بنو عمار

عودة للموسوعة

بنوعمار

بنوعمار، هي عائلة القضاة الذين حكموا طرابلس من 1070 إلى 1109، خلال الأربع عقود التي سبقت سقوط طرابلس على يد الصليبيين.

التاريخ

الأصول

يرجع نسب بني عمار إلى قبيلة كتامة الأمازيغية المغربية الأفريقية، وقد اعتنق الكتاميون الإسلام في بداية القرن الثامن الميلادي (710م) مع وصول الفتح الإسلامي إلى مناطقهم، فتعاونوا جميعًا على طرد البيزنطيين والرومان وتحرير البلاد نهائيًا، وأدّى اندماج العنصرين إلى تكوين مجتمع حديث على أسس ونهج جديدين، ونتج عن ذلك قيام ممالك أمازيغية معروفة، وقد خضعت أنطقيم كتامة لسيطرة الأغالبة ثم الزيريين ثم الحماديين ثم الموحدين، وقد كانت لهم ممالك مستقلة وقادة عظماء في تلك الفترة.

وعندما قامت الدولة الفاطمية اعتنق الكتاميون الممضى الشيعي الإسماعيلي، ولم يُفهم زمن انتنطقهم إلى الممضى الجعفري بالتحديد، والظاهر حتى هذا الأمر حصل بعد انتنطقهم إلى الشام، والقدر المتيقن أنهم عندما استقلوا بدولتهم فيها كانوا على ممضى الشيعة الإثني عشرية، وبقيت طرابلس بأيديهم نحوًا من 40 سنة، حتى انتزعها منهم الصليبيون سنة 502 هجرية، وكان أهلها في ذلك العصر شيعة اثني عشرية.

نطق السيد محسن الأمين في أعيانه: [طرابلس أوأطرابلس بالهمزة، مدينة في ساحل بحر الشام، كان أهلها شيعة في عصر الشيخ الطوسي في القرن الرابع وما بعده (...) ثم انقرض منها التشيع بالعداوات والضغط، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشيعية].

ويقول ناصر خسروفي كتابه سفرنامة عندما زار طرابلس في القرن الخامس الهجري: [وسكان طرابلس كلهم شيعة وقد شيّد الشيعة مساجد جميلة في جميع البلاد].

ويقول المستشرق آدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية»: «وإذا كان ناصر خسروقد عثر أهل طرابلس في عام (428هـ -1037م) شيعة، فقد اتى ذلك من حتى بني عمار وهم إحدى الأسرات الصغيرة الكثيرة على الأطراف كانوا هناك على ممضى الشيعة».

ويقول د. عمر عبد السلام تدمري في كتابه (المغاربة في ساحل الشام تاريخهم السياسي والحضاري في العصر الفاطمي): [ وتجدر الإشارة أيضًا إلى حتى المغاربة لمقد يكونوا كلهم إسماعيليين على ممضى الدولة الفاطمية، بل كانوا في الغالب من الشيعة الإمامية، وبعضهم من السنّة على الممضى المالكي].

قبيلة كتامة

في بداية القرن العاشر الميـلادي (913م) كانت قبيلـة كتامـة من أقـوى القبائل البربريـة في المغرب آنذاك، فتحالفت مع الفاطميين ضد الخلافة العباسية تعاطفًـا مع نادىة الإسماعيلية المتشيعين لأهل البيت ، واستطاعوا الإطاحة بدولة الأغالبة والقضاء عليها في القيروان بتونس، وقد كان دورهم حاسمًا في تأسيس الدولة الفاطمية، فكانوا حماتها وجنودها المخلصين.

انضم عـدد كبـير من قبيلة كتامة إلى جيش جوهر الصقلي قائد الحملة الفاطمية على مصر، وتمكنوا عـام (358هـ - 969م) من دخول الفسطاط بعد محاولات عديدة وأسّسوا مدينة القاهرة، وظلوا قوة عسكريّة هامّة في خدمة الخلافة الفاطميّة، وقد خصّص لهم مكان بجوار القاهرة للإقامة فيه، ولا يزال حي الكتاميين في القاهرة يحتفظ باسمهم.

نطق الشيخ مبارك الميلي في كتابه تاريخ الجزائر: [كانوا [أي: كُتامَة] من لَدُن الفتح مُعتزّين بكثرتهم لا يسومهم الأُمراءُ بهضيمةٍ إلى حتى ظهرت الرّافضيّة [الشّيعيّة] بالمغرب فدانوا بِها، وملكوا المغرب باسم بني عُبيد [الفاطميّين]، ثُمّ مصر والشّام. واختطّوا القاهرة، ولَهُم بِها حارةٌ مضافة إليهم، ذكرها السّخاوي في تُحفة الأحباب].

يقول الدكتور يحيى مراد في تعليقه على كتابه تاريخ آل سلجوق، متحدثًا عن هذه القبيلة: «عند قيام الدولة الفاطمية كان شيوخ هذه القبيلة ممن لهم الصدارة في مؤسساتها الإداريّة والعسكريّة».

ويقول بوزياني دارجي في كتابه القبائل الأمازيغية: [تعتبر كتامة من أبرز القبائل الأمازيغية التي هجرت أثرًا بارزًا في تاريخ المغرب الإسلامي، بل هجرت أثرًا عظيمًا في التاريخ الإسلامي ككل].


وصول بني عمار مصر

يُنسب بنوعمار إلى «أبي محمد الحسن بن عمار»، الذي لمع اسمه في عهد الخليفة الفاطمي «العزيز بالله» سنة 381هـ.

يقول المقريزي: [كانت قبيلة كتامة من أبرز القبائل التي اعتمدت عليها الدولة الفاطمية مدة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة ابنه مَعد أبي تميم المعز لدين الله، وبهم أخذ ديار مصر لما سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة 358هـ، وهم أيضًا كانوا أكابر من قدم معه من الغرب في سنة 362هـ.

فلما كان في أيام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الديلم والأتراك، وقدمهم وجعلهم خاصته، وحطّ من قدر كتامة، فصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى حتى توفي العزيز بالله، وقام من بعده أبوعلي المنصور الملقب بالحاكم بأمر الله، فقدّم ابن عمار الكتامي وولاّه الوساطة وهي في معنى رتبة الوزارة، فاستبد بأمور الدولة وقدّم كتامة وأعطاهم، وحطّ من الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز، فاجتمعوا إلى "برجوان" وكان صقلبيًا وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغرى المصطنعة بابن عمّار حتى وضعوا منه، واعتزل عن الأمر، وتقلّد [برجوان] الوساطة، فاستخدم الغلمان المصطنعين في القصر، وزاد في عطاياهم وقوّاهم، ثم اغتال الحاكم ابن عمار وكثيرًا من رجال دولة أبيه وجده، فضعفت كتامة وقويت الغلمان.

فلما توفي الحاكم وقام من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علي، أكثر من اللهوومال إلى الأتراك والمشارقة، فانحط جانب كتامة، وما زال ينقص قدرهم ويتلاشى أمرهم حتى صاروا في زمن المستنصر من جملة الرعية بعدما كانوا وجوه الدولة وأكابر أهلها].

ويقول المورخ المغربي الدكتور موسى لقبال في كتابه [دور كتامة في قيام الدولة الفاطمية]:

[يحمل تاريخ قبيلة كتامة وعلاقتهم بالحركة الفاطمية، منذ القرن الثامن للهجرة، عدة معان ودلالات منها: حتى عملهم يعبّر عن فترة حاسمة في نهضة الفروسية الإسلامية في بلاد المغرب، وهويمثل أيضًا دورًا إيجابيًا للإسلام الشيعي.... وبفضل عمل كتامة سرى تيار الوحدة، وأصبحت أصداؤه هي المسموعة في أراتى المغرب والمشرق أيضًا...].

وصول بني عمار إلى طرابلس والتمهيد لتأسيس الدولة

تعود العلائق المغربية بطرابلس الشام إلى أكثر من ألف ومائة سنة خَلَتْ، أي إلى عهد الحكم الإخشيدي (330-358هـ/941-969م)، وتنوعت تلك العلاقات ما بين ثقافية وسياسية وعسكرية وتجارية وعمرانية.

والمصادر التاريخية لا تذكر شيئًا عن كيفية مجيء بني عمار إلى طرابلس، أوبدء تاريخهم بها، إذ تنبتر أخبار هذه الأسرة بعد موت جدها أبي محمد الحسن بن عمار سنة 386هـ، فلا نقف على أخبارهم قرابة ثلاثة أرباع القرن.

ومن الراجح حتىقد يكون انتنطقهم إلى الشام بدأ في زمن أبي الحسن بن عمار، وبعد حتى تدنت مرتبتهم وتدهورت أحوالهم في مصر بسبب المؤامرات التي حيكت حولهم آثروا الهجرة الصامتة من مصر إلى الشام أولاً، ثم نزحوا إلى طرابلس بعد حتى أصبح الحسن بن عمار قاضيًا على طرابلس.

وهذا ما يمكن حتى نستفيده من كلام ابن القلانسي في كتابه "ذيل مرآة الزمان" عند ذكره "أبي محمد الحسن بن عمار": [ويبدوأنه فتح الطريق لأبناء قبيلته لينتقلوا الى الشام، فنجده يرسل «أبوتميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي» إلى دمشق، ثم يقوم أبوتميم هذا بوضع أخيه "علي بن جعفر بن فلاح الكتامي" واليًا على طرابلس في سنة 386هـ](.

ويؤيد هذا الرأي الدكتور عمر عبد السلام تدمري حيث يقول: [احتل المغاربة المرتبة الأولى بحضورهم، إلى جانب الحضور الديني والعسكري، وذلك في العصر الفاطمي، إذ منذ حتى بسط الفاطميون نفوذهم في بلاد الشام بعد سنة 360هـ، أخذوا يولّون القُضاة والوُلاة والقادة على المدن الرئيسة والولايات، وبشكل خاص في طرابلس، لأنها كانت قاعدة أمامية متقدمة على ساحل الشام في لقاءة الدولة البيزنطية التي كانت تهدد الأطراف الشمالية في بلاد الشام، ولذا أضحت طرابلس قاعدة أساسية للدعوة الفاطمية الإسماعيلية من الناحية الدينية، ومركزًا مهمًا للأسطول البحري والقوات البرية من الناحية العسكرية، فضلاً عن اتخاذها عاصمة لولاية إدارية متَّسعة الأراتى تمتد حدودها من نواحي نهر الكلب جنوبًا، حتى مدينة اللاذقية شمالاً.

ونظرًا لهذه الأهمية، فقد حرص الفاطميون على حتىقد يكون زمام الأمور في طرابلس بيد المغاربة، ويمكن القول إذا الحكم الفاطمي في بلاد الشام قام على أكتافهم، لذا أُعطيت الولاية وقيادة العسكر للقائد "نزّال الغوري الكُتامي"، وهومن قبيلة كُتامة المغربية البربرية، ومن صناديد المغاربة، ووُضع تحت إمرته ستة آلاف رجل من عسكر طرابلس، ثم ابنه "المُظهِر محمد بن نزّال"، والقائد "جيش بن الصمصامة"، والقائد "أبوسعادة المغربي"، والوالي "علي بن جعفر بن فلاح الكُتامي"، و"مختار الدولة ابن نزّال"].


تأسيس الدولة

أول من ولي حكم طرابلس من بني عمار وأسس دولتهم كان أبوطالب الحسن ابن عمار المعروف بأمين الدولة، حيث نطالع اسمه في سنة (457هـ-1065م) عندما ولج الأمير حصن الدولة حيدرة بن منزوطرابلس حيث ساعده أمين الدولة قاضيها في الاستيلاء عليها وانتزاعها من بني أبي الفتح، وقد ظلَّ يعدّ نفسه تابعًا للدولة الفاطمية حتى سنة (462هـ-1070م) حيث استقل بطرابلس واستبدّ بأمرها.

وفي تلك الفترة كان هناك صراع بين الدولة الفاطمية والدولة السلجوقية فاتخذ أمين الدولة موقفًا محايدًا بينهما، وأعرب عن استقلال إمارته عن الدولة الفاطمية.

وفيهم يقول المقريزي: [وكانت الدولة (أي الفاطمية) قد حوّلت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية، فلما اتىت الشدائد، تغلبوا عليه].

ولم تكن هذه الدولة الفتيّة دولة عاديّة، بل استطاع حكامها وفي غضون فترة وجيزة حتى يؤسسوا دولة ذات سيادة، تعتمد على نفسها، ولديها اكتفاء ذاتي زراعيًا واقتصاديًا وتجاريًا، وتستقوي بشعبها الذي يحبها وجيشها الذي يدافع عنها، فبترت في سنوات قليلة ما يحتاجه غيرها إلى عقود من الزمن، مما ساعدها على الوقوف في وجه الغزوالصليبي وتحمل حصاره مدة عشر سنوات تقريبًا.

حدود دولة بني عمار

لم تكن إمارة بني عمار منحصرة في طرابلس فقط، بل امتدت إمارتهم حتى إنطاكية من جهة، وامتدت من نواحي جبلة في سوريا إلى قلعة صافيتا وحصن الأكراد والبقيعة، وفي لبنان امتدت حتى تخوم بيروت من جهة، ومن جهة أخرى حتى الهرمل والضنيّة وبشرّي وبلاد العاقور شرق بلاد جبيل، بل حتى جونية، حيث كانت جونية من أعمال طرابلس في ذلك الوقت كما يذكر الخطيب البغدادي المتوفى (463) للهجرة.

يقول الدكتور عمر عبد السلام تدمري: [إمارة بني عمّار اللبنانية-السورية: أقول اللبنانية السورية لأن رقعتها ضمت أرضًا من لبنان وأرضًا من سورية، فإذا كانت عاصمتها لبنانية، هي طرابلس، فإنّ ما ارتبط بتلك العاصمة كان أرضًا ممتدة من تخوم بيروت حتى تخوم أنطاكية].


حصار دولة بني عمار

استطاعت هذه الدولة الفتية حتى تصمد في وجه التحديات التي قابلتها أيام الحصار الصليبي عشر سنوات تقريبًا، ولكنها ابتليت بقلة الناصر وكثرة الأعداء، لذلك أفل نجمها باكرًا ولم يخط لها البقاء.

ففي سنة 495هـ بدأ حصار الإفرنج لطرابلس، وفي هذه السنة بدأ عهد انتنطق بني عمار من الكتاب إلى السيف، فأعدوا العدة لحصار طويل، وبعد مرور سنة كاملة على الحصار كانت مهمة فخر الملك فيها مزدوجة ذات شقين: شق دفاعي وشق هجومي، فهويقف في وجه اقتحام الصليبيين لمدينته فيقاتلهم دفاعًا عنها، ثم هوينفذ بمراكبه من بين سفن الصليبيين المحاصرة له، فيهاجم الصليبيين في ما يحتلونه من بقاع، فكان فخر الملك بطل الدفاع والهجوم معًا، وكان "العماريون" أهله يشدون من أزره، وشعبه الطرابلسي يصبر ويصابر معه.

وقد تناول ابن الأثير هذه القضية بشيء من التفصيل في تاريخه حيث يقول:

[عندما وصل القائد الصليبي"صنجيل" (ريموند دي سان جيل) إلى مشارف الشام كان أول من استوعب الخطر الصليبي فخر الملك بن عمار، فصمم على الإعداد لهذا الخطر قبل حتى يتغلغل في البلاد الشامية، وذلك بالدعوة إلى حلف إسلامي يقف في وجهه، فراسل الأمير "ياخز" في حمص والملك "دقاق بن تتش" في دمشق يقول لهما: من الصواب حتى يعاجل صنجيل إذ هوفي هذه العدة القريبة، فاستجابا له، فخرج الأمير "ياخز" بنفسه وسيّر "دقاق" ألفي مقاتل، وخرجت الامدادات الطرابلسية فاجتمعوا على باب طرابلس وصافوا "صنجيل" هناك].

ويقول ابن الأثير، في أحداث سنة 496هـ:

[وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج ويقتلون من وجدوا، ويقصد بذلك حتى يخلوالسواد ممن يغرس لتقلَّ المواد من الفرنج فيرحلوا عنه].

ثم تأتي سنة 497هـ، فيقول ابن الأثير: [في هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية فيها التجار والأجناد والحجاج وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحاصروها معه برًا وبحرًا وضايقوها وقاتلوها أيامًا، فلم يروا فيها مطمعًا فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل...].

سنتان مرتا وفخر الملك محاصر في مدينته، وهوصامد يدافع عنها دفاع الأبطال، ويستعين الأعداء بقوى جديدة فلا ينالون من صموده منالاً.

وفي سنة 499 هـ يقول ابن الاثير: كان صنجيل قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحاصرها فحيث لم يقدر حتى يملكها، بنى بالقرب منها حصنًا وبنى تحته ربضًا، وأقام مُراصدًا لها، ومنتظرًا وجود فرصة فيها، فخرج الملك أبوعلي بن عمار صاحب طرابلس فأحرق ربضه ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة ومعه جماعة من القمامصة والفرسان فانخسف بهم فسقم صنجيل ومات بعد عشرة أيام، فحمل إلى القدس ودفن فيه.

ثم إذا ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون ببترة من الروم فأخذوها وأسروا من كان بها وعادوا.

ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات بها وخاف أهلها على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد، ومما أضر بالمسلمين فيها حتى صاحبها استنجد بـ"سقمان بن أرتق" فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق.

وأجرى فخر الملك ابن عمار الجرايات على الجند والضعفاء فلما قلّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما فخرج الرجلان إلى الفرنج ونطقا: إذا صاحبنا صادرنا فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكروا له أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جمعًا على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد فأوفد ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيرًا ليسلموا الرجلين إليه فلم يعملوا فوضع عليهما من قتلهما غيلة].

ويظهر من هذا حتى ابن عمار لم يكن بطلاً شجاعًا فقط، بل كان إلى ذلك حازمًا بعيد النظر، محكم التدبير، جلدًا أمام الاهوال، فلم يشغله ما فيه عن التفكير في أمر هذين الخائنين، فصمم على معاقبتهما لأن هجرهما سليمين يشجع أمثالهما على الخيانة فأحكم تدبير أمر اغتيالهما، واستطاع اختراق صفوف أعدائه والوصول الى اغتيالهما، وفي هذا ما فيه من قوة العزم وسداد الرأي وإحكام الأمر، حتى لا يتجرأ أحد على الخيانة والركون إلى أعداء الله.

يقول المؤرخون: اجتمع على منازلة طرابلس جميع من"برتران" الابن الاكبر لريموند الصنجيلي، ودوليم غوردان، ابن اخت ريموند المذكور، و"تانكريد" امير انطاكية واللاذقية و"بلدوين" ملك بيت المقدس، و"بلدوين" كونت الرها و"غوسلين" أمير قلعة تل باشر.

وكانت القوى المهاجمة للمدينة تتألف من 4000 فارس بروفنسي قدموا مع برتران، وعدد كبير من الجنوية اتىوا بعشرين سفينة، إلى جانب سفن برتران وعددها أربعون، و500 فارس أتى بهم بلدوين ملك القدس، إلى جانب عدد كبير من الرجالة و700 فارس من خيرة فرسان تانكريد، بالاضافة إلى بلدوين كونت الرها، وجوسلين وحرسيهما، ثم جموع المردة ومن أتى من جبل لبنان.

كان هذا الجمع قد تجمع على طرابلس بعد ان كلّت قواها بعد عشر سنوات من الحصار المضروب والقتال الدائم، وكان هوالذي ولج طرابلس.


توجه فخر الملك إلى بغداد

بعد حتى اشتد الحصار على طرابلس، آيس فخر الملك من قدرته على الصمود فترة أطول، فاستحسن الذهاب إلى بغداد لطلب المعونة من الدولة السلجوقية، لذا توجه مسرعًا وكله أمل حتى يجد عندهم ما يفيده، ولكن الأمور جرت بعكس ما كان يتمنى، لأن السلاجقة بالرغم من أنهم وعدوه بالمساعدة ولكن الفاطميين استولوا على طرابلس، وقبضوا على بني عمار، وحملوهم إلى مصر بدل حتى ينقذوها من أيدي الصليبيين، وهجروا فيها حامية ضعيفة مما جعل طرابلس لقمة سائغة أمامهم، وهذا ما يشير إليه ابن كثير فيقول:

[في هذه السنة -أي 501هـ- في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبوعلي بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصدًا باب السلطان محمد، مستنفرًا على الفرنج طالبًا تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثّه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس على ما ذكرناه ضاقت عليه الأقوات وقلّت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمنَّ الله عليهم سنة خمسمائة بميرة في البحر من جزيرة قبرص وأنطاكية وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد حتى كانوا استسلموا‏.‏

فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، ولما اجتمع بالسلطان قدّم هديته وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله وقوة عدوه وطول حصره وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيّرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وأوفد معه جيشًا بقيادة الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وخلع عليه السلطان خلعًا نفيسة وأعطاه شيئًا كثيرًا وودّعه، وسار ومعه الأمير حسين، فلم يجدِ ذلك نفعًا].

سقوط الدولة

بعد توجه فخر الملك إلى بغداد وانقلاب ابن عمه عليه، راسل بعض أهل طرابلس "الأفضل" أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه واليًاقد يكون عندهم ومعه الميرة في البحر، فسيّر إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليًا ومعه الغلة وغيرها مما بحاجة إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك وحمل الجميع إلى مصر في البحر‏، ومن غير المعروف إذا كان بقي بطرابلس أحد من الأندلسيين أوالمغاربة إبان سقوطها بيد الفرنج وطوال مدة حكمهم لها، من أواخر 502- 688هـ/1109-1289م.

نطق ابن الأثير في حوادث سنة 501هـ: فيها قدم فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد للاستنجاد على الفرنج، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد برًا وبحرًا وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفًا، وجعل جميع موضع إلى من يقوم بحفظه بحيث ان ابن عمه لا يحتاج إلى عمل شيء من ذلك وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين، فلما عهد فخر الملك ذلك خط إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي فعملوا ما أمرهم].

ويقول ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة متحدثًا عن سقوط طرابلس: [... هبط عليها صنجيل بجموعه في شهر رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وحاصرها وضايقها، وأناخ عليها بخيله ورجله، فبعث فخرُ الملك إلى الملوك بالهدايا والتحف يستنجدهم، ويستصرخهم، فلم يُعنْهُ أحد منهم، فلما لم يرَ منهم معاضدةً ولا مساعدةً، رغب إلى "صنجيل" في رحيله عنه، وبذل له أموالاً وبعث إليه ميرة، وتضرع جهده، فلم ينفعه ذلك عنده، فلما ضاق بالحصار ذرعًا وعجز عن دفع العدوّ عنه، خرج من أطرابلس قاصدًا السلطان محمود بن ملكشاه واستناب فيها ابن عمّه "أبا المناقب" ورتّب معه سعد الدولة فتيان بن الأعسر، ونفق في الجند ستة أشهر، فجلس أبوالمناقب في بعض الأيام في مجلسه وعنده وجوه أهل أطرابلس، فخلط في كلامه فنهاه سعد الدولة، فصاح، ونطق: "لا يا سيدي، لا يا سيدي"، فجرّد أبوالمناقب سيفه وضرب سعدَ الدولة فقتله، وانهزم من كان في المجلس، فقطّع سعد الدولة إربًا إربًا، فقام أهلُ البلد وقبضوا عليه، واعتقلوه، ونادوا بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش، وذلك في شهر رمضان سنة خمسمائة وواحد للهجرة.

ولما بلغ الأفضل ما عمله أهل أطرابلس جهّز إليهم جيشًا في البحر، وجعل مُقدّمهُ تاج العجم، فعمد تاج العجم إلى أخذ جميع أمواله، وما يحفظ البلد، فرقي إلى الأفضل أنه يريد العصيان بأطرابلس، فقبض على ما كان حمله في المراكب، وولّى بدر الدولة ابن الطيب الدمشقي، فوصل إلى أطرابلس، وكان أهلها قد ضاقت صدورهم من طول الحصار، ثم رأوا من تخلّفه ما رغّبهم عنه ونفّرهم منه فعوّلوا على طرده، ثم رأوا إبقاءه لأنهم لا ملجأ لهم إلا المصريين.

ووصلت من مصر مراكب بالغلات والرجال، فاعتقل بدر الدولة أعيان البلد وأصحاب فخر الملك وحريمه، فأخذهم وسيّرهم في المراكب إلى مصر، وبعث معهم ما كان بأطرابلس من السلاح والذخائر والأموال، فاعتقل أهل بني عّمار بمصر.

ولم تزل الفرنج على طرابلس مجدّين في حصارها، وأهلها يتكرر استصراخهم إلى الملوك ولا يجابون، وضعفوا عن مدافعة العدووممانعته، وعمل الفرنج أبراجًا وأسندوها إلى السور، وأشرفوا بها على البلد وأوصلوا منها النكاية إلى جميع أحد، فطلبوا الأمان فأجيبوا.

واستعجل بعض الجند في النزول إلى البر قبل إحكام عَقد الأيمان، فدخل الفرنج من حيث خرج الجندي، فقتلوا وسبَوا من كان فيها، وأخذوا ما لا يحصى من السلاح والمال. وذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة بعد حتى حاصروها سبع سنين وأربعة أشهر]([25]).


ذكر د. راغب السرجاني في كتابه الطريق إلى بيت المقدس، تحت عنوان "الصليبييون وتواطؤ العبيديين الشيعة" استنادًا إلى كتاب اسمه "أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص274" لمحرر مجهول ما نصّه:

[ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابُلُس اللُّبنانيَّة، وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة، وهي عائلة بني عمَّار، وحاكمها في ذلك الوقت هوفخر الملك أبوعليّ، ومع كونها شيعيَّة إلا أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا.

قرَّر فخر الملك أبوعلي بن عمار حتى يُهَادن الصليبيين، فحمل أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم، وأقرَّ بدفع جزية لهم...].

وما ذكره ليس له شاهد في خط المؤرخين، بل الشواهد على خلافه، وقد تقدم الكلام عن صمود ابن عمار وتخاذل السلاجقة وغيرهم عن التصدي للغزاة، وأن فخر الملك كان أول من تنبّه إلى خطر الصليبيين ولكنه لم يجد آذانًا صاغية، ولم يذكر أحد من المؤرخين أنه حمل أعلام الاستسلام غير ذلك المؤلف المجهول.

ولست أدري كيف من الممكن أن يسوّغ د. السرجاني لنفسه حتى يهمل جميع أقوال المؤرخين المتقدم ذكرها وغيرها، ثم يعتمد بعد ذلك على (مؤلف مجهول). ولكن ما يهون الخطب حتى هذه ليست أول تهمة تلصق بالشيعة زورًا وبهتانًا، فقد افترى عليهم بعض من خط عن سقوط بغداد بيد المغول، حيث اعتبر حتى الشيعة هم السبب في ذلك، للتغطية على فساد الخليفة في ذلك الوقت، والأعجب من ذلك حتى هذه الافتراءات تجد من يتلقفها ويروج لها وإن كانت بعيدة عن روح البحث الموضوعي التي ينبغي حتى يتصف بها الباحث.

حرق مخطة بني عمار

بعد سقوط طرابلس بيد الصليبيين لم يكتفِ هؤلا الغزاة بالاستيلاء على دولة بني عمار، بل عمدوا وبكل وحشية إلى تخريب هذه الدولة والتنكيل بأهلها، فقتلوا رجالها وسبوا نساءها، وقضوا على جميع ما يمثل تقدمًا وتحضرًا فيها، وكان أبرز ما خربوه هودار الفهم فيها، فقد عمدوا إلى إحراقها تعصبًا وكرهًا للإسلام.

ولم أعثر في خط التاريخ التي بحثت فيها من يذكر كيفية إحراقهم للمخطة سوى ما ذكره د. منصور سرحان مدير إدارة المخطات العامة بدولة البحرين حول سبب حرق مخطة بني عمار، حيث اعتبر حتى الصليبيين توهموا بأن جميع محتويات المخطة هي نسخ القرآن الكريم، حيث يقول:

[إنه من الفواجع التي لحقت بالمخطات الخاصة في العصور الإسلامية مخطة بني عمار في القرن العاشر الميلادي، فعند احتلال طرابلس ولج أحد القساوسة ويدعى الكونت "برتر امسنت جيل" مبنى المخطة -وكان يرافق الحملة الصليبية- وتجوّل في القاعة المخصصة للقرآن الكريم، فاعتقد حتى المخطة بجميع قاعاتها مخصصة للقرآن الكريم فقط، فمنح أوامره بحرقها، وأدّى حرقها إلى القضاء على الكثير من الخط والمراجع القيمة وضياعها، ما أوجد فراغًا في المخطة العربية الإسلامية آنذاك].

مصير فخر الملك

وكان فخر الملك لما خرج من طرابلس سار في البحر إلى بيروت، وقصد دمشق فالتقى بأتابك طغتكين، ثم توجه إلى بغداد والتقى بالسلطان، وأقام عنده إلى حتى أنس من نصرته، لكن لما بلغه رجوعُ طرابلس إلى المصريين، ونقل حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه، انكفأ راجعًا إلى دمشق فدخلها في النصف من المحرم سنة اثنتين وخمسمائة هجرية، وقصد صاحبها طغتكين فأكرمه وأبتره بلادًا كثيرة، فأكرمه وأحسن لقياه، وسأله حتى يعينه إلى الوصول إلى "جبلة" فأجابه، وسيّر معه عسكرًا إليها فدخلها، ثم توجه إلى مصر سنة 516هـ بعد حتى اشتدّ الأمر عليه، وسلّم نفسه للدولة الفاطمية بعد مضي حوالي أربعة عشر سنة.

يقول د عمر عبد السلام تدمري: [أما بنوعمار، فقد انقرض وجودهم فيها قبل سقوطها بقليل؛ إذ أوفد الأفضل وزير مصر أحد الولاة فحمل أهل فخر الملك ابن عمار وأصحابه جميعًا إلى مصر في البحر سنة 502 هـ. فيما كان فخر الملك ينتقل بين جبلة وشيزر ودمشق وبغداد والموصل وماردين، قبل حتى يعود إلى مصر في سنة 516هـ/1123م ويعلن ولاءه للخليفة الفاطمي الآمر بالله].

ويذكر المقريزي في أحداث شهر صفر سنة 516هـ: [فيه وصل فخر الملك أبوعلي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس إلى مصر، ونطق في كتابه الذي حمله إلى الخليفة الآمر بأحكام الله: [والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد فهم حتى له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل، وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف، وفخر يكفّر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها؛ فإن خرج الأمر بذلك فمنّة كريمة، وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدولة].

فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد حتى استفظع جميع الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود، فنطق الوزير المأمون بن البطائحي للخليفة: [قد أجلّ الله عواطف مولانا ورحمته من حتى يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه، وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفوعن جرمه، فإن العفوزكاة القدرة عليه، ويضمه ما ضم أمثاله].

فأعجب الخليفة الآمر ذلك، وخرج الأمر بأن تُعدَّد على ابن عمار ذنوبُه وذنوبُ أسلافه، وينطق له: قد أمضىت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك. فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه ينطق له: قد غفر ذنبك وأنت مخيّر بين أمرين؛ إما حتى تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث ترغب ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك، وإما حتى تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك، وتهجر التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات.

فلما خوطب بذلك قبّل الأرض وأبى حتى يحمل رأسه ووجهه، وحدثا خوطب في حمله، نطق: لست أحمله حتى أتلقى حدثات العفوعن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته. فبلّغته الحضرة ما تمناه، وحصل له الأمن؛ وأمر به إلى دار أعدت له، وجعل فيها شهوات السمع والبصر، وحملت إليه الضيافات الكثيرة، وجرّد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين، فأقام أيامًا يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها، ووصله من المواهب ما أربى على أمله، وقرّر له راتبًا في جميع شهر، ستون دينارًا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان. وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم، وحمل عنه الحاجب والمستخدمون، وجعل له في المواسم والأعياد من الكسوات الفاخرة ما يميزه عن أمثاله. ولزم طريقة حمدت منه، فاستمر إليه الإحسان؛ وصار يركب في يومي الركوب ويومي السلام وغيرهما].

ملوك بني عمار

تبيّن مما تجاوز حتى نسب بني عمار يرجع إلى أبي محمد الحسن بن عمار، الذي كان من أبرز رجال الخليفة الفاطمي العزيز بالله، ثم أصبح بنوعمار قضاة طرابلس ثم ملوكها، وأول ما يصلنا من أسمائهم بعد ذلك هو«أبوالكتائب أحمد بن محمد بن عمار»، الذي تجاوز أمين الدولة في تولي القضاء على طرابلس من قِبَل الفاطميين، وكان أبوالكتائب شيخًا‌ جليلاً.

ويقول عنه السيد محسن الأمين: [أبوالكتائب أحمد بن محمد بن عمار الطرابلسي نسبة إلى طرابلس الشام، وهومن بني عمار أمراء طرابلس، كان معاصرًا للشيخ الفقيه أبي الفتح محمد بن عثمان بن علي الكراجكي].

ثم تولى بعده أبوطالب الحسن بن عمار المتوفى سنة (464هـ)، ثم جلال الملك أبوالحسن علي بن عمار المتوفى سنة (492هـ)، ثم فخر الملك عمار بن محمد بن عمار لم يفهم زمن وفاته، ولكن من المؤكد أنه كان حيًّا في سنة (516هـ) وهوتاريخ ذهابه إلى مصر كما سيأتي، وأبوالمناقب شمس الملوك أبوالفرج محمد بن عمار الذي انقلب على ابن عمه فخر الملك، ولم يفهم تاريخ وفاته.

أمين الدولة بن عمار

تقدم الكلام عن أمين الدولة عند تأسيس الدولة، وأنه كان قاضيَا على طرابلس، ثم استقل بها سنة (462هـ)، وتميّز بالكثير من المزايا، فقد عُرف عنه أنه كان كبير العقل، سديد الرأي، عالمًا، فقيهًا، محررًا مجيدًا، ألّف الكثير من الخط النفيسة، منها كتاب "ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح" المنعوت بجراب الدولة، توفي أمين الدولة سنة (464هـ).

جلال الدولة بن عمار

بعد وفاة أمين الدولة تولّى بعده ابن أخيه علي بن محمد بن عمار المعروف بجلال الدولة، الذي استمر حكمه حتى توفي سنة (492هـ)، فأرسى قواعد هذه الدولة ودعم أسسها بكل ما أوتي من قوة وقدرة، وازدهرت طرابلس في زمانه وعاشت عصرها المضىي.

وقد جدد جلال الدولة (دار الفهم) التي أنشأها عمه أمين الدولة سنة (472هـ-1082م)، إذ كانت الظروف مواتية لجلال الدولة أكثر مما كانت مؤاتية لعمه وسلفه أمين الدولة.

ففي عهد الأول كانت الإمارة في دور التأسيس، كما حتى مدة حكمه كانت قصيرة، فقد توفي بعد سنتين من تأسيسه للدولة، أما جلال الدولة فقد استمر في الحكم زهاء ثمانية وعشرين عامًا، واتسعت في زمانه أطراف الإمارة، وعظم شأنها ونشطت تجارتها، وكانت طرابلس في عهده [تبعث الحكّام والقضاة والخطباء إلى البلاد التابعة لها مثل جبيل وعرقة وطرطوس وجبلة، وفي عهده أيضًا تمّ بناء جامع كبير في طرابلس].

فخر الملك بن عمار

بعد وفاة جلال الدولة علي بن محمد بن عمار استلم الإمارة أخوه عمّار بن محمد ذوالسعدين المعروف بفخر الملك، وحكم مدة عشر سنوات تقريبًا، وبقي حتى سنة (501) للهجرة، حيث مضى إلى بغداد مستنجدًا بالسلاجقة على الصليبيين، وأثناء غيابه استعاد الفاطميون طرابلس من بني عمار وقضوا على حكمهم فيها، وبعد عدة أشهر احتلّ الصليبيون طرابلس بعد نضال طويل.

أبوالفرج بن عمار

بعد حتى ضاق الخناق على أهل طرابلس بسبب الحصار الشديد الذي فرضه الصليبيون عليهم، عزم فخر الملك عمار بن محمد "ذوالسعدين" على التوجه إلى بغداد للاستنجاد بالسلاجقة من أجل حماية طرابلس من غزوالصليبيين، فاستخلف على قومه ابن عمه أبا الفرج محمدا الملقب بـ"شمس الملك ذي المناقب" الذي حكم لفترة قصيرة من سنة 501 هـ، فأظهر شمس الملك ذوالمناقب الخلاف له والعصيان عليه، ونادى بشعار المصريين، فلما عهد فخر الملك ذلك خط إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي فعملوا ما أمرهم، وذلك قبل حتى تسقط طرابلس بيد الصليبيين بسبب تخاذله وقلة وفائه، والظاهر أنه بقي محبوسًا في الحصن إلى حتى استولى الفاطميون على طرابلس، فأخذوه مع من أخذوا من بني عمار إلى مصر.

النهضة العمرانية

اهتم بنوعمار بالعمران أيّما اهتمام، لذا عملوا على إعمار دولتهم فنظموا بنيانها، وبنوا الأسواق والمدارس والمساجد، ومصانع الورق والسكر والحرير، وكذلك نجحوا في استثمار جميع الموارد الطبيعية من أراض زراعية وأنهار، وبنوا السدود وأقنية الري.

وقد امتدت آثار بني عمار الى خارج إمارتهم، فهم الذين بنوا الجهة الشرقيّة من الجامع الكبير في مدينة حلب، كما يذكر ذلك المؤرخ ابن الشحنة الحلبي في كتابه [الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب].

يقول السيد حسن الأمين: [لم يُغفل بنوعمار النواحي العمرانيّة في إمارتهم، فمن أبرز ما عنوا به المشاريع المائية، فأمّنوا لطرابلس ريًا منظمًا من النهر الذي عهد بعد ذلك باسم نهر [أبوعلي] اعترافًا بهذا الجميل وتخليدًا لذكرهم، ولا يزال حتى اليوم يعهد بهذا الاسم، فقد كان نهر قاديشا يفيض فيُحدِث أضرارًا ولا ينتفع منه، فوضع فخر الملك أبوعلي ابن عمار خطة إنمائيّة تنظم أمور النهر وتمنع فيضانه وتجريه في أقنية للري، فعاد على المدينة ومنطقتها بالخير العميم، ونمت المزروعات والبساتين والحدائق، وتشكّل من ذلك ثروة زراعية ساعدت على رقي المجتمع، وازدهرت الحقول والأراضي المحيطة بالمدينة بوفرة مزروعاتها وتنوعها، وفاضت عن حاجاتها، فاحتفظت بأموالها واستدرت أموالاً من الخارج، وهذا ما شكّل عاملاً مهمًا في نهوض الحركة الصناعية والاقتصادية والثقافية.

وعُرفت طرابلس في خط المؤرخين والرحالة بكثرة ما تنتجه من الفواكه والثمار، حتى لقد نطقوا: [إن فيها ما لا يوجد في سائر الأنطقيم أصلاً، إذ لا يكاد يوجد دار بغير شجر لكثرة تخرق أرضها بالمياه، فهي تجمع بين ثمار الشام ومصر].

وكان بنوعمار السبب في تعرّف الأوروبيين على قصب السكر لأول مرة في بساتين طرابلس، فنقلوا غروسه إلى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا].

ويحدثنا المؤرخ السيد حسن الأمين أيضًا عن صناعة السكر في طرابلس فيقول:

[وظلت طرابلس ومعها دمشق تموّنان أوروبا حتى أواخر العصور الوسطى بالسكر بجميع أشكاله المعروفة آنذاك، وكان التاجر الأوروبي القادم من البندقية أوجنوى يعود إلى بلاده وهويحمل سلال السكر وأكياسه من طرابلس، وجمع بنوعمار زراعة قصب السكر الذي كان ينموبغزارة على ضفاف نهر (أبوعلي) وفي بساتين طرابلس، وأقاموا المصانع داخل المدينة لعصره وتجفيفه وتصنيعه بشكل رقائق أوناعم أوبشكل حلوى، وكان من حسن سياستهم حتى أثرت المدينة، وكانت على أحسن حال اقتصادي حتى خلال الحصار الصليبي لها برًا وبحرًا، إذ ظلت صامدة تقاتلهم عشر سنين مستعينة بثرواتها الداخلية وحسن إدارة اقتصادها.

التقدم الصناعي

اهتم بنوعمار بالصناعة كاهتمامهم بالعمران، لذا عمدوا إلى إنشاء مصانع للورق، وساعد ذلك في نهضتها الثقافية والفهمية والأدبية، فكثر الوراقون، ونشأت من ذلك صناعة التجليد.

ومن الصناعات التي نهضت في طرابلس أيضًا صناعة الحرير التي امتدت مصانعها على ضفاف النهر، بما فيها من ألوف الأنوال والمغازل ما أدهش الفرنج وأثار إعجابهم.

وكذلك اهتم بنوعمار بالملاحة البحريّة، فأنشأوا الأساطيل التجاريّة التي كانت تجوب البحر، هذا عدا عن أسطولهم الحربي الذي تولى قتال أساطيل الصليبيين طوال عشر سنوات.

وعن طريق البحارة الطرابلسيين عهد الأوروبيون [البوصلة] وكيفيّة استعمالها([37]).

التجارة

عمل بنوعمار على تحريك عجلة الاقتصاد في طرابلس لتصريف إنتاجهم، ولتأمين الأموال، فسارعوا إلى بناء الأساطيل البحرية كما تقدم، وسيّروها إلى أوروبا لكي تنقل إليها البضائع التي تحتاجها من ورق وسكر وحرير، فراجت بضائعهم في أسواقها وأصبحت لا يستغنى عنها.

يقول المؤرخ السيد حسن الأمين: [وقد نمت إمارتهم نموًا عظيمًا حتى أصبحت طرابلس في القرن الحادي عشر أعظم مدينة على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وكانت أساطيلها تنتقل في أنحاء هذا البحر، فهي المنفذ البحري الرئيسي لبلاد الشام، عن طريقه يتم التصدير والاستيراد، وتنقل منتجات الشام والمشرق إلى أوروبا، وإليه تفد من الخارج لتحمل إلى سائر بلاد الشام، وكان بنوعمار -وهم مثقلون بردّ الهجمات الصليبية عليهم من البحر والبر- يسيّرون أسطولهم التجاري إلى ثغور البحر المتوسط، وكان فخر الملك عمار بن عمار يلقب بملك الساحل].

الثقافة والعلوم

لم يغفل بنوعمار الحياة الثقافية والفهمية في طرابلس، لذا وضعوا نصب أعينهم هدفًا وسعوا للوصول إليه، وقد حققوا في هذا الإطار نجاحًا باهرًا، ولم يكن ذلك صعبًا عليهم بما أنهم قضاة وفهماء قبل حتى يصبحوا أمراء، فسخّروا جميع مقدراتهم من أجل بناء دور الفهم والمدارس والمخطات، ففتحوا أبوابهم لجذب الفهماء إلى طرابلس، وأكرموهم منتهى الإكرام.

فقام أول ملوكهم أمين الدولة أبوطالب الحسن بن عمار بتأسيس دار الفهم، وجعل لطلاب الفهم فيها رواتب، وفرّق على أهلها مضىًا، وجعل لها نظّارًا يتولون القيام بذلك، فسنّ هذه السُنّة الحسنة التي سار عليها من اتى بعده.

وجدَّد جلال الدولة علي بن محمد بن عمار دار الفهم وطورها، وزاد في اقتناء الخط، وأصبحت مخطة طرابلس تحوي أكثر من ثلاثة ملايين كتاب كما ذكر بعض المؤرخين.

وكان شعراء الشام يفدون لمدح أمراء بني عمار ونيل جوائزهم فيلقون الترحيب والتكريم، وكثرت حلقات التدريس، وازدحمت المدينة بأشهر الأعلام، من أدباء وفقهاء وشعراء ولغويين، وقصدها الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم ومذاهبهم، كما كان يفد إليها التجار والرحالة وطلبة الفهم والفهماء من جميع البلاد.

كما كانوا يبعثون القضاة والخطباء الى المدن الشامية، ومن ذلك ما ذكره "ابن تغري بردي" في كتابه "النجوم الزاهرة" عن ابن تلتمش: [أنه عندما فتح حصن انطرطوس من الروم سنة 475هـ، بعث إلى صاحب طرابلس جلال الملك يطلب منه قاضيًا وخطيبًا ليقيم بها].

وازدهر فهم الترجمة في زمن بني عمار، فترجمت الكثير من العلوم والآداب عن اللاتينية والفارسية وغيرهما إلى اللغة العربية، ومنها إلى اللغات الأخرى، كما شهد بذلك المستشرق (دي لاسي أوليري) في كتابه "علوم اليونان وسبل انتنطقها إلى العرب": [وساوت في ذلك كبريات الحواضر العربية، فكثر فيها المترجمون والنسّاخون والكتَّاب والخطاطون].

دار الحكمة في طرابلس

أنشأ بنوعمار في طرابلس مدرسة عهدت باسم "دار الحكمة" ضمت عددًا كبيرًا من طلاب الفهم، حتى وقفت جنبًا إلى جنب مع "دار الحكمة" بمصر أيام الفاطميين، فنشرت العلوم والآداب والثقافة.

وإلى جانب طلاب الفهم فقد كان يفد إليها الفهماء لمراجعة المؤلفات لأشهر المؤلفين في العلوم والمعارف، كما كانت تعقد حلقات فهمية لكبار الفهماء ينضم اليها الفهماء الوافدون إلى طرابلس للاستزادة من الفهم.

وأصبحت طرابلس بذلك ميدان فهم ودرس ومباراة في التفهم، ومركزًا من أعظم المراكز الشيعية في ذلك العصر، وكعبة يحج إليها طلاب الفهم للأخذ عن فهمائها مختلف العلوم والفنون من فقه وحديث ولغة وأدب وفلسفة وهندسة وفلك وطب وغيره، وللاطلاع على المصنفات والمخطوطات الفهمية والأدبية والدينية والفلسفية التي كانت تحتويها مخطتها.

وكانت بطرابلس عدة حلقات فهمية يعقدها كبار الفهماء، نذكر منهم المحدث المشهور "خيثمة بن سليمان القرشي الأطرابلسي" و"ابن أبي الخناجر الطرابلسي"، و"أحمد بن محمد الطليطلي"، الذي كانت له حلقة عامرة بالطلبة يلقي عليهم فيها دروسًا في العربية والأدب، وقد حضرها الشاعر "ابن الخياط" صاحب الديوان المعروف باسمه.

دار الفهم في طرابلس

انفردت مدينة طرابلس دون غيرها من بلاد الشام، بقيام مخطة كبرى فيها عُرفت بـ"دار الفهم"، التي اعتبرت «أروع مخطة في العالم]، وكان الهدف من إنشاء هذه الدار سياسيًا ودينيًا، إلى جانب كونه عملاً إنسانيًا وحضاريًا عظيمًا لنشر الفهم والفهم، فمن البديهي حتى يبادر أول حكام طرابلس من أسرة بني عمار إلى إقامتها لتكون قاعدة سياسية ودينية وفهمية لنشر ممضىهم الشيعي وبث أفكارهم الدينية، ولتوطيد سلطانهم السياسي في طرابلس ونواحيها، بعد حتى استقلت ثقافيًا وفكريًا وسياسيًا عن مصر، إذ كان عليهم الوقوف أمام الدولة السنيّة المتمثلة بالدولة السلجوقية في العراق، لذا بادر أمين الدولة إلى وضع حجر الأساس لهذا الصرح الفهمي فور استقلاله بطرابلس سنة 462هـ، أوقبل ذلك، حيث شغل أمين الدولة منصب القضاء في طرابلس عدة سنوات قبل حتى يستقل بدولته، لذا عمل على تهيئة النواة الأولى لهذه المخطة التي كان يحلم بها من الخط التي جمعها بنفسه وأضاف إليها خزائن الخط التي كان قد وقفها ذوواليسار من أهل طرابلس.

واتى بعده جلال الملك فتصدى لجمع المخطات الأهلية الموجودة في طرابلس والتي كانت تضم خزانات خط موقوفة، إلى جانب مخطة عمه أمين الدولة، وكوّن منها -ومن الخط التي جمعها- دار خط ضخمة، اهتم الكثير من المؤرخين بتعداد ما احتوته من المؤلفات، وفي عهده ازدحمت طرابلس بالفهماء والأدباء وطلاب الفهم، حيث قصدها معظم أهل دمشق إبّان فتنة "أتسز بن آف بن الخوارزمي" الذي ولج دمشق سنة 468هـ.

اهتمّ جلال الملك بهذه الدار، وأوقف على طلابها الجرايات، فكان يفرّق على أهلها مضىًا تشجيعًا لهم. وكان يكلّف الناظر على الدار القيام بمهمة توزيع هذه الجراية، وكان الشاعر ابن الخياط ممن تصرف له تلك المنحة، وقد ذكر ذلك في ديوانه.

وادعى بعض المؤرخين نسبة تأسيس دار الفهم إلى جلال الدولة في سنة 472هـ، ويدحض هذا القول روايتا «ابن شداد» و«ابن الفرات» من حتى أمين الدولة كانت له دار فهم فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفًا.

وليس عجيبًا حتى تكثر المخطات في طرابلس وأن تمتلئ بالخط في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وفي القرن الذي تلاه، فقد كانت مصانع الورق التي تعمل في المدينة تمدّ المشتغلين ببيع أونسخ أوتأليف الخط بكمّيات موفورة من الورق بمختلف أنواعه المعروفة في ذلك الوقت من الكاغَذ، والطوامير، والقراطيس، إذ كانت تشتهر بصناعة الورق الجميل الذي يفوق السمرقندي جودة، وكان لذلك أثره على حركة التأليف، والكتابة، والتجليد، والوراقة، فكثر الورّاقون الذين كانوا يعملون في تجليد الخط على الطريقة الصينية وزخرفتها وتوشيحها بالخطوط الملوّنة، ووصلتنا أسماء عدة من الورّاقين بطرابلس، منهم أبوالحسن إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق الورّاق ويُعهد بـ"ورّاق الوزير"، وأبوعلي الحسن بن محمد بن هبة الله الطرابلسي الورّاق.

يقول د. منصور سرحان مدير إدارة المخطات العامة بدولة البحرين:

[أسس بنوعمار مخطة ضخمة لهم في طرابلس بسورية تحمل اسمهم، غير أنهم جعلوها عامة فيما بعد وفتحت أبوابها لكل قارئ ومتحدث ودارس دون استثناء، وكانت الخط في معظمها مجلدة تجليدًا فاخرًا، ومزخرفة بالمضى والفضة وقد قدّر شوشتري في كتابه "مختصر الثقافة الإسلامية" مقتنيات مخطة بني عمار بثلاثة ملايين كتاب، وكان لها أكثر من مائة وثمانين ناسخًا يتناوبون العمل بالمخطة ليلاً ونهارًا].

ولا يمكننا حتى نتصور هذا العدد الضخم من الخط، إلا وهي موجودة في دار كبيرة تتسع لها، وأن هذه الدار كان يرتادها من يريد الاطلاع عليها، طالما حتى الخط التي بين جنباتها كانت خطًا موقوفة.

وكانت المخطات الكبرى في ذلك العصر توضع تحت إدارة ثلاثة أشخاص هم المشرف الأعلى ويسمى «الوكيل»، وأمين المخطة ويسمى «الخازن»، ومساعد ويسمى «المشرف»، ويتولى إداراتها أشهر الفهماء والأدباء والشخصيات البارزة في المجتمع، وقد ذكر في خط المؤرخين أسماء ثلاثة من نظار دار الفهم وهم:

- الحسين بن بِشْر بن علي بن بِشْر الطرابلسي المعروف بالقاضي.

- أبوالفضل أسعد بن أحمد بن أبي رَوح القاضي الطرابلسي.

- أبوعبد الله أحمد بن محمد الطُليطلي النحوي، وسيأتي التعريف بهم بعد قليل.


انظر أيضاً

  • تاريخ لبنان
  • كونتية طرابلس

المصادر

  1. ^ دولة بني عمّار في طرابلس، إطلالة تاريخية، (الحلقة الأولى)، مجلة النجف
  2. ^ دولة بني عمّار في طرابلس، إطلالة تاريخية، (الحلقة الثانية)، مجلة النجف
تاريخ النشر: 2020-06-04 16:42:59
التصنيفات: بنو عمار, أسر مسلمة, تاريخ لبنان, الإسلام والحملات الصليبية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

السلطات المحلية تكشف آخر مستجدات جنوح سفينة تجارية بميناء "مارينا سمير"

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:23:54
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 75%

اخبار 24 ساعة.. رئيس البحوث الفلكية: لم نرصد أى مؤشرات حدوث زلازل في مصر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:13
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 41%

الشرطة الأمريكية: مقتل شخص وإصابة 10 آخرين في حادثي إطلاق نا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:25:06
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 60%

برشلونة يعزز صدارة الدوري الإسباني بثنائية ضد قادش.. فيديو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:19
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 50%

وصول جثمان كريستيان أتسو إلى غانا استعدادا لدفنه.. فيديو وصور

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:33
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 46%

البرهان وسلفاكير يوقعان على الاتفاقية المحدثة لاتفاق جوبا لس

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:43
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 65%

روسيا تعلن نتائج تحقيقات تفجير جسر القرم وتتهم أوكرانيا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:56
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 69%

بلينكن يحذّر بكين: إمداد روسيا بالأسلحة ستكون له عواقب وخيمة

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:25:14
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 55%

أوكرانيا: روسيا تمنع موظفي وكالة الطاقة الذرية من التناوب بم

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:25:21
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 55%

درجات الحرارة فى مصر.. طقس بارد على القاهرة والدلتا والسواحل الشمالية

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:05
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 40%

في مؤتمر ميونيخ للأمن.. جنرال أمريكي: الصين تطرح "أكبر تهديد

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:25:29
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 61%

أمير حدود داعش: تجارب الإسلاميين فى الحكم بائسة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:39
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 48%

مجدى يعقوب: أنا مديون لمصر.. وليها فضل كتير عليا

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:22
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 49%

مؤتمر ميونخ يبحث تسريع المساعدات لأوكرانيا وملف هيكل أمن أور

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:49
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 64%

دار الإفتاء تستطلع اليوم هلال شهر شعبان لعام 1444 هجريا

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:11
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 43%

أوستن بتلر وكيت بلانشيت أفضل ممثل وممثلة بحفل جوائز الـ BAFTA

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:27
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 43%

أكرم القصاص عن افتتاح الوثائقية: نحتاج 200 عام لتوثيق أحداث مصر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:16
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 41%

رئيس البحوث الفلكية: لم نرصد أي مؤشرات حدوث زلازل في مصر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:30
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 50%

خريطة شوادر "ضد الغلاء" فى الجيزة.. تخفيضات تصل لـ30%

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-20 00:24:25
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 42%

تحميل تطبيق المنصة العربية