أحوال الحاكي

عودة للموسوعة

أحوال الحاكي

أحوال الحاكي


أحوال الحاكي ، هوديوان للشاعر السماح عبد الله ، صدرت طبعته الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة في فبراير 2002 ، وصدرت طبعته الثانية عن مخطة الأسرة بالقاهرة في يونيو2003 ، وصدرت طبعته الثالثة عن دار التلاقي للكتاب بالقاهرة في أغسطس 2009 ، وقد حصل هذا الديوان على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر في مصر عام 2003

يضم الديوان ثلاثا وعشرين قصيدة يسميها الشاعر ثنائيات قاصدا بذلك بناء حوارية بين صوتين احدهما متخيل يتجسد في شذرات وومضات شعرية لا تتجاوز السطر أوالسطرين يستهل بها الشاعر القصائد. اما الصوت الآخر فيشف من خلال حركة القصيدة نفسها.

أما عناوين قصائد الديوان فهي :



فَالْتَقَطَتْهَا بِقَلْبٍ وَجِبفْ وَيَدُقُّ بِيُوتَ الْأَطْفَالْ وَتَبْتَدِئَانِ فِي رَفْسِ الْمِيَاهْ عَلَى قَدِّ خُطْوَتِهِ

الْمُسْتَعِدَّةِ لِلْعَدْوِ

وَجُودُو تَأَخَّرَ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبْ ثُمَّ أُطَوِّحُهَا فِي الْفَضَاءْ وَشَكَّلَ أَحْبَابَهُ فِي الدُّخَانْ إِلَى آخِرَةِ الَّليلْ حِينَ جَا وَأَشْعَلَ الْحَرِيقَةْ فَخَرَجْتُ مِنْ دَارِي وَتَزَوَّقَ لَمَّا سَرَدَ حِكَايَتِهِ وَيَسُبُّ هَذِهِ الدُّنْيَا أَوَ لَمْ يَخْتَرِمِ الْحُبُّ جِدَارَاتِ جَوَانِحِهِ بَعْدُ ذَاتَ نَهَارٍ بَعِيدْ وَكَانَ مُتْعَبًا مِنْ كَثْرَةِ التَّجْوَالْ وَارْتَدَى دَمِيَ الشَّفِيفْ وَلَرُبَّمَا كَانَ جَوْعَانًا وَأَنَا أَتَكَهَّلُ كَانَ الْبَابُ شِبْهَ مُغَلَّقٍ فَخَطَتْ فَوْقَ الْإِسْفَلتْ أَنْتَ أَيْضًا لَمْ تُجِبْ وَلَمْ تَفْرَحْ ضَارِبٌ فِي غَضَبِي الْأَرْضَ



نماذج من قصائد الديوان :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فَالْتَقَطَتْهَا بِقَلْبٍ وَجِبفْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لأين ترى مضىت ، طفلة المدرسة . .................... سعاد ، التي منذ عشرين عاما ، خطتُ لها حلّ أسئلة الإمتحانات ، في غفلة من عيون المدرس ، فالتقطتها بقلب وجيف ، وكفّ مُخوّفة ، وخطتُ لها حدثات ، عن الحب والشوق ، في ظهر كراسة الدينِ ، كان المدرس يحكي لنا سيرة ، القرشيّين ، حين أتوا للنبيّ ، لكي يقتلوه ، فما وجدوه ، وكان الذي في السرير ، ابنُ عمّ الرسولِ عليٌّ ، فطبّقت الحدثاتِ العشيقةَ ، بين أصابعها ، في حُنُو ، وفي قلق ، ولفت إلىّ العيونَ الصغيرةَ ، وابتسمتْ ، ثم أنهى المدرّس قصته ، بكلام عن الغارِ ، والعنكبوتِ ، إلى حتى أتتنا مُدَرّسة ، الهندسة . ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وَتَبْتَدِئَانِ فِي رَفْسِ الْمِيَاهْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أتتا معا . .................... إمرأة ٌ ، تلبس فستانا نهاريا ، له شمسٌ ، تضوّي آنة ، وتغيب ، حتى تهطل الأمطار ، وامرأة ٌ ، لها زيٌّ مسائيٌّ ، له قمرٌ ، وبضعة أنجم ، وسحابتان ، وغابة مهجورةٌ ، أتتا من الحقل البعيد ، تخوّضان البحر ، والمستنقعات ، وتعبران على مماشي الغرس ، حتى اتىتا الإسفلت ، في قلق خريفيّ ، وريفيّ ، وشمس المرأة الأولى تضوّي ، تضحك الأخرى ، تشدّ المرأة الاأولى ، تخاصرها ، وتتجهان للبحر بخطوواهن ، ذي خلة عراتى ، تشتجران ، فيما يشبه الغضب الخفيف ، وتقعدان معا ، على حجر رخاميّ ، لملمسه حرير الزغب الطالع ، من نهد بدائيّ ، وتبتدئان في رفس المياه ، بفرحة ، ظهراهما للناس ، والشمس الكبيرة ، والطيور الراجعات ، وحفنة الشجر المعشق في الخفا ، وجهاهما للبحر ، والسمك الذي يقفز بين الحين ، والحين ، ترشان على وجهيهما الماء ، المُندّى بحنين السمك العريان ، حتى يذكر الله النهار الفاتن ، الواشي ، فيقبضه ، وتغرب شمسة الأولى ، فتنهض ، وهي تقفل زر فستان النهار ، فتنهض الأخرى ، تقول لها : ، مواعيدي أنا هلت ، وها قمري بدا يصعد في صمت ، وبضعة أنجمي ، برقت ، على إيقاع خطوسحابتيّ ، وها هما أتتا إلينا ، كي تدلانا على درب ، يوصّلنا ، لشجْر الغابة المهجورة ، الأولى تقول لها : ، مواعيدي ، ستأتي مرة أخرى ، فلا تتعجلي ، وتمهلي ، إني ، أخاف الغابة المهجورة ، الأخرى تراودها على ضجر ، وتشتجران ، فيما يشبه الغضب الخفيف ، وتمشيان معا ، بخطوواهن ، ذي خلة عراتى ، حتى تدخلا شجرا ، يشكل غابة خربانة ، ظهراهما للناس ، والقمر الشفيف ، وحفنة العربات في جريانها ، تتخاصران ، وتحلمان ، بأن ترشا ورق الأشجار ، حتى يلمعا .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وَشَكَّلَ أَحْبَابَهُ فِي الدُّخَانْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


سكت الليلُ ، وانطفأ الشمعدانْ . .................... والوحيد ارتدى بزة الوجدِ ، منقوشة بالتذكّرِ ، والشوقِ ، أشعل تبغته ، وتصدّر مائدة للحنين المصفى ، وشكّل أحبابه في الدخانِ ، سقطّدهم في الكراسي ، وحين ابتدا مهرجان الكلام الجماعيّ ، حين عَلاَ صوتهم ، وبدا يتوترُ ، طالبهم بالتروّي ، ونطق : ، على رسلكم يا صحابُ ، هنا الماء ، والخمر ، كلٌ له قسمةٌ من خُطا الليلِ ، من خبزة الوقتِ ، من مهرجان الحنين ، وتمتم : ، في الغد ، لابد من مقعدين جديدين ، إني أرى اثنين ، لا يجلسان .


وقد خطت عن الديوان عدد من الدراسات النقدية سنورد بعضها :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


السماح عبد الله في أحوال الحاكي بقلم : د‏.‏ صلاح فضل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هذا هوالديوان الخامس للشاعر الأربعيني الصلب السماح عبد الله الأنور وقد فاز عنه بجائزة الدولة التشجيعية للشعر هذا العام وهويمتاز عن كثير من أبناء جيله الهش بعمق انتمائه المتجذر في التراث الشعري القريب والبعيد وصدق تمثله لأحوال الشعر وإيقاعاته وكثافة وعيه بالحياة عندما تستحيل إلي مأساة وحشية علي اقتصاد بالغ في اللغة وإصابة نافذة لمقاطع القول وشغف شديد بالسرد المتبتر والمتوهج في مضارب الهوي والتحنان‏.‏ وقد حدد تجربته في هذا الديوان منذ عنوانه بأنه‏'‏ ثنائيات‏'‏ لا بمعني احتواء مقطوعاته علي بيتين فحسب كما هوشأن الرباعيات والخماسيات وغيرها ولكن بمعني كلي يشطر المقطوعة إلي جملتين متخالفتين في التكوين ومتعادلتين في التقابل الدلالي قد تكون الجملة الأولي وجيزة مركزة والأخري مديدة تنتهي بقافية مماثلة للأولي أوعلي عكس هذا الترتيب‏.‏ لكنه يلتزم في جميع بنمط التفعيلة الذي أصبح التيار الرئيسي في الشعر العربي منذ القرن العشرين حيث يقع علي يمينه هامش القصائد العمودية التي تباعدت عن روح العصر وعلي يساره طوفان قصيدة النثر التي فتنت أجيال الشباب من القادرين علي الشعر والعاجزين عنه في اختلاط عشوائي مريب‏.‏ ولكن السماح عبد الله يرتكز علي عمود التفعيلة الجديد بثقة واطمئنان بل يلجأ بمكر واضح إلي تفعيل بيت من التراث الشعري العباسي لأبي فراس الحمداني بتوزيعه بشكل حديث علي كيفية التفعيلة مثلما يتم توزيع اللحن القديم فيمنح حدثاته مجالا حيويا دافقا تزداد به كثافة وشعرية وتأثيرا إذ يصبح البيت التقليدي هكذا في التوزيع المحدث‏:‏

‏'‏ وقور وأحداث الزمان تنوشني‏.‏ وللموت حولي جيئة وذهاب‏'‏

وكأنه يتخذ من هذا البيت الرزين شعارا لأحواله وعلامة علي انتمائه وتمثيلا لرصانته في لقاءة تقلبات الحياة القاتلة‏.‏ غير حتى قناع الوقار الذي يتلبسه الشاعر في هذا المفتتح لا يلبث حتى يشف عن حس مأساوي مضاعف يرد عليه مبتر آخر يورده الشاعر في نهاية الديوان مأخوذ من أمل دنقل في ثنائية كبري تجمع بين القديم والمحدث حيث يقول أمل‏:‏ ‏'‏أيها السادة لم يبق اختيار‏/‏ سقط المهر من الإعياء‏/‏ وانحلت سيور العربة‏.‏ ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة‏/‏ صدرنا يلمسه السيف‏/‏ وفي الظهر الجدار‏'.‏ وبين هذين القوسين الضاغطين علي وجدان السماح عبد الله تتحرك مقطوعاته الشعرية المزدوجة لتلتقط عبث الحب وتنقر في ملح الأرض وترصد نقوش التاريخ‏.‏

شجن الطفولة المعهدي‏:‏ لنصحبه في أولي قصائده التي تمتاح من بئر الصبا العذب وتتخذ عنوانا لها مثل معظم قصائد الديوان‏-‏ جملة عملية طويلة دالة علي حرارة الموقف الشعوري‏:'‏ فالتقطتها بقلب وجيف‏'‏ حيث تهجرز الإشارة في المطلع قبل حتى يسهب في تفاصيل الذكري البعيدة‏:‏ لأين تري مضىت طفلة المدرسة

‏....‏ سعاد التي منذ عشرين عاما خطت لها حل‏/‏ أسئلة الامتحانات في غفلة من عيون المدرس‏/‏ فالتقطتها بقلب وجيف وكف مخوفة‏.‏ وخطت لها حدثات عن الحب والشوق‏/‏ في ظهر كراسة الدين كان المدرس يحكي لنا سيرة القرشيين حين أتوا‏/‏ للنبي لكي يقتلوه‏/‏ فلم يجدوه‏/‏ وكان الذي في السرير ابن عم الرسول‏/‏ علي‏.‏

فطبقت الحدثات العشيقة بين أصابعها‏/‏ في حنو‏/‏ وفي قلق ولفت إلي العيون الصغيرة‏/‏ وابتسمت ثم أنهي المدرس قصته‏/‏ بكلام علي الغار‏/‏ والعنكبوت‏..‏ إلي حتى أتتنا‏/‏ مدرسة الهندسة‏'‏

الاستفهام الذي بثه الشاعر في البيت الأول المقفي بالسين والتاء المربوطة في حدثة‏'‏ مدرسة‏'‏ ما زال يسري في تجاويف الحكاية كالتيار الطفولي حتي يبرز في نهايتها عند القافية ذاتها‏'‏ هندسة‏'‏ فتسري معه شحنة من شجن الصبا العذب في امتزاج ذكريات حب المراهقة بوجدانيات الفهم في ثنائية دلالية تجمع بين قداسة السيرة النبوية العطرة وعبير البوح المكتوم بأشواق القلوب التي تتفتح علي وردة الحب البريء في حضرة نماذج الحب والتضحية العظمي في تاريخ الروح‏.‏

القصيدة المشهد‏:‏ ليست القصيدة عند السماح عبد الله عملا عشوائيا يتدفق منهمرا بالمشاعر والأفكار كيفما اتفق بل هي بنية تخييلية محكمة تقدم مشهدا في دراما الحياة الباطنية للمبدع وترسم صورة لتضاريس روحه المفعمة بالوجد والاستيهام‏.‏ وقد تشف مقطوعة واحدة عن معايشة حميمة وموصولة لثلة من الأسلاف الكبار الذين تحوم أطيافهم علي حدثاته مثل قصيدة‏'‏ وجودوتأخر أكثر مما يجب‏'‏ التي تستحضر كلا من كفافي وناظم حكمت وماركيز وجودووالمتنبي والمعري بطريقة مزدحمة لا يطيقها الفضاء الحيوي لنص قصير أوتتريث قصيدة أخري عند مشهد مجازي يعيد بناء جانب من عوالم أحدهم ليملأه بالتأمل الهادئ المبدع مثلما يعمل شاعرنا في مقطوعة‏'‏ وشكل أحبابه في الدخان‏'‏ حيث يقول‏:‏ ‏'‏سكت الليل‏/‏ وانطفأ الشمعدان‏.‏

‏.......‏ والوحيد ارتدي بزة الوجد منقوشة بالتذكر‏/‏ والشوق‏.‏ أشعل تبغته‏/‏ وتصدر مائدة للحنين المصفي‏.‏ وشكل أحبابه في الدخان سقطدهم في الكراسي

وحين ابتدا مهرجان الكلام الجماعي حين علا صوتهم‏/‏ وبدا يتوتر طالبهم بالتروي‏/‏ ونطق‏:‏

علي رسلكم يا صحاب‏/‏ هنا الماء‏/‏ والخمر كل له قسمة من خطا الليل‏/‏ من خبزة الوقت‏.‏ من مهرجان الحنين‏/‏ وتمتم‏:‏ في الغد‏/‏ لابد من مقعدين جديدين إني أري اثنين لا يجلسان‏'‏ ولابد حتىقد يكون القارئ قد شاهد مسرحية الكراسي لصمويل بيكيت أوسمع عنها حتي يتابع لعبة العبث الدرامي في استنطاق الصمت واستحضار الفراغ وصحبة التخيل وهوينفتح علي عوالم افتراضية مفعمة بالضجيج ومطاردة مفارقات الغياب داخل الغياب في المقاعد المنقوصة حتي يتمثل هذا الوقوف الدخاني للأحباب وهويمتلئ بشهوة الحضور واقتسام خبز الوقت في ملء الليل الطويل بنشوة المودة الصافية البديلة‏.‏

وأنا أتكهل‏:‏ قد تطول مقطوعات الشاعر كثيرا عن هذا المدي المحدود دون حتى تفقد تماسكها وانطلاقا من تلك البنية الثنائية المقصودة لازدواج الصوت‏.‏ وقد لا يصل القارئ أحيانا كثيرة إلي مرفأ آمن في بحثه عن المعني الأخير للنص مما يدفعه إلي إعمال آليات التأويل ويدعوه إلي إعادة تأمل الصياغات الشعرية دون الاكتفاء بما تطرحه من تكوينات مدهشة علي المستوي اللغوي أوالمجازي حتي يتجاوز عتبة الإبهام الدلالي‏.‏ ولنقرأ مثالا لذلك مقطوعته الجميلة‏'‏ وأنا أتكهل‏'‏ أي أتحول إلي كهل إذ يقول‏:‏ ‏'‏كالسوسنة الفرحانة بين الحسك‏/‏ حبيبي ‏....‏ يتمشي في آنية الوقت كما شاء له الفرح‏/‏ العريان ويقبض من نارنج البهجة قبضة‏/‏ كمثري أوعنب‏/‏ أورمان ويرش بها صحراء البشريين القاحلة يقايض سكته بمواويل الأعراس ويزداد صبا‏/‏ وأنا أتكهل وأراقبه من شباك الحجرة حين يمر‏/‏ ولا يدري بي‏'‏

ومن الواضح حتى لغة الشاعر هنا ممسوسة بمسحة من فيض‏'‏ نشيد الإنشاد‏'‏ في العهد القديم في بداية المبتر في التشبيه بالسوسنة وفي تأخير حدثة حبيبي‏.‏ كما حتى مفردات الحسك والرمان والعنب تنتمي إلي هذا المعجم الذي كان شديد الحضور لدي شعراء الجيل الأول التموزيين لكن الشاعر يبتكر للوقت آنية يتمشي فيها الحبيب ويقيم تقابلا طريفا بينه وهو‏'‏ يتكهل‏'‏ لقاء الحبيب الذي يزداد صبا كما يحرص علي القرار الإيقاعي في نهاية المقطوعة ليغلق القوس الموسيقي ويفتح أبواب المقطوعة للتأويل‏.‏ ويظل بوسع القارئ حتى يفيض من ذاته علي معني هذا الحبيب في تجلياته المتنوعة دون حتى تفقد المقطوعة قدرتها علي الإيحاء المتجدد عند جميع قراءة مما يحقق وظيفة الشعر في تعدد المعني وإثارة اللغة بصياغات جديدة إلي جانب تحرير المجاز مما استقر عليه في الضمير الأدبي لتوليد أدوات جديدة قادرة علي تنمية الحس الجمالي والمشاعر الإنسانية لدي القراء‏.‏


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


عن ديوان أحوال الحاكي للشاعر السمّاح عبد الله

لم يمت الشعر في مصر ..ولا الغناء بقلم:بهاء جاهين


بهاء جاهين


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


يثير ديوان ( أحوال الحاكي ) للشاعر السمّاح عبد الله وهوالعمل الذي حصل على جائزة الدولة التشجيعية في شعر الفصحى ، والصادر عام 2002 عن سلسلة كتابات جديدة التابعة لهيئة الكتاب ، يثير قضايا لم يتطرق لها العمل بشكل مباشر ، أوغير مباشر ، لكن جودته ومتانته وعذوبته كعمل مكتوب بالفصحى ، ويحرص على التفعيلة ، التي تكاد هذه الأيام تكون عند البعض شبة ، تأتي بمثابة إثبات لأمرين :

الأول حتى شعر الفصحى لم يمت في مصر ، كما يحلولبعض أشقائنا من الشعراء العرب حتى يتصوروا .

والثاني حتى شعر التفعيلة مازال قادرا على الوجود والتألق والخصوبة ، وأنه ليس ذلك الجذع العقيم الميت ، كما يحلولبعض شعراء قصيدة النثر حتى داخل مصر وخارجها حتى يتصوروا .

ف ( أحوال الحاكي ) ، يصر على الغنائية التراثية الجهيرة ، والموسيقا العروضية الصريحة ، لكنه يعيد صياغة هذه الغنائية ، مستفيدا مما استطاعت قصيدة النثر حتى ترسخه من عدم تقديس للقافية مثلا ، وقد توصل السمّاح عبد الله إلى تقنية جديدة وأصر عليها في جميع قصائد الديوان ، مما منح العمل وحدة فنية نادرا ما نجدها في دواوين الشعر ، وتتلخص هذه التقنية في اتباع نظام حديث للتقفية ينتظم جميع قصائد العمل ، وتتكرر فيه التقفية مرتين فقط في جميع قصيدة ، بغض النظر عن طولها ، الأولى في نهاية السطر أوالمبتر الأول ، والثانية في نهاية القصيدة ، لكن ذلك التجديد الشكلي لا يصنع في حد ذاته قصيدة متفوقة ، وإنما تصنعها لغة الشاعر الخاصة ذات العبق التراثي ، دون السقوط في العبودية للتراكيب الصياغية القديمة ، وذات الرؤى الفريدة ، التي لا يمكن وصفها بمجرد أنها ( حداثية ) لأن الحداثة ممكنة السقوط ، بل ودائمة السقوط في النمطية .

وقد أفرزت كليشيهاتها من حيث الصورة والصياغة بمنتهى السرعة ، بل نقول إنها رؤى الشاعر الأصيل ، لا يمكن نسبتها لزمن أوجيل أومصطلح ، بل لمبدعها فقط .

وإليك أيها القاريء قصيدة من الديوان تلخص جميع ما قلت ، دون حاجة إلى شرح أوتحليل :

====

وَتَبْتَدِئَانِ فِي رَفْسِ الْمِيَاهْ


====

أتتا معا .

......................................

إمرأة ٌ

تلبس فستانا نهاريا

له شمسٌ

تضوّي آنة

وتغيب

حتى تهطل الأمطار

وامرأة ٌ

لها زيٌّ مسائيٌّ

له قمرٌ

وبضعة أنجم

وسحابتان

وغابة مهجورةٌ

أتتا من الحقل البعيد

تخوّضان البحر

والمستنقعات

وتعبران على مماشي الغرس

حتى اتىتا الإسفلت

في قلق خريفيّ

وريفيّ

وشمس المرأة الأولى تضوّي

تضحك الأخرى

تشدّ المرأة الأولى

تخاصرها

وتتجهان للبحر بخطوواهن

ذي خلة عراتى

تشتجران

فيما يشبه الغضب الخفيف

وتقعدان معا

على حجر رخاميّ

لملمسه حرير الزغب الطالع من نهد بدائيّ

وتبتدئان في رفس المياه بفرحة

ظهراهما للناس

والشمس الكبيرة

والطيور الراجعات

وحفنة الشجر المعشق في الخفا

وجهاهما للبحر

والسمك الذي يقفز بين الحين والحين

ترشان على وجهيهما الماء المُندّى

بحنين السمك العريان

حتى يذكر الله النهار الفاتن الواشي

فيقبضه

وتغرب شمسة الأولى

فتنهض

وهي تقفل زر فستان النهار

فتنهض الأخرى

تقول لها :

مواعيدي أنا هلت

وها قمري بدا يصعد في صمت

وبضعة أنجمي برقت على إيقاع خطوسحابتيّ

وها هما أتتا إلينا

كي تدلانا على درب

يوصّلنا

لشجْر الغابة المهجورة

الأولى تقول لها :

مواعيدي

ستأتي مرة أخرى

فلا تتعجلي

وتمهلي

إني

أخاف الغابة المهجورة

الأخرى تراودها على ضجر

وتشتجران

فيما يشبه الغضب الخفيف

وتمشيان معا

بخطوواهن

ذي خلة عراتى

حتى تدخلا شجرا

يشكّل غابة خربانة

ظهراهما للناس

والقمر الشفيف

وحفنة العربات في جريانها

تتخاصران

وتحلمان

بأن ترشا ورق الأشجار

حتى يلمعا .

خلاصة القول ، هذا شعر يستحق ما أكثر من التشجيع ، وهوإثبات حديث حتى الشاعر الجيد هوالذي يعطي الشكل شرعيته ، أيا كان هذا الشكل ، وهوالذي يضمن له طزاجة دائمة متجددة ، وأن أحدث الأشكال الشعرية لن يتعدى كونه صياغات سابقة التجهيز بين يدي شاعر يفتقر إلى الأصالة والابتكار ، والقصيدة العمودية التي تحتضر منذ زمن بعيد يعود لها ماء الحياة بين يدي شاعر كبير الموهبة ، وأن هذا الديوان من شعر التفعيلة ، تكذيب عملي للمقولة النظرية بعقم العروض من ناحية ، وإفلاس مصر على صعيد الفصحى ، كما يقول بعض الجيران من الضفاف الأخرى .



بهاء جاهين

جريدة الأهرامستة يونيو2004


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


السمّاح عبد الله يقابل الزمن في ديوانه أحوال الحاكي


بقلم : د. محمد السيد إسماعيل


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


شاعر الديوان الفائز بجائزة الدولة ينتهج السماح عبد الله في ديوانيه الأخيرين ( أحوال الحاكي ) و( مديح العالية ) نهجا حسنا حين يلتزم بما يسميه ( بدء القول ) و( خاتمة القول ) وهما اقتباسان شعريان من الشعر القديم والحديث‏,‏ وقد يري البعض في ذلك تأطيرا لعالم الديوان وتوجيها لدلالاته المحتملة ومصادرة لثرائها وتعددها‏,‏ لكنني أري في هذين الاقتباسين علامتين لا تقلان أهمية ـ فيما توحيان به ـ عما يؤدي به عنوان الديوان ذاته أوعناوين قصائده الداخلية من دلالة‏.‏

و( بدء القول ) في ( أحوال الحاكي ) بيت شعري ل ( أبي فراس الحمداني ) يوضح علاقة الشاعر ـ أوالإنسان عموما بـالزمن الذي يظهر طرفا معاديا متماهيا مع الموت بحركته الدائبة التي تقابل ثبات الشاعر‏:‏

وقور وأحداث الزمان تنوشني‏ وللموت حولي جيئة وذهاب‏.‏

ومن الواضح حتى الموت هوأكثر العناصر فاعلية وحضورا وهيمنة علي هجريب هذه البنية الشعرية علي عكس ما نتسقط من ارتباط الموت بـالسكون والهمود‏.‏ في لقاء ذلك الخبر الذي يتصدر البيت والذي لا تتسع دلالته لأكثر من الإشارة إلي ثبات الشاعر ووقوفه في وجه حركة الزمن المعادية‏.‏

وتتجاوب خاتمة القول مع بدئه بصورة أكثر اطرادا‏!‏ فإذا كان الشاعر في الصورة السابقة علي درجة واضحة من الثبات في لقاءة حركة الموت فإن المهر في أبيات ( أمل دنقل ) والذي يتوازي مع الشاعر في البيت السابق قد سقط من الإعياء بعد حتى انحلت سيور العربة وضاقت الدائرة السوداء ـ التي تشبه دائرة الموت ـ حول رقبته الأمر الذي يوحي بغلبة عناصر السلب وإحكام الدائرة السوداء التي لم تعد تضم المهر أوالشاعر فحسب بل اتسعت لتضم ضمير المتحدثين جميعهم‏.‏

ويبدولي حتى علاقة الإنسان بـالزمن هي التيمة المركزية المهيمنة داخل هذا الديوان‏,‏ ويأخذ الزمن وضعية القوة المعادية التي تنال من فاعلية الإنسان وتهدد خطاه علي الأرض‏:‏

السنوات المارة كقطار‏ مرت كقطار‏ ضربت في الذاكرة وفي الفودين وفي القلب كمطرقة كمطارق طرّاقي الحرب .

لا ينبغي حتى نتوقف ـ فحسب ـ عند معني التسارع الذي توحي به الصورة السابقة بل الأكثر أهمية حتى نتوقف عند دالة القطار ذاتها عملي الرغم من شيوع استخدامها في الدلالة علي السرعة وربطها بـسنوات العمر فإنها تحمل ـ إلي جانب ذلك ـ معني الجبرية التي تحدد اتجاه الحركة وعدم إمكانيات الخروج عليها‏,‏ ولهذا فإن مرور القطار‏(‏ أوالعمر‏ )‏ ليس مجرد انقلاب سنوات بل هوأشبه بالحرب المعلنة التي تظهر آثارها في الفودين وفي القلب‏,‏ في الظاهر والباطن علي السواء وفي لقاء هذه الحركة الجبرية المنطلقة تتهالك فاعلية الإنسان حيث تنكسر المراحل والطرقات معا ويتبادلان التأثير‏ .

لقد أصبح المكان ذاته هدفا لفاعلية الزمن التدميرية‏,‏ لكن هذا لم يمنح القصيدة ـ شأنها شأن أي عمل إنساني ـ من تأكيد الوجود الإنساني وقدرته علي المواصلة‏,‏ فهذه الشخصية التي تطالعنا منذ بداية القصيدة والتي تبدوأقرب إلي الشخصية ذات البعد الأسطوري تستمر في تأكيد حضورها وقدرتها علي العطاء‏:‏

خبط في طرقات القرية حتي وصل إلينا‏ أعطي كلامنا‏ شجرة

ومع نهاية القصيدة تتحول هذه الشجرة إلي أشجار مزدهرة ويأحذ العمل الماضي صيغة المضارعة الدالة علي الاستمرار‏,‏ ويتضح حرصه البالغ علي العطاء‏:

‏يخبط في طرقات القرية‏ ويدق بيوت الأطفال‏ وفي يده‏/‏الأشجار المزدهرة . ص ‏.13‏

هكذا بعد مرور جميع هذه السنوات‏!!‏ تبدوهذه القصيدة وصلا بين الماضي والحاضر وهي ظاهرة كثيرة التكرار علي مستوي الديوان‏,‏ كأنها حيلة من حيل لقاءة هذه الحركة الدائبة التي تشبه حركة القطار ومن هنا شاع ما يسمي بظاهرة النوستاليجا أوالحنين الدائم إلي الماضي بأحداثه وأماكنه‏:‏

سكت الليل‏ وانطفأ الشمعدان‏ والوحيد ارتدي بزة الوجد منقوشة بالتذكر والشوق ص‏.33‏

إن ارتداء بزة الوجد من خلال تفعيل آلية التذكر والشوق ليس ـ فقط ـ من أجل فعالية حركة الزمن بل من أجل فعالية هذه الوحدة المحاصرة التي تستشعرها الذات وتحس ـ معها أومن خلالها ـ بذلك الشعور الممض بالاغتراب وأن هذا الزحام بتعبيرات ( أحمد عبد المعطي حجازي ) لا أحد‏.‏

إن الشاعر هنا لم يعد ينتظر ذلك الآخر كاحتياج شخصي ملح وبسيط ـ فحسب ـ بل أصبح ينتظر ذلك الآخر الذي يشاركه غضبه تحديدا لقد فقد تبادل الحديث العادي قدرته علي تحقيق التواصل الإنساني ولم يعد الشاعر ـ الشاعر عموما ـ قادرا علي حتى يتغني مع ( سعدي يوسف ) بقوله ‏:‏

صباح الخير أم جميل ابتسمي يا صباح الخير

ولم تعد صباح الخير هذه قادرة علي منح الحياة جمالها ودلالها كما كان يري ( محمود درويش‏ ):

‏قولي صباح الخير‏ قولي أي شيء لي‏ لتمنحني الحياة جمالها ودلالها

لقد أصبحت طاقة الغضب وحدها هي القادرة علي تحقيق ذلك التواصل بل وتحقيق الوجود الإنساني ذاته ‏,‏ وفي هذا السياق يصبح التوجه إلي الأضرحة ليس رغبة في الموت بقدر ما غضب من الحياة‏:‏

جئت وفي كفي خطايا البارحة ‏ضارب في غضبي الأرض‏ وقصدي الأضرحة . ص‏88‏

ويتجاوب هذا الغضب الصريح مع رمزية النار وما توحي به من دلالات حيث تبدوأقرب ما تكون إلي الأنثي المشتهاة‏:‏

فالتففنا حولها‏ محدقين في جمالها العريان‏ وهي تعلو‏ كأنا قد أخذنا بغتة بطقطقاتها‏ ومهرجان لونها العذري . ص‏40‏

ولا تبدوالأنوثة ـ فحسب ـ من خلال صفات الجمال العريان أواللون العذري بل من خلال حركة هذا السيد الأكبر وعلاقته بها‏:‏

قام السيد الأكبر فينا‏ خالعا جلبابه القطني ‏وارتمي في حضنها‏ وهويغني . ص‏.40‏

لقد أصبحت هذه النار أداة اكتشاف الذات أوأداة خصوبتها حيث يتخذ الجلد المشقق صورة الأرض الجافة‏:‏

وارتمينا‏ ‏فرحين بدغدغات النار في الجلد المشقق‏ وتغنينا‏ ولوحنا بأيدينا‏ شممنا عطرنا للمرة الأولي‏ تذوقنا رحيقه . ص‏.43‏

إلى غير ذلك يتدرج الشاعر في تأكيده لذلك الحضور الإنساني من طاقة الغضب إلي رمزية النار ثم إلي تأكيد فاعلية الفن نفسه في أشكاله المتنوعة حيث يتم ـ في قصيدة ـ ( وجود وتأخر أكثر مما يجب ) استحضار‏:‏ ( ناظم حكمت )‏,‏ و( رامبو‏ ) ,‏ و( بريخت ) ‏,‏ و( كفافي ) ‏,‏ و( ماركيز ) ‏,‏ و( كازنتازاكي ) ‏,‏ بأسمائهم أوبشخصياتهم الروائية والمسرحية‏.‏ إلى غير ذلك تتأكد فاعلية الإنسان في الوقت الذي تتأكد فيه فاعلية الفن‏ .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السردية الغنائية في ديوان أحوال الحاكي للشاعر السماح عبد الله بقلم : عبد الجواد خفاجي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1ـ بين سلطة النص وسلطة الذائقة : القارئ لديوان السماح عبد الله المُعَنْون " أحوال الحاكي " الذي صدر عام 2002 عن سلسلة " كتابات جديدة " عن الهيئة المصرية العامة للكتاب , والذي حصل به شاعرة على جائزة الدولة التشجيعية .. سيتوقف بالضرورة عند علامات محددة في تجربة الكتابة , في معظمها شكلية , وربما سيسائل التجربة من داخلها عن أهمية مثل هذا الاهتمام الشكلي المسرف التنميق , الحريص على المغايرة الشكلية , بداية من الكتابة على يسار الصفحة , وهجر الجهة اليمنى بيضاء , إضافة إلى هجر مساحات واسعة من البياض في الصفحات , والاكتفاء بإيراد بعض أسطر قليلة في كثير من الصفحات , قد تصل إلى أقل من عشر حدثات , ثم إلى هجر صفحات خالية من الكتابة تماماً , ثم إلى إسقاط العنونة تماماً ، والاكتفاء بالإشارة إلى النص بجملة من صلب بنيته ، لكأن البنية النصية بيت بلا مداخل ، اضطر أهلوه إلى إحداث ثقب في أحد حوائطه للدخول منه إلى البيت دون يقين منهم حتى هذا الذي يدخلون منه هوفي الحقيقة بوابة مناسبة ، مثلما نقرأ تحت العنوان :"ذات نهارٍ بعيد " النص التالي :" ـ ولمن يتشوق ذوالبندقية بين ظلال المساء / ، الكثار،يا ترى؟ ./ـ لخطاه الصغيرة / ، في طرقات الطفولة /، حين رأى رجلاً /، يحمل البندقية /، ذات نهارٍ بعيد / فعاينه / ، بانبهار ." صـ58 ومن الواضح حتى بوابة النص / عنوانه هوجزء مستبتر من جسد النص دون حتىقد يكون مرتبطاً بكليته لا على المستوى النحوي أوالدلالي . أما عن وسائل التنميق الشكلي الأخرى في ديوان السماح فهي كثيرة ، وفى معظمها لا ترتبط حقيقة بجوهر التجربة ،وإن كانت دالة في التصنع لا الصنعة . فلسنا بالضرورة مجبرين على تقبل نمط من عينة :

ليس يرى بتر الدم الساقط من رئتيه، وعينيه، وكفيه، وقدميه، وآهٍ لوتدرك ص56

على أنه نمط إبداعي ما لم يكن لذلك مبرر فني يستدعيه ، وما لم يكن دالاً في التجربة ، فلسنا مع الابتداع ، والشاعر عموماً مبدع حرفي لا مبتدع حرفة ، إضافة إلى حتى أي حديث ما لم يكن يحمل معناه ودلالته فليس من الإبداع في شئ , فكل السقمى النفسيين يأتون بسلوك حديث , ومع ذلك لا نعتبر أحداً منهم مبنادىً , ذلك لأن سلوكهم بلا قيمة في الأساس من ناحية أخرى : إذا كان ديدن التجربة وسياجها الأول هوالحكىُّ الذي تحول معه الشاعر إلى حاكى يوظف آليات السرد في التعبير فالأولى حتىقد يكون النمط الكتابي السابق أفقياً ؛ ذلك لأن التقطيع الرأسي سواء على يمين الصفحة أوعلى يسارها يظهر بلا قيمة فنية , سواء على المستوى الإيقاعي أوالنحوي أوالدلالي ؛ فإذا كانت الأوصال مبترة نازفة هابطة فإن التأوه والتمنى ليسا جزءاً منها , ومن ثم فالتوالي الرأسي على نحوما خلق الشاعر يظهر اعتباطياً .

ومن ناحية أخرى إيقاعية : إذا جاز لنا حتى نسلم بتوالى دفقات كمية متساوية إيقاعياً من عينة : " وعينيه ـ وكفيه ـ ومقدميه " فكيف نسوَّغ توالى : آهٍ ـ لوتدرك " بعدهم وهما ليستا متساوقتين كمياً معهم ،يا ترى؟ ومن ثم فإن تواليهما يظهر ـ أيضاً ـ اعتباطياً . إضافة إلى حتى " آهٍ ـ لوتدرك " جملة نحويةٍ واحدة , ومن ثم فإن تقطيعها على نحوما خلق الشاعر ما لم يشير دلالة ما فهوأيضاً تقطيع اعتباطي. من ألوان التنميق الأخرى في النصوص وضع دائرة سوداء ضخمة بعد الجملة النَّصَّية الأولى , ودائرةٍ مثلها بعد آخر حدثة في النص , وكذلك هجر مساحة خاليةٍ بعد الجملة الأولى , ثم استئناف الكتابة بعد هذه المساحة البيضاء , حتى لأنَّ القارئ يخال هذه الجملة الأولى المعزولة عن النص والتى اتىت أسفل اللافتة العنوا نية , يخالها عنواناً ثانياً , في حين أنها ليست كذلك , وليس من مبرر لفصلها عن جسد النص على هذه الشاكلة التي جعلت منها بناءً في فراغ .

ثمة ما يمكن حتى يثير التساؤل أيضاً حتى يبدأ جميع سطر شعرى بفاصلة كلازمة من لوازم الكتابة , بغير ضرورة , فهي ترِد بين الصفة والموصوف , وبين العمل والفاعل , وبين التمييز والمميز , وبين المبتدأ والخبر , وبين الفاعل والمفعول , وبين الحال وصاحبه .. وهلمِِِِِِِِِجره . هي ترد كجُشْأَةٍ لاتريم بعد جميع لقمة تصل البلعوم , ومن أمثلة ذلك:

1ـ " , أوقف تمر النخيل عليك لمدة عشرين / عاماً " صـ31 2ـ " امرأةٌ / , تلبس فستاناً " صـ 15 3ـ " وشيخاً / طاعناً في السن " صـ 38 4ـ " أوار السيد / الأكبر " صـ 42 5ـ " لأين ترى مضىت /, طفلة المدرسة " صـ7 6ـ خطت لها حلَّ / , أسئلةِ الامتحانات " صـ7 7ـ " وفى يده / الأشجار المزدهرة " صـ13 .. إلى غير ذلك .

لوتتبعنا طريقة استخدام الشاعر لهذا الفاصلة لوجدنا عجباً , غير حتى الكتابة مثيرة للتساؤل حول قواعد الإملاء أيضاً , ونخشى كذلك حتىقد يكون الأمر تقليعةً , فالمعروف حتى الهمزة المتوسطة تُرسم على الياء متى ما كانت مكسورة , أوكان ما قبلها مكسوراً , لكن الشاعر منح ظهره لهذه القاعدة , وخط " تبتدئان " هكذا : تبتدأن . هكذا وردت في عنوان النص صـ15, وكما وردت في صلب النص صـ18، ومثلها أيضاً همزة " براءتها " صـ54 في قول الشاعر : " من فرط براءتها الكذابة " . وغير ذلك إصرار الشاعر على إثبات همزة الوصل خطاً , من عيَّنة : " السنوات " صـ11و" امرأة " صـ 15 , و" البرابرة " صـ25, ومن المعروف حتى همزة الوصل إذا اتىت بداية الكلام تنطق دون حتى تُكْتَب. وثمة ما أغرب من ذلك حتى يؤنث الشاعر المؤنث المعنوي مثل"شمس" بعلامة تأنيث لتصبح "شمسة" صـ19.

يمكنني حتى أتفاءل بأن ثمة دراسة سيميائية يمكن حتى تكون خادمة في دراسة هذا الشكل الكتابي الذي يسعى إلي التمظهر المغاير, بَيْدَ أننا ـ ورغم تفاؤلنا ـ لن ننجذب لمثل هذا المسعى السيميائي؛ لأن أي تأسيس عقلي تحمله أية نظرية يجب حتى يقودنا إلي وعى حديث تتقبله الذائقة دون تعارض معها, خاصة في الشعر, فهدف الفن عموماً الارتقاء بالذائقة لا التعارض معها. إضافة إلي حتى أي تأسيس نظري مهتم بدراسة الأداء الشكلي لابد حتىقد يكون مهتماً بالكيفية التيقد يكون بها هذا الأداء فعالٌ عملاً عند نقطة الاستهلاك, وإلا كان تأسيساً نظرياً بلا قيمة, ويتحدى ذائقتنا هوالأخر. لقد قرأت الديوان لأكثر من عشرين مرة خلال عام أويزيد, ولم تدلني ذائقتي ـ ولومرة ـ إلى حتى هذا الأداء فعال عملاً . لاشك حتى أي تمظهر نصي يهدف إلى تأسيس هيئة نصَّيَّة هوبالضرورة جزء من سلطة النص . ومادام النص لم يمارس بعد سلطته علىَّ ـ كقارئ ـ في الاتجاه الذي يحدده الشكل فإننا أمام احتمالين : إما حتى الشكل مفتعل , ومنفصل عن مضمون النص , وإما حتى النص بلا سلطة في الأساس .

من ناحية أخرى : إذا استنادىء منهج سيميائى لدراسة مثل هذه النصوص استنادىءً يقوم أساساً على افتراضٍ جدلىًّ حتى هذا المنهج هوالأنسب لدراسة هذه النصوص , هذا الافتراض الجدلي يجب حتى تقودنا إليه الذائقة أيضاً , وما دامت لم تقدني إليه بعد , فلا معنى للآن أنجذب إليه . وقد يعترض معترض بالقول : إذا ما يقودنا إلى المنهج والنظرية هوالعقل وليست الذائقة ومع وجاهة الاعتراض , إلا أنه ليس سليماً تماماً , فسلطة العقل لا تسير وحدها في الحقل الأدبي , غير أنى مضطر لاحترام ذائقتي لأنها عاشت معي قبل عقلي , وصدق الشاعر العراقي " عبد الرزاق عبد الواحد " إذ يقول : " لا تُلبِسِ القلب عقلاً كي تبرئه قد يصبح العقل حيناً أكبر التُّهم " وأخيراً .. لم يبدِ النص سلطة لاعلى عقلي , ولا على ذائقتي إلا في الاتجاه الذي أسير فيه الآن . فإذا كان للنص سلطته فإن للذاتقة سلطتها , وبين اتفاقهما أوتعارضهما تتحدد مدخل القراءة ومناهجها .

2ـ السردية الغنائية ودلالات العنوان : ثمة فارق كبير بين نص سردى يأتى في سياق قصصي , ونفس النص إذا اتى في سياق شِعرى . إذا حاصل جمع أساليب النص في الحالتين ستكون واحدة , فلدىَّ تعبير من عينة : " أستعدُّ الآن للريح التي تهب من خلف التخوم " هذا المعطى السردى لوورد في سياق قصصي سيختلف مدلوله تماماً عن وروده في سياق شعري , ومن ثم فإن مسألة الاكتفاء بتحصيل أساليب النص في النقد الأدبي تبدوعملية " عبيطة " لأنها تستثنى الموقف الأدبي والسياق , غير أنها تحول الناقد إلى " ريبوت " مهمته تحصيل أساليب النص . إنها عملية آلية يمكن حتى يقوم بها أي إنسان آلي مبرمَج , والمسألة في النقد الأدبي أعقد من هذا بكثير . عملىَّ كإنسان له ذائقته وبصيرته حتى أحدد إلى أي اتجاه أنظر , وبصرف النظر عن اللافتة التوضيحية التي وضعها الشاعر على غلاف كتابه , والتي تعنى ضمنياً : " يوجد توحه شعرىّ بالدخل " فحدثة " شعر " على كثير من أغلفة الخط تنطوي على أبعاد متباينة بين المخادعة بمعنى التضليل والبراءة بمعنى الغرة , وبين الصدق والانادىء , وبين الحقيقة والمجاز وبين المجازفة بالفن والفن المجازف , وبين هذه الأبعاد ليس على الشاعر إلا حتى يعهد متى وكيفقد يكون توجهه نحوالكتابة شعرياً وعلى نحوأكيد ؛ ذلك لأن جميع النصوص الأدبية على عموميتها تحمل ملامحها الأدبية والشاعرية وإن اختلفنا حول درجتيهما , لكنما ليست جميع النصوص تحمل إلى جانب ذلك ملمحها الشعري . والمسألة أبسط من حتى نختلف حولها , فأمامي امرأة جميلة وتمثال لهذه المرأة الجميلة..الريبوت يقول حتى مقاييس الجمال واحدة في الحالتين .

هذه العملية هي ما اسميها الآن : حاصل جمع أساليب النص , وهى عملية لاتفرق بين المرأة الجميلة وتمثال لها . يمكنني حتى أنظر في بنية السرد وآلياته في نصوص هذا الكتاب الذي أمامي الآن , وبصرف النظر عما إذا كان مجرد سرد له بنياته وآلياته أم أنه بالعمل سرد غنائي له نفس البنيات والآليات .. إنني حقيقة بحاجة منذ البداية لتحديد الإطار الذي أنظر فيه , أوبالمعنى بحاجة لأن أعهد متى أقول : هاهنا شعر , أوهاهنا سيرة .

وعودة إلى المثال الذي سقناه وأنا أمام المرأة الجميلة وتمثال لها , ولاشك إنني كإنسان له بصيرته أعهد متى أقول هاهنا حياة , ومتى أقول : هاهنا صنم . لكنما المسألة في النقد أعقد من هذا لأنها تتعلق مبدئياً بأحكام جمالية يجب حتى تكون مبررة ومقنعة, ومهما يكن تعقد هذه الإشكالية فإنها تختلف جذرياً في جميع حالةٍ عن الأخرى, فنحن أمام تمثال المرأة الجميلة نعاين مكونات جمالية تنسب إلى المرأة الأصل " الحيَّة "ومن ثم فحدثا كان التمثال مطابقاً للأصل حدثا كان جميلاً , أوما نسميه : " مطابقته للمكونات الاعتيادية " أما إذا كنا أمام المرأة الجميلة نفسها فنحن نعاين مكونات جمالية تنسب إلى الجنس النسائي عموماً , ومن ثم فنحن نعاين جماليات هذه المرأة في إطار ما تحمله من سمات نوعية جمالية فارقة عن أي امرأة أخرى عاينّاها من قبل أوفي إطار ما نسميه : " انزياحها عن المكونات الاعتيادية " .. ألم أقل إننا بحاجة ـ منذ البداية ـ للآن نعهد إلامَ ننظر وماذا نعاين ،يا ترى؟ وربما حتى الإجابة على هذا السؤال سيكشف عنها التحليل النصي . وهى مهمة تعتمد أساساً على يقين الباحث بأن الفارق بين المعطى السردي القصصي, والسردية الغنائية يكمن في الفارق الجوهري بين السيرة , والشعر , وهوفارق يقوم أساساً على اعتبار التجربة الوجدانية هي الفارق بين الشعر وغيره , والتجربة الوجدانية يمكن معاينتها نصوصيًّا في الجانب الإيقاعي الذي يحمل الوجدان في صورة صوتية يحملها النص , كما يمكن معاينته في اللغة الإيحائية والتصويرية والرمزية المشفَّة عن هذا الجانب الوجدان , وبغير ذلك فنحن أمام معطى سردى قصصي يتبرأ من الشِعرية , وإن كان غير متبرئ من الشاعرية . ثمة فارق جوهرىٌّ إذن : الشِعر تعبير عن حالة تسكن القصيدة , أكثر منه تعبير عن دلالةٍ تسكن النص , وإن كان العكس هوالسليم في تعريف النص القصصي .

والسردية الغنائية على هذا وليدة حالة وجدانية يجد الشاعر من الأنسب لها حتى تتجسد تعبيرياً في ثوب قصصىًّ لا يتبرأ من إيقاع الشعر ,ومن ثم فالإيقاع في السردية الغنائية ليس حلية تجميلية على نحوما يتشكل في المقامة , أوالسيرة المنظومة , كما أنه ليس خلفية تجرى الأحداث أمامها , إنه ـ ولاشك ـ صورة إيقاعية للحالة الشعورية . السردية الغنائية لا تهدف إذن إلى تجسيد سيرة شعرية , ولاتسعى إلى التورط في هذا المنحى , وإنما تهدف إلى تجسيد حالة شعرية تعتمد تعبيرياً على السرد القصصى , ومن ثم فالسيرة المتضمنة في القصيدة ليست مقصودة لذاتها , وإنما هي وسيلة تعبيرية تُقصد لا يحاءاتها وتأثيرها الدرامي , فيما تظل " القصيدة بهذه المثابة تجربة خيالية صادرة عن موقف الشاعر الفكري الخاص , ملونة بمشاعره وعواطفه , وهذا الوصف وحده يخرج القصيدة من باب الشعر القصصي ليضعها في الإطار الغنائي " (1)

والسردية الغنائية بحكم اعتمادها على فنيات الشعر والسيرة معاً تبدوخطرة , وأكثر صعوبة من كتابة الشعر أوالسيرة , فهي تجمـع بينهما بنسب متوازنة , ومن ثم " فهي تتطلب شـاعـراً له أكثر من مقدرة الشاعر، وأكثر من مقدرة القاص "(2) بقى حتى نقول إذا السردية الغنائية ليست جديدة على الشعر, فهي مألوفة منذ امرئ القيس وحكائياته في الشعر ,وإن كانت في الشعر المعاصر أكثر استخداماً كأسلوب من الأساليب الدرامية التي شاع استخدامها. في ديوانه " أحوال الحاكي " يسعى السماح عبد الله إلى تكوين حكائى بداية من وضع "الحاكي "موضع "الشاعر "في عنوان الديوان ، غير حتى " أحوال الحاكي "عنوان واصف لمجمل التجارب داخل الديوان , ولم يكن عنواناً لقصيدة بعينها داخل الديوان . هويحكى إذن , وهوحاكٍ , وهوناقل أوقاص للحكاية , باعتبار حتى الحكاية جميع ما يُحكى ويُقص سواء سقط أوتُخُيَّل , ومن ثم فهي تعطى مدلولها في اتجاهين : أولهما ناقل للحكاية , وثانيهما : صانع للحكاية . وأسلوب الحاكي هوالسرد , بالنظر إلى المعنى المجازى للسرد قاموسياً والذي يعنى النسج أوجمع الخيوط في قماشة واحدة , وينطق أيضاً : سرد الخبر أي اتى به متتابعاً . والسرد هواسم للدروع محكمة النسج . ومن ثم فإن أسلوب الحاكي يتصف بالإحكام والتتابع والتوليف بين خيوط أوأطراف الحكاية " السيرة " في مادة لغوية متصلة المبنى والمعنى . حتى تتبع مدلول الحدثة على هذا النحوليربطنا بالسرد وبالأسلوب القصصي بقدر ما يبعدنا عن الشعر والأسلوب الشعري , ومع هذا ارتضاه الشاعر عنواناً لديوان شعري ليؤكد به من حيث المبدأ على توجهه السردي . ولعل إضافة " الحاكي " إلى " أحوال " منح انطباعاً مبدئياً بتمحور السرد حول الذات الساردة , حتى وإن كانت مجرد راصدة لأفعال ليست الذات طرفاً فيها , وإنها في جميع الأحوال تقوم بعمل جوهري هوالاختيار والرصد , تتخذ ما تشاء من أحداث , وترصدها بأسلوبها في حكاية ما . غير حتى العمل الجوهري لا يظهر في الاختيار والرصد فحسب , بل في النظور السردي الذي يتم من خلاله عرض الحكاية , ومن خلاله أوبواسطته تتم الإحالات والإيحاءات لتعكس رؤية الذات الساردة . أوبالمعنى تغليف الحكاية بوجهة نظر الذات , ورؤيتها , فليس الغرض من الحكاية هومجرد ممارسة الحكى بقدرما حتى الغرض هوعرض رؤية الذات وتجسيدها من خلال الحكى .. إذا كان هذا هوالغرض فبإمكان الذات الساردة حتى تتحول من خلال السرد إلى ذات شاعرة إذا ما كانت الرؤى شعرية ، ولها بعدها الوجداني المحلق .المنزاح عن المنطق الحصرى للواقع , إنها غالباً رؤى تبحث عن الحقائق خلف سجفة الفيزيقا , ولها منطقها الخاص الملون بلون الذات الشاعرة وفلسفتها. وغير ذلك فإن مفردة " أحوال " التي اتىت جمعاً تشي بتنوع وتعدد الأحوال , ومن ثم فهي ليست حالة ذات طابع رتيب متواتر , كما أنها ليست أحوال ذات بعد تساوقي مؤتلف , وإنما هي على الأرجح أحوال تتسم بكثير من التذبذب والتوتر , وتنطوي على كثير من المفارقات والمتناقضات, ومن دون كثير عناءٍ يمكننا حتى نتوقف عند " بدء القول " و" خاتمة القول " لنكتشف طبيعة هذا الأحوال . و" بدء القول " منسوب إلى أبى فراس الحمدانى , اتى فيه :

" وقورٌ وأحداثُ الزمان تنوشنِى

وللموتِ حولي جيئة وذهابُ " صـ5

وإن كان الشاعر قد قطَّع البيت , وأورده بشكل رأسي على غرار ما يخط شعراء التفعيلة , أوشعراء السطر الشعري . و"خاتمة القول " منسوب إلى أمل دنقل , اتى فيه :

" أيها السادة لم يبقَ اختيار . سقط المهر من الأعباء , وانحلت سيور العربة ضاقت الدائرةُ حول الرقبة صدرنا يلمسه السيف , وفى الظهر الجدارة . " صـ89

في بيت أبى نواس : الأسلوب الخبري المفعم بمشاعر الذات الأسيانة المعزولة التي تستشعر الخطر المهلك حولها وهى رغم ذلك لاتزال محتفظة برزانتها وهدوئها , التجربة على هذا لها طابعها الغنائي , وتعبيرياً لها بعدها الاستعارى . فيما اتىت تجربة أمل دنقل تعبيرياً متنوعة بين الخبر والإنشاء لها بعديها الرمزي والاستعارى , حاملة مشاعر الذات التي تستشعر الخطر وسط حشد من مشاعر التداعي المفضي إلى نهاية مؤسفة , ومن ثم تأتى التجربة مفعمة بمشاعر الأسى والتهكم فما قوله : أيها السادة " إلاحاملاً لهذه النبرة المتهكمة , لكأنه يريد : " أيها السادة الذين ولَّت عنهم السيادة " , فيما أتت التجربة حاملة صورة الذات التي ترى نفسها وسط المجموع , ليست معزولة عن أمتها المتداعية , وعليه فإن بين قول أبى فراس وأمل دنقل وشائج متصلة , وإن اختلف الأسلوب والتعبير , ووضعية الذات .

ولاشك إذا حصر تجارب " أحوال الحاكي " بين قوسي أبى فراس وأمل دنقل مفضٍ إلى تلاقح تجارب هذا الديوان مع تجربتي أبى فراس ، وأمل دنقل .. على المستوى الرؤيوى والنظرة إلى الحياة وإلى وضعية الذات في انفرادها أوانتمائها , ومدى الشعور بالخطر والنهاية المؤسفة وفى نبرة الحزن والأسى , ونبرة الهدوء التي تسربل الذات حتى وهى تقابل موتها المؤسف .. هذا الهدوء وحده هوما أهل الذات لممارسة التأمل والتفلسف في اللحظات الأخيرة , وربما هوديدن الذات المبدعة حتى تلقى بتعليقاتها الأخيرة على المشهد الأخير, لقد عزَّ عليها حتى تموت صامتة , كما عزَّ عليها ـ رغم الخطر ـ حتى تفرط في وقارها ورزانتها.

لاشك إذا حصر أحوال الحاكي بين قوسي أبى فراس الحمدانى وأمل دنقل له دلالته البالغة , فالأول هوالأمير العاشق, عزيز القوم الذي ذلَّ .. كان شاعراً وفارساً, وشارك في الحرب ضد الروم , وسقط في أسرهم , وافتداه ابن عمه سيف الدولة الحمدانى .. حياته مزيج من الصراع بين مكانته الاجتماعية كرجل دولة , وبين قلبه المترامي نحوالمحبوبة الممعنة في الصدود والتدلل , كما كانت حياته مزيجاً من الصراع بين حياة العزَّة والفروسية والمنعة, وبين حياة الأسير الذي يعانى الوحدة والانقطاع والمصير المجهول بين الأمن والخطر , بين الأمل واليأس . والثاني هوأمير شعراء الرفض, الثوري الكبير الذي عاش حياته فوق مهبات رياح الصعلكة والتشرد في المدينة الكبيرة التي تهيمن بمركزيتها وأهواء ساستها على مصير الأمة , كانت حياته مزيجاً من الصراع بين حياة العربي المعتز بأمته وأمجادها وتراثها, وبين حياة العربي المنكسر الخاضع لهيمنة قوى استعمارية تفرض عليه وضعيةً ذليلة تجبره على تقبل الاستسلام باسم السلام. من الممكن حتى السماح عبد الله قد أثقل على كاهله كثيراً عندما حصر تجربته بين قوسي أبى فراس وأمل دنقل، لكنما وتخفيفاً عن كاهل شاعرنا سنكتفي بما يعطيه هذا الحصر من دلالات ترتبط مباشرة بمدلول مفردة " أحوال " لنعى أنها أحوال تنطوي على كثير من التذبذب بين المتناقضات .. هي أحوال ذات طابع درامي مشف عن التقلب بين القمة والقاع , بين السرور والأحزان , بين الرضا والسخط, بين الانكسار والثورية , بين العزة والاعتداد بالنفس, والتشتت والضياع, بين الشعور بالانتماء والارتباط بالذات الكبرى متمثلة في الأمة كلها وبين الشعور بالغربة والوحدة والانقطاع واجترار أحزان الذات المفرودة, بين الحلم اليوتوبى وبين رفض السقط والسخرية منه .. إنها إذن أحوال الذات التي تمارس الغناء الملون بألوان زخمها الفكري والشعوري الذي لا ينفصل عن واقعها بما يضمه هذا الواقع من متناقضات ومفارقات .

3ـ بنية السرد وآلياته . الحكاية لها فنياتها ومكوناتها الأساسية من شخوص يتجسد بواسطتها الحدث في الزمان والمكان , ومن ثم فالحركة تظل من الفعاليات السردية الدرامية التي يتشكل بها الحدث ، إضافة إلى العناصر الأخرى كالحوار والمونولوج, والوصف, ومن يقرأ " أحوال الحاكي " يجد تجليات لكل هذه العناصر , لاتفرق أبداً عن الأداء الغنائي , فبالقدر الذي يصف فيه الشاعر المشهد الحكائى, ويعدد متوالياته, وكأنه يخط سيرة , نجده ينحت هذا البناء من تعبيرات موسيقية يتنامي فيها الإيقاع, ويتجلي عبر حركة البناء وجروس التراكيب والألفاظ . وفي كثير من النصوص ـ علي نحوما سنرى ـ كان يخفت هذا البعد الإيقاعي ويتواري خلف السرد, أوبالمعني تخفت حدة الغنائية إلي الحد الذي يصبح فيه الشاعر حاكياً بالمعني الحرفىّ لا المجازي . والزمن جزء من بنية الحكاية" زمن الحكاية" يتحكم في نمووتوالد الحدث وفيه تتجسد حركة الأمور والكائنات . وغالباً ما يعتلي السارد أوالحاكي الزمن بذاكرته"الفلاش باك" ليعود القهقرى إلي الماضي البعيد لينقل لنا مشاهد وأحداث من طفولته أوعنها. في نص " فالتقطها بقلب وجيف" تبدأ ذاكرة السارد عملها بتذكر ذلك الماضي البعيد, وقد كان الحاكي طفلاً يُرسِّم أولي علاقاته العاطفية مع "سعاد" زميلة الدراسة.. لحظات من البراءة وبكارة الحياة وطزاجتها تجد الذات مبرراً الآن لتذكرها تفلتاً من لحظة الحاضر " زمن السارد" يبدأ النص بالتساؤل:" لأين ترى مضىتْ/, طفلة المدرسة. / سعاد التي منذ عشرين عاماً خطتُ له حلَّ/, أسئلة الامتحانات…" صـ7 جميع الأفعال في النص تشير إلي ذلك الماضي:" مضىتْ ـ خطتُ ـ كان المدرس ـ أنهي ـ الخ " في النص تبدوالشخصيتان : السارد وسعاد, وهما يمارسان ترسيم علاقة جديدة في الزمن, في الوقت الذي ينشغل فيه الآخرون بحشودماغيهما بالأحاديث المعادة, إلي حتى أتت مُدِّرسة الهندسة .. لكأن الحياة تهندسُ لهما مصيراً غير ما يصنعان؟!

في نص " ويدق بيوت الأطفال" تبدأ الذاكرة عملها في تذكر الماضي البعيد ـ أيضاً ـ حيث السارد الذي ينقل واقعات ما حدث :" خبَّط في طرقات القرية حتى وصل إلينا/, منح كلاً منا/, شجرة." صـ11

وفيما يتجه عمل التذكر من الماضي البعيد إلي الماضي القريب:" السنوات المارة كقطار/, مرَّت كقطارٍ/, ضربتْ في الذاكرة وفي الفودين وفي القلب/, كمطرقةٍ..الخ " يعكس النص شعور الذات بالتلاشي, وبالزمن الذي يتصرَّم حولها, والعمر الذي يسرع الخطونحوالنهاية, وقد أزهرت الأشجار, ولكن بعد حتى وليَّ قطار العمر. يلاحظ استخدام السارد لضمير الجمع" وصل إلينا ـ أعطي كلاَّ مِنا…"ومن ثم فالرؤية تتسع لتضم الجميع, وفيما بدت الشخصية التي توزع الأشجار علي أطفال القري فوق الشيخوخة, فالزمن حولها يمر, والأشجار تثمر والصغار يكبرون, وهي كما هي .. إذن هي شخصية فوق الزمن, أولتكن الزمن نفسه, ومن هنا ينفتح النص علي السحري والرمزي معاً . الملاحظ في النصين السابقين حتى تجربة السرد تنطلق أساساً من علاقة السارد بالحياة, وهوفيما عرض من رؤى يعكس إحساسه بالزمن , ويعيد تأمل الماضي, كما يعيد تأمل نفسه في ضوء ما مضى, ومن ثم فالبعد الوجداني يظهر واضحاً, ولقد اتى النص حاملاً بعداً إيقاعياً خفياً يمثله توالى السرد علي تفعيلة المتقارب في النص الأول وتفعيلة المتدارك في النص الثاني, وإن كان الإيقاع التفعيلى هنا اتى كخلفية متوارية ولم تأخذ الصدارة في الضغط علي حس المتلقي, وربما حتى هذه سمة النصوص التي تعتمد خاصية التدوير بما يعنيه من اتصال عروضي ونحوي يسمح بتدفق السرد وتتابعه حتى لأن النص بدا كما لوكان جملة واحدة.

كما تتجسد شاعرية النص في لغته التصويرية والإيحائية التي تشف عن البعد النفسي للشخصية" فالتقطتها بقلب وجيف وكف مخوف" ـ " فطبقت الحدثاتِ العشيقةُ بين أصابعها في حنو.." ـ "خَبَّط في طرقات القرية" ـ الأفعال المستخدمة أيضاً كانت موحية بطباع الشخصية ودوافعها وملامحها النفسية ولنا حتى نتأمل إيحاءات العمل " خبَّط " و"يخبِّط" لنقف عند ملامح إنسان مصمم علي العمل كثير الحركة, وغير ذلك من أفعال كانت موحية أيضاً في اتجاه مشاعر الذات فلنا حتى نتأمل الأفعال في الجملة الآتية " السنوات المارة كقطارٍ /، مرت كقطارٍ / ضربت في الذاكرة وفى الفودين وفى القلب /، كمطرقة " لندرك مدى إحساس الذات بتلاشي العمر ، وتصرُّم الزمن ومدى أثره العنيف ظاهرياً على الأقل . وربما حتى إيحاءات الأفعال في مثل الجملة الأخيرة هذه أكثر تأكيداً على شعرية النص لأنه يرتبط مباشرة بتجربة الشاعر / الحاكى الوجدانية . في نص " وتبتدئان في رفس المياه " اللحظة الآنية التي يتوحد فيها زمن الأحداث مع زمن السرد حيث يثبت السارد عينيه " كاميرته " ليقوم بنقل ما يتم ممارساً " الرؤية مع " وكأنه يسير مع الشخوص ليصف أفعالهم ، دون حتىقد يكون طرفاً في صُنع الأحداث . وحيث الدخول المباغت إلى لحظة القص الآنية ، والهجريز على الوصف والمشهدية :" أتتا معاً / امرأة /، تلبس فستاناً نهارياً له شمس تضوي أنة /، وتغيبُ /، حتى تهطل الأمطار /، وامرأة /، لها زىُُّ نسائي /، له قمر /، وبضعة أنجم /، وسحابتان /، وغابة مهجورة /، أتتا من الحقل البعيد / تخوَّضان الحقل /, والمستنقعات /, وتعبران على مماشي الغرس/، حتى اتىتا الإسفلت …"صـ17 في النص تأخذ المرأتان بعداً رمزيّاً بارتدائهما زيىَّ المساء والنهار .. وهما امرأتان مجهولتان أتتا من البعيد يرسمان حركة الزمن الذي يتقدم لتتشكل مع حركته الفصول, ووجه الحياة البشرية بتغيراتها وتشكيلاتها, فقد بدأت فطرية, من الطبيعة وإليها حتى أتت الإسفلت بما يشي به من بعد حضاري عصري.. ماذا يعمل الزمن غير أنه يمضي لغايته, وكأنه يعطي ظهره للناس, إلي حتى يتصَّرم؟" تغربُ شمسة الأولي/, فتنهض/وهي تقفل زرَّ فستان النهار/, فتنهض الأخرى".. إلام سيصل بنا الزمن وكيف حتى الحياة بقدر ما تزداد جمالاً تزداد تعقداً بمضيِّه إلي الأمام؟الحياة التي بدأت من الماء لتنتشر في طبيعة هادئة, كما لوكانت غابة مهجورة يعمها الهدوء والسكينة.. ها هي وقد أصبحت كالغابة عملاً, لكنما لم تعد مهجورة, وإن كان يعمها الخراب.

ومثلما يحمل النص أبعاداً رمزية يحمل أيضاً بعده الفلسفي الذي يميل إلي احتضان الطبيعة والفطرية, ويري حتى الزمن يسير بنا في حركة هابطة إلي الفساد النهائي:" وتمشَّيا معاً /, بخطوواهنٍ/, ذي خلةٍ عراتى/, حتى تدخلا شجراً يشكل غابة خربانةً/, ظهراها للناس/, والقمر الشفيف.." صـ22 الوصف أيضاً من البني السردية التي اعتمد عليها هذا النص, سواء وصف حركة المرأتين أومشاهد الطبيعة أووصف المرأتين:" والسمك الذي يقفز بين الحين والحين/, ترشان علي وجهيهما الماء المندى/,…" صـ19 وكذلك:" وتقعدان معاً/, علي حجر رخاميٍّ/, لملمسه/, حرير الزغب الطالع من نهدٍ بدائي/, وتبد آن في رش المياه بفرحةٍ…الخ " صـ18 لم يكن الوصف لمجرد الوصف, أولمجرد ملء وعاء الزمن, وإنما كان واقعاً في إطار المنظور السردي الذي يركز علي جماليات بعينها تعكس إعجاب السارد بالطبيعة ودرجة إحساسه بروعة الحياة في معناها الفطري والطبيعي. حيث تتداخل فتنة المرأة والطبيعة والزمن, فإذا كان الزمن يتوالى في ثوبين: ليل ونهار , فلدينا امرأتان, ولكل وقتٍ فتنته, ولكل امرأة فتنتها, إحداهما ترتدي فستاناً نهارياً, والأخرى ليلياً .. تشتجران وتتبادلان الخطو, فيما يتحرك الزمن حولهما, منسجماً مع حركتيهما أوإرادتهما. والمشهد يشف عن إيقاع الحركة, إذ الأفعال المضارعة المتوالية من عينة:" تمشيان بخطوواهن ـ تشتجران فيما يشبه الغضب الخفيف ـ تقعدان معاً ـ تبدئان في رفس المياه ـ ترشان علي وجهيهما الماء… الخ" وثمة إيقاع حركي موائم في الطبيعة:" تقفز الأسماك بين الحين والحين ـ تغرب الشمس ـ يصعد قمر …الخ" وثمة ما يوحي بالسكون والهدوء:" حقل ـ مستنقعات ـ غابة مهجورة ـ مماشي الزروع ـ حجر رخامي ـ غابة خربانة…الخ" وثمة روعة في المشهد:" شمس كبيرة ـ طيور راجعات ـ سمك يتقافز ـ البحر ـ النجوم ـ القمر الشفيق..الخ" إيقاع المشهد أوالحركة في المشهد لا ريب يشكل جزءاً من نسيج السرد وهوهنا يعكس حالة من الإعجاب, والانجذاب الوجداني لدي السارد للقيم الطبيعية والفطرية التي يحويها هذا المشهد, ومن ثم اتى السرد محملاً بما يدلل به السارد علي هذا الإعجاب والانجذاب ألا وهوالإيقاع ولا شك إنه عالم مثير للإعجاب والدهشة حتى تتوالى حركة امرأتين في طقس ساحلي هادئ, بحركتيهما الحثيثة الهادئة نحوالبحر.. عالم سحري بديع تندمج فيه سحرية الأنوثة والطبيعة معاً, ومن ثم كان الإيقاع متوائماً مع الهدوء والحركة الوئيدة. ثمة إيقاع اللفظ أوالإيقاع الكمي ممثلاً في البناء النغمي الذي نحس به بطريقة شبه سرية, لأنه لم يكن يأخذ مكان الصدارة, متوارياً خلف السرد مُشِّكلاً خلفية إيقاعية للكلام, تتداخل, فيه تفعيلتي المتقارب والمتدارك دون قصدية, لكأن الإيقاع يتمثل تنوع الخطوالمزدوج للمرأتين, بتجاوز تفعيلتين متقاربتين إيقاعياً. وثمة إيقاع حروفي ناتج عن تكرار حروف بعينها مثل تكرار حرفيّ السين والشين, من شأن هذا السقط النغمي الحر وفي للسين والشين حتى يغلف المشهد والصور بسقط يوحي بالسكونية والهمس والهدوء كما نلاحظ ذلك في المفردات" مماشي ـ شمس ـ تشد ـ يشبه ـ تشتجران ـ الشجر ـ المعشق…الخ" و" مسائي ـ سحابتان ـ مستنقعات ـ إسفلت ـ شمس ـ تلبس ـ فستان..الخ" المونولوج يعد آلية من آليات السرد, انفرد به النص المعنون" وجودوتأخر أكثر مما يجب" النص الذي يحمل نبرة تشاؤمية, طالما حتى الزمن يسير في حركة هابطة إلي الأسوأ, فإن الغد ليس أجمل من اليوم:" إذا غداً ليس أجمل من يومنا المتكسر في درجات النهار" صـ 25 وطالما حتى التجارب الجمالية في هذا الوجود تظل منزاحة, ومتقهقرة أمام تيارات القبح الكاسحة. ثمة شعور بثقل الواقع المتجهم الشرس المطبق علي الذات صاحبة المشروع الجمالي, إذ تحاصرها قسوة الواقع وجهامته, وقد أضحت اللحظة مشحونة بالشر. التجربة في هذا النص قائمة علي تصور الذات وسط حشد من أصوات سالفة مارست التجربة الجمالية في هذه الحياة.. تتساءل التجربة ضمنياً: فيما اتىوا،يا ترى؟ وكأنها تقرر: اتىوا ثم عادوا, والبلاء باقٍ, ولم يزل داؤنا العياء! .. لاشك إنه الشعور الخفي بعبثية التجربة الجمالية في واقع مبارز بالقبح والشر.. يعلوبفداحة شره فوق جميع الأصوات التي تصدت لبربرية الواقع عبر الزمن .. من الممكن لذلك يبدأ النص بصوت داخلي:" البرابرة المتعبون أتوا يا كفافي" صـ25 إنهم متعبون لما بذلوه من جهد كبير .. اتىوا ليمكثوا طويلاً في راحة طويلة وقد استتب لهم الأمر! النص حافل بحشد من أسماء الأعلام الذين مارسوا دوراً جمالياً فوق الأرض:" كفافي ـ ناظم ـ رامبوـ ماركيز ـ جودوـ زوربا ـ المتنبي - المعري" وثمة شعور بالعجز والانقطاع والضياع:" فمن لك يا قورىَّ الخطا/, وصحابك/, مازال حلمهم في المنافي؟" صـ28 الملاحظ حتى النص متصل نحوياً وعروضياً شأنه شأن كافة نصوص الديوان مشَكِّلاً بذلك حواراً ذاتياً متصلاً يوحي بالزمن: سأقول لناظم (الآن) ـ إذا غداً ( المستقبل ) ـ ليس أجمل من يومنا ( الآن ) ـ وزورق رامبوتداعى ( الماضي ) ـ المتنبى ضلله الله في رمل مصر ( الماضي ) ـ فمن لك يا قورىَّ الخطى ،يا ترى؟ ( الآن وغداً ) المونولوج في هذا النص يضع جميع الماضي الجمالي في خبر كان ، بينما الحاضر كله خَضَع لسيطرة البرابرة ، فيما تخلَّف المخَلِّصون ونادىة الإنسانية والمصلحون وقد هلك من هلك منهم في الطريق ، تخلفوا عن الحضور وقد تر صدتهم عوامل الشر ، وحالت أقدارهم دون الوصول ، ومن ثم كانت نبرة الأسى التي سيطرت على النص ، كما شاعت نبرة الترحم على البشرية والغد الآتي . من المعلوم حتى المونولوجقد يكون بمثابة المناسبة التي تخلوفيها الذات إلى نفسها بعيداً عن منطقة الواقع ومنطقة المجافى ، ومن ثمقد يكون مناسبة لمجاوزة الشعور الذي يثقل الذات ويستثقل هذا الواقع إلى اللا شعور ، ومن ثم فإن لغته أقرب إلى اللغة الحُلميَّة التي تتجاوز العقلنة الرتيبة التي تقيم اشتراطاتها الممنطقة على الذات . أوبالمعنىقد يكون المونولوج فرصة الذات لممارسة هذياتها الحلمى ، والإفضاء بمخاوفها وكوابيسها ، وفق منطق لا شعوري " تيار الوعي " وإن شئنا الدقة "تيار اللاوعي " ، ومن تلك المنطقة تحديدا تمارس الذات عجن الأزمنة ، فالماضى ليس ماضيًّا ، وقد أصبح الوجود كله شاخصًا الآن في صراع مصيرىٍّ قائم .. كفافى لم يمت بل هوحى وإلا فما معنى النداء " يا كفافى " وناظم حكمت أيضا لم يمت " سأقوم لناظم " ورامبولا يزال في صراعة مع الحياة ، وإن كان زورقه قد تداعى ، وجودوتأخر أكثر مما يجب ، والمتنبي ضلله الله في رمل مصر وبغداد والشام ، وكلاب المعرة لا تزال تنبح ، وأبوالعلاء المعرى الضرير لا يزال يحاول اجتياز الخطر .. إلى غير ذلك تظل لعبة اتصال الأنا بالآخرين في النص دليلاً على تلاشى الفروق بين الوعي واللا وعى أوبين اليقظة التي تستوجب الهروب ، والحلم الذي يهئ رؤية الماضي مجسداً في صورة منهزمة كسيحة لم تؤهل الجماليين للوصول ، ومن خلال السفر الحلمى إلى الماضي أمكن نقل صور كثيرة كسيحة منهزمة للأعلام الذين ورد ذكرهم في النص ، .. هذا السفر الكابوسى المعانق للماضي هوبلا شك انعكاس للقلق والعذاب المستقرين في نفس الشاعر ، ووليد الإحباط الكامن في الأعماق .

وطبيعي بعد هذا السفر حتى تهجرب الصور وتترادف على نحوٍ مكثف لا يخضع لمنطق الوجود الخارجي ولا للعلاقات الممكنة . من النصوص التي تقترب من المونولوج يأتى ـ أيضاً ـ نص " ثم أطوحها في الفضاء " حيث تجرى الذات حواراً مع نفسها : " سأعطيك عشرين نارنجة / , لتغنىَّ.." صـ29.. تشتق الذات من نفسها أنيساً تحاوره بضمير المخاطَب إلى حتى تعلن عن نفسها بشكل أكثر صراحة عن طريق الالتفات : " أقطَّع من عمري المَّر بعضاً من اللحظات/, البهيحة /, أوأتصيَّد ذكرى مغامرةٍ في الطفولة .."صـ30 في هذا النص تجنح الذات المتفلِّتة من إسار اللحظة القاسية إلى فسحة الغناء والتذكر.. الغناء يظل مشروعاً جمالياً أمام " القروي "/ السارد الذي يعالج أدواءه بالغناء, فيما تظل ذكريات الطفولة مناط الذات ببراءتها وفطريتها, وتخففها من الإحساس بثقل الواقع:" أوقف تمر النخيل عليك لمدة عشرين/, عاماً/ شريطة حتى تضرب العود/, يا قروي الكلام/,وتشدو" صـ31 المهم حتى الاستمرار في الغناء في هذا الواقع العصيب يظهر باهظ الثمن, بيد حتى البحث لا يزال قائماً عن لحظة للغناء والشدو, تشي بذلك أزمنة الأفعال:" سأعطيك ـ أقطّع ـ أتصيَّد ـ أوقف.." كلها أفعال مضارعة تعطي دلالتها في الاستمرار والتجدد, وتربطنا بلحظة آنية للحوار, وإن كان التصريح:" لمدة عشرين عاماً" يعطي إمكانية الاستمرار في دفع الثمن لسنوات طويلة قادمة. في نص " إلي آخرة الليل" الاعتماد علي سارد مطمئن ينقل حدثاً ما.. يبدأ النص بالإعلان عن اسم الشخصية المحكي عنها:" اسمها سامرة الحىّ /, وأم الفقراء" هي قيمة جمالية أيضاً في حيزها.. من الممكن لهذا يترصدها الموت " خطط الموتُ نهاراً كلاماً/, من طلعة الشمس/, إلي آخرة الليل/, لكي يحظي بها.." وربما لهذا قدم الموت الكثير من القرابين لكي يحظى بها, إلى غير ذلك هي القيم الجميلة في الحياة تنزاح بعمل فاعل,حتى وإن كان الثمن فادحاً, وبهذا تتلاقح الرؤية في هذا النص مع سابقه. النص يحمل شكل الحكاية المضفورة بعناية دون استغراق في التفاصيل وعدم الاكتراث بالاستطراد نحونهاية حتمية للأقصوصة, فكل ما يعني الحاكي حتى يعرض للكيفية التي يترصد بها الموت سامرة الحىّ, وإن كانت النهاية أضحت معلومة, إذ لابد حتى يفوز الموت الذي قام بكل هذه الخطط وقدم جميع هذا الثمن. يضعنا النص رغم قصره أمام الوجه الدرامى المفارق للواقع ، عندما يضع سامرة الحى ، وأم الفقراء في لقاءة مباشرة مع الموت بطغيانه وقدرته العالية على تطبيق مخططاته ، لكأن الحياة تأبى حتىقد يكون لقفراء أماً أوسميراً !، لنتساءل بعد هذا المشهد : الحياة لمن ؟! لعل هذا النص من النصوص التى بدا الشاعهديها متورطاً في كتابة أقصوصة لها طرافتها ، وقيمتها الرؤيوية وإن كانت فنياً تسير في نظام البناء الأفقى الرتيب ، الذى يُتبع الحدث بحدث, ويحرص علي الترابط وهوينموإلي الأمام, وإن كانت درامياً غير مقنعة لأن الدراما لا تتجسد في المجردات علي نحوما اتى الموت في النص مجرداً . لم نلحظ ما ندلل به تعبيرياً علي حتى ثمة تجربة وجدانية وراء تجربة الكتابة وإن كان النص قد اعتمد إيقاعياً علي المزج بين تفعيلتي المتدارك والمتقارب, لكن مثل هذا التنميط الإيقاعي يأتي من باب النظم, إذ ينتظم النص في إيقاع ما دون حتىقد يكون مرتبطاً بتجربة وجدانية علي نحوما يمكن حتى نري في جميع النظميات المسقطة. من النصوص التي بدا فيها الشاعر متورطاً في كتابة سيرة هونص" حين جا وأشعل الحريقة" حيث السارد الذي يسرد بضمير الجمع, وحيث الحدث الفانتازي الذي يتقافز فيه الجميع إلي النار تقليداً للسيد الأكبر فيهم الذي ألقي بنفسه في النار, وقد أعجبهم منظره:" ورأيناه/, وهوتأكله النارُ/, وتلقيه إلي أعلي/,وتلقفه/, وهومبتهج.." صـ41 يمكننا حتى نلحظ دور السارد وهويمارس الحكي حول هذا الحدث منذ البداية:" كنا مسافرين/, حين جا/, وأشغل الحريقة" صـ39 في إشارة إلي زمن الحدث"كنا" لتتوالي الأفعال بعد ذلك لتدل علي هذا الماضي والحدث الذي ينمومتجهاً إلي الأمام أي إلي المنطقة الأحدث في الزمن" الماضي القريب":" قام ـ ارتمي ـ كان يغني ـ قلنا..إلخ" حتى ينتهي الحدث بانتهاء السيرة نهاية مسبوقة بما يمهد لها. الملاحظ في النص أنه بالرغم من اعتماده علي التفعيلة حيث اتىت الجملة الأولي معتمدة علي تفعيلة الرجز ليعتمد النص بعد ذلك علي تفعيلتي المتدارك والمتقارب المتداخلتين أوالمتبادلتين إلا حتى هذا النظام التفعيلي كان كخلفية باهتة أمام انسيابية الحدث ونموه واتصاله نحوياً, وإن كان البارز هوإيقاع الحدث والمشهد كما تشي بذلك الحركة المتوالية للأفعال:" قمنا مثل دائرة ـ شبكنا أصابعنا النحيلة في أصابعنا النحيلة ـ ارتمينا فرحين ـ تغنينا ولوحنا.." وثمة إيقاع المشهد:" وكُنَّا قد أُخذنا بغتة/, بطقصقاتها/, ومهرجان لونها العذري/, قام السيد الأكبر فينا/, خالعاً جلبابه القطنيّ/, وارتمي في حضنها/, وهويغني.." صـ40

لقد استغرقت الحكاية السارد, ومن ثم كان مهموماً بإيقاع الحدث لا إيقاع اللفظ, فيما بدا مطمئناً وهويسرد منذ البداية حيث بدأ بالتمهيد لحكايته ثم تتبع الحدث, ووصف الحركة, والحركة المضادة, وكان مطمئناً وهويمهد للنهاية أيضاً في إيقاع لفظي ختامي( ارتمينا ـ تغنينا ـ لوحنا ـ تذوقنا) إلي حتى ينهي حكايته بـ " شممنا عطرنا للمرة الأولي/, تذوقنا/, رحيقه" صـ43 . إلى غير ذلك تنتهي الحكاية يا سادة يا كرام, وقد أخرجت النار جوهر الأمور, وطهرتها من الشوائب. الإشكالية حتى النار رمز العذاب والألم ومصدرهما الحسي تحولت في الحدث إلي مهرجان يتسابق الجميع إليه, ومن هنا تأخذ النار رمزيتها في هذا الألم والمعاناة اللذين لابد منهما للوصول إلي بهجة الدنيا.. لكأننا لكي نبتهج في هذه الحياة لابد حتى نرتاد النار, ولا توجد حلوي بغير هذه النار علي حد تعبير المثل الشعبي. النص ولاشك محمل بقدر كبير من الشاعرية( ولا أقول الشعرية) من خلال حيودات الغة التي تنقل حدثاً فنتازياً عن طريق الصور والمشاهد" مهرجان لونها العذري ـ محدقين في جمالها العريان ـ دغدغات النار في الجلد المشقق" ومن خلال المفارقات التي تضمنتها الحكاية " ارتمي في حضنها وهويغني ـ تأكله النار وهي مبتهج " لكنما وأمام التقهقر الحاد للإيقاع الكمي للغة وسيطرة إيقاع الحدث نفسه وأمام اطمئنان السارد, وتبرؤ التجربة من البعد الوجداني تبعد التجربة عن السردية الغنائية, وتقترب من السرد القصصي الاعتيادي, الذي يقدمه سارد مطمئن تماماً إذ يسعي إلي طرافةِ القص, دونما قلق نفسي أووجداني يجعله صاحب تجربة وجدانية. في نص " وتزوَّق لما سرد حكايته" الشخصية المحكي عنها هوالحاكي/ قاص يقترب إلي أنثاه معتمداً علي قدرته علي تدبيج الحكايا المنمقة المؤثرة دون حتىقد يكون مالكاً لشىء آخر في الحقيقة, ويبدأ النص بالحكي عن هذا الصاعد إلي أنثاه " صعد الذكر إلي الأنثي./ قبض من الخبز الجاف/, وأطعمها/, عرى دمع العينين/, وياقوت القلب/, وأخذ خراج الوقت/, ورشرش بعضاً من فيض التذكرات المالحة علي جسد المدسوسة/, بين جدارات الحجرة/, وتزوّق/, لمَّا سرد حكايته في بطء وكأنْ يتعجل..الخ" صـ47 النص يضعنا أمام حاكي/ سارد منشىء النص, وحاكي آخر/ مسرود عنه يدبج الحكايا ويستغلها في التقرب إلي أنثاه, وهوالشخصية الفاعلة في الحدث, هوبالضرورة أديب يستخدم اللغة بشكل مؤثر مدهش, وهومبتكر لمادة قصصية مسيَّجة بالأحزان و" بالتذكارات المالحة", جميع ما لدية هوالأداء اللغوي المنمق الذي يأخذ بلب أنثاه التي " صعدت بالعينين علي كتف حكايته/, في فرح/, مكسور/, وكأنْ تتعكز بين حروف الجر/, وبين الأفعال المتكررة/, ببطن السيرة.., صـ48 هذه وسيلة صعود الحاكي/ الذكر/ المسرود عنه في النص إلي أنثاه.. وهي وسيلة من الممكن لن تؤهله لأكثر من إصابتها بالدهشة وحفزها علي إدرار الدموع. النص يلفت إلي العلاقة فوق الواقعية بين شخصية الحاكي صاحب القدرة علي التخييل ، وانثاه المالكة لناصية التخيَّل التي تؤهلها لمعايشة الروعة غير المنظورة, وإن كانت لن تؤهلها إلا لاحتضان الوهم الجميل " حتى امتلأت جدران الحجرة بتصاوير/, مدلاةٍ/ تترقص جميع مساءٍ/, لَّما يهتز الدرج الصاعد بين المدسوسة والحاكي/, حتى أورثت المدسوسة جلباب/, الحاكي/, من جميع تصاوير البهجة/ زوجين/, اثنين.." صـ50 لقد استطاع الحاكي حتى يفنن شخصية أنثاه, ويُكسبَها من روعته ما يؤهلها لأن تدرك روعة الوجود, وأن تنطلق ملكاتها الإنسانية باتجاه الخيال, وربما هذا جميع ما يمكن حتى يقدمه الحاكي/ الأديب لأنثاه علي نحوٍ أكيد السرد في النص الذي أمامنا يبقي علي فعاليته الشعرية. بمحافظته علي إيقاع المتدارك المصاحب لعملية الانشاء, وعلي إيقاع الحدث المصاحب, وثمة ما يؤيد هذه الفعالية أيضاً تلك الحيودات الأسلوبية الجانحة نحوالتخييل من عينة:" عرّى دمع العينين وياقوت القلب, وأخذ خراج الوقت, ورشرش بعضاً من فيض التذكارات المالحة ..الخ" وإن كان ما يربطه مباشرة بالشعرية حتى التجربة تنطلق أساساً من ارتباط الأنا الساردة " الحاكى منشئ النص " بالـ" هو" المسرود عنها " الحاكى الفاعل في النص " بهذا الارتباط وحده تأخذ التجربة بعدها الوجدانى ، وترتبط بالذات الساردة كصاحبة مشروع حكائى غنائى تصعد به إلى الحياة / الأنثى باعتبارها رمز للحياة نفسها ، وباعتبارها أصل لكل مواطن . ومن ثم فالرؤية الشعرية هنا تنطلق من جوانيات الذات الشاعرة حاملة أجواءها النفسية والعاطفية من عينة :" التذكارات المالحة ـ دمع العينين ـ ياقوت القلب " ومن ثم أيضاً ـ تبدواللغة كاشفة عن هذه الأجواء النفسية في شخصية الحاكى الذى يمارس جهداً كبيراً في تفنين العلاقة بينه, وبين أنثاه, في الوقت الذي بدا فقيراً من أية معطيات مادية تخص المطالب البيولوجية "قبض من الخبز الجاف/, وأطعمها.." أوكما تشى بذلك مفردة "حجرة" التي اتىت معبرة عن مسكن متواضع.. مجرد حجرة, فيما بدت حجرة في البعيد النائي عن الحياة يصل إليها عبر درج صاعد مهتز. كما تشف الأفعال عن معاناة الحاكي وجهده في المحافظة علي العلاقة بأنثاه, إذ تنتمي كلها إلي حقل دلالي يؤكد المعاناة والجهد:" صعد ـ قبض ـ عرَّى ـ رشرش ـ تزوَّق ـ يعاود كرَّته ..الخ" كما تؤكد هذه الأفعال في تواليها الحركة, وتربطها مباشرة بالحاكي كذات فاعله تتجه بكثير رغبة نحوالأنثي .كما تؤكد هذه الأفعال أيضاً عنصر الزمن, كعنصر سردي, أوكوعاء للحدث الذي يتنامي بين الحاكي وأنثاه. النص ـ كذلك ـ يضعنا أمام قدرية هذا الحاكي الذي عليه حتى يستمر إلي أمد مع تذكراته المالحة وتصاويره الوهمية, وقدرية أنثاه " المدسوسة " التي تغلق نفسها عليه وتري الدنيا من خلال تصاويره مزيجاً من الوهم الذي يربطها بروعة فوق واقعية, وزاداً سحرياً يؤهلها لانتظار المزيد منها.. إلى غير ذلك يضعنا النص أمام مفتاح شخصية " المدسوسة " التي بدت بحياتها الفقيرة مادياً الثرية بالروعة والخيال, ومن هنا فإن السعادة مسألة شعورية يمكن حتى تتم بالخيال والتخييل , وربما حتى الشاعر قد أحسن عندما وصف أنثاه هذه بالمدسوسة التى بدت كروح ومشاعر مدسوسة خلف ظاهر اعتيادى . وربما لهذا السبب بدت المدسوسة أنثى مجردة من العمل الاعتيادى في الحياة , كما بدت حياة الحاكى على نفس القدر من التجريد , الأمر الذى جعل منها حياة فوق واقعية , وربما حتى الأنا الساردة سعت إلى هذا التجريد إمعاناً منها في الفصل بينها وبين الـ "هو" المسرود عنه , ولعل هذا الفصل من شأنه حتى يجعل من التجربة في هذا النص بناءً في فراغ . إذا التجربة اكتسبت جميع ما اكتسبته من قيمة شعرية ورؤيوية من ربطنا بين الأنا الساردة والـ " هو" المسرود عنه وليس العكس . في نص " ويسب هذه الدنيا " تصريح بالرغبة في البكاء اتى أسفل العنوان : " أريد حتى أبكى " صـ51 هذا التصريح اتى كلافتة أوشعار يحمل مطلباً مشروعاً وكأن المطلب يظهر عصياً , ومن ثم تبحث الذات عن مثير للبكاء , وهى المشحونة بالشكوى , والمهَّيأة تماماً للبكاء , لذلك هى تتمنى حتىقد يكون هذا المثير راكبا ًما ( واحدٌ ) يجلس قبالتها / صورة لها , له نفس القدر من السخط والضجر , ويبتدئ الحديث همساً , بما يعطيه الهمس من إيحاء بالتوجس أوالخوف من إعلان الشكوى أوالتضجر , هكذا هى الذات الباحثة عن مثير , تبحث في الوقت ذاته عن لحظة انفجار تجاوز الهمس قرين الخوف والتوجس.

" وليس في امتداد هذه البلاد , واحدٌ / يركب قاطرة الليل الأخير / في قبالتى /, ويبدأ الكلام / همساً /, ويسب هذه الدنيا / , فأبتدئ الحديث / , وأشتكى . "صـ52

لاشك حتى النص رغم قِصره , وخلوه من عنصر السرد كان شعريًّا بالقدر الذى أهله للبروز على نصص أخرى مباهية بتواجدها الكمى في هذا الديوان وإن كانت الجملة الابتدائية بما تحمله من تصريح فاقع كانت كإعلان غير شعرى لابسبب صراحته فقط , وأنما لأن بقية النص يتضمنه بشكل آخر.

القدر الشعرى الذى يحملة النص ليس فيما تحمله اللغة من قدرة على التحليق بنا في أجواء الذات الغاضبة فحسب , لكنه أيضاً في الصورة التى تحمل قدراً من التخييل والإيحاء مثل : " يركب قاطرة الليل الأخير " لكأن الحياة رحلة سفر في ليل , بما توحى به مفردة " ليل " من ظلام وخوف وتوجس وعدم وضوح ثم أنه ليل أخير دون حتىقد يكون المتبادر إلى الذهن حتى القادم نهار , فالليل الأخير من الممكن لابداية بعده , من الممكن لهذا هى الذات الشاعرة يعز عليها حتى تغادر الحياة دون حتىقد يكون في مقدورها الإقضاء بسخطها , ومكبوتاتها .

من النصوص التى يظهر السرد محملاً بالشعرية يأتى نص " وشكل أحبابة في الدخان " النص موحٍ بجوالوحدة والهدوء والصمت والسكون والانقطاع : " سكن الليل/, وانطفأ الشمعدان / والوحيد أرتدى بذة الوجد / منقوشة بالتذكر والشوق " وهنالكقد يكون العالم ما نتخيلة لامانراه .. كيف من الممكن أن يموضع الإنسان العالم على نحوخيالى تماماً ويتعامل معه كما لوكان حقيقة .. إنها الحياة في الخيال على نحوما أتت نصوص أخرى تجاوز استعراضها ـ كيف من الممكن أن يعيش الإنسان تجربة الوهم , وما دافعه إلى هذا , وما الذى يجبره على الحياة وحيداً مع الصمت والسكون ،يا ترى؟ حقيقة هوالإنسان كائن اجتماعى ـ كما ينطق ـ لكنه أمام فساد السقط وزيف العلاقات قد يضطر للإنزواء , وهنالك يشكل أصحابه من دخان تبغه " أشعل تبغته /, وتصدر مائدة للحنين المصفىَّ /, وشكَّل أحبابه في الدخان /, سقطَّدهم في الكراسى " صـ34. الإشكالية حتى الإنسان قد يصدق تجربة الوهم ويتعامل معها : " وحين ابتدا مهرجان الكلام الجماعى /, حين علاصوتهم /, وبدأ يتوتر / , ونطق : /, على رسلكم ياصحاب .. " صـ35 وامعاناً في التدليل على الإيغال في تجربة الوهم وتصديقها يأتى الختام :" وتمتم : /, في الغد / لابد من مقعدين جديدين / , إنى أرى اثنين لايجلسان " صـ35 من الممكن حتى تجربة الوحدة واسترطاب الخيال والتآلف مع تجربة الوهم تمثل حالة من أحوال الحاكى المتعددة في هذا الديوان , ومن ثم فالنص وليد هذه الحالة الوجدانية في الأساس , ومن ثم يأتى النص مدللاً على هذه الشعرية من خلال إيحاءات اللغة بالحالة هذه , فثمة مايوحى بطبيعة الشخصية ونفسيتها , وعواطفها وميلها إلى الهدوء : " وحيد ـ شوق ـ حنين ـ عثر ـ اشعل ـ تبغته ـ بدأ يتوتر حين علاصوتهم ـ تمتم ". الإيقاع الحركى في النص يتواءم وصبيعة الشخصية وهدوئها ووحدتها : " ارتدى بذة الوجد ـ اشعل تبغته ـ تصدر مائدة للحنين المصفى ـ شكل أحبابه في الدخان ـ قعَّدهم في الكراسى .. الخ : إذا توالى الأفعال على هذه الكيفية في الزمن يوحى بالبطء والهدوء , وإن كان الزمن في السيرة / زمن الحدث هوطقس ليلى " سكت الليل , وانطفأ الشمعدان " يؤيد من إيحاءات توالي الأفعال ويشي بسكون وهدوء المكان ـ يتوائم مع هذا الإيقاع الحركي ما اعتمد عليه النص كخلفية إيقاعية متوارية وراء السرد المتدفق المتصل, حيث نحسُّ بها تتردد ببطء خلف السرد: فاعلن فاعلن فاعلن, مندغمة في جوالحدث البطىء المتوالي الحدوث في المكان المعزول الهاديء:" شمعدان ـ مائدة ـ كراسي ـ دخان" أشخاص يتشكلون من دخان, وثمة بعض التمتمات التي يرددها إنسان وحيد.

من النصوص المتهافتة في هذا الديوان يأتي نص " أنت أيضاً لم تجب, ولم تفرح" حيث تسيطر علي النص خطابية الموقف, والخطاب الموجه إلي "حمدان" .. من حمدان هذا؟! لاشك أنه صاحب حادثة فرضت وجود حمدان في هذا الديوان كشخصية يتشكل الخطاب حول الحادثة التي تمت معه:" أين ابنتك الصغيرة التي تدحرجت/, علي الأسفلت/, خلف خطوك العريان؟/ لم يسألك:/, كيف من الممكن أن لم تصطحب المسقمات في يديك؟" صـ86 لاشك حتى السرد يمكن حتى يتشكل حول أية حادثة وحول أية شخصية, لكنما ما قيمة ما يتضمنه السرد فنياً ورؤيوياً, إذا القيم الجمالية التي يحملها السرد ومدي فاعلية اللغة في حمل مضمون رؤيوي ونفسي هوما يعطي أية نص سردي غنائي قيمته, خاصة عندما يحمل السرد بعض المعطيات الدرامية التي هجرز علي الصراع والتناقض والمفارقة, وعندما يركز مضمونياً علي الإنسان وقضاياه . إذا حادثة ما حدثت مع حمدان قد يعيها السارد ويتأثر بها ويجري حولها بعض التهويمات السردية, لكنما كيف من الممكن أن يرقي هذا النص إلي مستوي الحدث الدرامي المؤثر وكيف يحمَّل بالشعرية التي تحملنا علي رؤية أنفسنا في ضوء ما يحمله النص إلينا. وكيف يمكن للنص حتى يضعنا في حالة مماثلة لحالة منتجه،يا ترى؟ أري حتى نصاً كهذا الذي نعاينه كسيح عن الصعود إلي مصاف النصوص الأخري في الديوان فقير فنياً إذ يحمل لغة أحادية, وخطابية ثقيلة الخطووالسقط غير اضطرابه عروضياً. من النصوص الأخرى المتهافتة في هذا الديوان يأتي نص " فَخَطت فوق الإسفلت" الذي يحمل رؤية متهافتة عن المرأة ككائن تتلذذ كثيراً وتبتهج بأن ترى الرجل يتمزق وجداً, وتهياماً بها, وإن كانت في جميع أحوالها تورده مورد الهلكة, إلى غير ذلك ينتظر الرجل الشهد من الصَّاب, أويخطوإليها فوق شق مدارج موته : "واصطحبت كراسات الفرح المبلولة / ,وانتظرت /, حتى شقَّ الوجد الرجل/, إلي نصفين/ وألقي نصفاً في الناحية اليسري للجسر/, ونصفاً /, في الناحية اليمنى/, فخطت فوق الإسفلت/, يفوح شذاها/, بالزىِّ المبهج.." صـ 84 نحن أمام المشهد المحدد بـ" الرجل ـ المرأة ـ الإسفلت ـ الجسر" وأمام عملين متناقضين من الرجل والمرأة, وأمام المفارقة حتى تنتشي المرأة عندما تطمئن لمصرع من أحبها..هذا المشهد الذي يطمح إلي حتى يقدم لنا صورة عن الحياة علي عموميتها يظهر كسيحاً لضعف معطياته الفنية من جهة, ومن جهةٍ أخرى تبدوالحياة أوسع بكثير من الثقب الضيق هذا الذي ينظر منه الحاكي, وإذا ما كنا بصدد أحوال الحاكي, فهل نحن أمام حالة تخص الحاكي بالعمل.. إنها ولاشك تجربة ذهنية مجردة مصطنعة, وإن حاولت حتى تتجمل لغوياً ببعض الصور الاستعارية البسيطة الهجريب من عينة:" كراسات الفرح المبلولة ـ شق الوجد الرجل" الحوار من الأساليب التعبيرية الحكائية التي تؤاذر السرد في التعبير عن المواقف الدرامية, أهمية الحوار تنبع أساساً من كونه يلفتنا إلي صوت آخر لقاء من شأنه حتى يعمق شعورنا بالفكرة الظاهرة وإقناعنا بها.

في نص " أولم يخترم الحب جدارات جوانحه بعد؟" يبدأ الصوت الأول بالسؤال :" لمن الورد الذابح/, والورد/, المذبوح؟" صـ53 هذا التساؤل يمثل نصف الحقيقة, والنصف الآخر تمثله الإجابة التي بدأها الصوت الآخر:" الورد الذابح/ لامرأة تبدووكأنْ تتقتل/, من فرط براءتها الكذابة/, حتى لأنْ تخشى حين تصافحهاذوبان / , أصابعها في كفك / , والورد المذبوح / , لرجل / , يظهر للرائي / , وكأنْ هوجلمودٌ من صخرٍ / , من فرط جهامته الخادعة/, حتى لكأن تتساءل/, حين تقابله:/, أولم يخترم الحب جدارات جوانحه بعد؟" صـ55 إلى غير ذلك كما نرى تتحول الجملة الحوارية التي تمثل الإجابة إلي عملية سردية تنقل وقائع ومشاهد عن المرأة/ صاحبة الورد الذابح والرجل صاحب الورد المذبوح. النص يحمل فاعليته الدرامية من خلال التناقض والمفارقة المتضمنين فيه, فالمرأة الناعمة البريئة ذابحة, والرجل الجلمود المتجهم مذبوح, رغم حتى الحكم الظاهري قد لا ينقاد إلي مثل هذه الحقيقة, ومن هنا فان الذات ( الرائية) الراصدة/ الساردة إذ تلفت أنظارنا إلي هذا التناقض المنطوي علي مفارقة تبدأ في تفنيد عِلاَّت أحكامنا الظاهرية لتؤكد أننا إنما نحكم علي القناع الخادع.. والحقيقة هي ما يسوقها الرائي/ الراصد بعد هذا عن طريق المنولوج:" فيا لك/, من راءٍ/, ليس يري خلف براءتها حمماً وبراكين/,تذيب/, جبال الأرض/, وليس يري خلف جهامته حتى ليس به/, خردلة/, غير مخربة.." صـ56 ليصل بنا إلي حكمة ختامية في ثنايا المناجاة:" يا من ليس يري/, كم يخفي الجلد الصلد المتشقق/, من أوجاع/, وتباريح." صـ56 النص يضعنا أمام مكون شعري أساسي بتحول الذات الباصرة إلي طرف أول في الحوار, والذات المتأملة الشاعرة إلي طرف ثانٍ يتولي الإجابة, مُطْلِقةَ العنان لقدرات الحدس واختراق جلدة الظاهر وصولاً إلي الحقائق الكامنة خلف جلدة هذا الظاهر الاعتيادي.. هذه العملية التخييلية تتم في إطار أسلوبي مفعم بالإنشاء الإستفهامي التعجبي, والخبري الذي يعتمد علي التشبيه, وكذا الأساليب المنفية التي تؤكد الحقائق المثبتة, عندما يقول:" ليس يري خلف براءتها حمماً وبراكين" فكأنه يقول:" هاهنا كثير من الحمم والبراكين" بالضرورة يجب حتى نلتفت إلي حتى الاستخدام اللغوي الإيحائي والتصويري في النص كان مُشِفًّّا عن مكتشفات الرائي, بحدثات بالغة الدقة في استخدامها مثل:" وليس يري خلف جهامته أنْ ليس به/ خردلةً/ غير مخرَّبة" صـ55, حتى ورود مفردتين من عينة"خردلة" و"مخرَّبة" يؤكد فداحة ما نظنه حقيقة في لقاء مكتشفات الرائي الجديدة التي ليس فيها مقدار خردلة مما نظنه حقيقة, لتفزعنا مفردة "مخرَّبة" التي تؤكد جهلنا أيضاً بما نظنه عامراً. لكأن اللغة تقوم بمهمة أساسية غير نقل مكتشفات الشاعر الجديدة, تتعلق بالنفاذ إلي ذواتنا لإحداث الصدمة المطلوبة فينا لنعيد اكتشاف ذواتنا من حديث في ضوء الحقائق الجديدة التي تتنافي مع العمي الرؤيوى الذي نرتع فيه. لاشك أنه من المهام الأساسية للسردية الغنائية أنها تتيح للشاعر حتى يتحول إلي مفكر شعري, عندما يختلط عنده الفكري بالشعوري, فما يحركه نحوالتفكير في الظاهر الإعتيادي الذي يراه ليعيد تأمله واكتشاف الكامن خلفه, ما يحركه نحوهذا الهدف في الأساس هوشعور وجداني عميق بكره الزيف والأقنعة, وميله إلي الحقائق حتى وإن كانت صادمة, ومن ثم فالسردية الغنائية هي في الأساس غنائية فكرية علي نحوما رأينا في هذا النص خاصة إذا ما كان السرد ذا طبيعة درامية. ومرة أخرى يظهر إيقاع المتدارك كنغمة سردية متوارية خلف تدفق السرد واتصاله النحوي, دون تدعيم إيقاعي كمي آخر, أوإمكانية توقف السرد عند محطات إيقاعية معينة جميع ذلك أدى إلي سرِّيَّة الإيقاع العروض إلا في بعض المواقع التي ارتفعت فيها حدة الغنائية مثل:" آهٍ/, لوتدرك/ يا من ليس يري/ كم يخفي الجلد الصلد المتشقق/ من أوجاع وتباريح" صـ56. في نص " وكان متعباً من كثرة التجوال" محاولة تجسيد الموت في صورة كائن يبحث عن " الرجل الذي يوزع الحنين/, في أكفِّ الناس/, والبلاد/, والطيور/, ويجمع العشاق/, والصادين/, أشتاتاً/, أشتاتا" صـ60 وبصرف النظر عن كيفية حتىقد يكون" الجمع أشتاتاً" .. ظفر الموت بضالته أخيراً وقبض روح الرجل في المكان والزمان المحددين, و" واصل السير/, وكأنه/, مازال متعباً/,وغاب/, قبل خفقة الطير الذي أتي لتوه" صـ63 ليس لهذا النص عمق رؤيوي يمكن حتى نستكشفه, غير أنه يعيد علي أذهاننا معني الآية الكريمة" وإذا اتى أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون" ومن ثم فالنص يعيد ما معلوم بالضرورة.

في النص مساحة من الاستهلاك اللغوي فيما لا قيمة له في الأساس, غير خلق مناخ سردي لا يقول شيئاً من عينة:" وقابله الموت الذي يمر مرة إذا المساء أتي/, ومرة إذا مضي/, وكان متعباً من كثرة التجوال/, كان في يمينه مخلاته مملوءة بخبز أسود/, جاف/, وفي يسراه قش قولتين ليستا لحاجة/,السلوان/, وانغلاقة العين/, ومرَّا في انعطافة الطريق عند الشجر الحافي/,وأخرج المتعب خبزة ناشفةً/, وبص حوْاليه..الخ" صـ61 وحتى آخر النص مساحة شاسعة من تفاصيل صغيرة يقول في آخرها:" والرجل الذي يوزع الحنين………../مات" صـ63 وربما حتى هذه الجملة الأخيرة تختزن جميع النص في باطنها, وما عداها, إنما هوقشٌّ يحتل مساحة لا بأس بها من التواجد الكمي المباهي بتواجده حول هذه الجملة. غير حتى تجريد"الرجل" علي نحوما اتى في النص أفقد النص قيمته, وإن كان النص متأثراً بالقصص التراثي والشعبي الذي يجسد الموت أومَلَك الموت في صورة الإنسان العاقل الذي ينفذ مهام محددة, ومن ثم تُنسج الحكايا والأقاصيص حول هذا الكائن, تنتهي معظمها بقيمة وعظيَّة, أوتحذيرية ، هجرز على قدرية الموت ، ونفاذه في العباد ، غير حتى الموت هنا ـ على ما بدا في النص ـ صاحب مهمة شريرة إذ يترصد القيم الجمالية فقط كما بدا أيضاً في نصوص أخرى في هذا الديوان فقد تجاوز حتى رأينا أنه ترصَّد " سامرة الحى ، وأم الفقراء " وظفر بها بعد كثير عناء وتضحيات وها هوفي هذا النص يترصد " الرجل الذى يوزع الحنين في أكف الناس والبلاد والطيور ".

بالضرورة يجب حتى نشير إلى رتابة البناء الأفقى في نموالأحداث وتوالدها , وربما لهذا أتى النص مترابطاً نحوياً شديد الترابط , إذ ترتبط فيه الجملة بالجملة , مركِّزاً على استولاد الأحداث من بعضها وفق منطق هادئ يحرص على الوصف ، والتعليل والتكرار. وبالضرورة يجب حتى نشير إلى اضمحلال أى ملامح لموقف شعرى خلف عملية السرد ؛ مما أفقد النص قيمته الغنائية أوالشعرية لنبقى أمام رتابة مبنى قصص سردى بلا قيمة ، يركزعلى التفاصيل الصغيرة المملة التى لا تضيف بقدر ما تستهلك ساحة النص ، وكأنه النص الميت الذى يعيد على الأذهان سيرة الموت . ولننظر إلى مثل هذه التفاصيل الصغيرة غير الخادمة عن حركة الموت وهويسير مع الرجل المرصود :" وبلل الشفاه/, مرة/, وحيدة /, بقطرة وحيدة /, بقد حاجة الريق الأخيرىّ / ، استدار باليسرى /, ورش قش قولتين / , ليستا لحاجة السلوان /, وانغلاقة العين .." صـ62 لينتهى بنا الموقف عند " الفزورة " الأخيرة هذه على نحوما يمكن حتى نسمى سؤالنا الآتى :ـ ما مدلول " القولتين ا للتين ليستا لحاجة السلوان وانغلاقة العين " .. ترى ما نص القولتين ؟!

وأرجوالايتورط أحد معنا بالقول الشعرية لا تعكس مدلولات محددة وأنها … فنحن ـ كما تجاوز القول ـ لسنا أمام نصٍّ شعرى في الأساس , بقدرما أننا أمام سارد " حكاء " مطمئن وهويقدم حكاية رتيبة , مرتبة الأجزاء ممنطقة الأحداث , ومن ثم لم تتلقت منه اللغة نحوما يمكن حتى نسميه : أصداء الحالة الشعرية التى تجنح نحولغة تجسد اللايقين وهى تتوسل بالمجاز والرمز والاستعارة والإيقاع لتحتض صوت الذات المشدودة إلى أقاصى الحلم والفهم . وقد يتورط آخر بالقول : إننا أمام استخدامات شعرية للغة من عينة: " في يسراه قش قولتين ـ الشجر الحافى ـ الموت الذى يمر مرة إذ المساء أتى ـ يوزع الحنين ." من الممكن حتى مثل هذا الرأى يتجاهل حتى أى بناء لغوى إنما يكتسب شعريته من الموقف الذى يستدعى هذا السياق اللغوي أوذاك وبتجاهل الموقف يصبح جميع الكلام شعراً , وكل الكلام ليس بشعر. وربما حتى هذه إشكالية النظر إلىالنصوص مجرداً من الموقف. فربما حتى تعبير من عينة : " يا للسماء " لونطقها رجل ينظر إلى السماء لكانت أقل شعرية منها لونطقها رجل منكفئ بوجهه إلى الأرض . فهى في الموقف الأول تعكس حالة إعجاب مباشرة بما يُرى , وفى الثانية حالة من الأسف تستدعى غائباً لتتعجب منه , ومن قدريته التى أدت بالرجل إلى مثل هذا المصير المنكفئ . ومن ثم فإن اختلاف الموقف أدى إلى اختلاف المدلول , ومن ثم اختلاف درجة الشعرية فالنص في الموقف الأخير أكثرعمقًا نحوالخفى من الشعور وأكثر فاعلية في استحضارلمشهد غايب , ومن ثم فهى أكثرتخييلاً من المشهد الأول . هكذا يمكننى حتى أقررأن حالة ذات موقف ذهنى يعيد الشائع ويؤكده في مشهد سردى جامح الخيال يختلف عن حالة ذات موقف شعورى ينأى عن الاعتيادي في مشهد تخييلى يعتمد على السرد.

فى نص " كان الباب شبه مغلق " البناء الذى يعتمد على مشهدين متوازيين يجمعها زمن واحد , أحدهما يعطى مدلوله في الآخر. في المشهد الأول: تبدأ الذات السادرة التحرك نحوالذات المسرود لها " الأليف وفى المشهد الثانى : ثمة عصفورين " إلفين " تم حبسهما في قفص .فى المشهد الأول تتفلت الذات السادرة من إسار الواقع يحدوها الأمل في احتضان لحظة تلامس فيها الحياة بمعناها الحقيقى بعيداً عن جهامة الواقع , ومن ثم تبذل كثير عناء في الوصول . وفى المشهد الثانى يتفلت أحد العصفورين من حديد القفص ، فيما يظل الآخر داخله محاولاً الخروج إلى حتى استطاع الخروج لاحقاً بصديقه . حلقا في أجواء المكان غير أنهما أصطدما بالسقف . هذا المشهد الختامى للطائرين هوختام حكاية الطائرين ، وإن كان إلى حدٍ ما بداية لقصيدة يمكن حتى تنشئها الذات الساردة حول المفارقات التى يحتويها المشهدان معاً .

ففى الأولى لم يبرح أحد الطائرين القفص حتى لحق به الثانى ، بينما البشر لم يصلا بعد إلى هذه الدرجة من الإصرار على عوامل قتلهما ، فمهما كانت الذات الساردة ساعية إلى الخلاص ، وإلى الاتصال بالمخاطب ( القرين أوالأليف )، إلا حتى الأخير ظل على حالة الصمت البليد واجماً كالمقتول ، لم يستطع حتى يدلل على حياة فيه ، وقد كان المأمول حتى تجد الذات الساردة عند إلفها نوعاً من الحياة ينسيها رحلتها الشاقة ، وهى التى ظلت لفترة طويلة تحلم بمثل هذا الاتصال والتلاقى ، إلا حتى المفارقة أنها وجدته أكثر منها موتاً ؛ ففى الوقت الى كانت تردد :" أنا القتيل " كان الآخر يثبت بصمته وسكوته أنه أيضاً قتيل .المفارقة الثانية حتى الطائرين هربا من القفص ليصطدما بسقف الحجرة ، ومن ثم فإن الهروب من السجن لا يعنى الحرية وإنما يعنى الهروب إلى سجن أكبر . هذا التكشف الأخير يلقى بظلاله على الواقع الخارجى الذى اغتال الاثنين معاً .. لكأنه زمن للقتل ، ومن ثم لا مكان فيه إلا لجثث المحبين .. إنه زمن يأبى التواصل والمحبة ، كما يأبى حتى يعيش فيه الإنسان حراً ، ومن ثم فالزمن مقتول أيضاً ، لا وجود حقيقى فيه إلا للقتلة ، هم وحدهم يمرون على جثث الوقت . الإشكالية التى يطرحها النص حتى جميع المحاولات للتفلت من الموت المحقق محكوم عليها بالفشل ، فالطائران بعد حتى تفلَّتا من القفص ، اصطدما بالسقف ، ومن ثم سيظلان حبيسين حتى الموت في المكان الذى أصبح دار الحياة ودار الممات في الوقت ذاته . إلى غير ذلك يحتضن النص رؤية أكبر لحياة متدرجة الخطر ، فمهما يحاول الإنسان التفلت من المستوى الأول فإنه سيصطدم بالمستوى الثانى ،غير أنه لن يمتلك حريته وحياته أبداً . غير حتى حياةً بريئة من الاشتباك بالقهر لن تكون ، فبعد جميع سجن صغير يُنْجَى منه سجن أكبر هوالعالم نفسه الذى يجد الإنسان فيه سقفاً أعلى يصده عن الانطلاق إلى آفاق أرحب من الحرية والإنسانية . النص الذى أمامنا هوأطول نصوص الديوان ـ كمياً ـ وربما أعلاها جودة ليس لأنه يحمل رؤية أكثر اتساعاً ، وليس لأنه يحمل أبعاداً رمزية محفزة على التأمل ، ومثيرة للتفكير وقادرة على حمل الرؤية المتسعة ، ليس هذا فحسب ، بل لأن النص اعتمد على فكرة التوازى الدرامى بين مشهدين تتداول بينهما رؤية كبرى حول الحياة والمواطنة والحرية ، وربما حول العصر كله ، وقد أصبح القتل سمة أساسية للترويع وسلب حريات البشر المسالمين . وإن كانت الذات المقتولة في النص ليست بريئة مما تعانيه ، فهى تتسلى بأسر عصفورين في قفص ، لكأن النص يلفت إلى طبيعة البشر وميلهم إلى انتهاك حريات الضعفاء والأبرياء كما نطق " أبوالعلاء المعرى " للديك الذي قدموه له ليأكله : " استضعفوك قذبحوك ، فهلا ذبحوا شبل الأسد ! " أولكأن النص يلفت إلي حتى فوق جميع قاتل صغير ثمة قاتل كبير. أولكأن النص يلفت أيضا إلي حتى جميع محاولة للتفلت من الموت مفضية إلي موت. يكفي حتى نتأمل خاتمة الحدث لنكتشف حتى الاستقرار الأبلغ لم يكن إلا في سجن كبير هونفسه الوطن / العالم الذي يحيا فيه الطائران في انتظار موتها الحتمي,كما يحيا فيه الإلفان علي ما في أحدهما من بقايا حياة, وعلي ما في الثاني من دلائل موت .. إنه وطن الموت وسجن الأحياء, وكل محاوله فيه للتفلت من الموت مفضية إلي موت. النص يلفت أيضاً إلي العمل الوحيد الممكن في هذا العالم المتاح للضعفاء والمسالمين والأخيار علي السواء هوعمل التفلت من الموت إلي إذا يصبح التفلت محالاً , وإن كان النشاط المصاحب لهذا العمل هوالبحث الذي لا يريم عن الأسباب : " فمالك لا تردُّ / ,أصرت مقتولاً /, أما يكفي قتيلً واحدً منا " صـ78. علي أية حالة إذا مجمل الرؤي التي تم استكشافها خلف الظاهر الفيزيقي للنص هي في الأساس, وليدة حالة شعورية, أووليدة شعور ذاتي باستلاب الحياة, وسيطرة قوى الشر علي مقدرات البشر, وإن كان الشعور الأقوى من هذا هوالشعور بالضعف وهشاشة الذات أمام واقع قاتل تعايشه الذات مسيجة بخوفها, أدى بها إلي هذا المنهج من التفكير الشعري الدرامي, ومن ثم فإن النص يعكس تجربة وجدانية في الأساس. وربما حتى هذا البعد من المشاعر الذاتية هوما أعطي التجربة هنا درجة قصوى من الغنائية التي تنأي عن التقريرية إلي مسلمات بنائية أخري تعتمد علي عناصر تعبيرية درامية, منها ما تجاوز الإشارة إليه من الاعتماد علي المشهد والمشهد الموازي له, والمدعم موضوعياً له " معادل موضوعي" وثانيها البناء الحواري, فالنص كله جملة حوارية واحدة إلي آخر صامت لا يرد, ومن ثم ـ وأمام صمت الآخرـ تحول الحوار الخارجي إلي منولوج في بعض المواضع, حيث بدا السارد وكأنه يتحدث إلي ذاته الأخرى المقتولة داخله, غير حتى الحوارية في حد ذاتها أتت محملة بالسردية التي هجرز علي نقل عناصر حكائية مترابطة في الزمان والمكان منذ بدايتها: " لنهارك الواشي/, تتبَّعني القطا/, وفرغت من آلاء أسلافي/, وجرَّرت المدائن والحصى/, حتى/, دققت الباب/, في زىَّ الغريب/, وغُنَّة المقتول/, كان الباب شبه مغلق/, فدلفت/, كنت ممدداً بجوار مدفأةٍ تتابع نقر/, عصفورين/, في قفصٍ علي الشُبَّاك/, قلت:/, أنا/, القتيل" صـ75 وثمة تفاصيل سردية كثيرة تعكس هيئة القادم ومعانته, ولذلك اتىت مطعمة بالتساؤلات الحائرة أمام صمت الآخر: " أليس يكفي/, حتى أدقَّ عليك بابك/, حشوعينىَّ البكا/, والرمل/, حشوقلبي/,ألف مدينةٍ خربانة.." صـ80 وإن كان السارد قد استرجع بعض التفاصيل " فلاش باك" عرض فيها لتفاصيل حالته أثناء المسير, وما كان يعتوره من مشاعر مترامية نحوهذا الصمت الآن:" عيناك غافلتا حدودى/, كانتا/, تتشربان الوقت/, أوتتصيدان/, هنيهتين بحجم مائهما المراق/, علي دمي/, ويدي/, وجلبابي/,وصمت غوايتي" صـ 80 اعتمد النص في بنائه علي تفعيلة الكامل في إطار التدوير الموسيقي الذي يسمح بتدفق البناء السردي كالسيل الذي يتحرك إلي الأمام مخلفاً وراءه نغمة ثابتة, وإن كان ما يدعم إيقاع التفعيلة هوالإيقاع الأشد خفاءً المتوالد في المشهدين ناتج من توالي الأفعال التي يقوم بها السارد والعصفورين" جرَّرت المدائن والحصي ـ دققت الباب ـ نقَّرت كتفك ـ طاردنى القطا " هذه الأفعال التي تنم عن إيقاع حركي يتسم بالقوة خفتت تماماً في نهاية المشهد ليتحول إلي سؤال شبه مكتوم ونبرة أسيانة" فمالك لا ترد , أصرت مقتولاً, أما يكفي قتيل واحد منا؟" إلي حتى كف الصوت تماماً وقد شَخُصت الأبصار: " فانزويتُ / , محدقاً في السقف/, والجدران/, والطيرين/, والأسياخ/,كان الوقت مقتولاً/, وكنتُ/, أنا وأنتَ/, بلا كلام" صـ81 وإن كان ثمة إيقاع مشهدي آخر اتى متوائماً بين حركتي السارد القادم بما يرسِّمه من حركة وبين حركة الطائرين اللذين يتفلتان من أسرهما إلي حتى استقرا أخيراً وقد باءت محاولتيهما بالفشل:" حلَّقا في السقف/,واصطدما بزركشةٍ لها شكل العشيقة والعشيق.." صـ79 ثم: " الطيْران منقارهما دميا/, وصوتهما تشرَّخ" .


وثمة ما يدعم الإيقاع التفعيلى إيقاع آخر ـ كمى أيضاً ـ اعتمد على التساوى الصوتى النغمى مثل :" فرغتُ ـ دققت " ـ" نقَّرتُ ـ جررت " وكذلك" لتُختتم الحكاية ـ لتُبتدأ القصيدة " وكذلك " دمى ـ يدى " ـ والجدرانِ ـ والطيرينِ ـ والأسياخ " وإن كان أيضاً ثمة نغمة صوتية ناجمة من التجنيس وتكرار بعض الحدثات والجمل وثمة إيقاع حروفى ناتج من تكرار كثير من الحروف المتجاورة مثل حرف القاف في :" محدقاً في السقف ـ الوقت مقتولاً ـ حلَّقا في السقف ـ دق بالمنقار بلا قصد ـ دققت الباب ، غنة المقتول ، شبه مغلق ، نقر ، في قفص ، قلت ، القتيل ". وفى نص " وارتدى دمى الشفيف " الذات المنقسمة على نفسها ، إذ تنتمى الأولى إلى عالم الحلم والرؤى ، بينما الأخرى مغموسة في نشع الواقع المتسلط المكبِّل لانطلاقة الذات وحريَّتها ، فيما بدت الأولى مشفقة على الثانية :" متى أتى /، ومرَّ من عساكر الدوريَّةِ الليلية /، لابساً زيى /، وراسماً /، على سمات وجههِ /، ملامحى .. " صـ66 ، بينما بدت الثانية كذاتٍ مطلقةٍ هائمة في عالم أحلامها :" ونام على سريرى /، فرحاً بشِباكِ حلمى /، حينما نصَّبتها /، كى أسقطَ المحبوبَ فيها .." صـ76 إنها إشكالية الذات الحالمة الشفيفة مع واقع صلد متجهم يملى عليها اشتراطاته هنالك ينتابها الشعور بالغربة والغثيان فتفر إلى أحلامها . لكأنها سقطت سهواً في عالم لا يخصُّها . ومن ثم تبدأ في الترامى نحوعالم أحلامها المثالى :" متى أتى هذا الغريب /، ضارباً/، في وقته العريان /، متروف الخطأ .." صـ76 تتضح من النص أوصاف الذات المتسائلة ، ومدى شفافيتها وعطشها إلى عالم أحلامها :" وارتدى دمى الشفيف / وجلدى الصادى .." صـ67

ثمة مساحة إذن من التلاحم بالذات في أسيانها وشعورها بالغربةِ ، وثمة فسحة من الحلم ، إذ تهرب الذات إلى فيافئ الروح ، متحررة من إسار جبلة هذا الواقع الصادم ، ومن ثم كان من المناسب حتى تنبنى التجربة تعبيرياً في شكل المونولوج الذي ينبنى بدوره عبر التساؤل المشف عن الغرابة والدهشة والتعجب ، وإن كان السؤال بـ" متى " لكأن جميع شئ تم خلسة في غفلةٍ من الزمن الذى تحيا فيه الذات حياتها الحقيقية ، ومن ثم كانت التساؤلات :" متى أتى هذا الغريب ؟" ،" متى أتى وفرَّ من عساكر الدورية الليلية ؟" ، ولعل من جماليات الخطاب أنه منح الأسئلة ، وهجر مساحة الأجوبة مسكونةً بالفراغ الفاغر فاه نحوهوة المجهول ، فلا أحد يعهد على وجه اليقين متى تم استلاب الذات ، ومتى تم نفيها في الغربة السادرة ، لكأن هذه الحياة ليست لها ، أولكأنها ليست لهذى الحياة .النصُّ ينطوى على صراع إذن بين نقيضين ينتميان إلى عالمين مختلفين وإن كان الصراع بينهما حول المسقط " السرير " كلاهما يطمح إلى راحة طويلة ، وفسحة في عالم الروح . ومن ثمَّ فالحركة وليدة الصراع تتشكَّل من الأفعال التى يقوم بها الغريب : ( أتى ـ مر ـ ارتدى ـ نام ..) حركة تتسم بكثير من الخفَّة والسرية والتوجس ، وإن كان العمل " يدق " يوحى بالرعب والفزع ، فدق الباب هنا بغرض الإحتماء من خطر مؤكد ، ثمة لهفة إلى لحظة آمنة هادئة ، وإن انطوت ـ رغم ذلك ـ علىالمغامرة والمخاطرة . تواءمت هذه الحركة مع توقيع لفظى يُرسِّم حركة هذا الغريب " راسماً ـ لابساً ـ واقفاً ـ ضارباً .." في جوإيقاعى آخر من تفعيلة الرجز . هذا الإيقاع حمل درجة غنائية النص واعطاه بعده الشجنى المؤثر .

أما بعد :

فقد كنا أمام نوع من السرد الغنائي أوالمحكى الشعرى والحلمى ، يتوزع بين الكتابة الشعرية بلزومياتها وكثافتها وموسيقاها ولغتها التصويرية والايحائية ، وبعدها الذاتى الوجدانى والشجنى والحلمى . وبين التخييل القصصى القائم على الوصف والاستحضار والتشخيص ، وما يترتب على ذلك من بناء قصصى له سارده وأحداثه وشخوصه في الزمان والمكان ، وما إلى ذلك من محادثة ومونولوج . لا ريب إنه توزع يستتبع مستلزماته من توتر اللغة التى تتوسل بالاستعارة والمجاز والإيقاع والرمز ، لتحتضن صورة الذات المشدودة إلى أقاصى الحلم والفهم ، والعشق ، والصبا .

لا شك كان السرد ناقلاً لجوانب مستترة في حياة الحاكى ، عبر وسيط سردى حلمى تحتشد فيه ذكريات الطفولة ، وكوابيس المشيب ، والأحلام المخيفة والرغبات الموؤدة ، وزخيرة لا بأس بها من الشعور بالموات والتلاشي والإحساس بالغربة والعجز والانقطاع ، وثمة طقس مسيج بالخوف وحصار الواقع الزاجر الصادم المتبلد ، ونفور من التسلط وكثير من مشاعر الأسى والحزن والإحباط ، والشعور باللا جدوى ، كُنَّا نستشعر وراء جميع ذلك بانطلاقةِ ذات صارخةٍ في وجه هذا الكون التعس الذى تمثل الحياة فيه أكذوبةً عريضةً ، لأن الشئ الحقيقى فيه ـ فيما يظهر ـ هوالموت وليس الحياة .

كانت النصوص في مجملها تحقق بالتعاضد بين مكوناتها الطابع الدرامى للتجربة بتوفرها على العناصر الأساسية للدراما والتى نعنى بها الإنسان والصراع ، وتناقضات الحياة ومفارقاتها . وما كان لهذا الواقع الدرامى حتى يبرز لولا توفر العناصر التعبيرية اللازمة له والتى نعنى بها الأسلوب القصصى والتقابل بين الصور والتوازى فيما بينهما ، وما إلى ذلك من الحوار والمونولوج وبقية العناصر السردية . وفيما تقهقر الإيقاع الخليلى عن الظهور والضغط على حس المتلقى ، بدا في كثير من النصوص جزءاً من التعبير عن التجربة شكلا عنصراً من عناصرها دعمَّه في بعض النصوص إيقاع الحركة والمشهد . وفى بعض النصوص كان كخلفية تجرى الأحداث بمصاحبتها ، وليس أمامها . وإن كان قد نأى عن حتىقد يكون حليَّة تجميلية إلا أنه كان دائماً بعداً جمالياً مدعماً للشعرية .

لقد كان السرد عن طريق المونولوج ـ على قلَّته ـ مشخِّصاً للفكر الداخلى للحاكى وشفافيته ، كما كان فرصةً لرصد الحياة الجوانيَّة للحاكى ، وسبر عوالمه النفسية والوجدانية والشعورية . كما كان الوصف فرصة لتشخيص العالم التخييلى للخطاب الشعرى الغنائى ليمدنا بأهم ما يميز هذا العالم من خصوصيَّةٍ مشفةٍ عن اتجاهات الذات النفسيَّة والرؤيويةِ ، فلم يكن الوصف لمجرد الوصف ، وإنما كان وسيطاً جمالياً بيننا وبين عالم داخلى يتوسل بالوصف ، ليعلن عن تحيزات الذات أونفورها وإن كان الوصف في كُلٍّ فرصة لاستبطان مادية الأمور والشخوص .

وبالطبع والضرورة معاً كان لابد حتى نستعرض إشكاليات هذا النوع من الكتابة الشعرية ، وبعض إخفاقات شاعرها ، فتوقفنا عند بعض النصوص التى خفتت فيها حدة الغنائية مثل نص " سامرة الحى " كما توقفنا عند بعض النصوص الأخرى التى بدا فيها الشاعر متورطاً في كتابة سيرة لذات السيرة ، مثل نص " حين جا وأشعل الحريقة " وإن كان مثل هذا النص محملاً بالشاعرية إلا أنه خلى من الشعرية ، ومن النصوص الأخرى التى بدت متهافتة نص " أنت أيضاً لم تجب ولم تفرح " لقد كان فقراً فنياً ، فيما بدت لغته أحادية وخطابية ثقيلة الخطووالسقط ، تحمل كثيراً من دلائل تشتتها خارج أى إطار فنى ، ومن النصوص الت بدت متهافتة أيضاً نص " فخطت فوق الإسفلت " الذى نأى عن السردية الغنائية وسيطرت عليه الذهنية المجردة وإن حاول حتى يتجمَّل ببعض الاستعارات البسيطة . وفى نص " وكان متعباً جداً من كثرة التجوال " تتجسد رتابة البناء الأفقى وتضمحل ملامح الشعرية خلف عملية السرد المهموم بالتافه من التفاصيل التى بدت بلا قيمة .

تحتم بالضرورة حتى ننوه عن وضعة السادر المطمئن التى كانت سبباً في مجافاة السردية الغنائية , فبجانب خفوت البعد الوجدانى في بعض النصوص كان أيضاً السارد المطمئن صاحب اليقين السردي سبباً آخرفى خفوت الغنائية أوانعدامها. هذا السارد المطمئن كان صاحب حضور مطلق الفهم بما يَقُصّ , في الوقت نفسه كان نائياً بنفسه عن حالة القلق الشعرية , ومفارقات التواصل أوالتباس الأمور , هوقادر على رصد الأحداث وتطورها متورط في حكى قصصى بلا فضاء , ومن ثم نأت الشعرية التى تسمح له بإضفاء البعد الغنائى على النص. وأخيراً تمنياتى لشاعرنا الغائص في هذا الخضم الشعرىالبكر حتى يستمر في دفق شعريتة إلى آفاق الوجود الإنسانى , وأن يستمر في حضوره كشاعر متميز ومخلص لعملية الكتابة ومسيرة التواصل

الهوامش والمراجع :

1- د . عزالدين اسماعيل – الشعر العربى المعاصر – طخمسة ص 260 -المخطة الأكاديمية –القاهرة –1994م

2 – السابق ص275


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


شاعـريه الحياة في { أحوال الحاكي للشاعر السمّاح عبد الله

بقلم : السيد رشاد


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


السمّاح عبد الله شاعر نجح في حتى يؤسس لنفسه مكانة خاصة من خلال تميزه إبداعيا تأكدت فترة بعد اخري عبر دواوينه الاربعه‏:‏خديجه بنت الضحي الوسيع‏(88),‏ مكابدات سيد المتعبين‏(92)‏ الواحدون‏(98)‏ وصولا الي ديوان احوال الحاكي الذي صدر حديثا عن سلسله كتابات جديده التي تصدرها الهيئه العامه للكتاب في مصر‏

احوال الحاكي ديوان يفرض علي من يحاول الدخول الي عالمه الشعري‏,‏ منطقا خاصا‏..‏ هوضروره التعامل مع قصيدته عبر فهم والتواصل مع تلك الثنائيه التي تعتمد عالم هذه القصيده‏,‏ والتي تتطلب بالضروره‏(‏ خصوصيه‏)‏ الحاكي الذي لابد ان يحكي الي محكي له‏..‏ فيما يظهر وكأن تلك القصيده تطرح تجربتين شعريتين في ذات الآن‏,‏ لكل واحده منهما صوتها الخاص‏,‏ لكنهما معا يمتزجان في سمت شعري واحد‏ .

وقد نجح الشاعر تماما في نسج خيوط تجربته‏,‏ واستيعاب تناقضاتها ومن ثم صياغتها في حيز شعري لا يفارقه امتزاجه مهما كانت تحيط به التناقضات‏,‏ واللافت ان الحاكي في تلك الثنائيه‏,‏ وعبر هذا النسيج لا يبوح للمحكي له عبر نسق نكوصي فالاخير يتجلي متكا شعري‏,‏ اومخاطبا مفترضا‏,‏ وهوفي الاغلب الاعم‏,‏ صوره ـ واضحه اومبهمه ـ للانا الشعريه‏ .

وجهه المستعار

...........................

اتىني منذ يومين‏

نقر‏

بابي

وحوّط مارسمت مقلتاي من الحلم‏‏

بالقلم الحبر‏

حتي تضيّق حلمي‏‏

وصار علي قد خطوته المستعده

للعدو

حين يحين الفرار‏

من الظواهر اللافته ايضا في قصائد احوال الحاكي هي ارتباط شاعريتها ـ الذي يجيئ في نطقب تفعيلي رائق ـ بتداعيات الشاعر الخاصه‏,‏ وكانه يخط يرسم مذكراته الشخصيه بكل خصوصيتها وبرائتها والامها‏,‏ وصداماتها‏,‏ وهي خصوصيه احتلت مساحه رحبه في معظم القصائد وهي وان نجح الشاعر في جعلها تتقاطع ـ ولا تتوازي ـ مع حاله الثنائيه التي اعتمدت الديوان‏,‏ مما اتاح لقصائده ان تنجومن شرك وجود نصين متوازيين داخل القصيده الواحده‏,‏ وهوالامر الذي كان حتما سيسبب ارتباكات‏(‏ ما‏)‏ علي مدار حاله التلقي بابعادها الثلاثه‏(‏ الشاعر ـ النص ـ المتلقي‏)

وتاسيسا علي الظاهرتين السابقتين اتىت الصوره الشعريه نتاجا للتاثر بهما‏..‏ فكانت صوره دقيقه‏,‏ متراكبه‏,‏ تعني ـ في المقام الاول ـ بعمقها الخاص‏,‏ بعيدا عن الانغماس في العوالم الذهنيه المجرده‏,‏ وقد ساعد علي ابراز هذه الخصوصيه‏,‏ استخدام الشاعر لقاموس لغوي متميز‏,‏ يكرس اهتمامه الاول علي تشكيل الصوره الشعريه المعبره‏,‏ بعيدا عن الانهماك في التعبيرات الغامضه والعوالم الذهنيه المجرده‏,‏ وفي السياق ذاته يحرص الشاعر علي انسياب ايقاعه الخاص الذي تصنعه موسيقي القصيده‏,‏ لا بالمعني السطحي للايقاع من حيث كونه وسيله صوتيه غنائيه‏,‏ لكن باعتباره رويا تعتمد فضاء الشعر‏,‏ الذي ينطلق فيه الشاعر‏-‏ الانسان مجردا الا من شاعريته‏.‏

وتبقي قصيده ‏««‏السماح عبد الله‏,‏»»‏ قصيده تنادي تفاصيل الحياه لتاخذ مكانتها اللائقه بين سطورها‏,‏ وهي بدورها قصيده تاخذ حصتها كامله من ذلك اليومي والعادي حتي لوكان قابعا في زوايا الذاكره لتحيله الي شعر لشاعر تشكل شاعريته معادله الموضوعي للحياه

تاريخ النشر: 2020-06-04 15:35:13
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

قسنطينة: انحراف سيارة أجرة يخلف قتيلا و 4 جرحى بواد حميميم

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:13
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 64%

المطاعم والمقاهي في السعودية تجني 3 مليارات ريال خلال أسبوع

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:12
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 86%

قصف صاروخي لحقل للغاز في شمال العراق

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:14
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 91%

«الشرق الأوسط» تكشف قصة تسمية «نيوم» بين 2000 مقترح

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:11
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 97%

العثور على جثة أستاذ متقاعد معلقة يستنفر الأجهزة الأمنية!

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:23:39
مستوى الصحة: 62% الأهمية: 85%

جدل مصري حول بث «الإعدام» على الهواء

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:19
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 96%

السعودية وتايلند تبحثان التعاون في مجال الطاقة

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:19
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 85%

خطة حكومية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج القمح

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:16
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 62%

«الإطار» يرشح السوداني لرئاسة الحكومة العراقية

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:20
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 86%

تفكيك شبكة إجرامية أنشات ورشة سرية لأجهزة “جيروفار”

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:20
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 60%

أول رئيسة للهند من عرقيات السكان الأصليين تؤدي اليمين الدستورية

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:20
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 98%

«الصحة»: 3 حالات إصابة بجدري القرود.. جاءت من أوروبا - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:26
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 70%

مدينة متعددة الطبقات... «ذا لاين» تركز على «انعدام الجاذبية»

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:10
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 88%

جمال سجاتي: أستهدف التتويج في أولمبياد باريس

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:08
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 66%

سوناطراك تحقّق 3 اكتشافات غازية ونفطية جديدة

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:05
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 70%

لجنة تحقيق الرؤية والتحول الوطني تناقش مهامها - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:26
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 51%

موسكو تعلن تخفيضاً جديداً في تدفقات الغاز إلى أوروبا

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:24:18
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 90%

إيران ترفض تشغيل كاميرات المراقبة بالمنشآت النووية خارج إطار

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-07-25 21:23:31
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 70%

تحميل تطبيق المنصة العربية