فيودور كوزمتش

هذا الموضوع مبني على
منطقة لابراهيم العريس
بعنوان .

في عــــام 1864 توفي في مدينة تومسك الروسية ناسك عجــــوز لم يكن أحـــــــد يعهد من أين اتى، ولماذا هوهنا. جميع ما كـــان الناس يعهدونه عنه، بالتأكيد هوأنه رجل حكيـــم هــادئ ولطيف يمضــــي أيامه في معزل عن الآخرين، يخط ويخط طوال النهار ويبــــدوأنه لا يريد من أحد شيئاً... ولا يتسقط أي شيء. من هنا كان لموت هــــذا الناسك الذي عهد باسم فيدور كوزميتش في طول سيبيريـــا وعرضها، حيث تقع مدينة تومسك سقط كبير. وبعد ذلك، طبعـــاً، نسي الرجل، حتى وان كان ثمة في بعض الأوساط الروسية، من رأى حتى الناسك ليس في حقيقة أمره، سوى القيصرالكسندر الأول، الذي كان قبل ذلك قد اختفى في ظروف غامضة، فنطق البعض إنه توفي بعيداً، ونطق آخرون إنه جرى اغتياله. والحقيقة حتى الشعب كان يحب الكسندر الأول. ومن هنا كان لاختفائه سقط كبير، حتى اتى موت الناسك كوزميتش، فقيل إنه هونفسه القيصر المختفي. كثر صدقوا هذا وكثر آخرون لم يصدقوه. بيد حتى المسألة نسيت تماماً، حتى كان عام 1905، حيث عاد محرر روسيا الكبير ليوتولستوي الى هذه الحكاية التاريخية، ليخط انطلاقاً منها واحداً من آخر خطه. بل من الممكن كتابه الأكثر سياسية، حتى من دون حتىقد يكون النص كتاباً كبيراً، يدخل في خانة خط صاحب «الحرب والسلام» و«أنا كارنينا» الكبرى. كان عنوان الكتاب الجديد «ملاحظات دوّنها العجوز فيدور كوزميتش قبل موته». وهذا الكتاب لقي في حينه رواجاً، لكنه سرعان ما نسي، خصوصاً أنه لم يكن كتاباً أدبياً ولا نصاً فلسفياً من النوع الذي كان قراء تولستوي قد اعتادوا عليه من لدن محررهم المفضل.

انطلــــق تولستوي في وصفه هذا النص من الفرضية المتـــداولة والقائلة ان ذلك الناسك انما كان القيصر ألكسندر الأول، بالعمل. وتخيله النص زاهداً في الحكم آثر الابتعاد عن القصر بتلك الطريقة الغامضة، لسأمه من الحياة فيه، ومن أهل البلاط. ثم تخيل تولستوي ان ذلك الناسك، بعدما بارح القصر ليعيش في صومعة فيـــ تومسك، انما شاء ان يعبر عن نفسه وعن موقفه في الحكم وأهل الحكــــم، فوضــــع نصاً وصف فيه القصر وحياته، وموبقات تلك الحــــياة والمؤامـــــرات والمناورات والدسائس التي يقوم بها البعض والبعض الآخر، بغية الاستحواذ على جميع شيء يمكن الاستحواذ عليه، في غفلة من القيصر، أوأحياناً، في تواطؤ معه. بيد حتى تولستوي يقول لنا في هذا الكتاب إذا الراهب المتنسك كوزميتش لم يكن في الاصل يخط النص لينشره، فهوما كان أبداً ليعبأ بمثل هذا الامر. هوكان يدون يومياته في وحدته. كان يخط يوماً بيوم انطلاقاً من ذاكرته التي كانت حافلة بحكايات وأحداث وصور لشخصيات، وكذلك انطلاقاً من غضبه على حياة القصر، بل، من الممكن أيضاً من ندمه على سنوات عمره التي أمضاها هناك بين أناس لا يكف عن وصفهم بالدناءة والكذب. أما إذا كان مجموع تلك «اليوميات» قد رسم في مجمله صورة ما للحياة في الكرملين، فإن ذلك لم يكن الهدف الأسمى للناسك. جميع ما كان يهدف اليه، إنما كان حتى يرضي نفسه وضميره. قبل حتى يموت مرتاح البال. ومن هنا اتى النص متنزهاً عن جميع غرض. لكن هذا لم يمنعه من حتىقد يكون في الوقت نفسه نصاً خطيراً، تحفل جميع صفحة منه بأكثر من دلالة. ذلك حتى الزمن نفسه الذي كان تولستوي يفترض أنه قد شكل الخلفية التاريخية لما يخطه القيصر المختفي، انما كان زمناً عابقاً بالأحداث الكبرى، لقد كان زمن حروب محلية وخارجية، وزمناً يمكن فيه أي تصرف من تصرفات القيصر حتى يقيم البلد والأمة ولا يقعدهما. ومن هنا تلك الصفحات القيمة التي «يصف فيها القيصر» بقلم تولستوي طبعاً، خطورة وضع كان يعهد حتى أي تحرك فيه بل أي قول أوعمل، ارادي أوغير ارادي، يمكن حتى يؤدي بين ما يؤدي اليه، الى اراقة دماء كثيرة، في أولها طبعاً، دماء الأبرياء. والقيصر الناسك، كما يقدمه الينا تولستوي في الكتاب، لم يكن من النمط الذي يحب حتى تسيل، ليس فقط دماء الأبرياء، بل كذلك دماء أي إنسان كان. ومن هنا يصبح النص مرافعة ضد حياة القصر، ضد الاستخفاف بحياة الناس... بل ضد حياة القيصرية نفسها. وهنا، في هذا السياق بالتحديد، كان من الواضح حتى المحرر انما يضع على لسان شخصيته المختارة هذه، والتي أصبحت، هنا مفبركة تماماً - ما كان هونفسه، اي تولستوي يفكر فيه تجاه الحكم والبلاط والقيصر والسياسة.

من الواضح، هنا إذاً، حتى تولستوي، إذ راح يخوض هذه المغامرة الكتابية، انما استخدم شخصية الناسك كي يقوّل هذا الأخير، جميع ما كان هونفسه يحب حتى يقوله عن الحكم والتسلط... وبخاصة عن الشخصيات القاسية والطماعة التي تملأ بلاط القيصر. ومع هذا، من الواضح ايضاً حتى المحرر، انما آثر في بعض اللحظات وهويعهد حتى حقبة صدور الكتاب (بدايات عام 1905) انما كانت حقبة شديدة الصعوبة في التاريخ الروسي الحديث. اذ لا ننسى هنا ان ذلك العام 1905، انما كان عام الثورة الروسية الكبرى التي مهدت لمجيء ثورة عام 1917 لاحقاً. وأن هزيمة هذه الثورة الأولى إنما كانت الممهد الحقيقي لفوز الثورة الروسية الثانية. وفي كتابه هذا كان من الواضح ان تولستوي، فيما «ينقل» عن الناسك/ القيصر حديثه الذاتي عن حياة القصر، انما كان يعطي الحق جميع الحق للقوى التي كانت - في ذلك الحين بالذات - تشتغل على إشعال الثورة. بالنسبة الــــى تولستوي كانت العملية أشبه بعملية اسقاط تاريخي غايته - عبر اعادة صورة الحياة والحكم، نحوأربعين سنة الى الوراء - ان يصور، ومن الداخل وعلى لسان أعلى سلطة في القصر، تلك الحياة التي انتفض وسوف ينتفض الشعب عليها أكثر وأكثر. وهنا في هذا المجال لا ينبغي ان يغشنا واقع ان معظم ما خطّه قلم تولستوي، جــــاء ذا بعد اخلاقي أكثر مما اتى ذا بعد سياسي. إذ علينا حتى نتذكر هنا ان جميع كتابات تولستوي، بما فيها الكتابات السياسية والادبية والفلسفية انما كانت دائماً ذات منطلق اخلاقي. اذ ان الرجل ولا سيمــــا خلال السنوات العشرين الأخيرة من عمره، كان لا يجد مبرراً لأي تغيــــير سياسي أواجتماعي الا في المجال الاخلاقي. ومن هنا كانـــت تناسبه تماماً فكرة الحض على الثورة، على لسان قيصر حوّل نفسه الى ناسك وراح يخط آخذاً على البلاط القيصري افتقاره الى الاخلاق. في اختصار، استخدم تولستوي شخصية الناسك كي يدعوالى ثورة اخلاقية لا أكثر ولا أقل. والحقيقة حتى السلطات ومع حليفتها السلطات الكنسية فهمت هذا البعد تماماً لدى تولستوي ولا سيما في هذا الكتاب. ومن هنا ساهم النص في منع خط تولستوي واضطهاده، من الكنيسة ومن القصر... وكان هذا منطقياً بالنسبة اليها، طالما ان «البطولة» في الكتاب معقودة لسيد القصر، الذي حين أراد ان ينعزل ويختفي، لم يمضى الى دير أوالى كنيسة، بل عاش متنسكاً معزولاً، يعبّر في وحدته عن عدائه للقصر، وعن عدم رضاه عن الكنيسة في الوقت نفسه.

من هنا لا بد من النظر دائماً الى هذا الكتاب على انه يحمل، ليس فقط الوصية المتخيلة للناسك فيدور كوزميتش، ولكن - وبخاصة - الوصية الفكرية والسياسية والاخلاقية للمحرر ليون نيكولايفتش تولستوي (1828 - 1910)، الذي كان طبعاً - ولا يزال حتى زمننا هذا - واحداً من كبار المبدعين الادبيين في تاريخ الانسانية، وهوأمر اذا كان هذا الكتاب الذي بين ايدينا لا يقوله، فإنه ينطق عبر عشرات الخط المتبقية لنا من تراث هذا الأديب الكبير، من «الحرب والسلم» الى «أنا كارنينا» و«الحاجي مراد» و«الطفولة» و«البعث» وعشرات غيرها.