ميرسو: تحقيق مضاد

غلاف الترجمة الإنجليزية لرواية "ميرسو: التحقيق المضاد"، للمحرر الجزائري، كمال داود.

ميرسو: التحقيق المضاد Meursault, contre-enquête هي الرواية الافتتاحية، وهي بالفرنسية، للمحرر الجزائري كمال داود. وقد فازت بـجائزة گونكور لأول رواية لعام 2015، كما فازت بجائزة القارات الخمس للفرانكوفونية.

تروي سيرة ألبير كامو"الغريب"، التي نُشرت للمرة الأولى في فرنسا عام 1942، حياة ميرسو(فرنسي من أصول جزائرية، على غرار المحرر) يقتل تحت تأثير الحر والقدر عربياً على الشاطئ بعد ظهر أحد أيام الصيف. يخبرنا ميرسو:

نفضت عني العرق وأشعة الشمس، ثم أطلقت النار أربع مرات إضافية على الجثة الهامدة. فاخترقتها الرصاصات من دون حتى تخلف أثراً. بدا ذلك أشبه بطرق باب الأسى بسرعة أربع مرات.

تدور أحداث {ميرسو: تحقيق مضاد في الجانب الآخر من هذا الباب، مقدمةً نظرة عن تداعيات عنف ميرسوالعبثي ضد "موسى"، الاسم الذي اختاره المحرر للضحية. يسرد هذه السيرة أخوالضحية، رجل مسن يُدعى "هارون" ينظر إلى الماضي إلى ما تبدوعليه عملية القتل هذه وتأثيراتها اليوم. فكأنما يحيلنا إلى القصص التوراتي، فموسى لا يستطيع التعبير عن نفسه، فيقوم هارون بعرض قضيته. يقول:

لطالما ظننت حتى سوء التفاهم ينبع من هناك. ما كانت هذه الجريمة سوى محاولة تافهة لتصفية الحسابات خرجت عن السيطرة، إلا أنها رُفعت إلى مصاف الجريمة الفلسفية.

انادىءات جريئة

تشكِّل عملية تصفية الحسابات هذه أساس {ميرسو: التحقيق المضاد ، سواء كانت بين ميرسووموسى أوبين هارون وميرسو. ومن بين انادىءات هذا الكتاب الجريئة حتى كامولم يخط {الغريب بل ميرسونفسه، وترتكز هذه النقطة المهمة على خاتمة تلك الرواية التي يُحكم فيها على الراوي بالموت. وبتحويل هذه الرواية السابقة إلى جزء من العالم الحقيقي، جاعلاً إياها شهادة أكثر منها سيرة من نسج الخيال، ينقل داود عمله إلى عالم المألوف، ما يتيح له التحدث عن المخاوف العملية أوحتى السياسية أكثر منها الوجودية.

لا شك في حتى هذا مهم لأن حقيقة موضوع {ميرسو: التحقيق المضاد تُعتبر شرطاً مهماً في الجزائر اليوم، وهي دولة عربية فهمانية تتمتع بثقافة إسلامية واسعة وتعتمد على توازن غير راسخ في أعقاب الحرب الأهلية المدمرة.

لكن تلك الحرب الأهلية، التي بدأت عام 1991 واستمرت لأكثر من عقد، لا تُذكر مباشرة في {ميرسو: التحقيق المضاد، إلا أنها تشير إلى حرب الاستقلال الجزائرية التي بدأت عام 1954 وانتهت عام 1962 بخروج الفرنسيين. خلال تلك الحقبة، يقوم هارون بعمل انتقام يقربه كثيراً من ميرسو.

يشدد متحدثاً إلى إنسان مجهول يلتقي به خلال أمسيات عدة في حانة وهران:

لا أقول لك هذه السيرة لأبرر عملاً لاحقاً أولأريح ضميري... لم يكن الإيمان بالله حياً وقوياً في هذا البلد كما هواليوم. وفي مطلق الأحوال، أخشى نار جهنم.

تذكر هذه البنية برواية كاموThe Fall عام 1956 التي يقر فيها المدعي العام بسقوطه في الفساد. لهارون نية مماثلة. يقر: {في اللحظة التي اقترفت فيها جريمتي شعرت حتى باباً يقفل علي. عهدت أنني هالك. لذلك، لا أحتاج إلى قاضٍ أوالله أومحاكمة صورية، وحدي فحسب .

لكن يأس هارون لا يظهر في الوقت عينه فلسفياً، بل ثقافياً. فبالنسبة إليه (وبالتالي إلى داود، حسبما نعتقد)، لا ترتبط معضلة {الغريب الرئيسة بالمعنى، بل بالعرق والطبقة. يسأله:

هل تدرك لمَ ضحكت في أول مرة قرأت فيها كتاب بطلك،يا ترى؟ فقد تسقطت حتى أعثر على حدثات أخي الأخيرة بين صفحاتها، وصف لأنفاسه، وجهه، وأجوبته لقاتله. لكني بدلاً من ذلك، قرأت سطرين عن عربي. ترد حدثة عربي 25 مرة في الرواية، إلا حتى الاسم لا يُذكر مطلقاً، ولا حتى مرة واحدة.

تداعيات

لا شك في حتى التداعيات مذهلة: ففي تناوله مسألة الوجود، تغاضى كاموعن (أوقلل على الأقل من أهمية) مسألة الاستعمار والهوية. {أؤمن بالعدالة، إلا أنني سأدافع عن أمي قبل العدالة . كانت هذه حدثاته الشهيرة التي تعكس معارضته الاستقلال الجزائري. ولطالما اعتقدت حتى هذه الحدثات تشير إلى تضامنه مع الفرنسيين المتحدرين من أصول جزائرية. لكن داود يصوّر هذا الموقف كمحاولة استفزاز وكمثال آخر للاستعمار الأوروبي.

تشكل هذه حبكة مثيرة للاهتمام وخصوصاً عند النظر إليها بعد حدوثها (كيف فاتتنا نقطة مماثلة؟)، إلا أنها تكشف الكثير أيضاً. يعتبر داود حتى تام موقف كاموينبع مما يتمتع به من حظوة. يتساءل مفكراً في أخيه وفي العرب الآخرين الصامتين في {الغريب : {كيف تقدر حتى تصور العالم وأنت تجهل كيفية تأليف الخط؟ .

لوتوقفت {ميرسو: تحقيق مضاد عند هذا الحد، لشكلت نقداً حيوياً. لكن المقياس العملي لهذه الرواية يبقى واقع حتى داود استوعب حتى النقد وحده غير كافٍ. فما الانتقاد في هذه الحالة إلا مجرد وسيلة لإحداث شرخ بيننا. لا يظهر النقد قوياً بقدر التفاصيل المرافقة له، متناولة جميع ما نتشاطره. يرخي واقع الجزائر بعد الحرب الأهلية بثقله على هذه الرواية بخليطه غير المستقر الذي يجمع بين الفهمانية والتشدد في الإيمان. في هذا الجوالعام، يتحول داود إلى شخصية مثيرة للجدل، مؤكداً ان التعصب عقبة وتخلف.

يشدد في منتصف الرواية:

يوم الجمعة،يا ترى؟ لم يكن اليوم الذي ارتاح فيه الله، بل الذي قرر فيه الرحيل وعدم العودة . وتذكر هذه الحدثات بلقاءة ميرسومع كاهن السجن. يخط كامو: {بدا واثقاً من جميع المسائل، أليس كذلك،يا ترى؟ لكنه لم يكن واثقاً حتى من أنه حي لأنه يعيش كإنسان ميت.

نقع على مشهد مماثل في الصفحات الأخيرة من ميرسو: تحقيق مضاد ، حيث يخوض هارون لقاءة مماثلة مع أحد الأئمة. إلى غير ذلك تكون هذه الرواية مرآة، انعكاساً ولعبة ظلال أدبية، إذا جاز التعبير.

رغم ذلك، تكمن قوة، وبالتأكيد جمال، {ميرسو: تحقيق مضاد في أنها تنتقل إلى ما أبعد من ذلك، إلى تكامل غير متسقط ندرك من خلاله حتى إنسانيتنا (وكيف لا؟) تظل كما هي، رغم جميع اختلافاتنا الدينية والقومية.