فريدريش الأكبر

عودة للموسوعة

فريدريش الأكبر

فريدريك الثاني
Frederick II
فريدريك الأكبر, ملك پروسيا، ناخب براندنبورگ
فريدريك الثاني, وعمره 68 عاماً، بريشة أنطون گراف
العهد 1740 - 1786
سبقه فريدريك وليام الأول
تبعه فريدريك وليام الثاني
Burial
سانسوسي، پوتسدام
البيت أسرة هوهنزولرن
الأب فريدريك وليام الأول
الأم Sophia Dorothea of Hanover
الملكية الپروسية
بيت هوهن‌تسولرن
فريدرش ڤلهلم الأول
الأنجال
   Frederick Louis, Prince of Orange
   Wilhelmine, Margravine of Bayreuth
   Friedrich William, Prince of Orange
   Princess Charlotte Albertine
   فريدرش الثاني
   Friederike Luise, Margravine of Ansbach
   Philippine Charlotte, Duchess of Brunswick-Wolfenbüttel
   Prince Ludwig Karl Wilhelm
   Sophia Dorothea, Margravine of Schwedt
   Louisa Ulrika, Queen of Sweden
   Prince Augustus William
   Anna Amalie, Princess-Abbess of Quedlinburg
   Prince Henry
   Prince Augustus Ferdinand
فريدرش الثاني

فريدريك الثاني (بالألمانية: Friedrich II) أوفريدريك الأكبر، (24 يناير 1712 - 17 أغسطس 1786) أعظم ملوك پروسيا. من أسرة هوهن‌تسولرن. قهر الروس والنمساويين والفرنسيين. يلقب بقاهر الملكات، كون روسيا والنمسا واسبانيا وفرنسا أيضاً كانت تحكمها نساء قويات. وأشهرهن ملكتي روسيا (كاثرين الثانية من روسيا) والنمسا (ماريا تريزا). انتصر عليهن فريدريك في جميع معاركه معهن. وأظهر معجزات وفنون خالدة في الحرب خاصة في حرب السنين السبع وحرب الخلافة النمساوية . اهتم بتحديث الجيش البروسي، ولم ضم الولايات الألمانية وشق الطرق وتقوية الإقتصاد ونشر التعليم. حتى أصبحت پروسيا أعظم بلاد أوروبا وقائدة النهضة الفهمية والادبية والفكرية فيها.

في شبابه كان مهتماً، أساساً، بالموسيقى والفلسفة وليس بفنون الحرب، لذا فقد حاول دون نجاح حتى يهرب من والده المتسلط، فردريك وليام الأول، مع صديق طفولته هانز هرمان فون كاته، الذي أُجبر على مشاهدة إعدامه بعد الإمساك بهما. وبمجرد ارتقائه العرش الپروسي، فقد هاجم النمسا وادعى ملكية سيلزيا أثناء الحروب السيليزية، فنال شهرة عسكرية لنفسه ولپروسيا. وفي أواخر عمره، تمكن فريدريش من تحقيق الترابط الجغرافي بين أملاكه بالاستيلاء على الأراضي الپولندية في التقسيم الأول لپولندا.

نادى فردريك بالحكم المطلق المستنير. ولأعوام تراسل مع ڤولتير، الذي كانت له معه صداقة حميمة، وإن كانت عاصفة. وقد حدّث البروقراطية والخدمة العامة وروّج للتسامح الديني في أراتى مملكته. وقد رعى فردريك الفنون والفلاسفة وألّف المقطوعات الموسيقية للفلوت. وقد دُفِن فردريك في قصره المفضل، سانسوسي في پوتسدام. ولأنه توفي دون خلف، فقد ورثه ابن أخيه، فريدريش ڤيلهلم الثاني من پروسيا، ابن شقيقه، الأمير أوگوستوس ڤيلهلم من پروسيا.

فرتس الصغير

فردريك ملكاً على پروسيا

كان "جاويش تدريب الأمة البروسية العظيم" (كما وصف كارليل فردريك وليم الأول)(28)، أباً لعشرة أطفال أكبرهم فلهلمينا. والمذكرات التي خلفتها عند وفاتها (1758) هي أكثر مصادرنا مباشرة ووثوقاً عن تاريخ أخيها الباكر. وربما أسهبت بهجريز انتقائي في ذكر قسوة مربيتها، وأنانية أمها الجافية، ووحشية أبيها، وأوامره الاستبدادية في أمر زقابلا، ومعاملته الصارمة للفتى فرتز الذي أحبته مفخرة وعزاء لحياتها(29). نطقت "لم يوجد حب نظير حبنا الواحد للآخر لقد أحببت أخي حباً جماً وحاولت على الدوام حتى أدخل السرور على قلبه"(30).

وكان فردريك، المولود في 24 يناير 1712، يصغرها بثلاثة أعوام. ولم يرضى عنه أبوه ولا أمه. قد جهدا ليصنعا منه قائداً وملكاً، أما هوفأبدى جميع إمارة على أنه سيصبح شاعراً وموسيقياً. وبين أيدينا التعليمات التي أعطاها فردريك وليم لمفهمي ولده. نطق: "اغرسوا في ولدي ما يجب من محبة الله وخشيته باعتبارهما الأساس والركن الركين لخيرنا الزمني والأبدي. فلا تذكروا على مسمعه أبداً أي أديان زائفة أومذاهب إلحادية، أوأريوسية، أوسوسينية، أوما شاكل ذلك من أسماء لهذه السموم التي تستطيع إفساد العقل الحدث بسهولة كبيرة (وقد أصبح فردريك جميع هؤلاء). ومن ناحية أخرى يجب حتى يفهم ما يجب من استنكار للبابوية وبصر بما تفتقر إليه من أساس وما فيها من سخف...

وليتفهم الأمير الفرنسية والألمانية... دون اللاتينية... وفهموه الحساب، والرياضة، والمدفعية، والاقتصاد، بتعمق... والتاريخ على الأخص... وحدثا شب زيدوه فهماً بالتحصينات، وتشكيل المعسكر، وغير ذلك من علوم الحرب، ولكي يدرب الأمير منذ صباه على حتى يعمل ضابطاً وقائداً... اغرسوا في ولدي الحب الصادق لمهنة الجندي. وأقنعوه بأنه لما كان السيف هوالشيء الوحيد الذي يكسب الأمير الشهرة والشرف، فإنه سيكون محتقراً من جميع الناس إذا لم يحبه ويلتمس فيه فخره الوحيد"(31).

ولوأفسح للأب في أجله بما يكفي لتاه فخراً بولده جندياً وقائداً، ولكن جميع شئ بدا وكأنه يسير في طريق خطأ خلال سنوات التلمذة تلك. فقد كان الغلام ذكياً، ولكنه لم يهتم قط بالهاتى. احتقر اللغة الألمانية وأحب لغة فرنسا وأدبها موسيقاها وفنها. وأحب حتى ينظم الشعر الفرنسي، وواصل هويته تلك إلى آخر عمره. وكان الملك الشيخ يستشيط غيظاً إذا رأى ولده وبيده خط فرنسية، ويزداد غضبه حين يجده يعزف على الفلوت. واتى يوهان كوانتش، عازف الفلوت في بلاط سكسونيا، إلى برلين ليفهم الصبي خفية بناء على طلب أمه. وكان كوانتش إذا سمع الملك يدنويختبئ في خزانة، ويقلب فردريك روبه الفرنسي إلى سترة حربية، ولكن الأب كان يثور لمرأى الخط الفرنسية ملقاة هنا وهناك، فأمر الخدم حتى يرسلوها إلى بائع خط، فبيعها خير من حرقها. ولكن الخدم لم يعملوا هذا ولا ذاك، بل خبأوا الخط، وبعد قليل أعادوها للأمير.

وبذل الشيخ قصارى جهده الذي اختلطت فيه محبة الأب بغضبه ليجعل الصبي مقاتلا. فاصطحبه في رحلات صيده، وخشنه بحياة الخلاء، وعوده الخطر والركوب والوعر، وألزمه العيش على الطعام الزهيد، والنوم القليل، ووكل إليه أمور فوج في جيشه، وفهمه حتى يدرب جنده، وأن يرقى بطارية مدفعية، وأن يطلق المدافع. وتفهم فردريك هذا كله، وأبدى قدراً كافياً من الشجاعة، ولكن الأب تبين بغضب متزايد حتى الفتى، الذي بلغ الآن السادسة عشرة راحقد يكون صداقة حميمة مريبة مع ضابطين شابين هما الكابتن فون كاتي والملازم كابت. وكان كاتي واسع الاطلاع كثير الرحلات، ورغم ما هجره الجدري على وجهه من ندوب، فإن "تهذيب عقله وسلوكه" كما نطقت فلهلمينا "جعله رفيقاً لطيفاً جداً... وكان يفخر بأنه حر الفكر. وتأثير كاتي هوالذي دمر جميع إيمان ديني في صدر أخي"(32).

ولم يستطيع فردريك وليم حتى يستجيب لهذه التطورات المنحرفة في ابنه البكر إلا بالغضب والعنف. وكان ديدنه استعمال العصا مع خدمه، فهدد باستعمالها لتأديب ولده. وكانت فلهلمينا خلال ذلك تقاوم خططه لتزويجها لحليف سياسي قوي؛ وبدا حتى الولد والبنت أوفدهما القدر ليخيبا جميع أماله. "لقد بلغت ثورة أبي على أخي وعليّ مبلغاً جعله يقصينا عن حضرته فيما عدا ساعات الطعام. وحدث ذات مرة حتى الملك قذف رأس أخي بطبقه، وكان يمكن حتى يصيبه لولا أنه حاد عنه، وفي مرة أخرى قذف الطبق علي وقد نجوت منه أنا أيضاً لحسن حظي، ثم انهال على بوابل من السب والشتم... وإذ مررت أنا وأخي على مقربة لتبرح الحجرة دفع نحونا عكازه ليضربنا. ولم يكن يرى أخي قط دون حتى يهدده بعصاه. وكثيراً ما نطق لي فرتز إنه قد يحتمل جميع معاملة سيئة إلا حتى يضرب، فإذا بلغ الأمر حد الضرب فإنه سيهرب(33).

وفي وسعنا حتى نفهم بعض مسببات الغضب الذي استشعره الملك المسن. ذلك أنه كان قد تطلع إلى هجر ملكه هذا الذي أعاد تنظيمه لولد يواصل رعايته للجيش، ويقتصد في النفقات، ويبني الصناعات، ويصرف شئون الدولة بأمانة واجتهاد، ولم يكن ممكناً حتى نتسقط منه التنبؤ بأن ابنه هذا سيعمل هذا كله وأكثر منه. فهولم يجد في "فريدرش" غير فتى وقح مخنث، يجعد شعره كالفرنسيين بدلا من حتى يقصه كالجنود البروسيين(34)، ويمقت الجنود والصيد، ويهزأ بالدين، وينظم الشعر الفرنسي، ويعزف على الفلوت. فأي مستقبل يمكن حتىقد يكون لبروسيا إذا حكمها هذا الفتى الضعيف،يا ترى؟ وحتى التماساته للعفوبين الحين والحين يمكن حتى يفسرها أبوه بأنها جبن منه. وذات مرة نطق الملك لمن حوله بعد حتى لكم أذني ولده إنه لولقي هذه المعاملة من أبيه لضرب نفسه بالرصاص؛ ولكن فريدرش لا يملك الإحساس بالشرف وإنه على استعداد لاحتمال أي شئ(35).

وحاول الملك -إذا صدقنا الخبر الذي أنهاه فردريك إلى فلهلمينا- حتى يقتله في بوتسدام في ربيع 1730. نطق: أوفد في طلبي ذات صباح. فما إذا دخلت الحجرة حتى أمسك بناصيتي وطرحني أرضاً. وبعد حتى ضربني بقبضته جرني إلى النافذة وربط حبل الستارة حول عنقي- وأتيح لي لحسن الحظ وقت للنهوض والإمساك بيديه، ولكنه جذب الحبل بكل قوته حول عنقي فشعرت بأنني أختنق وصحت مستغيثاً. وجرى تابع ليسعفني، واضطر إلى استعمال القوة لينقذني(36).

وأسر فريدرش- الذي بلغ الثامنة عشرة- إلى فلهلمينا أنه ينوي الهروب إلى إنجلترا مع كاتي وكايت. فتوسلت إليه ألا يعمل، ولكنه أصر وكتمت سره في خوف، ولكن الملك الذي أحاط ولده بالجواسيس فهم بأمر المؤامرة، وقبض على ابنه وابنته، وعلى كاتي وكايت (أغسطس 1730). وأطلق سراح فلهليمنا بعد حين وفر كايت إلى إنجلترا، ولكن فريدريش وكاتي حوكما أمام مجلس عسكري وحكم عليهما بالإعدام (30 أكتوبر). وأعدم كاتي في فناء قلعة كوسترين (وهي الآن كوسترزين في بولندا) وأكره فريدرش بأمر أبيه على حتى يشهد منظر الإعدام من نوافذ زنزانته (6 نوفمبر). وفكر الملك في بتر رأس ولده، وفي جعل من يليه من أبنائه ولياً للعهد، ولكنه خشي الأصداء الدولية لهذه العملة، فراض نفسه على الإبقاء على حياة فريدرش.

ومن نوفمبر 1730 إلى فبراير 1732 ظل الأمير يلزم كوسترن، في سجن محكم أول الأمر، ثم في حدود المدينة لا يبرحها، تحت رقابة مشددة طوال الوقت، ولكن "برلين كلها أوفدت إليه المؤونة لا بل أفخر الطعام والشراب"(37). في رواية فلهليمينا. وفي 15 أغسطس 1731، بعد عام من الفراق، اتى الملك ليرى ابنه، وقرعه ما شاء له التقريع، ونطق له إذا مؤامرة الهروب لونجحت "لألقيت إلى الأبد في مكان لا ترى فيه الشمس أوالقمر ثانية(38). جثا فريدرش على ركبتيه والتمس الصفح من أبيه، وانهار الشيخ، وبكى، وعانقه؛ وقبل فريدرش قدمي أبيه(39). فأطلق سراحه، وبعث به في جولة بالأنطقيم البروسية ليدرس اقتصادها وإدارتها. لقد غيرت سنوات صراعه مع أبيه تلك من خلقه وقسّته.

أما فلهلمينا التي أبهجها حتى تهجر سقف أبويها فقد قبلت يد هنري ولي عهد بايرويت. وبعد حتى تزوجا في برلين(30 نوفمبر 1731) مضىت إلى الجنوب لتصبح (1734) أميرة بايرويت، ولتجعل بلاطها يزخر بالثقافة.

وفي فترة سلطانها هناك تحول المسكن الأميري، وهوقلعة إيريميتاج، إلى قصر ريفي (شاتو) من أجمل القصور الريفية في ألمانيا. وكان على فريدرش هوأيضاً حتى يتزوج، رضى أم كره. وقد ساءه هذا الإلزام ، وهدد قائلا "لوأصر الملك على هذا فسأتزوج طاعة له، ثم أدفع بزوجتي إلى ركن من الأركان وأحيا كما أشتهي"(40). وعليه فقد قاد إلى مذبح الكنيسة (12 يونيوسنة 1733) إليزابث كرستينا "أميرة برنزويك- بيفرن الجليلة" وكان يومها في الحادية والعشرين وهي في الثامنة عشرة، "جميلة جداً" كما نطقت أم فردريش لفلهلمينا ولكنها "بليدة كحزمة من القش-ولست أدرى كيف من الممكن أن ينسجم أخوك مع هذه الإوزة"(41). ومع حتى فردريك تفهم في سنوات لاحقة حتى يقدرها تقديراً كبيراً، إلا أنه في هذه الفترة هجرها أكثر الوقت وحيدة تلتمس لنفسها السلوى. ومضىا ليسكنا في راينزبرج، على أميال شمال برلين. هناك بنى الزوج الأعزب لنفسه حصناً يلوذ به، وأجرى التجارب في الفيزياء والكيمياء، وجمع الفهماء، والأدباء، والموسيقيين، من حوله، وتبادل الرسائل مع فولف، وفونتنيل، وموبيرتيوي، وفولتير.


الأمير والفيلسوف (1736-1740)

رسائل فريدرش الثاني مع فولتير من أعظم وثائق ذلك العهد كشفاً وإنارة: فهي تعبير أدبي رائع لشخصيتين بارزتين يتضاءل فيه فن أكبرهما سناً أمام واقعية الفتى المتفتح. كان فولتير الآن في عامه الثاني والأربعين، وفردريك في الرابعة والعشرين. وكان فولتير زعيم الأدباء الفرنسيين غير منازع، ولكن كاد يدير رأسه حتى يتسلم من ولي عهد سيرتقي العرش بعد حين الخطاب التالي الذي خطه من برلين في أغسطس 1736 وأوفده مع رسول خاص إلى الشاعر في سيريه:

سيدي:

مع أنه لم يتح لي سرور التعهد إليك شخصياً فإن ذلك لا يقلل من معهدتي بك من خلال آثارك. فهي كنوز عقلية إذا جاز القول، وهي تكشف للقارئ عن مواطن للجمال عند جميع قراءة جديدة لها... ولوبعث الخلاف حول فضائل المحدثين والقدامى من جديد، لدان عظماء المحدثين لك، ولك وحدك، بالفضل في رجحان كفتهم... فلم يحدث قط حتى نظم شاعر مسائل الميتافيزيقا في إيقاع منغم، وقد حفظ لك أنت شرف السبق في هذا المضمار."

وواضح حتى فردريك لم يكن قد قرأ لوكرتيوس بعد، من الممكن لضآلة إلمامه باللاتينية، ولكنه قرأ ڤولف، وأوفد إلى ڤولتير:

"صورة من اتهام ودفاع السيد فولف، أشهر فلاسفة زماننا، الذي يتهم اتهاماً قاسياً بالمروق عن الدين والإلحاد لأنه حمل النور إلى أحلك أركان الميتافيزيقا... وقد طلبت ترجمة لكتاب ڤولف "رسالة عن الله، والنفس، والعالم" وسأوافيك بها.

هذا وإن ما تقدمه من عطف ومعونة لجميع من يكرسون أنفسهم للآداب والعلوم يجعلني آمل حتى تسلكني فيمن تراهم جديرين بإرشاداتك...."

والظاهر حتى فردريك كان قد سمع بعض ما شاع عن قصيدة ڤولتير "لا پوسيل" (عذراء اللورين).

سيدي؛ لست أشتهي شيئاً لاقتناء جميع كتاباتك.... وإذا كان بين مخطوطاتك ما تود ستره عن أعين الجماهير فإني أتعهد بالاحتفاظ به سراً مكتوباً...

إن الطبيعة إذا شاءت كونت نفساً عظيمة ذات قدرات تدفع الآداب والعلوم قدماً، وواجب الأمراء حتى يكافئوا الجهد النبيل الذي يبذله صاحب هذه النفس وليت "المجد" يستخدمني لأكلل نجاحك....

وإذا أبى حظي حتى يسعدني بالقدرة على الاستيلاء عليك، فعساني على الأقل أرى يوماً ما ذلك الرجل الذي طالما أعجبت به من بعيد، وأؤكد لك، بلساني، أنني مع جميع التقدير والاعتبار الواجبين للذين يكرسون جهودهم للجماهير مهتدين في ذلك بمشعل الحق- يا سيدي صديقك المخلص.

—فردريك ولي عهد بروسيا

وفي وسعنا حتى نتصور شعور الاغتباط الذي قرأ به فولتير هذا الخطاب، وهوالذي لم يكبر قط على الغرور، فراح يرشف رحيقه أمام المركيزة الغيور. وبادر بعد تسلمه بالرد عليه في 26 أغسطس 1736:

مولاي :

لا بد حتىقد يكون إنساناً مجرداً من جميع عاطفة ذلك الذي لا يتأثر تأثراً بالغاً بالخطاب الذي شئتم سموكم الملكي تشريفي به. فمحبتي لذاتي تزهوبه زهواً شديداً؛ ولكن محبتي للبشر، التي غذوتها دائماً في قلبي، والتي أجرؤ على القول بأنها أساس خلقي، منحتني سروراً أعظم نقاء وصفاء- لأنني أرى حتى في الدنيا الآن أميراً يفكر كإنسان، أميراً فيلسوفاً، يفترض أن يسعد الناس.

واسمح لي بأن أقول أنه ليس على وجه الأرض إنسان لا يدين لك بالشكر على العناية التي تبذلها لكي تهذب بالفلسفة السلمية نفساً ولدت لتأمر وتنهي. إذ لم يوجد بين الملوك صالح إلا أولئك الذين بدءوا بمحاولة تعليم أنفسهم، وبتبين خيار الناس من أشرارهم، وبحب ما حق، ويمقت الاضطهاد والخرافة. وإن أميراً يثابر على هذه الأفكار قد يعيد العصر المضىي إلى بلده! ترى لم لا يسعى إلى هذا المجد إلا قلة قليلة من الأمراء؟.... لأنهم يفكرون في ملكهم أكثر مما يفكرون في النوع الإنساني. أما حالك فنقيض هذا بالضبط؛ (وما لم يغير ضجيج العمل ولؤم البشر يوماً ما من هذا الخلق الإلهي) فإن شعبك سيعبدك، والعالم كله سيحبك، والفلاسفة الجديرين بهذا الاسم سيؤمون دولتك، والمفكرين سيتزاحمون حول عرشك.... لقد هجرت الملكة كرستينا الشهيرة ملكها طلباً للآداب والفنون، فاملك إذن يا مولاي، وستقبل الآداب والفنون ساعية إليك...

ولست أجد من الشكر لسموكم المعاني ما يكفي على إهدائي ذلك الكتيب عن السيد ڤولف. وإنني أحترم الأفكار الميتافيزيقية، فهي أشعة من نور تتخلل الليل الدامس. وفي رأيي أننا يجب ألا ننتظر من الميتافيزيقيا أكثر من هذا. ولا يظهر حتى من المحتمل الكشف إطلاقاً عن الأصول الأولى للأشياء. فالفئران التي فرض عليها البقاء في ثقوب صغيرة من بناء هائل لا تدري هل البناء خالد أم غير خالد، أومن بناه، أولم بناه. وما أشبهنا بهذه الفئران. والبناء الإلهي الذي بنى الكون لم ينبئ أحداً منا قط يسره المكنون فيما أفهم..

سأصدع بأمرك وأبعث إليك بتلك الكتابات التي لم تنشر. وستكون أنت يا مولاي جمهور قرائي، وسيكون نقدك مكافأتي، فهذا ثمن لا يقدر على دفعه من الملوك والأمراء إلا الأقلون. وأنا واثق من كتمانك سرها... وإني في حق أراها سعادة غالية حتى آتى لأقدم احترامي لسموكم الملكي... لولا حتى الصداقة التي تبقيني في هذه الخلوة لا تسمح لي بمغادرتها، ولا شك أنكم توافقون جوليان، ذلك الرجل العظيم المفترى عليه كثيراً، على قوله "ينبغي حتى بفضل الأصدقاء دائماً على الملوك".

وثق يا مولاي أنه أياً كان ركن الأرض الذي سأختتم فيه حياتي، فإن تمنياتي ستكون دائماً لك-أي لسعادة شعب بأكمله. وسيعد قلبي نفسه واحداً من رعاياك، وسيكون مجدك دائماً عزيزاً علي. وسأتمنى حتى تكون دائماً كما أنت، وأنقد يكون الملوك الآخرون مثلك-وإنني مع عميق الاحترام خادم سموكم الملكي المتواضع جداً.


—ڤولتير

واتصلت الرسائل بين أعظم ملوك زمانه وأعظم أدبائه طوال اثنين وأربعين عاماً، مع انقطاعات أليمة تخللتها. وتكاد جميع حدثة في هذه الرسائل تجزى قراءتها، لأنه لا يتاح لنا كثيراً امتياز الاستماع إلى رجلين كهذين يتحدثان هذا الحديث لحميم المدروس. نحن نصد أنفسنا بصعوبة عن إغراء نقل ما في هذه الرسائل من الأحكام المنيرة، ومن آيات الذكاء؛ ولكن بعض فقراتها تعيننا على تصور هذين العملاقين المتنافسين، رب السيف ورب القلم .

فهما بادئ ذي بدء يتفقان في إعجاب الواحد منهما بصاحبه. ففردريك يعرب عن دهشته لأن فرنسا لم تتبين "الكنز المخبوء في قلبها"، ولأنها تهجر فولتير "يعيش وحيداً في فيافي شامپين... ومنذ الآن ستصبح سيريه (معبدي) دلفي، ورسائلك وحي المقدس" (44). "اهجر وطنك الجاحد، وتعال إلى بلد يعبدك فيه أهله"(45). ويرد فولتير باقات الزهر بأجمل منها، فيقول "إنك تفكر كـتراجان، وتخط كـپلني، وتستعمل الفرنسية كأحسن كتابنا... ستكون برلين بفضل رعايتك أثينة ألمانيا، بل من الممكن أوربا"(46). وهما متفقان على الربوبية، يؤكدان الإيمان بالله ويعترفان بأنهما لا يعهدان عنه تعالى قط وهما يمقتان رجال الدين الذين يقيمون سلطانهم على ما يزعمون من قرب الله(47). ولكن فردريك مادي صريح "الشيء المؤكد هوأنني، مادة، وأنني أفكر"(48) وجبري خالص؛ أما فولتير فليس مستعداً بعد للتخلي عن فكرة حرية الإرادة(49). وينصح فردريك "بالصمت العميق إزاء القصص الخرافية المسيحية، التي قدسها قدمها وغرارة الناس السخفاء والتافهين"(50) ولا يهجر فولتير فرصة يلقن فيها تلميذه الأمير حب الإنسانية وكراهية الخرافة، والتعصب، والحرب أما فردريك فلا يأخذ الإنسانية مأخذ الجد الشديد: "إن الطبيعة تنجب بطبيعتها اللصوص، والحساد، والمزورين، والقتلة؛ فهم يغطون وجه البسيطة، ولولا القوانين التي تقمع الرذيلة لاستسلم جميع فرد لغرائزه الفطرية ولما فكر إلا في نفسه"(51)... والبشر بطبيعتهم ميالون إلى الشر، وهم ليسوا أخياراً إلا بقدر ما تهذب التربية والتجربة من عنفهم وطيشهم(52).

وقد تميزت السنوات الأخيرة في تلمذة فردريك بحدثين. ففي 1738 انضم إلى جماعة الماسون(53). وفي 1739، وهوفي نشوة من تأثير فولتير فيما يبدو، ألف كتيباً سماه "الرد على كتاب الأمير لـمكياڤلي" حاسب فيه الفيلسوف الإيطالي حساباً عسيراً على ما بدا في كتابه من تبرير لأي ذريعة يراها الحاكم ضرورية لصيانة دولته أودعمها. ونطق الأمير الجديد، لا، فالمبدأ الحق الوحيد للحكم هوولاء الملك وعدله وشرفه. وقد أعرب الفيلسوف الأمير عن احتقاره للملوك الذين يؤثرون "مجد الفاتحين المهلك على المجد الذي يكسب بالعطف والرحمة."، وتساءل ما الذي يغري إنساناً بأن يطلب عظمته الشخصية باشفاء غيره من الناس وتدميرهم"(54). ومضى فردريك يقول:

إن مكيافللي لم يفهم طبيعة الملك الحقة... فهوليس السيد المطلق المتصرف فيمن يدينون لحكمه، إنما هوأول خدامهم، وينبغي حتىقد يكون الأداة لرفاهيتهم كما أنهم الأداة لمجده(55).

ثم أطرى فردريك الدستور الإنجليزي مقتدياً بفولتير على الأرجح:

يبدولي أننا لوشئنا الإشادة بشكل من أشكال الحكم على أنه القدوة لجيلنا لكان هوالحكم الإنجليزي. فالبرلمان هناك هوالقاضي الأعلى للشعب والملك على السواء، وللملك تام القدرة على عمل الخير، ولا قدرة على عمل الشر(56).

ولسنا نجد في هذه الآراء أي علامة من علامات عدم الإخلاص، فهي تتكرر المرة بعد المرة في رسائل فردريك التي تنتمي لهذه الفترة. وقد بعث بمخطوطة كتابه إلى فولتير (يناير سنة 1740)، الذي طلب الإذن له بأن ينشرها. ووافق المؤلف الفخور على استحياء، وخط فولتير مقدمة للكتاب، وأخذ المخطوطة إلى لاهالي، وأشرف على طبعها، وصحح تجاربها. وفي أواخر سبتمبر طلع الكتاب على الناس فجأة غفلا من اسم المؤلف بعنوان "المعارض لمكيافلي". وسرعان ما كشف مؤلفه، وشارك القراء فولتير في الترحيب بمقدم ملك- فيلسوف.

أما فريدرش ڤلهلم الأول فقد ظل إلى النهاية تقريباً على ما كان عليه طويلا، كأنه سنديانة كثيرة العقد، يوبخ، ويندد، ويشرع القانون بطريقته العجيبة. وبأنه يسالم العالم على مضض إلا حين أنبأه واعظ البلاط بدنوأجله، وبأنه يحب حتى يغفر لأعدائه إذا أراد حتى يغفر الله له. وأوفد في لحظاته الأخيرة في طلب فردريك، وعانقه وبكى، فلعل هذا الفتى العنيد، رغم هذا كله، حتى يحوي بين جنبيه مقومات ملك،يا ترى؟ وسأل القادة المحيطين بسريره "ألست محظوظاً لأن لي ولداً أستخلفه"؟(57) ولعل الابن فهم الآن أكثر من ذي قبل إحساس أبيه الشيخ بأن الملك يجب حتىقد يكون له بعض الحديد في دمه.

وفي 31 مايو1740 أسلم فريدريش ڤيلهلم الأول روحه وعرشه وقد أبلاه النضال ولما يجاوز الحادية والخمسين، وآل الملك لمعارض مكياڤلي.


مكياڤلي الجديد

كان فردريك الثاني في الثانية عشرة منى عمره حين ولى العرش. وكان لا يزال- كما رسمه أنطوان بين قبل ذلك بعام- الموسيقى والفيلسوف رغم دروعه البراقة: قسمات حلوة رقيقة، وعينان واسعتان تختلط فيهما الزرقة بالشهية، وجبين عال؛ "له أسلوب في السلوك طبيعي جذاب، وصوت خافت سار"(58). على حد قول السفير الفرنسي. وكان إلى ذلك الحق تلميذه فولتير، وقد خط له بعد ستة أيام من تقلده الحكم: لقد تبدل حظي، وشهدت اللحظات الأخيرة لملك، ومعاناته، وموته. لم يكن بي حاجة وأنا أرتقي العرش إلى ذلك الدرس لكي أشمئز من خيلاء العظمة البشرية... وأرجوألا ترى في إلا مواطناً غيوراً، وفيلسوفاً تغلب عليه نزعة الشك، وصديقاً صدوقاً. وإني أستحلفك بالله حتى تخط لي كتابتك لإنسان عادي، وأن تحتقر مثلي الألقاب والأسماء وكل مظاهر الزهووالغرور(59).

وعاد يخط إلى فولتير بعد ثلاثة أسابيع:

"إن ضخامة العمل الذي ألقاه القدر على عاتقي لا يكاد يهجر وقتاً لحزني الحقيقي. وإنني أشعر أنني بعد فقدي أبي مدين بجملتي لبلدي. وبهذا الهدف أعمل بكل طاقتي لاتخاذ أسرع التدابير وأصلحها للخير العام"(60).

وقد صدق. ففي غداة توليه العرش، حين حكم من برد الربيع بأن المحصول سيكون متأخراً وهزيلاً، أمر بأن تفتح مخازن الغلال العامة، وأن يباع القمح للفقراء بأسعار معقولة. وفي اليوم الثالث ألغى في جميع أراتى بروسيا اللجوء إلى التعذيب في محاكمة المجرمين-قبل حتى يصدر باكاريا رسالته الخطرة بأربعة وعشرين عاماً، وينبغي حتى نضيف حتى التعذيب في المحاكمات وإن إجازة القانون إلا أنه من الناحية العملية تقادم في عهد فردريك وليم الأول، وأن فردريك انتكس لحظة إلى استعماله في حالة واحدة عام 1752(61). وفي 1757 وكل إلى صموئيل فون كوكيي، كبير القضاة البروسيين، حتى يشرف على إصلاح القانون البروسي إصلاحاً شاملا.

وظهر تأثير الفلسفة في أعمال أخرى قام بها هذا الشهر الأول. ففي 22 يونيوأصدر فردريك أمراً بسيطاً اتى فيه "يجب التسامح مع جميع الأديان، وعلى الحكومة حتى تتحقق من حتى أحداً منها لا يجوز على غيره، لأن على جميع إنسان في هذا الوطن حتى يصل إلى السماء بطريقته الخاصة"(62). ولم يصدر أمراً رسمياً عن حركة المطبوعات، ولكنه أباحها عملياً، فنطق لوزرائه "إن الطباعة حرة" واحتمل في صمت ملؤه الاحتقار مئات الانتقادات العنيفة التي نشرت ضده(63). ومرة أخرى هجوماً ساخراً معلقاً في أحد الشوارع، فأمر بأن ينقل إلى مكان يسهل فراءته فيه. ونطق "لقد انتهيت أنا وشعبي إلى اتفاق يرضينا جميعاً: يقولون ما يشتهون، وأعمل ما أشتهي"(64). ولكن هذه الحرية لم تكن كاملة قط؛ فحدثا ارتقى فردريك الأكبر في مدارج العظمة حظر النقد العلني لتدابيره الحربية أومراسيمه الضرائبية. وظل ملكاً مطلق السلطة وإن حاول حتى يجعل تدابيره متسقة مع القوانين.

ولم يبذل أي محاولة لتغيير هيكل المجتمع أوالحكومة البروسيين. فظلت المجالس والهيئات كما كانت، إلا حتى فردريك شدد الرقابة عليها وشارك بهمة أكبر في أعمالها؛ وقد أصبح عضواً في جهاره البيروقراطي. نطق السفير الفرنسي "إنه يبدأ حكمه بطريقة سقمية جداً: فحيثما تلفت وجدت آثار بره برعيته وعطفه عليها"(65). ولكن هذا لم يمتد إلى التخفيف من وطأة القنية؛ فظل الفلاح البروسي أسوأ حالا من الفرنسي، واحتفظ النبلاء بامتيازاتهم.

وتضافر تأثير فولتير مع تقليد ليبنتس في إحياء أكاديمية برلين للعلوم إحياء قوياً. فبعد حتى أسسها فردريك الأول (1701) أهملها فردريك وليم الأول. أما فردريك الثاني فقد جعلها الآن أبرز الأكاديميات في أوربا. وقد سلف القول بأنه رد فولف من منفاه. وأراد فولف حتى يرأس الأكاديمية ولكنه كان طاعناً في السن، ضعيف الساقين، فيه شئ من الخضوع للعقائد التقليدية. أما فردريك فأراد فردريك رئيساً لها من أصحاب "العقول القوية" (أحرار الفكر)، رجلا مواكباً لآخر تطورات الفهم، لا يعوقه معوق من اللاهوت. عملاً باقتراح من فولتير (أسف عليه فيما بعد) نادى (يونيو1740) بيير لوى مورودمويير توي، الذي كان الآن في منتصف عمره، عائداً لتوه من بعثة شهيرة إلى لايلاند لقياس درجة من درجات العرض. وحضر موبيرتوي وأغدق عليه فردريك العون والتأييد، فبنى مختبراً عظيماً وأجرى تجارب أحياناً في حضرة الملك والحاشية. وقد مضى جولدسمث، الذي لا بد قد خبر جمعية لندن الملكية، إلى حتى أكاديمية علوم برلين "تفوق أي أكاديمية غيرها في الوجود"(66).

وأبهج هذا كله فولتير. فلما أتيحت لفردريك فرصة زيارة كليفز نادى الفيلسوف للقائه. وكان فولتير يومها في بروكسل، فانتزع نفسه من مركيزته الفكدة، وسافر 150 ميلاً إلى "شلوس مويلاند". هناك رأى أفلاطون الجديد ديونيسيوسه أول مرة، وأنفق ثلاثة أيام (11-14 سبتمبر 1740) في نشوة غامرة لم يفسدها غير وجود ألجاروتي دموبيرتوي. وفي خطاب للسيدة سيدفيل خطه في 18 أكتوبر أبدى رأيه في فردريك فنطق: في ذلك المكان رأيت رجلاً من ألطف الرجال في الدنيا، هوزينة المجتمع، ولولم يكن ملكاً لسعى إليه الناس في جميع بلد، فيلسوف مبرأ من التزمت، كله حلاوة، وكياسة، وسلوك كريم؛ ينسى أنه ملك حين يلقى أصدقاءه. لقد احتجت إلى جهد من ذاكرتي لأتذكر حتى الجالس عند أسفل سريري ملك له جيش عدته 100.000 مقاتل(67).

ولم يكن فردريك أقل إغتياظاً. فقد خط إلى مساعده جوردان في 24 سبتمبر يقول:

رأيت فولتير الذي كن تواقاً إلى معهدته، ولكني رأيته وحمى الربع تهدني، وعقلي وجسدي متوتر الأعصاب... إذا له فصاحة سيشرون، ولطف بيلي، وحكمة أجريبا، فهوباختصار يجمع خير ما يجني من الفضائل والمواهب من ثلاثة من أعظم القدماء. وعقله لايني عن التفكير، وكل قطرة مداد هي رحيق ذكاء يقطر من قلمه... إذا لاشاتليه محظوظة بعيشة معها، فإن في وسع إنسان لم يؤت من المواهب غير ذاكرة قوية حتى يؤلف كتاباً رائعاً من الأقوال الحكيمة التي ينثرها كيفما اتفق"(68).

فلما عاد فردريك إلى برلين لاحظ حتى لديه جيشاً عدته 100.000 مقاتل، وفي 20 أكتوبر توفي شارل السادس وارتقت عرش إمبراطورية النمسا والمجر شابة لها جيش من الدرجة الثانية. في ذلك اليوم ذاته أوفد فرديك إلى فولتير خطاباً نذيراً بالشر، اتى فيه "أن موت الإمبراطور يغير جميع أفكاري السليمة، وأظن حتى الأمور ستنحوفي شهر يونيونحوالمدافع والبارود، والجنود والخناق، بدلاً من الممثلات والمراقص والمسارح؛ بحيث أراني مضطراً إلى إلغاء الاتفاق الذي كنا على وشك إبرامه(69).

وأحس فولتير في قلبه وجعاً. أترى تلميذه هذا تاجر حرب كأي ملك آخر،يا ترى؟ وانتهز دعوة فردريك إياه لزيارته في برلين فقرر حتى يرى ما مستطيع صنعه في سبيل السلام وقد يستطيع في الوقت ذاته حتى يصلح ما فسد بينه وبين فرساي لأن الكردينال فلوري، الذي ظل قابضاً على دفة الحكم في فرنسا كان هوأيضاً ينشد السلام. وعليه ففي 2 نوفمبر خط إلى الكردينال يعرض خدماته عميلا سرياً لفرنسا، في محاولة لرد فردريك إلى حظيرة الفلسفة. وقبل العنيفة على الدين "لقد كنت حدثاً، وربما طالت حداثتك بعض الشيء"(70). وفي خطاب آخر بنفس التاريخ (14 نوفمبر) خط الكردينال اللطيف ينبئ بتسليمه كتاب "المعارض لميكافيلي من مدام دشاتليه وأطراه وهويحدس بحكمة هوية مؤلفة: أياً كان مؤلف هذا الكتاب، فهوجدير بأنقد يكون أميراً إذا لم يكنه. والقليل الذي قرأته منه يفيض حكمة ومعقولية وفيه تعبير عن مبادئ جديرة بالإعجاب الشديد، مما يؤهل مؤلفه لقيادة غيره من الناس، شريطة حتى يؤتى من الشجاعة ما يجعله يطبق مبادئه. فإذا كان قد ولد أميراً فقد ولج في ميثاق جليل جداً مع الشعب؛ وما كان الإمبراطور أنطونيوس مكتسباً المجد الخالد الذي يحفظ به جيلا بعد جيل لولم يعدم بعدالة حكمه تلك الفضيلة السامية التي بسطها لجميع الملوك في مثل هذه الدروس المنيرة... وسوف أتأثر تأثراً لا حد له إذا استطاع صاحب الجلالة البروسي حتى يجد في مسلكي بعض التطابق مع مبادئه، ولكني أؤكد لك على الأقل أنني أعتبر مخططه مخططاً لأكمل وأمجد حكومة(71).

وبعد حتى رتب فولتير أداء فردريك لجميع نفقات رحلته عبر ألمانيا لأول مرة، وأنفق زهاء أسبوعين مع الملك في رايننزبرج وبوتسدام وبرلين (20 نوفمبر إلى ديسمبر) وارتكب خطأ بإطلاعه فردريك على خطاب الكردينال عن كتابه "المعارض لميكافللي" وتبين فردريك فوراً حتى فولتير يلعب دور الدبلوماسي، ففسر مديح فلوري الجميل على أنه دعوة للتعاون مع فرنسا، وضايقه حتى يرى نفسه معوقاً بمنطق خطه في الفلسفة. وتبادل الشعر والأجوبة البارعة مع فولتير، ورفه عنه بعزفه على الفلوت، وصرفه دون شئ محدد أكثر من شكره على الكينين الذي لطف به الشاعر برداء الملك، وفي 28 نوفمبر خط فردريك إلى جوردان وهويعنى فولتير دون حتى يذكر اسمه صراحة". إذا صاحبك البخيل سيعب ما شاء ليروى ظمأه الذي لا يطفأ للغنى، فسيقبض ثلاثة آلاف طالر، وهوثمن غال يدفع لمهرج؛ فما من مهرج بلاط نقد مثل هذا الأجر من قبل"(72). ويبدوحتى هذا المبلغ ضم نفقات رحلة فولتير-التي تطوع فردريك على الأرجح بدفعها-وتكاليف نشر كتابه "المعارض لميكافيللي" التي كان فولتير قد قدمها من جيبه الخاص. إلى غير ذلك إذا ولج المال من الباب خرج الحب من الشباك، كما يقولون، إذا فردريك لم يستطيب دفع نفقات عميل فرنسي ولا تكاليف كتاب كان يسره حتى يرشوالعالم ليناله.

وغلب تأثير فردريك وليم الآن تعاليم الفيلسوف. وحدثا حلت فرص السلطة وتبعات الحكم محل موسيقى صباه وشعره وهوبعد أمير، ازداد فردريك بروداً وقسوة، لا بل إذا المعاملة السيئة التي كان أبوه يصبها عليه أغلظت جلده ومزاجه. وكان في جميع يوم يرى أولئك العمالقة الـ 100.000 الذين خلفهم له أبوه، وفي جميع يوم كان عليه حتى يطعمهم. فأي معنى لهجرهم يصدأون ويبلون في السلم،يا ترى؟ أما من ظلم يستطيع هؤلاء العمالقة حمله؛ أجل، هناك سيليزيا، التي تفصلها بوهيميا عن النمسا، والأقرب إلى برلين منها إلى فيينا؛ وكان نهر الأدور العظيم يجرى هابطاً من بروسيا إلى برزلا وعاصمة سليزيا التي لا تبعد عن برلين غير 183 ميلا إلى الجنوب الشرقي. فماذا يعمل النمساويون هناك،يا ترى؟ إذا لبيت برندبنورج مطالب في سليزيا -في الإمارات السابقة- وهي بيجرندورف، وراتيبور، وأوبيلن، وليجنتس، ويرييج، وفولار؛ هذه كلها أخذتها النمسا أوتم التنازل لها عنها بمقتضى ترتيبات لم تكن قط سقمية لبروسيا. إذن فالآن، والوراثة النمساوية محل نزاع، وماريا تريزا صغيرة ضعيفة، وعلى العرش الروسي قيصر طفل هوإيقاع السادس-الآن هوالوقت الملائم للإلحاح على تلك المطالب القديمة، ولتسليم تلك الأخطاء القديمة-ولإعطاء بروسيا وحدة وأساساً جغرافياً أعظم من ذي قبل.

وفي أول نوفمبر نطق ليوديفيلز أحد مستشاريه: "حل لي هذه المسألة: إذا أتيحت لإنسان ميزة فهل ينتفع بها أولا ينتفع،يا ترى؟ إنني مستعد بجيشي وبكل شئ آخر. فإذا لم أستعمله الآن كنت أملك في يدي أداة عديمة الجدوى رغم قوتها. وإذا استخدمت جيشي قيل إنني أوتيت مهارة استغلال التفوق المتاح لي على جارتي". ورأى بوديفيلز حتى هذا العمل سيعتبر عملاً غير أخلاقي. فرد فردريك: ومتى كانت الفضيلة معوقاً للملوك؟(73) وهل في وسعه حتى يمارس الوصايا العشر في عرين الذئاب ذاك الذي يسمى الدول العظمى،يا ترى؟ ولكن ألم يتعهد فردريك وليم بتأييد "الأمر العالي" الذي ضمن لماريا تريزا تلك الممتلكات التي خلفها لها أبوها،يا ترى؟ إذا هذا التعهد على أية حال كان مشروطاً بتأييد الإمبراطور لمطالب بروسيا في يوليش وبيرج، وهذا التأييد لم يأت، بل على العكس بذل لمنافسي بروسياز فالآن يمكن الثأر لهذه الإهانة المؤلمة.

وعليه ففي ديسمبر أوفد فردريك مبعوثاً إلى ماريا تريزا يعرض عليها حمايته إذا أقرت مطالبه في شطر من سيليزيا. وإذ تسقط رفضها لهذا الغرض، فإنه أمر شطراً من جيشه يبلغ ثلاثين ألف مقاتل بالزحف. فعبر الحدود إلى سيليزيا في 23 ديسمبر قبل وصول مبعوث فردريك إلى فيينا بيومين. إلى غير ذلك بدأت الحرب السيليزية الأولى (1740-42)، وهي أولى مراحل حرب الوراثة النمساوية.


عهده كملك

من هذا الغول الذي أثار الخوف والإعجاب دولياً، والذي سرق سيلزيا، وهزم نصف أوربا المتحد ضده، وهزأ بالدين، وازدرى الزواج، ومنح فولتير دروساً في الفلسفة، واقتطع بعض أوصال بولندة ولوليمنع روسيا من التهاماً كلها،يا ترى؟ لقد بدأ أقرب إلى الأشباح منه إلى الغيلان يوم عاد حزيناً منتصراً من حرب السنين السبع ودخل برلين (30 مارس 1763) بين تصفيق الجماهير المملقة. خط إلى دارجنس يقول "إني حتى أعود إلى مدينة لن أعهد فيها غير الأسوار، ولن أجد أحداً من معارفي، حين تنتظرني مهمة ضخمة، وحيث أخلف بعد زمن غير طويل عظامي في مثوى لا تكدر هدوءه الحرب ولا الكوارث ولا سفالة الإنسان"(1) كانت بشرته قد جفت وتغضنت، وعيناه الزرقاوان الرماديتان داكنتين منتفختين، ووجهه يحمل آثار المعركة والمرارة، وأنه فقط هوالذي احتفظ بجلاله القديم. وقد افترض أنه لن يستطيع الحياة طويلاً بعد حتى استنزفت الحرب الطويلة موارده جسداً وعقلاً وإرادة، ولكن زهده أعطى في أجله ثلاثة وعشرين عاماً آخر. كان مقلاً في طعامه وشرابه، لا يعهد الترف؛ يعيش ويلبس في قصره الجديد ببوتسدام كما لوكان في المعسكر، وكان يضن بالوقت المخصص للعناية بشخصه؛ وفي سنيه الأخير أقلع عن الحلاقة، واكتفى بجز لحيته بمقص بين الحين والحين؛ ورددت الشائعات أنه لم يكن يستحم كثيراً(2).

وأكملت الحرب تقسى خلقه الذي بدأ دفاعاً ضد قسوة أبيه. فكان يتطلع بهدوء رواقي بينما الجنود المحكوم عليهم يمرون ستاً وثلاثين مرة(3) بين صفين من الرجال يجلدونهم. وكان يتعقب موظفيه وقواده ويزعجهم بالجواسيس السريين، والتدخل المفاجئ، واللغة البذيئة، والأجر الشحيح وبضروب من الأوامر التفصيلية تخنق روح المبادرة والاهتمام. ولم يكسب قط حب أخيه الأمير هنري الذي جد وأخلص في خدمته في الدبلوماسية والحرب. وكان له بعض الصديقات، ولكنهن كن يخفنه أكثر مما يحببنه، ولم يسمح لواحدة منهن بدخول دائرة أخصائه. كان يحترم المعاناة الصامتة التي عانتها ملكته التي أهملها، وعند عودته من الحرب فاجأها بهدية من 25.000 طالر؛ ولكن من المشكوك فيه أنه شاركها فراشها إطلاقاً. ومع ذلك درست حتى تحبه إذا رأته بطلاً في المحن مخلصاً في الحكم؛ وكانت تشير إليه في حديثها عنه بعبارة "ملكنا العزيز" و"هذا الملك العزيز الذي أحبه وأعبده"(4). ولم يكن له ولد، ولكنه كان شديد التعلق بكلابه، وكان اثنان منها ينامان عادة في حجرته ليلاً، من الممكن لحراسته؛ وكان أحياناً يستصحب أحدهما إلى فراشه ليدفئه بحرارة الحيوان. وعندما توفي آخر كلابه الكثيرة لديه "بكى اليوم كله"(5). وقد افترض به اللواط(6). ولكنا لا نملك في هذه الشبهة غير التخمين.

نموبراندنبورگ-پروسيا (1600-1795).

وعلى أنه كان يخفي تحت جلده العسكري الصلب عناصر من الحنان نبدر حتى كشف عنها أمام الناس. فقد بكى كثيراً لموت أمه، وكان يرد على محبة أخته فلهلمينه الحارة بمحبة مخلصة. وقد وزع على بنات أخيه بعض الأفضال الصغيرة غير الإشارة. كان يضحك من عواطف روسوالمفرطة، ولكنه اغتفر له عداءه وعرض عليه الملجأ حين نبذه العالم المسيحي. وكان يتنقل بين التدريب الصارم لجنوده وصفير الألحان من نايه. وقد ألف الصوناتات والكونشرتوات والسمفونيات التي شارك في أدائها أمام حاشيته. وسمعه العالم بيرني هناك، وقرر أنه عزف "بضبط شديد، واستهلال صافي منسق، ولعب بالأصابع بديع، وذوق نقي بسيط، ودقة بالغة في التطبيق، إتقان متساوفي جميع معزوفاته"، على حتى بيرني يضيف إلى ما ذكر أنه في بعض الفقرات الصعبة،... اضطر جلالته-على عكس ما تقتضيه القواعد-أن يلتقط نفسه ليكمل الفقرة(7) .

وفي سنوات لاحقة أكرهه ازدياد النهج وفقدان عدة أسنان على الإقلاع عن العزف على الناي، ولكنه استأنف دراسة الكلافير.

وكانت الفلسفة هوايته المحببة بعد الموسيقى. كان يحب حتى يشاركه مائدته فيلسوف أواثنان ليسلخ جلد القساوسة ويستفز قواد الجيش. وكان ثابت القدم كفؤاً لفولتير في رسائله معه. وقد بقي على شكوكيته في حين اعتنق معظم جماعة الفلاسفة العقائد الجازمة والخيالات الشاطحة. وكان أول حاكم في العصور الحديثة يجهر بلادينيته، ولكنه لم يهاجم الدين علناً. ومضى إلى حتى "لدينا من درجات الأرجحية ما يكفي لبلوغ اليقين بأن "لا شيء بعد الموت"(9)، ولكنه رفض حتمية دولباخ وأكد (كرجل هوالإرادة المتجسدة) حتى العقل يؤثر على الأحاسيس على نحوخلاق، وأن في استطاعة العقل حتى يسيطر على دوافعنا الفطرية بالتعليم(10) أما حب الفلاسفة إليه فهم (صديقي لوكريتيوس... وإمبراطوري الطيب ماركوس أوريليوس"،يا ترى؟ وعنده حتى أحداً لم يضف إليهما شيئاً ذا بال(11).

وقد اتفق مع فولتير على الاعتقاد بأن "الجماهير" تسرف في إنسالها وتفرط ف كدها بحيث لا يتسع لها الوقت للتعليم الحقيقي. ولن يجدي تبصيرها بأوهام اللاهوت إلا في دفعها إلى العنف السياسي. وهويقول في هذا "إن التنوير نور من السماء للواقفين على القمم، وجمرة مدمرة للجماهير"(12)، وقد أجمل قوله هذا تاريخ مذابح سبتمبر 1792 وإرهاب 1793 قبل حتى تبدأ الثورة الفرنسية. وخط إلى فولتير في أبريل 1759 يقول "فلنعترف بهذه الحقيقة: إذا الفلسفة والفنون والآداب لا تنتشر إلا بين قلة من الناس، أما الجماهير العريضة... فتظل كما جبلتها الطبيعة، حيوانات شريرة حاقدة"(13) وكان يسمى النوع الإنساني (في شيء من المزاح). "هذا الجنس الملعون"-ويضحك من أحلام الخير والسلام يقول:

"إن الخرافة والنفعية والانتقام والخيانة ونكران الجميل يفترض أن تثير المعارك الدامية المحزنة إلى آخر الدهر، لأننا محكومون بالعواطف، ونادراً، جداً بالعقل. ولن تنبتر أبداً الحروب وقضايا المحاكم ومظاهر الدمار والأوبئة والزلازل والتفاليس... وما دام الأمر كذلك، ففي ظني حتى هذا الوضع ضرورة لا بد منها... ولكن يلوح لي أنه لوكان هذا الكون قد فطره كائن خير لخلقنا أسعدد ما نحن... إذا العقل البشري ضعيف، وأكثر من ثلاثة أرباع البشر خلقوا ليخضعوا لأسخف ضروب التعصب. فالخوف من الشيطان والجحيم يبهر عيونهم، وهم يكرهون الرجل الحكيم الذي يحاول تنويرهم... وعبثاً التمس فيهم صورة الله التي يؤكد اللاهوتيون أنهم يحملونها. إذا في داخل جميع إنسان وحشاً، وقليلون هم الذين يستطيعون ترويضه، وأكثر الناس يرخون له اللجام ما لم يكبحهم الخوف من القانون"(14).

وقد خلص فردريك إلى حتى السماح للحكومات بأن تتسلط عليها الأغلبية مجلبة للكوارث. فلكي تحيا الديمقراطية يجب حتى تكون-كغيرها من نظم الحكم-أقلية تقنع الأغلبية بأن تسمح لنفسها بأن تقودها الأقلية. وقد رأى فردريك رأى نابليون فيما بعد من حتى "الأرستقراطية موجودة دائماً بين الأمم وفي الثورات"(15) وآمن بأن الأرستقراطية الوراثية تربي الإحساس بالشرف والولاء، والرغبة في خدمة الدولة بتضحية شخصية بالغة، لا يمكن تسقطها من نوابع البورجوازيين الذين نشأوا بفضل التسابق على الثروة، لذلك أحل بعد الحرب شباب النبلاء محل معظم ضباط الطبقة الوسطى الذين ترقوا في الجيش(16). ولكن بما حتى هؤلاء النبلاء المعتزين بعراقتهم قد يصبحون مصدراً للتفتت والفوضى، وأداة للاستغلال، إذن فلا بد من حتى يحمي ملك مطلق السلطة الدولة من الانقسام، ويدفع الظلم الطبقي عن عامة الشعب.

وكان فردريك يحب حتى يصور نفسه خادماً للدولة والشعب. وربما كان هذا تبريراً لإرادة القوة فيه، ولكنه تسامى بحياته إلى مستوى دعواه. فأضحت الدولة عنده "الكائن الأعلى" الذي يبذل في سبيله نفسه وغيره؛ ومطالب خدمة الدولة تغلب عنده على ناموس الفضيلة الفردية؛ فالوصايا تتوقف عند أبواب الملوك. ووافقته جميع الحكومات على هذه "السياسة الواقعية"، وقبل معظم الملوك النظرة إلى الملكية على أنها خدمة مقدسة. وقد اعتنق فردريك هذا المفهوم من اتصاله بفولتير؛ ومن طريق إلصاقهم بفردريك طور الفلاسفة ونظريتهم "الملكية" ومؤداها حتى الأمل الأكبر في الإصلاح والتقدم معقود على تنوير الملوك.

إلى غير ذلك أصبح برغم حروبه معبود الفلاسفة الفرنسيين، وهدأ من عدائهم له، حتى عداء روسوالفاضل. وقد رفض دالامبير طويلاً دعوات فردريك له، ولكنه لم يكف عن الثناء عليه. فخط لفردريك يقول "إن الفلاسفة والأدباء في جميع بلد طالما تطلعوا إليك يا مولاي قائداً ومثالاً لهم"(17) وأخيراً أذعن الرياضي المتحفظ للدعوات المتكررة، وأنفق شهرين مع فردريك في بوتسدام عام 1763. ولم تنتقص الألفة (والمعاش الذي أجراه عليه) من إعجاب دالامبير به. فقد أبهجه إغفال الملك لقواعد التشريفات، وأطربته تعليقاته-لا على الحرب والحكومة فحسب، بل على الأدب والفلسفة أيضاً، ونطق لجولي دلسبيناس إذا هذا الحديث كان أروع من أي حديث يتاح للمرء سماعه آنئذ في فرنسا(18). فلما ابتأس دالامبير في 1776 حزناً على موت جولي، بعث إليه فردريك برسالة تظهر هذا الغول في ثوب الرجل الحكيم الحنون:

"يؤسفني الخطب الذي ألم بك... إذا جراح القلب أكثر الجراح إيلاماً... ولا شيء يبرئها غير الزمن... إذا لي لسوء طالعي حظاً وفيراً جداً من الخبرة بالآلام التي تحدثها خسائر كهذه. وخير دواء هوسيطرة المرء على نفسه ليصرف تفكيره بعيداً... وخليق بك حتى تتخذ بحثاً هندسياً يحتاج العكوف الدائم عليه... إذا شيشرون أغرق نفسه في التأليف ليتعزى عن موت حبيبته تلياً... وفي مثل سنك وسني خليق بنا حتى نكون أكثر استعداداً للسلوى لأن لحاقنا بمن فجعنا فيهم لن يطول"(19).

ثم حث دالامبير على حتى يحضر ثانية إلى بوتسدام "سوف نفلسف معاً تفاهة الحياة... وبطلان الرواقية... وسوف أشعر بالسعادة في تهدئة حزنك كأنني انتصرت في معركة." هنا على الأقل ملك أحب الفلاسفة، إذا لم يكن ملكاً فيلسوفاً بكل معنى الحدثة.

ولكن هذه المعاملة لم يعد يطبقها على فولتير، ذلك حتى خلافاتهما في برلين وبوتسدام، والقبض على فولتير في فرانكفورت-كل هذا هجر جراحاً أعمق من الحزن. وبقي الفيلسوف يعاني الألم والمرارة أطول مما بقي الملك. فأبلغ الأمير دلين حتى فردريك "لا قدرة له على عهدان الجميل، ولم يعترف قط بجميل إلا للجواد الذي هرب على ظهره في معركة مولفتس"(20). ثم عاد تبادل الرسائل بين ألمع رجلين في القرن حين خط فولتير إلى فردريك محاولاً حتى يثني المحارب اليائس على الانتحار. وراحا يتبادلان العتاب والمجاملات. وذكر فولتير فردريك بالإهانات التي لقيها الفيلسوف وابنة أخته من عمال الملك، وأحاب فردريك: "لولا صلتك برجل فتن حباً بعبقريتك الرائعة لما أفلت بهذه السهولة... فاعتبر الأمر كله منتهياً، ولا تذكر لي شيئاً بعد اليوم عن ابنة أختك تلك المتعبة"(21). ولكن الملك رغم هذا لاطف الذات المفلسفة على نحوساحر:

"أتريد كلاماً حلواً،يا ترى؟ حسناً جداً، سأقول لك ببعض الحقائق. إنني أقدر فيك أروع عبقرية ولدتها الأجيال، إنني أحب بشعرك، وأحب نثرك... ولم يؤت محرر قبلك مثل هذه اللمسة المرهفة، ولا مثل هذا الذوق الأصيل الرقيق... إنك ساحر في حديثك، تعهد كيف من الممكن أن ترفه وتفهم في وقت واحد. إنك أكثر المخلوقات التي عهدتها إغواء... جميع شيء في حياة الإنسان يتوقف على الزمان الذي يجيء فيه إلى هذا العالم. وأنا وإن جئت متأخراً جداً، إلا أنني لست بآسف على هذا، لأنني رأيت فولتير،... ولأنه يخط لي"(22).

وأعان الملك بتبرعاته السخية حملات فولتير دفاعاً عن أسرتي كالاس وسيرفان، وصفق للحرب التي شنها على الكنيسة الكاثولكية (L,infame)، ولكنه لم يشارك جماعة الفلاسفة ثقتهم في تنوير النوع الإنساني. فقد تنبأ بفوز الخرافة في السباق بينها وبين العقل. فتراه يخط إلى فولتير في 13 سبتمبر 1766 يقول: "إن مبشريك سيفتحون أعين قلة من الشباب... ولكن ما أكثر الحمقى الذين لا يعقلون في هذا العالم!.. صدقني، لوحتى الفلاسفة أقاموا حكومة فلن يمضي نصف قرن حتى يخلق الشعب خرافات جديدة... قد يتغير موضوع العبادة، كما تتغير الأزياء في فرنسا؛ (ولكن) ما أهمية حتى يسجد الناس أمام بترة من الفطير، وأمام العجل أبيس، أوأمام تابوت العهد، أوأمام تمثال من التماثيل،يا ترى؟ لأيهم الاختيار، فالخرافة واحدة، والعقل لا يكسب شيئاً"(23). على حتى فردريك تصالح مع الدين بعد حتى قبله ضرورة بشرية، فحمى جميع صوره السلمية بمنتهى التسامح. ففي سيليزيا التي غزاها هجر الكاثوليكية هادئة دون إزعاج، فيما عدا فتحه أبواب جامعة برلين لجميع المذاهب، وكانت من قبل وقفاً على الكاثوليك.. ثم رحب باليسوعيين بصفتهم مفهمين ذوي قيمة كبرى، وكانوا بعد حتى طردهم الملوك الكاثوليك قد التمسوا ملجأ تحت حكمه اللا أدري. وبالمثل بسط حمايته على المسلمين واليهود والملحدين؛ وفي عهده وفي مملكته مارس كانط حرية الكلام والتعليم والكتابة، وهي الحرية التي لقيت أشد تعنيف وقضي عليها بعد موت فردريك. وفي ظل هذا التسامح اضمحلت معظم صور الدين في بروسيا. ففي 1780 كان هناك كنسي واحد لكل ألف من سكان برلين، وفي ميونخ ثلاثون(24). وقد مضى فردريك إلى حتى التسامح سيقضي على الكاثوليكية عاجلاً. خط إلى فولتير في 1767 يقول "لا بد من حدوث معجزة لكي تعود الكنيسة الكاثوليكية إلى سابق عزها، فلقد أصيبت بسكتة دماغية خطيرة، وسوف يمد في أجلك لتتعزى بدفنها وكتابة قبريتها"(25). ولكن أشد الشكاك غلواً في شكوكيته نسي لحظة حتى يشك في الشكوكية.

فردريك في أرض الوطن 1745-1750

قفل الملك الظافر الذي أدركه التعب إلى برلين (28 ديسمبر 1745) وأقسم حتى "سيكون منذ اليوم سلام إلى آخر حياتي!"(81) ونددت به جميع أوربا خارج بروسيا (ونددت به بعض الناس داخلها) لصاً غادراً، وأعجبت به لصاً ناجحاً. واستنكر فولير مذابحه ولقبه "الأكبر"(82) (أوالعظيم). وكان فردريك قد رد في 1741 على احتجاجات الشاعر فنطق:

تسألني كم من الزمن اتفق زملائي على حتى يدمروا العالم فيه. وجوابي أنه ليس لي أدنى فهم به، ولكن القتال أصبح فاشية هذا العصر، وفي ظني حتى أمده سيطول. وقد أوفد لي الأبيه دسان-بيير، الذي يخصني بشرف ممحررتي، كتاباً جميلا في طريقه رد السلام إلى ربوع أوربا والحفاظ عليه إلى الأبد..

وكل ما ينقص الخطة لكي تنجح هوموافقة أوربا وبضعة توافه مماثلة(83).

وقد قدم لأوربا دفاعه في كتابه الذي نشر بعد موته باسم "تاريخ جيلي"، واعتنق فيه مبدأ مكيافللي الذي غلب فيه مصلحة الدولة على مبادئ فضيلة الفرد.

ربما رأت الأجيال القادمة بدهشة في هذه المذكرات روايات عن معاهدات أبرمت ثم نقضت. ومع حتى لهذه التصرفات سوابق كثيرة، فإنها ما كانت تشفع للمؤلف لولم يكن لديه مبررات أفضل يعتذر بها عن سلوكه. إذا مصلحة الدولة يجب حتى تقوم قانوناً للملوك. ويجوز نقض المحالفات لأي من هذه الأسباب:

  1. -حين لا يوفى حليف ما بتعهداته؛
  2. - حين يبيت حليف خداعك، وحين لاقد يكون أمامك سبيل إلا حتى تسبقه إلى خداعه؛
  3. - حين تفرض عليك قوة قاهرة تضطرك إلى نقض اتفاقاتك،
  4. - حين تعوزك الوسائل لمواصلة الحرب...

ويبدولي واضحاً جلياً حتى الفرد الذي يتولى منصباً عاماً يجب عليه حتى يوفي بوعده بكل أمانة... فإذا خدع استطاع حتى يطلب حماية القوانين له.. ولكن إلى أي محكمة يلجأ الملك إذا انتهك ملك آخر المواثيق التي بذلها له،يا ترى؟ إذا حدثة فرد ما تنطوي على كارثة لرجل واحد فقط، ولكن حدثة ملك قد تجر كارثة شاملة على أمم برمتها. وهذا كله يمكن اختزاله إلى سؤال واحد هو: هل من الخير حتى يهلك الشعب أم حتى يخرق الملك معاهدة؟،يا ترى؟ وأي أبله متردد في الجواب القاطع عن هذا السؤال؟(84)

وقد وافق فردريك اللاهوت المسيحي على حتى الإنسان بطبيعته شرير. فلما أعرب مفتش تعليم يدعى زولتسر عن الرأي بأن "ميل البشر الفطري يتجه إلى الخير أكثر من الشر" رد الملك عليه قائلا "أواه يا عزيزي زولتسر، إنك لا تعهد هذا النوع الإنساني اللعين"(85). ولم يقتصر فردريك على مجرد تقبل تحليل لاروشفوكوطبيعة البشر على أنها أنانية خالصة، بل آمن بأن الإنسان لن يقر بأن قيد على الجري وراء مصلحته إذا لم يكبحه الخوف من الشرطة فما دامت الدولة هي الفرد مضروباً في أعداد كثيرة، وليس هناك شرطة دولية يردعها عن أنانيتها الجماعية، فلا سبيل إذن إلى كبح جماحها إلا حتى تخاف سطوة غيرها من الدول. ومن ثم كان أول واجبات "خادم الدولة الأول" (كما سمى فردريك نفسه) حتى ينظم قوة الأمة على الدفاع، وهي تتضمن السبق بالهجوم - أي حتى تعمل بالآخرين ما يبيتون حتى يعملوه بك. إلى غير ذلك كان الجيش في رأى فردريك، كما كان في رأى أبيه، أساس الدولة. لقد أرسى نادىئم اقتصاد تشرف عليه الحكومة وتخططه بعناية، ورعى الصناعة والتجارة، وبعث عملاءه إلى جميع أراتى أوربا ليجلبوا مهرة الصناع، والمخترعين، والصناعات، ولكنه أحس حتى هذا كله لا غناء فيه آخر الأمر إذا لم يصنع من جنوده أفضل جيوش أوربا تدريباً، وأضبطها نظاماً، وأجدرها بالثقة والاطمئنان.

أما وقد ملك هذا الجيش، ومعه بوليس حسن التنظيم، فإنه لم ير به حاجة إلى الدين معوناً على النظام الاجتماعي. فلما سأله وليم برنزويك ألا يرى حتى الدين نادىمة من أفضل نادىئم سلطة الحاكم، أجاب "إنني أجد الكفاية في النظام والقوانين.... لقد كانت الدول تحكم حكماً جديراً بالإعجاب حين لم يكن لدينك وجود"(86) ولكنه قبل أي عون استطاع الدين بذله في غرس المشاعر الفاضلة التي تعين على "النظام". وحمى جميع الأديان في مملكته، ولكنه أصر على تعيين الأساقفة الكاثوليك لا سيما في سيليزيا. (كذلك أصر الملوك الكاثوليك على تعيين الأساقفة الكاثوليك، وعين الملوك الإنجليز الأساقفة الأنجليكان.) وقرر حتىقد يكون لكل إنسان الحرية في حتى يعبد كما يشاء، أولا يعبد على الإطلاق. وضم هذا الروم الكاثوليك، والمسلمين، والتوحيدين، والملحدين. على أنه كان هناك قيد واحد على هذه الحرية، فحين كان الجدل الديني ينقلب إلى السب أوالعنف الشديدين، كان فردريك يخمده كما أي خطر يهدد السلام الداخلي. وفي سنواته الأخيرة كان أقل تسامحاً مع الهجمات على حكومته منه على الهجمات على الله.

فأي رجل كان، مرهب أوربا هذا ومعبود الفلاسفة،يا ترى؟ لم يزد طوله على خمسة أقدام وست بوصات، وليست هذه بالقامة الشامخة. وقد غلبت عليه السمنة في شبابه، ولكنه غدا الآن بعد عشر سنين من الحكم والحرب نحيلا، عصبياً، مشدوداً، وكأنه سلك من الحساسية والنشاط الكهربيين، له عينان حادتان فيهما ذكاء متشكك، وله قدرة على الفكاهة، ونكته الذكية لا تقل حدة عن نكت فولتير. كان في وسعه، كإنسان لا يعارضه أحد، حتىقد يكون غاية في اللطف، ولكنه كملكاً كان صارماً، وندر حتى خفف العدل بالرحمة، فكان يستطيع حتى يناقش الفلسفة مع مساعديه وهويرقب في هدوء جنوده وهم يعانون الجلد وكان لكلبيه لسان لاذع يجرح أصدقاءه أحياناً. وهوشديد الشح عادة، كريم بين الحين والحين. وإذ ألف حتى يطاع، فقد أصبح مستبد الطبع، لا يكاد يطيق اعتراضاً، وندر حتى يلتمس النصيحة، ولا يعمل بها إطلاقاً. فيه وفاء لأخصائه، ولكنه يحتقر النوع الإنساني. نادر الحديث مع زوجته، يضيق عليها في النفقة، ومزق في وجهها الكشف الذي دونت فيه احتياجاتها في مسكنة(87). وكان عادة ودوداً لشقيقته فلهلمينا، ولكنها هي أيضاً وجدته أحياناً متحفظاً فاتر العاطفة(88). أما غيرهن من النساء، باستثناء الأميرات من زائريه، فقد باعد ما بينهن وبينه؛ ولم يكن به ميل للطائف الأنثى ومفاتنها، سواء الجسدية أوالخلقية، وقد أبغض ثرثرة الصالونات. وآثر الفلاسفة والشبان ملاح الوجوه، وكثيراً ما صحب هؤلاء إلا مسكتنه بعد العشاء(89). وربما كان حبه للكلاب أكثر حتى من حبه لهؤلاء. وكان أحب رفاقه إليه في أخريات عمره كلابه السلوقية التي كانت تنام في فراشه؛ وقد أمر بإقامة أنصاب على قبورها، وبأن يدفن بجوارها(90). لقد عثر حتى من العسير عليه حتىقد يكون قائداً ناجحاً محبوباً في وقت واحد.

وفي 1747 أصيب بنوبة قلبية فالج وظل فاقد الوعي نصف ساعة(91). بعد هذا قاوم ضعف صحته بالعادات الثابتة والحمية، ينام على حشية رقيقة فوق سرير سهل قابل للطي، ويستجلب النوم بالقراءة. وكان يقنع في منتصف عمره هذا بالنوم خمس ساعات أوستاً في اليوم، فيستيقظ في الثالثة، أوالرابعة، أوالخامسة صيفاً، وبعد ذلك شتاء. لا يقوم على خدمته غير خادم واحد - أبرز واجباته حتى يوقد له ناره ويحلق له لحيته؛ وكان يحتقر الملوك الذين لا يستغنون عن مساعدين يلبسونهم. ولم يعهد عنه نظافة الشخص أوأناقة الملبس، فكان ينفق نصف يومه وهوفي روبه، ونصفه وهوفي سترة الحارس. يبدأ فطوره بعدة أكواب من الماء، ثم عدة أقداح من القهوة، ثم يتناول بعض الكعك، ثم كثيراً من الفاكهة. وبعد الفطور يعزف على الفلوت، متأملا شئون السياسة والفلسفة وهوينفخ آليته.

وفي نحوالحادية عشرة من جميع صباح يحضر تدريب جنده وعرضهم. وكانت وجبة الظهيرة الرئيسية تختلط عادة بالمداولات. ثم ينقلب بعد الظهر مؤلفاً، فينفق ساعة أوساعتين في كتابة الشعر أوالتاريخ؛ وسنجده مؤرخاً ممتازاً لأسرته ولجيله. فإذا فرغ ساعات للإدارة روح عن نفسه بالحديث مع الفهماء، والفنانين، والشعراء، والموسيقيين. وفي السابعة مساء قد يشارك في حفلة موسيقية عازفاً على الفلوت. وفي الثامنة والنصف يحل موعد حفلات عشاءه المشهورة في سانسوسي عادة (بعد مايو1747)، يدعوإليها أخص أخصائه، وكبار زائريه، وأقطاب أكاديمية برلين. وكان يطلب إليهم حتىقد يكونوا على سجيتهم، وينسوا أنه ملك، ويتحدثوا دون خوف، وهوما عملوه في جميع موضوع إلا السياسة. وكان فردريك نفسه يتحدث في إسهاب، وفهم، وذكاء. يقول أمير لين "كان حديثه موسوعياً، فالفنون الجميلة، والحرب، والطب، والأدب، والدين، والفلسفة، والأخلاق، والتاريخ والتشريع، تعرض على بساط البحث جميع في دوره"(92). ولم ينقص الحفل غير مفخرة واحد حتى يصبح مأدبة للفكر. وقد أقبل فيعشرة يوليو1750.

إعادة بناء بروسيا

لم يكد حاكم في التاريخ في صناعة الحكم كما كد فردريك، من الممكن باستثناء تلميذه جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، كان يأخذ نفسه كما يأخذ جنوده بالتدريب الشاق، فيستيقظ عادة في الخامسة، وأحياناً في الرابعة، ويشتغل حتى السابعة، ثم يفطر، ويجتمع بمساعديه حتى الحادية عشرة، ويستعرض حرس قصره، ويتناول الغذاء في النصف بعد الثانية عشرة مع الوزراء والسفراء، ثم يعمل حتى الخامسة، وعندها فقد يسترخي بالموسيقى والأدب الحديث. أما عشاء "نصف الليل" بعد الحرب، فكان يبدأ في التاسعة والنصف، وينتهي في الثانية عشرة، ولم يسمح لأي روابط أسرية بأن تصرفه عما هوعاكف عليه، ولا لأي مراسم بلاطية بأن تثقله، ولا لأي عطلات دينية بأن تبتر عليه كده، وكان يراقب وزرائه، ويملي جميع خطوة تقريباً من خطوات السياسة، ويرقب حالة الخزانة، وقد أنشأ فوق الحكومة كلها ديواناً للمحاسبات، خول له سلطة فحص أي مصلحة في أي وقت. وأصدر إليه تعليماته بأن يبلغ عن أي شبهة مخالفة. وكان يعنف في معاقبة الانحراف أوعدم الكفاية عنفاً اختفى معه من بروسيا أوكاد ذلك الفساد الحكومي الذي استشرى في جميع بلد آخر من بلدان أوربا.

وكان يعتز بهذا العمل، وبسرعة إفاقة وطنه مما حاق به من دمار. بدأ بألوان من الاقتصاد في بيته أثارت السخرية من بلاطي النمسا وفرنسا المسرفين رغم أنهما بلدان مهزومان. فكان البيت الملك يدار باقتصاد شديد كأنه بيت حرفي. فصوان ملابسه لا يحوي غير حلة جندي، وثلاثة معاطف قديمة، وصدريات متسخة بالنشوق، ورداء رسمي لازمه طوال حياته. وقد طرد بطانة أبيه من الصيادين وكلاب الصيد. ولم يبن أسطولاً، ولم يسع إلى تلك المستعمرات. وكان موظفوه يتقاضون أجوراً زهيدة، وقد أنفق بمثل هذا البخل على البلاط المتواضع الذي احتفظ به في برلين حينما هومقيم في بوتسدام. ومع ذلك فقد حكم إيرل تشسترفيلد عليه بأنه أكثر بلاط في أوربا أدباً وتألقاً ونفعاً لشاب حتى يوجد فيه،" ثم أردف قائلاً: "سترى فنون الحكم وحكمته في ذلك البلد الآن (1752) خيراً مما تراها في أي بلد آخر في أوربا"(26). على أنه بعد عشرين سنة من هذا التاريخ خط اللورد مالمسبري، السفير البريطاني لدى بروسيا، من الممكن لتعزية لندن، يقول إنه "ليس في تلك العاصمة (برلين) رجل فاضل واحد ولا امرأة عفيفة واحدة"(27).

على حتى فردريك كان يكبح شحه إذا اتصل الأمر بالدفاع القومي. فسرعان ما أعاد جيشه إلى سابق قوته بفضل الإقناع والتجنيد الإجباري؛ فهذا السلاح الذي في متناوله هووحده الذي يتيح له صيانة وحدة أراضي بروسيا أمام أطماع جوزيف الثاني وكاترين الثانية. وكان على ذلك الجيش كذلك حتى يدعم القوانين التي هيأت النظام والاستقرار للحياة البروسية. وقد أحس حتى القوة المركزية هي البديل الوحيد للقوة المختلة الممزقة توضع في أيدي الأفراد. وكان يؤمل حتى تتطور الطاعة بدافع الخوف من القوة، إلى طاعة بدافع الاعتياد على القانون-وهي قوة اختزلت إلى قواعد وأخفت براثنها.

وقد جدد أمره للفقهاء بأن ينسقوا في نظام قانوني واحد (قانون بروس عام) التشريع المتنوع المتناقض للكثير من الأنطقيم والأجيال. وكانت هذه المهمة قد توقفت بموت صموئيل فون كوكسيجي (1755) وبنشوب الحرب، فاستأنفها الآن المستشار يوهان فون كارمر وعضوالمجلس الخاص ك. ج. سفاريتس، واستكملت في 1791. وقد سلم القانون الجديد بوجود الإقطاعية والقنية، ولكنه حاول في هذه الحدود حتى يحمي الفرد من الطغيان أوالظلم الخاص أوالعام. فألغى المحاكم التي لا ضرورة لها. وقلل من الإجراءات القانونية وعجلها، وخفف العقوبات، وصعب الشروط اللازمة للتعيين في وظائف القضاء. وتقرر ألا ينفذ حكم بالإعدام إلا بتصديق الملك، وفتح للجميع باب الاستئناف أمام الملك. وقد اكتسب سمعة العدالة المحايدة، وسرعان ما اعترف الجميع للمحاكم البروسية بأنها أنزه وأكفأ المحاكم في أوربا(28).

الموسيقى، الفنون والتفهم

The Flute Concert of Sanssouci by Adolph von Menzel, 1852, depicts Frederick playing the flute in his music room at Sanssouci.

وفي 1763 أصدر فردريك النظام التعليمي العام ليثبت ويوسع التعليم الإلزامي الذي أعربه أبوه في 1716-17. فتقرر حتى يمضى جميع طفل في بروسيا من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة إلى المدرسة. ومن صفات فردريك المميزة إسقاط اللاتينية من منهج التعليم الأولى، وتعيينه قدامى الجند مفهمين، وجعله منظم التعليم يجري بتدريب أشبه بالتدريب العسكري(29). وقد أضاف الملك: "من الخير حتى يفهم المدرسون في الريف الأحداث الدين والأخلاق... وحسب أهل الريف حتى يتفهموا القليل من القراءة والكتابة... ولا بد من تخطيط التعليم... بحيث يبقى عليهم في القرى ولا يؤثر عليهم ليهجروها"(30).

وحظي تجديد البناء الاقتصادي بالأولوية في الوقت والمال. فبدأ فردريك باستخدام المال الذي جمع من قبل لحملة حربية أخرى-زالت الحاجة إليها الآن-في تمويل تعمير المدن والقرى وتوزيع الطعام على المجتمعات الجائعة، وتقديم البذور للزراعات الجديدة؛ ثم وزع على المزارع ستين ألف حصان أمكن توفيرها من الجيش. وبلغت جملة المبالغ التي أنفقت على أعمال الإغاثة العامة 20.389.000 طالر(31). وأعفيت سيليزيا التي اجتاحتها الحرب من الضرائب ستة أشهر؛ وبنى فيها ثمانية آلاف بيت في ثلاث سنين، وقدم مصرف عقاري المال للفلاحين السيليزيين بشروط ميسرة. وأسست جمعيات للتسليف في مراكز شتى لتشجيع التوسع الزراعي. وصرفت مياه منطقة المستنقعات الممتدة على الأودر الأدنى، فهيأت أرضاً صالحة للزراعة لخمسين ألف رجل. وبعث المندوبون إلى الخارج لدعوة مهاجرين إلى بروسيا، فاتى منهم 300.000(32).

ولما كانت القنية تربط الفلاح بسيده، فإنه لم توجد في بروسيا حرية الانتنطق إلى المدن، تلك الحرية التي يسرت في إنجلترة تطور الصناعة السريع. وقد جهد فردريك بكل الوسائل للتغلب على هذا المعوق. فأقرض الملتزمين المال بشروط ميسرة، وأجاز الاحتكارات المؤقتة، واستورد العمال، وفتح مدارس الصنائع، وأنشأ مصنعاً للبرسلان في برلين. وناضل لينشئ صناعة الحرير، ولكن أشجار التوت ذبلت في برد الشمال. وشجع التعدين النشيط في سيليزيا الغنية بالمعادن. وفيخمسة سبتمبر 1777 خط إلى فولتير كما يخط أحد رجال الأعمال لزميل له يقول: "إنني عائد من سيليزيا راضياً عنها الرضى كله... فقد بعنا للأجانب ما قيمته 5.000.000 كراون من التيل، و1.200.000 كراون من القماش... وقد أمكن اكتشاف طريقة لتحويل الحديد إلى صلب أبسط كثيراً من طريقة ريومور"(33).

وتسهيلاً للتجارة ألغى فردريك المكوس الداخلية ووسع الموانئ، وحفر القنوات وشق ثلاثين ألف ميل من الطرق الجديدة. أما التجارة الخارجية فقد عاقتها الرسوم المرتفعة على الواردات والحظر المفروض على تصدير السلع الاستراتيجية؛ واقتضت الفوضى الدولية حماية الصناعة الوطنية لضمان الاكتفاء الصناعي في الحرب. ورغم ذلك نمت برلين قلباً للتجارة وللحكومة: ففي 1721 كانت تضم من السكان 60.000، وفي 1777 زادوا إلى 140.000(34). لقد كانت تتهيأ لتصبح عاصمة لألمانيا.

ولكي يمول فردريك هذا المزيج من الإقطاعية، والرأسمالية، والاشتراكية، والأوتقراطية، اقتضى شعبه من الضرائب قدراً يقرب مما رد عليهم من نظام اجتماعي وإعانات مالية وأشغال عامة. واحتفظ للدولة باحتكار الملح والسكر والتبغ والبن (بعد 1781)، وامتلك ثلث الأرض الصالحة للزراعة(35). وفرض الضرائب على جميع شيء، حتى على المغنين الجائلين واستقدم هلفتيوس ليخطط له نظاماً محكماً في جميع الضرائب. وخط سفير إنجليزي يقول: "إن مشروعات الضرائب الجديدة نفرت الشعب حقاً من ملكهم"(36). وقد هجر فردريك عند موته في خزانة الدولة 51.000.000 طالر-وهوما يعادل إيراد الدولة السنوي مرتين ونصفاً.

وفي 1788 نشر ميرابو(الابن) بعد زيارات ثلاث لبرلين تحليلاً مدمراً عنوانه "في النظام الملكي البروسي تحت حكم فردريك الأكبر". وكان قد ورث عن أبيه مبادئ الفزيوقراطيين التي تنادي بالمشروعات الحرة، لذلك أدان نظام فردريك باعتباره دولة بوليسية، وبيروقراطية تخنق جميع روح للمبادرة وتعدوعلى جميع حرية شخصية. وكان في وسع فردريك حتى يرد على هذه التهم بأنه لوانتهج سياسة "عدم التدخل Laissez Faire" في حالة الفوضى التي ضربت أطنابها في بروسيا عقب حرب السنين السبع لأفسدت عليه هذه السياسة فوزه بما تجر من فوضى اقتصادية. لقد كان التوجيه أمراً حتمياً، وكان هوالرجل الوحيد الذي يستطيع القيادة الفعالة، وهولا يعهد شكلاً من أشكال القيادة غير قيادة القائد الحربي لجنوده. لقد أنقذ بروسيا من الهزيمة والانهيار، ودفع الثمن يفقدانه حب شعبه له؛ وقد فطن إلى هذه النتيجة، وعزى نفسه بمبررات أخلاقية:

"إن البشر يتحركون إذا حثثتهم على الحركة، ويقفون إذا كففت عن دفعهم... والناس مقلون في القراءة، زاهدون في حتى يتفهموا كيف من الممكن أن يمكن التصرف في أي شيء بطرق مختلفة. أما أنا، أنا الذي لم أصنع بهم قط غير الخير، فهم يظنون أنني أريد حتى أضع سكيناً على حلوقهم بمجرد حتى يلوح احتمال إدخال أي تحسين مفيد، لا بل أي تغيير على الإطلاق. في مثل هذه الحالات اعتمدت على شرف هدفي وسلامة ضميري، وعلى المعلومات التي أملكها، ثم مضيت في طريقي هادئاً"(37).

التسامح الديني

وقد انتصرت إرادته. فازدادت بروسيا حتى في حياءه غنى وقوة. وتضاعف عدد سكانها، وانتشر فيها التعليم، وأخفى التعصب الديني رأسه. سليم حتى هذا النظام الجديد اعتمد على الاستبداد المستنير، وأن هذا الاستبداد بقي بغير الاستنارة بعد حتى توفي فردريك، وأن الهيكل القومي اعتراه الضعف وانهار في فيينا أمام إرادة تعادل إرادة فردريك قوة وجبروتاً. ولكن الصرح النابليوني أيضاً، الذي اعتمد على إرادة رجل واحد وتفكيره، انهار هوأيضاً، وفي خاتمة المطاف كان بسمارك، وريث فردريك والمستفيد البعيد في هجرته، هوالذي عاقب فرنسا التي سيطر عليها وريث نابليون، وهوالذي جعل من بروسيا وعشرات الإمارات دولة موحدة قوية هي ألمانيا.

سيرته الحربية

معركة هوهن‌فريدبرگ، هجوم المشاة الپروسية، بريشة كارل روشلنگ. زيت على كانڤاس.
معركة روسباخ كانت نصراً تكتيكياً لفريدرش.


التقسيم الأول لپولندا

الكومنولث الپولندي-اللتواني بعد التقسيم (1772).

العصرنة

فريدريك الثاني في أثناء حرب السبع أعوام بريشة ريتشارد نوتل.


العمارة

South or garden facade and corps de logis of Sanssouci.


ميوله الجنسية

الشيخ فرتس

فوق جميع هذه الحياة المنوعة، حياة السياسة والدين والصناعة واللهووالموسيقى والفن والفهم والفلسفة والبروالإثم - كان يلوح طيف البطل الشائخ الذي لقبته ألمانيا "الشيخ فرتز"- لا حباً بل تكريماً له بوصفه أحب وأدهش تيوتوني في عصره. فهولم يقنع بحكم مملكته وأوركستراه، بل حسد قلم فولتير وتاقت نفسه إلى الظفر بالثناء عليه شاعراً ومؤرخاً. وقد خلف للأجيال التالية ثلاثين مجلداً من كتاباته: سبعة في التاريخ، وستة في الشعر، وثلاثة في الأبحاث العسكرية، واثنين في الفلسفة، واثني عشر في الرسائل، كلها بالفرنسية. أما أشعاره فأكثرها من النوع العابر سريع الزوال، ولم يعد القراء يذكرونها. ولكنه كان من كبار المؤرخين في جيله. ففي بواكير ملكه خط تاريخ أسلافه-"مذكرات في تاريخ أسرة براندنبورج" (1751). وقد زعم لنفسه الحياد كما يزعم أكثر المؤرخين: "لقد ارتفعت فوق جميع الأهواء والميول، ونظرت إلى الأمراء والملاك والأقرباء نظري إلى أناس عاديين"،(111) ولكنه ارتفع إلى ذروة الحماسة والنشوة وهويصف الناخب الأكبر فردريك وليم.

أما رائعته الأدبية فهي "تاريخ عصري" الذي سجل حكمه. وقد بدأه عقب انتهاء الحرب السيليزية الأولى (1740-42)، وواصل كتابته على فترات حتى أخريات عمره. وقد ضمنه تاريخ الفهم والفلسفة والأدب والفن، من الممكن متأثراً بفولتير-وإن كان قد خط جانباً كبيراً من هذا الكتاب قبل حتى يظهر كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر" و"منطقه في الأعراف" وقد اعتذر عن تضييعه حيزاً في كتابه على "بلهاء يلبسون الأرجوان، ودجاجلة يحملون التيجان... أما تتبع الكشف عن الحقائق الجديدة، وتفهم مسببات التغيير في الأخلاق والعادات، ودراسة الطرق التي قشعت بفضلها ظلمة الهمجية من عقول الناس-فهذه بالتأكيد موضوعات جديرة بأن تشغل جيع المفكرين".(112) وقد أثنى على هوبز ولوك والمؤلهة في إنجلترة، وعلى توماسيوس وفولف في ألمانيا، وفونتينيل وفولتير في فرنسا. "هؤلاء العظماء وتلامذتهم كالوا للدين ضربة قاضية. وبدأ الناس يمحصون ما كانوا يعبدونه بغباوة، وأطاح العقل بالخرافة... وكسبت الربوبية أتباعاً كثيرين، وهي العبادة البسيطة للكائن الأعظم".(113) وإذ كان فردريك يحتقر الحكومة الفرنسية ويحب الأدب الفرنسية، فإنه فضل ملحمة فولتير "الهنريادة" على الألياذة، وفضل راسين على سوفوكليس وسوى بين بوالووهوراس، وبين بوسويه وديموستين. وسخر من لغة ألمانيا وأدبها، وامتدح فنها المعماري. وشق على نفسه ليبرر غزوه سيليزيا، فنطق أنه أحس حتى لرجل الدولة حتى ينتهك الوصايا العشر إذا اقتضته ذلك مصالح دولته الحيوية "فخير حتى يحنث الملك بعهده من حتى يهلك الشعب"(114)-وهذا الهلاك-كما أمل حتى تصدقه-هوالخطر الذي تهدد بروسيا في 1740؛ وقد اعترف بأنه اقترف أخطاء كثيرة في قيادته جيشه، ولكنه رآه أمراً لا ضرورة له حتى يسجل فراره مولفتز. وهذان المجدان في جملتهما يقفان على قدم المساواة مع أفضل الكتابات التاريخية عن أوربا الحديثة قبل جبون.

وما حتى وضعت حرب السنين السبع أوزارها حتى عكف فردريك على كتابة "تاريخ حرب السنين السبع". وكان كقيصر يتطلع إلى حتىقد يكون خير مؤرخ لحملاته، وكقيصر تحاشى الحرج فتحدث عن نفسه بضمير الغائب. وهنا أيضاً حاول-ربما بعذر أفضل-أن يبرر المبادرة الجريئة التي بدأ بها الحرب. وقد امتدح ألد أعدائه، ماريا تريزا، في جميع ما يتصل بحكمها الداخلي، أما في علاقاتها الخارجية فقد أدان هذه المرأة المتكبرة "التي" استبد بها الطمع فأرادت حتى تبلغ هدف المجد من جميع طريق"(115) ووسط سجل الحملات، المحايد إلى حد لا بأس به، توقف ليندب أمه التي ماتت في 1757 وشقيقته التي لحقت بها في 1758. والصفحة التي وصف فيها فلهلمنية واحة من الحب في بيداء خربة من الحرب. وقد خلص إلى حتى التاريخ أستاذ عظيم تلاميذه قليلون: "إن في طبيعة البشر ألا يتفهم إنسان من التجربة. وحماقات الآباء تضيع هدراً على الأبناء، وكل جيل لا بد مقترف حماقاته"(116) "كل من يقرأ التاريخ بإمعان يدرك حتى المشاهد ذاتها كثيراً ما تتكرر، وأنه لا حاجة بنا إلا لتغيير أسماء الممثلين"(117). ولكنا حتى لواستطعنا حتى نتفهم، فإننا سنظل عرضة للمصادفة التي لا يمكن التنبؤ بها. "إن هذه المذكرات تقنعني أكثر فأكثر بأن كتابة التاريخ إذا هي إلا تجميع لحماقات الناس وضربات الحظ. فكل شيء يدور حول هذين الموضوعين"(118).


وقد حاول مرتين (1752 و1768) في "وصية أخيرة" حتى ينقل لورثته بعض الدروس المستفادة من تجربته الخاصة. فحثهم على دراسة أهداف الدولة المتنوعة ومواردها، والوسائل المتاحة لحماية بروسيا وتنميتها. وحذا حذوأبيه في تأكيده على الحاجة لأحكام ضبط الجيش، وحذر خلفاءه من الإنفاق فوق ما يسمح به الدخل؛ وتنبأ بالمتاعب السياسية التي ستحيق بفرنسا لسفهها المالي؛ ونصح بزيادة الإيرادات لا بفرض ضرائب جديدة بل بحفز إنتاجية الاقتصاد. وينبغي حماية جميع الأديان ما التزمت الهدوء والسلام-رغم حتى "جميع الأديان إذا فحصها المرء وجدها ترتكز على نسق من الخرافة غير معقول قليلاً أوكثيراً(119). أما سلطة الملك فيجب حتى تكون مطلقة، ولكن على الملك حتى يعد نفسه أول خادم للدولة. وما دامت بروسيا في خطر من صغر حجمها وسط دول كبيرة كروسيا وفرنسا والإمبراطورية النمساوية المجرية، فإن من واجب الملك حتى يغتنم أي فرصة ليوسع بروسيا ويوحدها-ويحسن حتىقد يكون ذلك بفتح سكسونيا وبروسيا البولندية وبومرانيا السويدية: "أن أول شغل شاغل للأمير هوحتى يصون سلطته، أما الثاني فهوحتى يوسع رقعته. وهذا يقتضي المرونة وسعة الحيلة... وستر المطامع الخفيةقد يكون بإعلان الميول السلمية حتى تأتي اللحظة المواتية. تلك طريقة جميع رجال الدولة العظماء"(120).

وينبغي حتى يعد الملك خلفه للحكم، فيهيئ له التعليم على يد رجال مستنيرين لا رجال كنسيين، لأن هؤلاء يشحنون رأسه بخزعبلات يقصد بها حتىقد يكون أداة طيعة في يد الكنيسة(121). وتعليم كهذا من شأنه حتى يخرج عقلاً ضعيفاً سرعان ما تسحقه مسئوليات الدولة. "ذلك ما رأيته، وإذا استثنيت ملكة المجر (ماريا تريزا) وملك سردينيا (شارل إيمانويل)، فإن كان ملوك أوربا ليسوا سوى بلهاء مشهورين"(122). وقد خط هذا واليزابث تحكم روسيا. وكانت "وصية" 1768 أكثر تأدباً، لأن كاترين كانت قد أثبتت علوهمتها، وتنبأ فردريك الآن بأن روسيا ستكون أخطر دولة في أوربا(123).

فلما شاخ بدأ يسائل نفسه إذا كان ابن أخيه ووريثه المحتمل-فردريك فلهلم الثاني-صالحاً لوراثة الحكم. خط إليه يقول "إنني أشقى من أجلك ولكن على حتى أفكر في الاحتفاظ بما أصنع، فإن كنت كسولاً خاملاً ذاب في يديك جميع ما جمعته بالجهد والمشقة"(124). وفي 1728 خط وقد ازداد تشاؤماً "لوحتى ابن أخي لان وتراخى بعد موتي، لما بقي شيء اسمه بروسيا في ظرف عامين"(125). وقد تحققت النبوءة في فيينا عام 1806، لا لأن فردريك وليم الثاني كان رخواً ليناً، بل لأن نابليون كان صلباً قاسياً.

وقد بات فردريك ذاته في عقدة الأخير قاسياً إلى حد لا يحتمل. فاختزل قدراً كبيراً من الحرية التي جاز بها للصحافة قبل 1756. خط ليسنج إلى نيقولاي في 1769 يقول "إن حريتكم البرلينية تتقلص.. إلى حرية جلب ما تشاءون جلبه إلى السوق من سخافات ضد الدين... ولكن لريفع إنسان صوته نيابة عن الرعايا، وضد الاستغلال والاستبداد... وعندها ستتبين سريعاً أي دول أوربا أكثرها اليوم عبودية وذلاً".(126) وكره هردر وطنه بروسيا، وانصرف فنحدثان في "رعب" عن ذلك "البلد المستبد"(127). وحين زار جوته برلين في 1778 أدهشته عدم شعبية الملك. ومع ذلك كان الشعب يبجل فردريك شيخاً لم يضن طوال خمسة وأربعين عاماً بيوم واحد في سبيل خدمة الدولة.

Grave of Frederick at Sanssouci.

وقد برته الحرب كما براه السلم. وكثرت واشتدت عليه نوبات النقرس والربو، والمغص والبواسير، وزادت أوجاعه حدة لولعه بالوجبات الثقيلة والأطعمة الحريفة. وفي 22-25 أغسطس 1778 استعرض جيشه السيليزي قرب برزلاوز وفي اليوم الرابع والعشرين ظل على صهوة جواده ست ساعات بردائه العسكري العادي والمطر يهطل غزيراً، وعاد إلى مسكنه مبللاً يرتعد من البرد. ولم يستعد عافيته بعدها قط. وفي يونيو1786 أوفد في طلب الدكتور تسمرمان من هانوفر. وتوقف عن تعاطي العقاقير التي وصفت له، وآثر الأحاديثالفترة عن الأدب والتاريخ، ولكي يلزمه تسمرمان الهدوء وصف له كتاب جبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"(128). وتفاقمت أوصابه بالاستسقاء، وأحدثت القطوع التي أجريت له لتخفيف الانتفاخات غرغرينة. ثم أطبق عليها الالتهاب الرئوي فاكتمل الحصار، وفي 17 أغسطس 1786 توفي فردريك وهوفي الرابعة والسبعين. وكان قد طب حتى يدفن في حديقة "صانسوسي" قرب قبور كلابه وحصانه الحبيب، ولكن أمر رحيله هذا الذي أصدره على البشرية أغفل، فدفن إلى جوار أبيه في كنيسة الحامية ببوتسدام. وحين اتى نابليون ووقف أما قبر فردريك بعد حتى هزم البروسيين في يينا نطق لقواد جيشه "لوكان على قيد الحياة لما كنا هنا"(129).

ذكراه

Equestrian statue of Frederick at Unter den Linden, برلين.



نسبه

Elector of Brandenburg
 
Louise Henriette of Orange-Nassau
 
 
Elector of Brunswick-Lüneburg
 
of the Palatine
 
 
Duke of Brunswick-Lüneburg
 
Eleonore d'Esmier d'Olbreuse
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
of Prussia
 
 
 
of Hanover
 
 
 
of Great Britain
 
 
 
of Celle
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
Frederick William I of Prussia
 
 
 
 
 
 
 
 
 
Sophia Dorothea of Hanover
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
فريدريك الثاني من پروسيا

هامش

  1. ^ Frederick was the third and last "King in Prussia"; beginning in 1772 he used the title "King of Prussia".
فريدريش الأكبر
أسرة هوهن‌تسولرن
وُلِد: 24 يناير 1712 توفي: 17 أغسطس 1786
ألقاب ملكية
سبقه
فريدريك وليام الأول
ملك پروسيا
1740 – 1772
{{{reason
تغيير اللقب
ناخب براندنبورگ
بإسم فريدرش الرابع

1740 – 1786
تبعه
فريدريك وليام الثاني
لقب حديث ملك پروسيا
1772 – 1786
سبقه
Charles Edzard
كونت شرق فريزلاند
1744 – 1786



تاريخ النشر: 2020-06-04 15:32:36
التصنيفات: Pages using deprecated image syntax, Pages using infobox royalty with unknown parameters, مواليد 1712, وفيات 1786, ملوك پروسيا, ناخبو براندنبورگ, أمراء نوشاتل, بيت هوهن‌تسولرن, حائزو مرتبة النسر الأسود, عازفو فلوت كلاسيكي ألمان, مؤلفو موسيقى ألمان, أشخاص في حرب الخلافة النمساوية, عسكريون ألمان في حرب السبع أعوام, عسكريون ألمان في حرب الخلافة النمساوية, ملكيون مثليون, عصر التنوير, أشخاص من برلين, ملوك پروتستانت, Walhalla enshrinees, كالڤنيون ألمان, كتاب عسكريون ألمان, ألمان القرن 18, حائزو مرتبة القديس أندرو, حائزو مرتبة النسر الأبيض (پولندا), ولاة عهد پروسيا

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

عمار حمدي يؤازر لاعبي الأهلي أمام مونتيري رغم الإصابة

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:06
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 44%

وزير الصحة يعلن استقبال 338 ألف جرعة من لقاح كورونا مقدمة من ألمانيا

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:16
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 69%

استقبال حافل من جمهور الأهلي في الإمارات لبيتسو موسيماني

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:05
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 50%

الطفل ريان..  صور “عمي علي الصحراوي” تخطف القلوب

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:21
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 70%

المسعفون يدخلون النفق لإخراج الطفل ريان

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:25
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 74%

أجيري يعلن تشكيل مونتيري لمواجهة الأهلي بكأس العالم

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:05
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 41%

خاص| القطاع الخاص يدخل منظومة نظافة الشوارع في ٤ محافظات

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:18
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 52%

بطريرك الكاثوليك يستقبل الرئيس العام للرهبنة الفرنسيسكانية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:14
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 50%

الأزهر الشريف: ضرب الزوجات محظور بحسب الأصل

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:20
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 50%

قضية الطفل ريان تعيد الدفئ بين المغاربة والجزائريين

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:20
مستوى الصحة: 63% الأهمية: 76%

 الشيخ مشاري راشد العفاسي  يعلن عن اصابته بفيروس كورونا

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:14
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 65%

خاص| الطفل ريان يعاني كسور في العمود الفقري والرقبة واصابة في الرأس

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:16
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

وزير التعليم العالي يشهد حفل تخرج طلاب جامعة نيو جيزة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:18
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 64%

السماح لموسيماني بقيادة الأهلي في لقاء مونتيري

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:08
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 38%

السلطة المحلية: عملية إنقاذ الطفل ريان بلغت مراحل جد متقدمة

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:26
مستوى الصحة: 64% الأهمية: 81%

10 محظورات بقانون الموارد المائية لحماية المياه.. تعرف عليها

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:15
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 62%

بـ6 إصدارات.. جناح الأزهر بمعرض الكتاب في مواجهة الإلحاد

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:17
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 58%

ميكيسون ووليد سليمان على مقاعد بدلاء الأهلي أمام مونتيري

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:07
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 43%

ميناء دمياط يستقبل 35403 طن بضائع عامة

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-05 18:17:17
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 55%

تحميل تطبيق المنصة العربية