلك وسيلة يجعل بها لقبيهما المشكوك فيهما شرعيين(39)، ولكن سقوط إيريني عن عرشهما أفسد هذه الخطة اللطيفة. وأراد بعد ذلك حتى يقلل من خطر هجوم بيزنطية عليه فوضع خطة لعقد اتفاق ودي مع هارون الرشيد، وقد أيد هارون ما نشأ بينهما من حسن التفاهم بأن أوفد إليه عدداً من الفيلة ومفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس. وردّ الإمبراطور الشرقي على ذلك بأن شجع أمير قرطبة على عدم الولاء لبغداد، وانتهى الأمر في عام 812 حين اعترف إمبراطور الروم بشارلمان إمبراطوراً نظير اعترافه بأن البندقية وإيطاليا الجنوبية من أملاك بيزنطية.

وكان لتتويج شارلمان نتائج دامت ألف عام، فقد قوى البابوية والأساقفة إذ جعل السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، وأتاحت حوادث عام 800 لجريجوري السابع وإنوسنت الثالث حتى يقيما على أساسها كنيسة أقوى من الكنيسة السابقة، وقوت شارلمان على البارونات الغضاب وغيرهم لأنها جعلته ولياً لله في أرضه، وأيدت أعظم التأييد نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، ووسعت الهوة بين الكنيسة اليونانية والكنيسة اللاتينية، لأن أولاهما لم تكن ترغب في الخضوع إلى كنيسة رومانية متحالفة مع إمبراطورية منافسة لبيزنطية. ولقد كان استمرار شارلمان في اتخاذ آخن لا روما عاصمة له شاهداً على انتنطق السلطة السياسية من بلاد البحر المتوسط إلى أوربا الشمالية، ومن الشعوب اللاتينية إلى التيوتون. وأهم من هذا كله حتى تتويج شارلمان أقام الإمبراطورية الرومانية المقدسة عملياً وإن لم يقمها من الوجهة النظرية. وكان شارلمان ومستشاروه يرون حتى سلطته الجديدة إحياء للسلطة الإمبراطورية القديمة، على حتى الصبغة الجديدة الخاصة بهذا النظام لم يعترف بها إلا في عهد أتوالأول، كما أنها لم تصبح "مقدسة" إلا حين ضم فردريك باربروسا لفظ مقدس إلى ألقابه في عام 1155. وجملة القول حتى الإمبراطورية الرومانية المقدسة كانت-على الرغم من تهديدها للعقول والمواطنين-فكرة نبيلة، وحلماً من أحلام الأمن والسلام، وعودة للنظام والحضارة إلى عالم أنقذ من براثن الهمجية، والعنف، والجهل.

وأصبحت المراسيم الإمبراطورية تكتنف الإمبراطور في المهام الرسمية، فكان عليه حتى يلبس أثواباً مزركشة، ذات مشبك مضىي، وحذاءين مرصعين بالجواهر وتاجاً من المضى والجوهر، وكان على زائريه حتى يسجدوا أمامه لقبلوا قدمه أوركبته، هذا ما أخذه شارلمان عن بيزنطية وما أخذته بيزنطية عن طيسفون. غير حتى اجنهارد يؤكد لنا حتى ثيابه-إذا استثنينا ما ذكرناه عنها آنفاً-لم تكن تختلف إلا قليلاً عن ثياب الفرنجة العادية: كانت تتألف من قميص من التيل، وسروال قصير لا شيء تحته، ومن فوق القميص والسروال القصير قناء من الصوف من الممكن كانت له أهداب من الحرير، وجورب طويل مربوط بشريطين يغطي ساقيه وحذاءين من الجلد في قدميه، وكان يضيف إليها في الشتاء معطفاً ضيقاً من جلود ثعلب الماء أوالفنك ، وكان يحتفظ بسيف إلى جانبه لا يفارقه أبداً. وكان طول قامته ست أقدام وأربع بوصات، وكانت بنيته تناسب مع هذا الطول. وكان أشقر الشعر، شفذ العينين ، أشم الأنف، له شاربان وليست له لحية "جليلاً مهيب الطلعة على الدوام". وكان معتدلاً في طعامه وشرابه، يمقت السكر أشد المقت، جيد الصحة على الدوام مهما تعرض لتقلبات الجوومهما قاسي من الصعاب. وكثيراً ما كان يخرج للصيد أويمارس ضروب الرياضة العنيفة على ظهور الخيل، وكان سبّاحاً ماهراً، يحب الاستحمام في عيون آخن الدفيئة. وقلّما كان يدعوالناس إلى الولائم، لأنه كان يفضل الاستماع إلى الموسيقى أوقراءة كتاب في أثناء الطعام. وكان يعهد قيمة الوقت كما يعهدها جميع عظيم. وكان يستقبل زائريه ويستمع إلى قضاياهم في الصباح وهويرتدي ثيابه أويلبس حذائيه.

وكان من وراء مهابته وجلاله عاطفة قوية وهمة عالية، ولكنه كان يسخّر عاطفته وهمته لتحقيق أغراضه ويوجههما بذكائه وثاقب بصره. ولم تستنفد حروبه التي تربى على نصف المائة قوته وحيويته. وكان إلى هذا كله شديد العناية بالعلوم والقوانين، والآداب، وعلوم الدين لا تفتر حماسته لها على مر السنين، وكان يسوئه حتى يبقى جزء من الأرض لم يستول عليه أوأي فرع من فروع الفهم لم يضرب فيه بسهم. وكان شريف النفس من بعض الوجوه، وكان يزدري الخرافات، ويحرّم أعمال المتنبئين أوالعرّافين، ولكنه صدّق كثيراً من الأعاجيب الأسطورية، وبالغ في مقدرة الشرائع على إصلاح أخلاق الناس وعقولهم. ولقد كان لهذه السذاجة النفسية بعض المحاسن: لقد كان في تفكيره وحديثه صراحة ونُبل قلَّما نراهما في رجال الحكم.

وكان يسعه حتىقد يكون قاسياً إذا تطلبت سياسة الدولة القسوة، وأشد ما كانت قسوته فيما بذله من جهود لنشر الدين المسيحي، ولكنه مع هذا كان عظيم الرأفة، كثير الإحسان، وفياً مخلصاً لأصدقائه، ولقد بكى بالدمع عند وفاة أولاده، وبنته، والبابا هدريان. ويرسم لنا ثيودولف في قصيدة له عنوانها "حكم شارل" صورة لطيفة للإمبراطور في بيته، فيقول إنه إذا قدم من أعماله أحاط به أبناؤه، فيخلع عنه ابنه شارل عباءته، ويأخذ ابنه نويس سيفه، وتعانقه بناته الست، ويأتين له بالخبز، والخمر، والتفاح، والأزهار، ويدخل الأسقف ليبارك طعام الملك، ويقترب منه ألكوين ليبحث معه ما لديه من الرسائل، ويهرول إجنهارد الضئيل الجسم هنا وهناك كأنه نملة، ويأتيه بخط ضخمة. وقد بلغ من حبه لبناته حتى أقنعهن بعدم الزواج، ونطق إنه لا يطيق فراقهن، ومن أجل هذا أخذن يواسين أنفسهن بالارتماء إلى أحضان العشاق وجئن بعدة أبناء غير شرعيين(42). وقد قابل شارلمان هذه الأعمال منهن بنفس سمحة، لأنه هونفسه قد جرى على سنة أسلافه، فاتخذ له أربع أزواج واحدة بعد الأخرى، وأربع عشيقات أوحظايا. ذلك حتى حيويته الموفورة جعلته شديد الإحساس بمفاتن النساء، وكانت نساؤه يؤثرن حتىقد يكون للواحدة منهن نصيب منه على حتىقد يكون لها رجل آخر بمفردها. وقد ولدت له نساؤه نحوثمانية عشر من الأبناء والبنات منهم أربعة شرعيون. وغض من في حاشيته ومن في روما من رجال الدين أبصارهم عن تحلل رجل مسيحي مثله من قيود الأخلاق المسيحية.

وكان شارلمان وقتئذ على رأس دولة أعظم من الإمبراطورية البيزنطية لا يعلوعليها في عالم الرجل الأبيض إلا دولة الخلفاء العباسيين. ولكن جميع توسع في حدود الإمبراطوريات أوالعلوم يخلق مشاكل جديدة. فلقد حاولت أوربا الغربية حتى تحمي نفسها من الألمان بإدماجهم في حضارتها؛ غير حتى ألمانيا كان عليها في هذا الوقت حتى تحمي نفسها من أهل الشمال ومن الصنطقبة؛ وكان الملاحون من أهل الشمال قد أنشئوا لهم مملكة في جتلندة قبل عام 800 م وأخذوا يغيرون على سواحل فريزيا. وأسرع إليهم شارل من روما، وأنشأ الأساطيل والقلاع عند الشواطئ والأنهار، وأقام حاميات في الأماكن المعرضة للأخطار، ولما أغار ملك جتلندة على فريزيا عام 810 صُدَّ عنها، ولكن شارلمان هاله حتى يشهد من قصره في نربونة بعد قليل من ذلك الوقت، إذا جاز لنا حتى نصدق أخبار راهب سانت جول، سفن القراصنة الدنمرقيين في خليج ليون. ولعله قد تنبأ، كما تنبأ دقلديانوس من قبل، بأن إمبراطوريته الواسعة في حاجة إلى الدفاع السريع عنها في عدة مواضع في وقت واحد، فقسمها في عام 806 بين أولاده الثلاثة-بيبين، ولويس، وشارل. ولكن بيبن توفي عام 810، وشارل في عام 811، ولم يبق من هؤلاء الأبناء إلا لويس، وكان منهمكاً في العبادة انهماكا بدا معه أنه غير خليق بأن يحكم عالماً مليئاً بالاضطراب والغدر. غير حتى لويس رغم هذا قد حمل باحتفال مهيب في عام 813 من ملك إلى إمبراطور ونطق المليك الشيخ قائلاً: "حمداً لله يا إلهي إذ أنعمت عليَّ بأن أرى بعين ولدي يجلس على عرشي".

وبعد أربع سنين من ذلك الوقت أصيب الملك الشيخ وهويقضي الشتاء في آخن بحمى شديدة نتج عنها التهاب البلورة، وحاول حتى يداوي نفسه بالاقتصار على السوائل، ولكنه توفي بعد سبعة أيام من بداية السقم بعد حتى حكم سبعاً وأربعين سنة وعاش اثنتين وسبعين (814)، ودفن تحت قبة كتدرائية آخن، مرتدياً أثوابه الإمبراطورية. وما لبث العالم كله حتى أسماه كارولس ماجنس أوكارل در جروس أوشارلمان (أي شارل العظيم)، ولما حل عام 1165 ومحا الزمان جميع ذكريات عشيقاته ضمته الكنيسة التي أحسن إليها الإحسان كله في زمرة الصالحين المنعمين.


انظر أيضاً

  • قسم ستراسبورگ
  • معاهدة پروم
  • معاهدة ميرسن
  • معاهجة ريبرمون

الهامش

وصلات خارجية

  • Media related to معاهدة ڤردون at Wikimedia Commons
تاريخ النشر: 2020-06-04 14:24:25
التصنيفات: الأسرة الكارولنجية, 843 في القانون, فرنجة, شعوب جرمانية قديمة, تاريخ الشعوب الجرمانية, تاريخ فرنسا القانوني, تقسيم (سياسة), 843 في اوروپا, معاهدات القرن التاسع

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

بسبب غزة.. استقالة المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:24:08
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 70%

إعلام عبري: إسرائيل مستعدة لإعادة النظر في هجوم رفح مقابل صف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:24:02
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 69%

موعد زيادة 10 دراهم في “البوطا”.. هذا تعليق الحكومة

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:23:18
مستوى الصحة: 68% الأهمية: 80%

بايتاس ينفي الزيادة في أسعار قنينات الغاز حالياً

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:25:44
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 53%

“يد الزمالك” يفوز على سكيكدة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:22:47
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 51%

لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع بـ 30 مليون يورو في مزاد بفيينا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:23:24
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 63%

أمير جازان يدشن فعاليات مهرجان المانجو في نسخته الـ20 - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:25:45
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 53%

مياة القاهرة تعلن قطع المياه عن هذه المناطق

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:22:36
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 50%

إيران: مقتل إرهابيين اثنين في هجوم بطائرة مسيرة جنوب شرق الب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:23:50
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 55%

تيك توك يصف الحظر الأمريكي بـ "غير الدستوري" ويتعهد بالطعن

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:23:56
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

نادي الأسير الفلسطيني: الإفراجات المحدودة لمعتقلين إداريين ي

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:23:30
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 70%

مصر تبدأ العمل بالتوقيت الصيفي بتقديم الساعة 60 دقيقة - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:25:43
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 53%

خريطة المغرب المعتمدة من "فيفا" تدحض أكاذيب "كابرانات الجزائر" (فيديو)

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:23:14
مستوى الصحة: 74% الأهمية: 73%

المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:23:18
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 70%

تحميل تطبيق المنصة العربية