السمان والخريف (رواية)

عودة للموسوعة

السمان والخريف (رواية)

السمان والخريف
المؤلف نجيب محفوظ
البلد  مصر
اللغة العربية
الصنف الأدبي رواية
الناشر
الإصدار 1962

السمان والخريف، هي احدى روايات نجيب محفوظ، نُشرت عام 1962. يصور نجيب محفوظ في روايته السمان والخريف الواقع تصويرا أمينا وخلق من بطل الرواية شخصية حية تحي حياة كاملة تجيش بالعواطف والرغبات، ظلت تتعايش مع عقود من أزمنتنا منذ صدور الرواية عام 1962، وجسدت شخصية بطل الرواية، عيسى، شريحة اجتماعية برزت في مجتمعات ما بعد التغيير متماثلة في السلوك الاجتماعي والنفسي . كانت في يوم ما – كماشة النار – في أيدي السلطة الحاكمة اوالحاكم الفرد، أداة جلاّدة. وقمعية من هنا تكمن قدرة الإبداع في استجلاب واختيار النموذج الى فضاء الإبداع في الأدب الروائي عند نجيب محفوظ، نموذج بسمات إنسانية عميقة التداخل والتناقض انعكست عليها ظروف ما بعد ثورة 23 يوليو1952، لتتجاوز ظرفيه زمانا ومكانا.

فعيسى نموذج لشريحة تشعر بأنها زائلة، بلا انتماء ومأزومة العيش بفضاء يتضاءل شيئا ً فشيئاً، مع تلازم الإحساس بالألم نتيجة للإحساس بالذنب جراء ما ارتكبت من خطايا بحق مواطنين.

حبكة الرواية

إن الصورة المحلية للسيرة هي أزمة عيسى، الحزبى القديم الذى تلوث ولم يستطع حتى يتلاءم مع العالم الجديد لأنه من الجيل الزائل، ولكن هذه الصورة تخفى وراءها الجانب الكامل الإنسانى العام. فبطل السيرة يعانى مأساة السقوط والخطيئة. لقد أخطأ فسقط، كما أخطأ آدم وسقط من الجنة، وأصبح عليه حتى يلتمس طريقًا للخلاص من خطيئته ولومن خلال الألم والعذاب. إذا بطل السيرة قد أخطأ خطيئته الكبرى وفقد بساطته وطهارته، وهويقول عن نفسه وحزبه:

«كنا حزب المثل الأعلى، حزب التضحية والفداء، حزب النزاهة المطلقة، حزب: كلا ثم كلا أمام المغريات والتهديدات.. فكيف أدركت روحنا الطاهرة الشيخوخة، كيف من الممكن أن تدهورنا رويدا رويدا حتى فقدنا جميل مزايانا ،يا ترى؟ ها نحن نقلب أيدينا في الظلام، يملؤنا الشجن والشعور بالإثم فوا حسرتاه.»

فالسيرة في حقيقتها سيرة الإنسان الذى أكل من التفاحة المحرمة، سيرة الإنسان الضائع الذى سقط في الخطيئة وأسلمته الخطيئة لعذاب كبير، فقد خرج من جنته السعيدة التى ظنها دائمة أبدية خالدة.. خرج إلى حياة أخرى أصبح فيها منفيا زائدا عن الحاجة، لا دور له.. يقول عيسى عن نفسه وعن زملائه: «مع أى عمل سنتخذه... سنظل بلا عمل، لأننا بلا دور، وهذا هوسر إحساسنا بالنفى كالزائدة الدودية .»

ولذلك فهويحلم بالهجرة، إنه يريد حتى يهجر منفاه إلى عالم آخر. لعله يجد له دورًا في الحياة. لعله ينتمى إلى شىء، وتطمئن روحه، ويتخلص من «موت الأحياء » الذى هوأفظع ألف مرة من «موت الأموات ».. وهويصارح نفسه بالحنين إلى الهجرة التى ترمز رمزًا قويًا إلى الرغبة في الخلاص من المأساة التى يعيش فيها: «تمنى يوما لوكان للمصريين كما لغيرهم جالية في أمريكا الجنوبية ليهاجر إليها.. ونطق ساخطا إذا المصريين زواحف لا طيور، وراوده حلم بتغيير جذرى في حياته، ولكنه لم يكن يعمل سوى العبث .»

هذه هى المأساة الوجودية التى يعيش فيها البطل، أوهذا هوجوهرها: الغربة والضياع والانفصال عن الواقع والرغبة في الهجرة من هذا الواقع الذى أصبح منفى للإنسان. على حتى نجيب محفوظ لا يقف على سطح هذه المأساة الوجودية، بل يندفع إلى أعماقها ويصورها تصويرا مثيرا في عدد آخر من المواقف، على رأسها موقفان عنيفان يؤكدان المعنى الوجودى لهذه المأساة.

أما الموقف الأول فيتضح أمامنا عندما يصرخ البطل في داخله، ومن خلال مرارة الشعور بالوحدة، قائ لنفسه: «ما أحوجنى إلى مسكن ». إنه الشعور بالحاجة إلى الانتماء، بالحاجة إلى التخلص من «العراء الروحى »، هذا العراء القاسى الأليم الذى يعانيه الإنسان عندما لاقد يكون له في الحياة فكرة أوهدف أودور يقوم به عن وعى واقتناع، عندما لاقد يكون منتميا إلى شىء ما.. عندما تصبح حياته مجرد انتظار للموت. ومن الحقائق ذات الدلالة العميقة حتى الشعور بالحاجة إلى مسكن عند بطل «السمان والخريف » هونفسه الشعور بالحاجة «إلى المسكن » عند بطل سيرة «اللص والكلاب.

فعيسى بطل «السمان والخريف » وسعيد مهران بطل «اللص والكلاب » يبحثان عن مسكن، ويشعران بأنهما ضائعان حقا ما داما لا يجدان هذا المسكن.. ألا يوحى إلينا هذا الموقف إيحاء واضحا بأن نجيب محفوظ إنما يرمز بالمسكن إلى حاجة الإنسان إلى هدف يطمئن إليه، وقاعدة في حياته الروحية يستند عليها، إذا المسكن المفقود فى الروايتين هورمز الأزمة التى يعانيها الإنسان الوحيد.. اللامنتمى.

أما الموقف الآخر الذى يكشف لنا عن أزمة الإنسان في صورتها الجديدة كما يتصورها نجيب محفوظ فهوحتى ابنة عيسى بطل «السمان والخريف » تنكره لا تعهده، وهذه هى نفسها الأزمة التى عاشها من قبل سعيد مهران بطل «اللص والكلاب » فابنته أيضًا تنكره ولا تعهده، بل وتخاف منه.

وهذا المعنى الإنسانى الكبير ليس هوالمعنى الوحيد الذى تحتمله هذه الصورة المفزعة، فهناك معنى آخر كثيرًا ما نقرأه بين السطور في أعمال نجيب محفوظ الأخيرة، بل إذا هذا المعنى بالذات له جذور في أعماله الأولى، ذلك هوحتى التطور رغم أنه حركة إنسانية كثيرًا ما يحمل في طريقه آلامًا عنيفة، فإنكار الابنة للأب يمكن حتىقد يكون تعبيرًا عن آلام التطور ومآسيه، حيث ينكر الجديد القديم. وخاصة في تلك المراحل العنيفة للتغيير والتطور. والقرن العشرون من أبرز مراحل التغيير في تاريخ الإنسان، بل يكاد نجيب محفوظ يعبر تعبيرًا مباشرًا عن هذا الجانب العنيف للتطور عندما يقول عن بطل «السمان والخريف :»

«أيقن الآن أنه قضى عليه حتى يعانى التاريخ في إحدى لحظات عنفه حين ينسى وهويثب وثبة خطيرة مخلوقاته التى يحملها فوق ظهره فلا يبالى أيها يبقى وأيها يختل توازنه فيهوى .»

هذه هى وثبة التاريخ.. وهى الوثبة التى يمكن حتى تساهم في تفسير هذه الصورة التى تعيش في وجدان نجيب محفوظ بعنف والتى صورها لنا في «اللص والكلاب » و«السمان والخريف » معًا وهى إنكار الابنة لأبيها أوإنكار الجديد للقديم بعنف وقسوة. ولا أعهد رمزًا أكثر عنفًا لمأساة الإنسان من هذا الرمز الذى يتجسد في صورة إنكار الابنة لأبيها.

هكذا يرتفع نجيب محفوظ ليصور لنا مأساة إنسانية عامة تستمد جذورها من واقع مجتمعنا وظروفه. ولكنها تعلوبعد ذلك إلى مستوى الإنسان في جميع مجتمع آخر... وفى هذه «المأساة الإنسانية » يقترب نجيب من التناول الوجودى لمأساة الإنسان دون حتى يغرق في رمزية «الغريب » لألبير كامى مثلا، فما زال بين نجيب محفوظ وبين الواقع رباط قوى، ومن هنا أعتقد حتى تعبير «الواقعية الوجودية »، هوأقرب تعبير لتصوير هذا الاتجاه عند نجيب محفوظ.

ومما يساعدنا على كشف هذا الاتجاه الوجودى عند نجيب محفوظ أيضا أنه يستعمل التعبيرات الشائعة في الأدب الوجودى مثل «المنفى » و«العبث » والإحساس بأن الإنسان «زائد عن الحاجة في هذا العالم » وهولا يستعملها كألفاظ عادية، بل يستعملها بنفس العمق الذى نحسه في الأدب الوجودى الأصيل. على أننا نلاحظ حتى نجيب محفوظ في أعماله الأخيرة يهتم بالتصوف... ففى «اللص والكلاب » نجد الشيخ الجندى، وفى السمان والخريف نجد «سمير» وكلاهما قد لجأ إلى التصوف كمأوى روحى يجعل آلام الحياة ومشاكلها محتملة وسهلة، ولم يكن نجيب من قبل يعنى بالتصوف جميع هذه العناية، مما يؤكد اتجاهه إلى الاهتمام بالمشاكل الإنسانية الكبرى. إنه يهتم بمشكلة «الإنسان والعالم » لا «الإنسان والمجتمع » فقط.

وفى السمان والخريف من الممكن لأول مرة في أدب نجيب محفوظ يلتقى البطل في النهاية مع صوت يدعوه حتى يتخلص من أزمته وورطته. وأن يحاول التغلب على جرحه وعجزه الوقوف على قدميه، إنه صوت الأمل، وصوت التقدم. ويحاول البطل في السطور الأخيرة حتى يلحق بهذا الصوت الذى يعمل على بعثه من العدم، وانتشاله من حفرة العجز واليأس.. ويبدوهذا الصوت كأنه حلم، أوكأنه نوع من الإلهام الداخلى العميق.. وما كان نجيب من قبل يهتم بالأحلام وما كان يهتم بالإلهام الداخلى.

«نطق عيسى للشاب المجهول:
ألا ترى حتى الدنيا كلها مملة؟
ليس عندى وقت للملل. ماذا تعمل إذن؟
أعابث المتاعب التى ألفتها وأنظر إلى الأمام بوجه مبتسم رغم جميع شىء حتى افترض بى البله.

وما الذى يدعوك إلى الابتسام؟
فنطق الشاب بلهجة أكثر جدية:

أحلام عجيبة، ما رأيك في حتى نختار مكانا أنسب للحديث؟
فنطق عيسى بسرعة:

آسف الحق أنى شربت كأسين، وأرغب في الراحة.
فنطق الآخر بأسف:

أنت تود حتى تجلس في الظلام تحت تمثال سعد زغلول.
ولم يجب عيسى بحدثة فقام الآخر وهويقول:
أنت لا ترغب في حديثى فلا يجوز حتى أزعجك أكثر من ذلك.
وتحول عنه ماضيا نحوالمدينة.

وتابعه بعينيه وهويبتعد، ياله من شاب غريب؟
ترى ماذا يعمل اليوم،يا ترى؟ ولماذا ينظر إلى الأمام بوجه مبتسم؟
وظل يتابعه بعينيه حتى بلغ آخر الميدان. لم يكن سيئ النية كما توهم، ولم يقصده بسوء. فِلمَ لم يشجعه على الحديث،يا ترى؟ ألم يكن من الممكن حتى يستعين به على مغالبة الملل في هذه الساعة من الليل،يا ترى؟ وألم يكن من المحتمل حتى يجرهما الحديث إلى شىء مشهجر تطيب به السهرة؟

ورآه وهويختفى متجها نحوشارع صفية زغلول. ونطق لنفسه أستطيع حتى ألحق به على شرط ألا أضيع ثانية في التردد. وانتفض قائما في نشوة حماس مفاجئة. ومضى في طريق الشاب بخطى واسعة تاركا وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظلام .»

ولعلنا نلاحظ في هذه الصورة التى يرسمها نجيب محفوظ معنى الجلوس في الظلام تحت تمثال سعد زغلول، فالبطل متمسك بالماضى متعلق به، فهووفدى في عالم لم يعد للوفد فيه مكان ولا دور، إذا البطل يحن إلى الماضى حيث كان شيئًا في الحياة وحيث كان له دور وآمال وتطلعات، إنه يحاول حتى يتعلق بخيوط الماضى الرفيعة لعلها تعطيه من ذكرياتها بعض الدفء وهوغارق في أزمته. ولكنه في اللحظة الأخيرة ينتفض من مكانه ويحاول حتى يتابع الشاب المجهول، وهذا الشاب هومناضل يسارى.

هكذا يرتفع نجيب محفوظ من تصوير بيئة معينة إلى تصوير الإنسان من خلال البيئة، من الجزئيات والتفاصيل إلى الأمور الكلية العامة، من المحلية إلى الموضوعات والقضايا العالمية، من «الواقعية الطبيعية » إلى «الواقعية الوجودية .»

ونجيب محفوظ ينتقل إلى هذه الفترة الجديدة وقد استعد لها استعدادًا واضحًا فقد أصبح أسلوبه مليئا بالندى الشاعرى الحلو، بعد حتى كان جافا موضوعيا قاسيا. وأصبحت كتابته ذات موسيقى داخلية تتسرب إلى روحك تسربًا عميقًا، وتشعرك حقًا حتى الفنان الذى كان يتحدث عن الإنسان في مصر فقط أصبح يتحدث عن الإنسان فى العالم.


أحداث الرواية

رواية السمان والخريف. لتحميل الرواية، اضغط على الصورة.

عيسى الدباغ قلب تلك الرواية، موظف بدرجة لا بأس بها حيث بات اقرب ماقد يكون من الترشيح لوكالة الوزارة، وكان مسؤولاً سياسياً صغيراً، فجمع بين المظاهرات والسجون، السياسة والإدارة، بعد ماضٍ نضالي في الحزب، لكنه عنيد صموت، وفدي، (نسبة إلى حزب الوفد برئاسة سعد زغلول آنذاك)، يعيّن العمد لقاء إتاوات ورشاوى، ويشهجر في التحقيق والتعذيب مع - وطنيين آخرين-، حتى الصباح. ثم ها هوذا يتلقى أول صفعة بنقله إلى وظيفة أدنى شأناً حين خرج حزبه عن منطقيد حكم البلاد على اثر مسقطة القتال غير المتكافئة بين الشرطة المصرية والانكليز وسقط الكثير من الضحايا المصريين وحدوث حريق القاهرة، ليتلقى الصفعة الثانية بإحالته على التقاعد بعد الإطاحة بالنظام الملكي على أيدي الضباط الأحرار عام 1952 ويتم التحقيق معه في لجنة التطهير التابعة للوزارة وتثبت إدانته باستغلال النفوذ وتورطه في أعمال التعذيب، وعيسى الذي اعتاد حياة المطاردة والسجن والضرب، ما أهون عقاب اليوم عليه، لم يأبه وكان ينظر نظرة تفاؤل، رغم إدراكه انهيار تنظيمه الحزبي كأنه الغبار، وصعود تنظيم عسكري صغير داخل الجيش ليحتل السلطة ويبدأ عملية تغيير شاملة في السلك الإداري للدولة وفي المجتمع ككل.

إن نجيب محفوظ وهويرمي بتلك الشخصية في أحداث فترتين متناقضتين، فترة ما قبل -تغيير- الملكية في مصر والفترة التي بعدها ومحاولة اجتثاث مخلفات نظامها، كان يدرك مدى سلوكها الاجتماعي والنفسي، وقد أتقن خلقها، خلقاً لا خوف عليها من الغرق أوالذوبان أوالتلاشي في العدم في خضم فترة ما بعد -الثورة- ولا خوف إذ تناقضت مع متغيراتها. فالبطل لم يكن باحثاً اومثقفاً كبيراً بل كان حزبياً -حركياً- فكانت ردود أفعاله لا تعدوكونها ملاحظات صغيرة الأحداث والمتغيرات، لهذا لم تكن له القدرة على قراءة الفكر والواقع بعمق... ان الأحداث تتوالى من دون حتى يقدر على التأثير فيها، فلا يجد سوى حتى يمضى إلى (سراي شكري باشا عبدالحليم)، وهواحد قيادات الوفد لكن (شكري باشا) كان حسب تحديد بطل روايتنا: (هذا الشيخ الذي هبط نشاطه في مخطه إلى الحد الأدنى، والذي لم يعد له من عمل حقيقي سوى نشاطه باللجنة المالية بمجلس الشيوخ)،. ويقول شكري باشا: (قل في هذا اليوم ما شئت، أين الوزير؟... لا احد يدري،يا ترى؟ أين البوليس،يا ترى؟ لا احد يدري،يا ترى؟ ابن الجيش؟...) يبدأ المحرر بتعرية شخصية البطل والكشف عنها بسعة كبيرة ومتعة راقية. عندما يشتد ضغط الواقع الجديد عليها. فالآن عيسى محاصر. وقد أحيل على التقاعد، وهجرته خطيبته الثرية -ابنة علي بك- إلى غير رجعة -.. غدا غريباً في مدينته الكبيرة، تسيطر عليه الدهشة والعجب، إزاء تقوض أركان تنظيمه، والنظام الملكي الذي استمر يقاوم الدهر لربع قرن من الزمن، نراه يراقب الآخرين وسلوكهم بحثاً عن منفذ لإدراك الشبه أوالتناقض بينه وبينهم، اويجلس وحيداً، مع آخرين يناقشهم في أرائهم في -الثورة- والمتغيرات التي استجدت. مختلفاً معهم وعنهم، ليبحث عن مخرج، لمساحة أوسع له. ويأسف لان المنجزات التي تحققت، لم تتحقق على أيديهم، هم، وهم بذرة الثورة الأولى!، حسبما يعتقد فحين قام (جمال عبدا لناصر) بتأميم قناة السويس شعر عيسى بالفخر، وعندما بدأ عدوان عام 1956 وأُجبر العدوان على الانسحاب والتوقف. وقف كلية مع (الثورة) ليصبح الآن عقلاً مع _الثورة- وقلباً مع الماضي. ورغم هذا لم يفقد الأمل في إيجاد منفذ للفكاك من التناقض الشائك في موقفه تصالحاً مع الحاضر أوتناقضاً معه وعدم قبوله نهائياً، فكان الهروب وممارسة الجنس ولعبة النرد والقمار مع العاطلين من أمثاله، أوالتسكع والتغرب، يهجر مدينته، ملتجأ الى الإسكندرية، غريباً بين غرباء. ثم زقابل من (قدرية) ذات الأربعين عاماً. دروباً ملتوية خاوية يدلف إليها، وهنا في الإسكندرية يتعهد إلى (ريري) عاهرة، ليكتشف جوانب شبه بينهما مثلما يرى، فكلاهما ضحية الواقع، الجديد، لكنه يطردها حينما تخبره بأنها تحمل -شيئاً منه- في أحشائها- فيزداد تقززه ونفوره، لأنه غير واثق من قدرته على الخلق! والتأثير ولأنه لا يريد ان يضيف شيئاً لهذا الواقع الجديد الذي رماه في الشارع وعطله أيضا.

إن الروائي المبدع الراحل لم يملّ- إذا جاز لي التعبير- من بقاء بطله يدور ويدور في دوامة الضياع والرفض، ليبقى نموذجاً مبهراً في صراعه مع التحديث والتغيير. في حين تكشفت مواقف أقرانه الوفديين- وهم يتفسخون نتيجة لمراوحتهم بلا فاعلية، في فضاء اتهم التي طمرها التحديث، فشخصية (سمير عبدا لباقي) تتجه نحوالتصوف)، حيلة هروبية انتمائية، تعطيه إحساسا موارباً بالانتماء. و(إبراهيم خيرت) يحمل على الحزبيين بمنطقاته في الصحف، اي على الوفد خاصة، ثم ينافق بأنه مازال وفدياً! وان رجال الوفد موجودون في مجالس إدارات الشركات، أما شخصية (عباس صديق) فشخصية متمارضة منكفئة.

الواقع الجديد بالنسبة إلى (عيسى) امرأة أخرى ترفضه (( وهي رؤية الروائي في حتى الأنثى هي الوطن والسلطة هي الأنثى))، فلم يأبه بشيء وحدثا يجد نفسه في تماس معه ذهنياً يجد نفسه مقعداً ومرهقاً، مرهقاً كلياً، فيبقى عنيداً في حتى لا يعمل أي شيء لهذا الواقع وستبقى ذكرى (ريري) مرّة ومخيفة في دواخله المضطربة تتبعه بمصادفة وبدونها فيهرب.

ويستشعر حنيناً خفياً إلى ابنة (ريري) غير إذا ريري ترفضه الآن وابنته بلا مشاعر نحوه كأب يقول لريري:

- إنني أكاد حتى أجن يجب حتى تتحدثي هي ابنتي؟

ترد عليه (ريري) :ابعد عن وجهي، أنت أعمى ومجنون ويجب ان تختفي ويقول له العرّاف:

- (ستغرق في بحر..... وسيختفي)

لجوءه للعراف ليس هروباً فحسب بل للبحث عن وسيلة للاطمئنان على غده المجهول ، عَجَزَ هوعن استبصاره حين عجزت جميع سبله ووسائله عن معهدته، إنها الوسيلة الأضعف لكي ينعُمَ بالاستقرار.

يقول (عيسى):" الموتُ أهون من الرجوع للوراء! وأحيانا أقول لنفسي لان تظل بلا دور خير من حتىقد يكون لك دور في بلد لا دور له..."

إن جلوس – عيسى - تحت تمثال سعد زغلول يعطي انطباعا بتمسكه بماضيه وتعلقه به.. وليبقى وفديا حيث لا دور ولا مكان لحزب الوفد ،الآن ، في حين كان له دور مؤثر ولبطل الرواية تطلعاته وآماله ..جلوسه تحت التمثال يمنحه إمكانية ألامساك بخيوط ماضيه الواهنة وسخونة ذكريات تبتعد لتتلاشى ، ليبقى غارقا إذن في أزمته.. أخيرا يسطع ضوء في خضم ظلمة دواخله القلقة لأول مرة، في حياته بعد- الثورة- ليستحيل الماضي ومطاردته له من حزن وأسف عليه إلى البحث في تفاصيل الواقع المتغير باستمرار، عن جانب جدي لهجرة الحزن والأسف. فيقابل شاباً يعهده (عيسى) حيث حقق معه، حتى الصباح، في العهد الملكي غير ان الشاب سرعان ما يلوذ عنه ويهجره في وحدته مجدداً، بعد مناقشة بينهما!!، يختفي الشاب مغادراً شارع (صفية زغلول).

يحدّث عيسى نفسه:

(أستطيع حتى الحق به على شرط حتى لا أضيع ثانية واحدة في التردد)

يتبع الشباب تاركاً وراءه تمثال (سعد زغلول ومجلسه الغارق في الوحدة والظلام).......!!!

نقد أدبي

يقول المحرر راتى النقاش عن الرواية: بعد حتى أصدر نجيب محفوظ ثلاثيته «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية » كنتمن الذين يعتقدون حتى نجيب محفوظ انتهى وأدىرسالته، ولست أدرى بالضبط من أين اتىنى هذا الاعتقاد، ولكنه على أى حال كان اعتقادًا يعيش في حياتنا الأدبية كما تعيش «الإشاعة القوية ».. بل ما زال هناك من يقول بهذا الرأى إلى الآن. أما أنا فقد تغير هذا الاعتقاد في نفسى منذ حتى بدأت أتابع إنتاج نجيب محفوظ بعد الثلاثية، لقد أدركت حتى شيئًا جديدًا يولد في قلب هذا الفنان وعقله، وأن هذا الشىء آخذ الظهور يوما بعد يوم في أدبه. ولم يكن هذا الشىء الجديد واضحا أمامى عندما قرأت روايته اللص والكلاب ولكنه ازداد وضوحًا ودقة بعد حتى قرأت روايته التالية السمان والخريف.

لقد تطور نجيب محفوظ في أسلوبه وتطور في نظرته إلى الحياة وموقفه منها. ولم تعد الحدثات عنده تحمل معنى واحدًا محددا كما كان الأمر في إنتاجه القديم. بل أصبحت حدثاته تعكس كثيرًا من المعانى في النفس، كأنها حدثات شعرية مليئة بالظلال والإيحاءات، وذلك كله على عكس أسلوبه القديم الذى كان في معظمه أسلوبا تقريريًا خاليًا على التقريب من روح الشعر. على أننى أود حتى أتناول هنا نقطة رئيسية في تطور نجيب محفوظ، راجيا حتى تكون مظاهر التطور الأخرى مجالا للدراسات التالية. هذه النقطة الرئيسية هى حتى نجيب محفوظ قد انتقل من النزعة الطبيعية التى سيطرت على إنتاجه حتى الثلاثية إلى شىء حديث لا أجد اصطلاحًا نقديًا ينطبق عليه بدقة، ولكننى سأسمح لنفسى بأن أسميه باسم «الواقعية الوجودية » وهذا التطور من الناحية الفنية قد حمل معه تطورا آخر يسير إلى جانبه وينبع منه. فقد انتقل نجيب محفوظ من المحلية وبدأ يخطوخطوات أولى في طريق المشكلة الإنسانية العامة وبعبارة أخرى بدأ يسير في طريق «النزعة العالمية .»

ولنقف قليلا لنتأمل بوضوح أكثر معنى هذا التطور. فالفترة الأولى في أدب نجيب محفوظ والتى انتهت بظهور الثلاثية هى الفترة التى التزم فيها نجيب الاتجاه الطبيعى، كان نجيب في هذه الفترة يرسم أبطاله رسما تفصيليا لا يهجر كبيرة ولا صغيرة تتصل بهم دون حتى يسجلها. كان يرسمهم من الخارج. ويكاد يحدد طول الشخص ووزنه وهجريبه العضوى الدقيق، وهوبعد ذلك يرسمهم من الداخل فيحدد هجريبهم النفسى، كأنه في أحد المعامل الكيميائية يحلل المواد إلى أصولها الأولية، ويحدد نسب العناصر المشهجرة في هجريب هذه المواد.

ففى رواية السمان والخريف نجد شخصيات يرسمها نجيب محفوظ رسما عابرا دون حتى يهتم بالتفاصيل والجزئيات، فزوجة عيسى بطل الرواية لا تستغرق من اهتمامه أكثر من بضع صفحات. ولوحتى هذه الشخصية النسائية، الثرية، العاقر، نصف المثقفة، التى تزوجت أكثر من مرة.. لوحتى هذه الشخصية سقطت في يد نجيب محفوظ أيام كان يخط «زقاق المدق » أو«بداية ونهاية » لتفنن في عرضها وتقديمها ومتابعتها في جميع تفاصيل حياتها اليومية الدقيقة وفى أحوالها النفسية المتنوعة وطريقة اجتذابها للرجال وتعويض ما لديها من نقص ولكن نجيب في «السمان والخريف » وقد مر على هذه التفاصيل كلها مرا سريعًا بحيث أنك تخرج من الرواية وقد نسيت جميع شىء عنها، ما عدا أنها تمثل فرصة من فرص بطل الرواية للتغلب على أزمته.

إلى غير ذلك ينتقل نجيب من النزعة الطبيعية ويبتعد عنها، وهوفي الوقت نفسه ينتقل من الاهتمام بالتفاصيل إلى الاهتمام بالمشاكل الكلية العامة، ويتحول من ذلك الفنان الذى كان همه حتى يعطينا أدق صورة للبيئة المحلية التى نعيش فيها، إلى فنان يعرض ويناقش معضلة إنسانية عامة، تعنى البيئة المحلية كما تعنى البيئة الإنسانية كلها. وهذا هوما أعنيه بانتنطق نجيب محفوظ من المحلية إلى العالمية في الوقت الذى هجر فيه ممضى الطبيعيين وبدأ يبحث لنفسه عن عالم حديث مختلف.

فالمشكلة التى يعالجها في «السمان والخريف » لها شكلها المحلى الخاص.. ولكن هذا الشكل لا يعدوحتىقد يكون طلاء خارجيًا لمشكلة إنسانية عميقة تهز عصرنا كله، تلك هى معضلة الإحساس بالغربة أوعدم الانتماء أوالإحساس بأن الإنسان ضائع مطرود من هذا العالم.


انظر أيضاً

  • فيلم السمان والخريف


المصادر

  1. ^ غازي سلمان (2007-05-28). "واقعية النموذج .. قراءة في رواية السمان والخريف لنجيب محفوظ". الحوار المتمدن. Retrieved 2012-11-20.
  2. ^ كتاب أدباء معاصرون، راتى النقاش، القاهرة 1968.
  3. ^ الواقعية الوجودية في السمان والخريف، دار الشروق
تاريخ النشر: 2020-06-04 15:46:00
التصنيفات: روايات 1956, روايات مصرية, روايات نجيب محفوظ

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

تشيلسي يسقط أمام بوروسيا دورتموند بهدف فى دورى أبطال أوروبا.. فيديو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:29
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 37%

بنفيكا × كلوب بروج .. تعادل سلبي بالشوط الاول بدوري أبطال أوروبا

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:12
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 66%

ريال مدريد يكتسح التشي بثلاثية «بنزيما و أسينسيو» بالشوط الأول

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:12
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 62%

وفد «سياحة النواب» يلتقى محافظ جنوب سيناء (صور)

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:44
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 57%

انفجر فيه محول.. إصابة عامل بشركة الكهرباء ببورسعيد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:18
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 66%

مستفيدة من «حياة كريمة»: رمموا بيتي.. ووفروا مشروع صغير لزوجي

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:27
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 67%

بسبب «حسام حسن» نجم المصري يعلن فسخ تعاقده مع الفريق

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:07
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 69%

عودة «تويتر» للعمل بعد عطل 30 دقيقة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:41
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 68%

إحالة سائق للجنايات لاتهامه بقتل شاب طعنًا بحدائق القبة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:20
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 55%

أخبار × 24 ساعة.. إعفاء مزارع الدواجن من الضريبة العقارية لمدة 3 سنوات

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:28
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 46%

غدًا.. انطلاق مهرجان أسوان العاشر للثقافة والفنون

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:29
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 56%

بنك تركى يلغى ديون القروض الشخصية لعملائه

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:40
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 70%

الإمارات تواصل دعم تركيا وسوريا لليوم العاشر على التوالى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:39
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 66%

زلزال بقوة 6.1 ريختر يضرب الفلبين

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:40
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 62%

تردد قناة ميكس بالعربي على نايل سات 2023

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:30
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 59%

جماهير ريال مدريد في ملعب سانتياجو تهتف ضد الاتحاد الاسباني

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:06
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 50%

اقبال كبير علي منافذ بيع الأسماك بمحافظة السويس

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:09
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 64%

السيتيزنز يهزم الجانرز بثلاثية و يتقاسم معه صدارة البريميرليج

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:09
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 51%

ملخص وأهداف مباراة أرسنال ضد مان سيتي في الدوري الإنجليزي

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:22:27
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 47%

الدستاوي يتفقد التشغيل التجريبي لبرنامج Medica CloudCare

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-16 00:21:48
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 65%

تحميل تطبيق المنصة العربية