العمارة القوطية الفرنسية

عودة للموسوعة

العمارة القوطية الفرنسية

Notre-Dame de Chartres, High Gothic, 1194-1260.

الطراز القوطي الفرنسي (1133-1300)

الطراز القوطي لم يبدأ من لاشيء، بل إذا تنطقيد تبلغ المائة عداً قد اجتمعت كلها لتمهد له السبيل: الباسلكا الرومانية، والعقود، والقباب، والطبقات العليا ذات النوافذ، وموضوعات الزخرف البيزنطية، والعقد الستيني الأرمني، والسوري،والفارسي، والمصري، والعربي، والقباب ذات الزوايا المتقاطعة، والنادىمات المتجمعة، والأساليب الغريبة، والنقوش العربية، والقباب المضلعة، وأبراج القابلات، والنزعة الألمانية لما هوفكه أوشاذ غريب.. ولكن لم اجتمعت هذه المؤثرات كلها في فرنسا،يا ترى؟ لقد كان في وسع إيطاليا التي امتازت بين بلدان غربي أوربا بثرائها وتراثها حتى تحمل لواء ازدهار الفن القوطي، ولكنها كانت سجينة في تراثها القديم. لقد كانت فرنسا، بعد إيطاليا، أغنى أمم الغرب وأكثرها تقدماً في القرن الثاني عشر، وكانت هي التي قدمت للحروب الصليبية أكثر الأموال والرجال، والتي أفادت من حوافزها الثقافية، وكانت هي التي تزعمت أمم أوربا في التعليم، والآداب، والفلسفة، وكان العالم يعترف بأن صناعها أمهر الصناع في الناحية الغربية من بيزنطة وقبل حتى يجلس على عرشها فليب أغسطس (1180-1223)، كانت السلطة الملكية قد انتصرت على نزعة التفكك الإقطاعية، وكان رخاء فرنسا وقوتها، وحياتها العقلية قد أخذت تتجمع في أملاك الملك الخاصة- وهي الأملاك المعروفة بجزيرة فرنسا، والتي يمكن تحديدها تحديداً غير دقيق بالإقليم الممتد عند مجرى السين الأوسط. وكانت فيها تجارة رابحة رائجة تنتقل في أنهار السين والواز Oise، والمارن، والأبن Aisns، وتخلف وراءها ثروة استحالت حجارة في الكثدرائيات التي شيدت في باريس، وسانت دنيس، وسنليس Senlis، ومانت Mantes، ونوايون Noyen، وسواسون Soissons، ولاؤون، وأمين، وريمس. وأخصب المال التربة التي نما فيها الفن.

Nave in four tiers, with clerestories and triforium under sexpartite vaulting
Coutances Cathedral in France

كانت أولى روائع طراز عهد الانتنطق هي كنيسة دير سانت دنيس في ضاحية باريس المسمات بهذا الاسم. وكانت هذه الآية من عمل أكمل الشخصيات وأكثرها توفيقاً في التاريخ الفرنسي. لقد كان سوجر (1081-1151) رئيس أحد الأديرة البندكتية، ونائب الملك في فرنسا، رجلاً حسن الذوق، لم تمنعه بساطة عيشها، يرى أنه ليس من الإثم حتى يحب الأمور الجميلة وأن يجمعها ليزخرف بها كنيسته. ولما أخذ عليه القديس برنار هذا الحب رد عليه بقوله:"إذا كانت الشرائع القديمة قد أمرت حتى تستخدم الكؤوس المضىية في استهلك القربان وتلقي دماء الضأن... فإن أولى من هذا حتى يخصص المضى، والحجارة الكريمة، وأندر المعادن لصنع الآنية المعدة لتلقي دم سيدنا"(10). وهولهذا محدثنا مزهواً عن جمال المضى والفضة، والجواهر وبتر الميناء، والفسيفساء والنوافذ ذات الزجاج الملون، والثياب والآنية الغالية، التي جمعها أوصنعها لكنيسته، وعما كلفته من مال. ففي عام 1133 جمع الفنانين والصناع "من جميع البلاد" ليشيد ويزين بيتاً جديداً للقديس دنيس شفيع فرنسا، ليكون مقراً لعظام الملوك الفرنسيين. وأقنع لويس السابع ملك فرنسا وحاشيته بتقديم المال اللازم لهذا البناء "فتمثلوا بنا" على حد قوله "وخلعوا الخواتم من أصابعهم" ليقدموا المال اللازم لمشروعه الكثير الأكلاف(11). وفي وسعنا حتى نتصوره وهويستيقظ في الصباح الباكر ليشرف على أعمال البناء، من تقطيع الأشجار التي اختارها ليأخذ منها حاجته من الخشب، إلى هجريب الزجاج الملون الذي اختار له موضوعاته وألف له نقوشه. ولما حتى دشن هذا الصرح في عام 1144 قام بهذه العملية عشرون مطراناً، وشهد الحفل ملك فرنسا، وملكتها، ومئات من الفرسان ، وحق لسوجر حتى يشعر بأنه نال بهذا العمل تاجاً من أجل تاج أي من الملوك.

ولم يبق في الصرح القائم هذه الأيام إلا أجزاء من كنيسته: وهي القابلة الغربية، وفرجتان في الصحن، والمصليات التي تعلوعلى جانب الطرقات، وقبوالكنيسة. أما الجزء الأكبر داخل الكنيسة فهوبناء معاد قام به بيير ده منتريه Pierre de Montreux بين عامي 1231،1281. والقبومن الطراز الرومنسي، أما القابلة الغربية فتختلط فيها العقود المستديرة والمستدقة، ومعظم تماثيلها المنحوتة من عهد سوجر، وتضم ما لا يقل عن مائة صورة، كثير منها فردي الطابع، وكلها تدور حول أحسن فكرة عن المسيح القاضي نشاهدها في جميع ما أنتجه فن العصور الوسطى.

وبعد اثنتي عشرة سنة من وفاة سوجر كرمه الأسقف موريس دي سلي Maurice de Sully بأن أدخل التحسين على ماهجره من قواعد، وقامت كنيسة نوتردام دي باري Notre Dame de Paris على جزيرة في نهر السين. وإن التواريخ المتصلة ببنائها لتوحي بضخامة العمل الذي استلزمه تشييدها، فقد بنى موضع المرنمين والأجنحة التي على جانب الطرقات بين عامي 1163و182، وبني الصحن من 1182 إلى 1196، وأقيمت الأجزاء التي بين الأعمدة والأبراج فيما بين 1218و1223، وتم بناء الكثدرائية كلها في عام 1235. وكان يقصد في تصميمها الأول حتى تكون البواكي القائمة فوق العقود التي بين الصحن والطرقات على الطراز الرومنسي، ولكن البناء كله اتخذ عند إتمامه الطراز القوطي. والوجهة الغربية أكبر مما تتطلبه الكثدرائية القوطية، ولكن سبب هذا حتى الشماريخ التي كان في النية إقامتها فوق الأبراج لم تبن قط، ولعل هذا هومنشأ ما في القابلة من هيبة ذات بساطة وقوة جعلت الفهماء الأفذاذ يضعونها في مصاف "أنبل ما أنتجته أفكار الإنسان من آراء في فن المعمار"(12). والشبابيك الوردية في كنيسة نوتردام دي باري آية في النقوش الخطية وجمال التلوين، ولكنها لم يقصد بها حتى توصف بالقول أوبالكتابة والتماثيل التي بها، وإن عدا عليها الزمان أوأضرت بها الثورة، تبرز أحسن ما أنتجه الفن بين عصر قسطنطين وبناء كثدرائية ريمس. وقد نحتت في قلب المقص القائم فوق المدخل الرئيسي صور يوم الحساب بتؤدة أعظم مما نقش بها هذا الموضوع الذي نراه في جميع مكان، فصورة المسيح هنا ذات جلال هادئ، والملك الذي عن يمينه من أعظم الفوزات التي أحرزها فن النحت القوطي. وخير من هذا كله صورة عذراء العمود La Vierge de Trumeux القائمة فوق المدخل الشمالي: إذا في هذه الصورة لدقة في التطبيق، وفي صقل السطح الخارجي، وفي الثياب المنسجمة مع الطبيعة، ويسراً جديداً ورشاقة في أوضاع الوقوف، وإلقاء ثقل الجسم على إحدى القدمين، وتحرره بذلك من الوضع العمودي المتصلب. ويكاد فن النحت القوطي يعلل في هذه الصورة الجميلة استقلاله عن فن العمارة وينتج آية خليقة بأن تنتزع مما حولها، وتقام بمفردها تعلن عن فوز هذا الفن. وانتهى في كثدرائية نوتردام دي باري طور الانتنطق وحل عصر الفن القوطي.

وتلقى سيرة كاتدرائية تشارتر ضوءاً على ما كان عليه موضعها في العصور الوسطى وعلى خصائص تلك العصور. فقد كانت تشارتر بلدة صغيرة في الجنوب الغربي من باريس وعلى بعد خمسين ميلاً منها، على أطراف الممتلكات الملكية. وكابت سونطقسهل بوس Beauce"هنري فرنسا". ولكن قيل إذا العذراء نفسها زارت هذا المكان، واتخذها الصالحون من العرج، والمكفوفين، والسقمى، والثاكلين، والثاكلات، مكاناً يحجون إليه، ومنهم من شفي أونزلت في قلبه الطمأنينة عند ضريحها، وبذلك أضحت تشارتر هي بعينها لورد Lourde. يضاف إلى هذا حتى أسقفها فلبير Fulbert، وهورجل جمع بين الطيبة، والذكاء، والإيمان، قد جعلها في القرن العاشر كعبة للتعليم العالي وأما حنوناً لطائفة من أنبه الشخصيات ذكراً في الفلسفة المدرسية. ولما حتى احترقت في عام 1020 كثدرائية فلبير التي شيدت في القرن التاسع، أخذ على عاتقه من فوره حتى يعيد بناءها، وطال عمره حتى شاهد تمام هذا البناء. ولما دمرته النار للمرة الثانية في عام 1134، جعل الأسقف ثيودريك إقامة كثدرائية جديدة بمثابة حرب صليبية حقة، فبعث في قلوب الناس من التحمس لإنجاز هذا العمل ما جعلهم يغدقون عليه من المال والجهد ما وصفه شاهد عيان هوهيمون Haimon رئيس أحد الأديرة النورمندية في عام 1144 بقوله:

رأيت الملوك، والأمراء، وذوي القوة والسلطان من رجال العالم المزهوين بألقاب الشرف وبالثراء، والرجال والنساء من أبناء الأسرة الشريفة، رأيت هؤلاء يطوقون أعناقهم المنتفخة المنبئة بالعظمة والكبرياء بالأرسان، ويشدون أنفسهم إلى العربات يجرونها كما تجرها الدواب، وكتل الخشب وما إليها من الأمور اللازمة لحياة الناس أولبناء الكنائس... يضاف إلى هذا حتى نشاهد تلك لمعجزة تقع في الوقت الذي يجرون فيه العربات: وهي حتى ألفاً من الرجال والنساء... يشدون أحياناً إلى حبال العربات... ومع ذلك فإنهم يتقدمون وهم صامتون لا يسمع لهم صوت ولا همس... فإذا وقفوا في الطريق لا تسمع منهم ألفاظاً إلا اعترافاً بخطاياهم... وضراعة ونادىءاً طاهراً... ويعظهم القسيسون ويدعونهم إلى السلام، وتسلى السخائم والأحقاد من الصدور وتزول مسببات الفرقة والانقسام، وينزل الدائنون عن ديونهم وتعود الوحدة إلى الصفوف(13).

ولم تكد كثدرائية الأسقف ثيودريك تتم (1180) حتى شبت فيها النار في عام 1194 فدمرت الصحن وهدمت قبته وجدرانه، ولم يبق من الكنيسة إلا القبوالسفلي والقابلة الغربية ببرجيها وشمروخيها متفرقة منعزلة، وينطق إذا جميع بيت في البلدة قد دمر في هذا الحريق المروع الذي لا تزال آثاره باقية تشاهد حتى اليوم في بقايا الكثدرائية. وفقد الأهلون شجاعتهم إلى حين وفقدوا بفقدها إيمانهم بالعذراء، وأرادوا حتى يغادروا المدينة ولكن مليور Melior الرسول البابوي الذي لا تلين له قناة نطق إذا الله قد أصابهم بهذه الكارثة عقاباً لهم على ذنوبهم، وأمرهم حتى يعيدوا بناء كنيستهم وبيوتهم، وتبرع رجال الدين في الأسقفية بدخلهم كله تقريباً مدى ثلاث سنين، وتناقل الناس أخبار معجزات جديدة لعذراء تشارتر، وبعث الإيمان في القلوب من جديد، وأقبلت الجماعات مرة أخرى كما أقبلت في عام 1144 لتساعد العمال المأجورين على جر عربات النقل ووضع الحجارة في أماكنها، وتبرعت بالمال جميع كاتدرائية في أوربا(14)، ولم يحل عام 1224 حتى كان الكدح والأمل قد أتما الكاتدرائية التي جعلت تشارتر مرة أخرى مقصد الحجاج من جميع الأنحاء.

وكان التصميم الذي وضعه المهندس المجهول يقضي بألا يقيم الأبراج على جناحي القابلة الغربية وحدها، بل حتى يقيمها أيضاً على الأبواب التي عند ملتقى الطرقات المتعامدة على الصحن وعند القبا، غير أنه لم يبين من هذه الأبراج إلا برجان فوق قابلة الكنيسة. وارتفع برج الناقوس القديم (1145-170) بشمروخه إلى علو351 قدماً في الطرف الجنوبي من القابلة، وهذا البرج سهل غير مزخرف يفضله المهندسون المحترفون على غيره من الأبراج المزخرفة(15). أما البرج الشمالي- المعروف ببرج الجرس الجديد فقد أحرقت النار شمروخه الخشبي مرتين، ثم أعاد جان لي تكسييه Jean le Texier بناءه بالحجارة على الطراز القوطي الكثير الألوان المزدحم بالزخارف الدقيقة، حتى حسبة فرجسون Fergusson" أجمل الشماريخ المنقوشة في القارة الأوربية"(16)، ولكن المتفق عليه بوجه عام حتى هذا الشمروخ الكثير الزخرف لا يتفق مع الوحدة التي تتطلبها القابلة الكالحة المجردة من الزينة(17).

وتعتمد شهرة كنيسة تشارتر على ما تحتويه من تماثيل منحوتة وزجاج، فهذا القصر، قصر العذراء، تسكنه عشرة آلاف شخصية منحوتة أومصورة- من رجال، ونساء، وأطفال، وقديسين، وشياطين، وملائكة، وأشخاص الثالوث، وفي مدخل الكنيسة وحده ألفا تمثال(18)، تضاف إليها تماثيل أخرى مستندة إلى الأعمدة المقامة في داخل البناء، وإن الزائرين الذين يصعدون إلى السقف على الدرج البالغ عدده 312 درجة لتعتريهم الدهشة حين تقع أعينهم على تماثيل منحوتة بعناية وبالحجم الطبيعي في ذلك المكان الذي لا يبصرها فيه إلا الطلعة المتشوف. وتقوم فوق الباب الأوسط صورة رائعة للمسيح ليست كغيرها من الصور التي نحتت فيما بعد عابسة تحكم على الموتى، بل يرى فيه جالساً في جلال هادئ بين طائفة كبيرة من الناس السعداء، وقد مدت يده وكأنه يبارك العباد الداخلين. ويتصل بالتجويف الداخلي لعقد الباب تسعة عشر تمثالاً للأنبياء والملوك، والملكات، وهي نحيلة، متصلبة توأم بشكلها هذا عملها بوصفها عمد الكنيسة، وكثير من هذه التماثيل غير متقنة وناسيرة، ولربما كانت تلفت أوبليت لقدم عهدها، ولكن وجوه بعضها تطالع الناظر إليها بطابع فلسفي عميق، وبراحة لطيفة، أوبرشاقة العذارى التي بلغت درجة الكمال في ريمس.

وقابلات الأجنحة والطرقات الجانبية أجمل ما يوجد نوعها في أوربا. ولكل منها ثلاثة أبواب على جانبيها عمد وقوائم منحوتة نحتاً جميلاً تفصل كلاً منها عن الأخرى، وتكاد تغطيها تماثيل جميع منها منفرد بملامح خاصة إلى حد جعل الناس يطلقون على عدد كبير منها أسماء من أهل تشارتر. وتجتمع تماثيل الباب الجنوبي البالغ عددها 783 تمثالاً حول المسيح الجالس على عرشه في يوم الحساب. وهنا توضع عذراء تشارتر في مركز أقل من مركز ولدها، ولكنها تعوض عن هذا، كما عوضها ألبرتس ماجنس Albertus Magnus، بالعلوم كلها وبالفلسفة، وترى في خدمتها على هذا الباب الفنون الحرة السبعة- الموسيقى ويمثلها فيثاغورس، والجدل ويمثله أرسطو، والبلاغة ويمثلها شيشرون، والهندسة ويمثلها إقليدس، والحساب ويمثله نيقوماخوس، والنحوويمثله برشيان Prician، والفلك ويمثله بطليموس. وقد أمر القديس لويس حتى يتم الباب الشمالي: "بسبب إخلاصه الشديد لكنيسة عذراء تشارتر، ولنجاة روحه وأرواح آبائه" كما اتى بالنص في عهده الصادر عام 1259(19). وحدث في عام 1793 حتى رفضت جمعية الثورة الفرنسية بأغلبية قليلة اقتراحا يقضي بتدمير التماثيل المقامة في كثدرائية تشارتر باسم الفلسفة واسم الجمهورية، وارتضت الفلسفة بعدئذ ألا تدمر هذه التماثيل واكتفت بتحطيم بعض أيديها(20). وهذا الباب الشمالي هوباب العذراء، وهويروي قصتها رواية ملؤها الحب والإجلال. والتماثيل المجسمة المقامة هنا تمثل فن النحت في نضوجه، والثياب التي عليها لا تقل في رشاقتها ومواءمتها للطبيعة عن مثيلاتها في أي نحت يوناني، وصورة "الطهر" تمثل الأنوثة الفنية كأحسن ما يمثلها الفن الفرنسي، ففيها يكسب الطهر الجمال قوة على قوته، وليس في تاريخ النحت كله ما أجمل من هذه الصورة، وفي ذلك يقول هنري أدمز Henry Adams: وهذه التماثيل هي أحسن ما صوره الفن الفرنسي في الرخام"(21).

وإذا ما ولج الإنسان الكنيسة انطبعت في نفسه أمور أربعة تمزج بعضها ببعض: الخطوط البسيطة الممثلة في الصحن والقبة، التي لا تكاد تبلغ في حجمها أوجمالها ما يبلغه صحن كنيسة أمين أوونشستر، وستار مكان المرنمين المزخرف الذي بدأه عام 1514 جان دي تكسبه المولع بكثرة الألوان، وصورة المسيح الهادئة المقامة على عمود عند ملتقى الصحن بالطرقات الجانبية من جهة الجنوب، والتي تغمر المكان كله بلون هادئ وزجاج ملون منبتر النظير. ويرى الناظر في نوافذ هذا المكان البالغ عددها 174 نافذة 3884 صورة مأخوذة من الأقاصيص أوالتاريخ، تختلف من الأساقفة إلى الملوك، وتمثل فرنسا في العصور الوسطى، يراها الناظر في أبهى ما أخرجه الفن من ألوان - حمراء داكنة، وزرقاء خفيفة، وخضراء زمردية، وزعفرانية، وصفراء، وبنية، بيضاء. وفيها ترى مجد تشارتر أكثر مما تراه في أي مكان سواه. وليس من حقنا حتى نطلب حتى تكون الصورة التي في هذه النوافذ صوراً واقعية، ذلك أنها مشوهة، بل إنها لتبلغ حد السخف في بعض الأحيان. فرأس آدم في الحلية الوسطى التي تمثل طرده من الجنة معوج اعوجاجاً يؤلم النظر إليه، وإن العابد ليصعب عليه إذا ما أبصر مفاتن حواء حتى لا يميل إلى شهوته الجنسية. لقد كان هؤلاء الفنانون يظنون حتى حسبهم حتى يروي الصورة سيرة، بينا تمثل الصورة بألوانها. التي يختلط بعضها ببعض ويفني بعضها في بعض في عين الناظر، جوالكثدرائية، وما أجمل صورة نافذة"الإبن المتلاف"؛ وما أعظم الألوان والخطوط في صورة "شجرة يسى" الرمزية ، ولكن أجمل من هذه كلها صورة"عذراء النافذة الجميلة". وتقول الرواية المأثورة إذا هذه اللوحة البديعة أنقذت من النيران التي اندلعت في الكنيسة عام 1194.

وإذا وقف الإنسان عند تقاطع الطرقات الجانبية والصحن رأى نوافذ تشارتر الكبرى الوردية الشكل. وتمتد النافذة الوسطى في القابلة الرئيسية أربعين قدما كاملة، وتكاد تضارع في اتساعها الصحن الذي تطل عليه، ولقد وصفها بعضهم بأنها أجمل تحفة من الزجاج عهدها التاريخ(23). وتغمر النافذة المعروفة "وردة فرنسا" ملتقى الطرق بالصحن من جهته الشمالية بفيض من الضوء. وكان زجاج هذه النافذة قد أهدى إلى لويس التاسع وبلانش القشتالية، ثم أهدياه إلى العذراء، ويقابلها في الناحية اللقاءة لها من الكنيسة "وردة درية Dreux" القائمة عند تقاطع الطرقات بالصحن في القابلة الجنوبية وهي التي أهداها بيير موكلير Pierre Mauclere من دريه وبلانش، والتي تضع ابن مريم لقاءاً "لأم الإله" في نافذة بلانش. وثمة خمس وثلاثون وردة أصغر من هذه واثنتا عشرة وريدة أصغر من هذه أيضاً، وبها تتم مجموعة زجاج تشارتر الدائري، وإذا ما وقف صاحب النزعة الحديثة، الذي تمنعه سرعته واضطراب أعصابه من حتى يحتاج الكمال المحتاج إلى الصبر والهدوء، أمام هذه المناظر، أخذته الدهشة والحيرة من هذه الأعمال التي يجب حتى تعزى إلى ما يتصف به الشعب والجماعة، والعصر، والعقيدة الدينية، من سموفي العاطفة عثر في العمل لا إلى عبقرية أفراد معدودين.

ولقد اخترنا كنيسة تشارتر لتمثيل العمارة القوطية الناضجة أوالمتشعبة، وليس من واجبنا حتى نعمد إلى هذه الإطالة نفسها في الحديث عن الكنائس ريمس، وأمين، وبوفيه. ولكن منذا الذي يستطيع حتى يمر مسرعاً بالقابلة الغربية من كنيسة ريمس،يا ترى؟ ووحتى الشماريخ الأصلية ظلت حتى الآن قائمة فوق الأبراج لكانت هذه القابلة أعظم ما قام به الإنسان من أعمال، وإنا لتدهشنا وحدة الطراز وأجزاء الكنيسة المتنوعة وتناسقها في بناء أقامته ستة أجيال من الناس. فقد دمرت النار في عام 1210 الكثدرائية التي أتمها هنكمار Hincmar في عام 840 ، وبدئت في يوم الذكرى الأولى لهذا الحريق كثدرائية جديدة من تصميم ربرت دي كوسي Robert de Coucy وجان دوربيه Jean dorbais. تليق بأن يتوج فيها ملوك فرنسا. ودام العمل أربعين عاماً نفد بعدها المال، فوقف البناء (1251)، ولم تتم الكنيسة العظيمة إلا في عام 1427. ودمرت النار في عام 1480 شماريخ الأبراج، واستخدمت أموال الكثدرائية المدخرة في ترميم البناء الرئيسي، أما الأبراج فلم يجدد بناؤها. ودمرت القنابل في الحرب العالمية الأولى عدداً من مساند الجدران وأحدثت فجوات كبيرة في السقف وفي القبة، ودمرت النار السقف الخارجي وحطمت كثيراً من التماثيل، ودمرت جماعات من المتعصبين عدداً آخر من الصور، وعدا الزمان على بعضها الآخر فأبلاه ذلك حتى التاريخ صراع بين الفن وعوادي الأيام.

وتمثل روائع النحت في كنيسة ريمس، كما تمثل قابلتها، أرقى ما وصل إليه الفن القوطي، فبعضها عتيق فج ولكن الموجود منها في المدخل الأوسط منبتر النظير، وإنا لنلتقي في عدة أماكن على أبواب الكنيسة، وقمم أبراجها المستطيلة. وفي داخلها، بتماثيل تكاد تضارع في صقلها ما نحت في عصر بكليز. ولسنا ننكر حتى منها ما مفرط في الرشاقة كتمثال العذراء القائم على عمود المدخل الأوسط، وأنها توحي إلى الناظر بضعف قوة القوط، ولكن تمثال "العذراء التطهير" القائم عن يسار هذا المدخل نفسه، وتمثال "عذراء زيارة الملاك" القائم عن يمينه ليعدان من حيث التفكير والتطبيق من الأعمال الجليلة التي يعجز القلم واللسان عن وصفها. وأوسع من هذين التمثالين شهرة، وإن لم تبلغ مبلغهما من الكمال، تماثيل الملائكة الباسمة في مجموعة تماثيل البشارة القائمة في هذه القابلة. ألا ما أعظم الفرق بين الوجوه المستبشرة وبين تمثال القديس بولس القائم عند مدخل الشمالي! وأن كان هذا التمثال من أقوى الصور التي نحتت في الحجر.

وتوق التماثيل المنحوتة في كثدرائية أمين تماثيل ريمس في رشاقتها وصقلها، ولكنها تقل عنها في جلال التفكير وعمق الإيحاء. فهنا نرى فوق الباب الغربي تمثال الإله الجميل Beau Dieu الذائع الصيت، وهوتمثال تقيد صانعه بعض الشء بالتنطقيد، وخلا بعض الئ من الحياة، وهما عيبان يطالعاننا بعد حتى نشاهد تماثيل ريمس الحية الناطقة. وهنا أيضاً تمثال القديس فرمين Firmin وهولا يمثله زاهداً فزعاً بل يمثله رجلا هادئاً صلبا لم يشك في يوم من الأيام بأن الحق يفترض أن ينتصر، وهنا أيضاً عذراء تحتضن طفلها بين ذراعيها، ويبدوعليها جميع ما تتصف به الأمومة الصغيرة السن من استغراق الحنان. وفي الباب الجنوبي نرى العذراء المضىية تبتسم وهي ترقب طفلها يلعب بكرة، وقد جملها المَثّال قليلا. ولكنها أكثر رشاقة من حتى تستحق ما وصفها به رسكن Ruskin في غير كياسة بأنها "مدللة بيكاردي (Soubrette of picardy)." وما ألذ حتى يرى الإنسان المثالين القوط يكتشفون الرجال والنساء، بعد حتى ظلوا مائة عام في خدمة الأغراض الدينية، وينحتون بعد هذا الكشف متع الحياة على قابلات الكنائس. وغضت الكنيسة النظر عن هذا الكشف بعد حتى عهدت هي أيضاً كيف من الممكن أن تستمتع بالحياة الدنيا، ولكنها رأت من الحكمة حتى تصور منظر يوم الحساب على القابلة الرئيسية.

وبنيت كثدرائية أمين فيما بين 1220و1288، وقام ببنائها سلسلة متتابعة من المهندسين. ربرت دي لوزارك Robert De Luzarches، وتومس دي كورمنت Thomas de Cormonte وابنه رنيول Regnault. ولم يتم بناء الأبراج إلا في عام 1402. وداخلها هوأكثر الصحون القوطية نجاحاً، فهويرتفع في قبة علوها 140 قدماً، ويخيل إلى الناظر أنها تجتذب الكنيسة إلى أعلى، وليست تتحمل ثقلا. وترتبط بواكي الصحن ذات الثلاث الطبقات جذوع متصلة ممتدة من الأرض إلى القبة فتجعل منها وحدة فخمة ذات عظمة وجلال. وتعد القباب القائمة فوق القبا فوزاً للتصميم المتناسق على اختلاف النظام الباعث على الحيرة والارتباك، وإن المرء ليذهل وتقف دقات قلبه حين تقع عيناه أول مرة على نوافذ الطابق الأعلى وعلى ورود أمكنة تقاطع الطرقات والصحن وعلى القابلة .

وفي كثدرائية بوفيه عدا هذا الولعُ القوطي بالقباب طوره وبلغ مصيره المحتوم وهوالسقوط. وذلك حتى فخامة كتدرائية أمين أثارت الغيرة في قلوب أهل بوفيه، فبدوا بثلاث عشرة قدما. ووصلوا بموضع المرنمين إلى الارتفاع المطلوب، ولكنهم ما كادوا يضعون سقفه حتى انهار واستفاق جيل آخر من هذه الكارثة فأعاد بناء موضع المرنمين إلى ارتفاعه السابق ولكنه انهار مرة أخرى في عام 1284. وأعيد البناء للمرة الثالثة وعلوا به هذه المرة إلى ازدياد 157 قدماً فوق الأرض، ولما نفد ما عندهم من المال هجروا الكنيسة قرنين كاملين من غير جناحين أوصحن. ولما أفاقت فرنسا آخر الأمر من حرب المائة السنين في عام 1500، بدئ الجناحان الضخمان، ثم أقيم فوق ملتقى الجناحين برج فانوس بلغ ارتفاعه خمسمائة قدم ليعلوبذلك على شمروخ كنيسة القديس بطرس في روما. وانهار هذا البرج أيضاً في عام 1573 وانهار معه كبير من الجناحين ومكان المرنمين. ثم قنع أهل بوفيه الأبطال آخر الأمر بحل وسط: فرمموا موضع المرنمين وبلغوا به علوه غير الأمين، ولكنهم لم يضيفوا إليه صحناً، ولهذا فإن كثدرائية بوفيه كأنها رأس بلا جسم، فهي من خارجها قابلتان لجناحين جميلين قيمين، وقبا تحيط به وتخفيه السنادات، ومن داخلها موضع للمرنمين كالكهف يتلألأ بالزجاج الفخم الملون. ويقول أحد الأمثال الفرنسية القديمة إنه لواستطاع الإنسان حتى يضم موضع المرنمين في كنيسة بوفيه إلى صحن كنيسة أمين، وإلى قابلة ريمس وشماريخ تشارتر، لواستطاع ذلك لكانت كثدرائية قرطبة تبلغ حد الكمال.

وإذا ما عاد الناس بخيالهم في العصور المقبلة إلى ذلك القرن الثالث عشر فسوف تتملكهم الحيرة فلا يدرون من أين كان لأهل هذا القرن ذلك الثراء الذي أقاموا به على الأرض تلك الصروح الفخمة المجيدة. ذلك أنه ما من أحد يستطيع حتى يعهد ما صنعته فرنسا في ذلك الوقت - بالإضافة إلى جامعتها، وشعرائها، وفلاسفتها، وحروبها الصليبية- إذا وقف بنفسه أمام واحدة تلوواحدة من تلك الصروح القوطية الجريئة التي لا تعدوحتى تكون هنا مجرد أسماء: نوتردام، وتشارتر، وريمس، وأمين، وبوفيه؛ وبروج (1195-1350) ذات الصحن الرحب، والطرقات الأربع، والزجاج الذائع الصيت، والملاك الجميل النحت ذي الميزان، وجبل ساتنت ميشيل وديره العجيب (1204-1250) القائم في حصن مشرف على صخرة في وسط ماء البحر بالقرب من نورمندية، وكنستانس (1208-1328) وشماريخها النبيلة، ورون (1201-1500) وبابها الأمامي باب ناشري الخط، وسانت شابل في باريس - "صندوق جواهر" الزجاجي القوطي التي شادها (1245-1248) بييردي منتريه لتكون ضريحاً متصلا بقصر القديس لويس يضم المخلفات التي ابتاعها ذلك الملك من بلاد الشرق. ومن الخير حتى نتذكر في عصور الدمار حتى مقدور الناس إذا شاءوا حتى يبنوا كما بنوفي فرنسا يوماً من الأيام.

نهضة القصور

أحس الفن الفرنسي الآن كله، اللهم إلا العمارة الدينية، تأثير الملكية الآخذة بأسباب القوة وفتوحها الإيطالية ذلك لأن الكنيسة تشبثت بالطراز القوطي المشع، في العمارة معبرة عن اضمحلالها بالزينة المسرفة والتفاصيل المبالغ فيها، ولكن هذا الطراز، كان يحتضر، مثله في ذلك، مثل امرأة خليعة تجمع وهي تجود بأنفاسها جميع المظاهر النسوية، من رقة وزينة ورشاقة. ومع هذا كله بدأ تشييد بعض الكنائس الفخمة في هذا العصر: سانت ولفرام في ابيفيل، سانت أتين دي مون في باريس، والمزار الصغير المتقن الذي شيدته مرجريت أميرة النمسا في برو، تخليداً لزوجها فيلبرت الثاني ملك سافوي. وأدخلت على المباني القديمة، زخارف جديدة، ووصفت كاتدرائية روين، بابها الشمالي باسم "الباب المخطي" نسبة إلى حوامل الخط في صحن الكنيسة، وأنفقت المبالغ التي جمعت للانغماس في أكل الزبد في لنت، على إقامة البرج الجنوبي الرائع، وهوالبرج الذي أسمته الفكاهة الفرنسية: "برج الزبدة"، واستطاع كاردينال امبواز حتى يحصل على أموال يشيد بها القابلة الغربية، على الطراز المشع نفسه. ومنح بوفيه، جناح الكنيسة الجنوبي، رائعتها التي لم تتم. ويفوق بابها ونافذتها الوردية معظم القابلات الرئيسية، وحسّن سينلس، وتور وترويس هياكلها، وشيد جان لوتكسبيه في شارترز، برجاً شمالياً غربياً مشرفاً، وحاجزاً ضخماً للمرتلين، وقد ظهرت فيها أفكار عصر النهضة التي تغلب الخطوط القوطية. أما برج سانت جاك الرائع في باريس، فهوالبقية المـَرمَّمة من كنيسة، أقيمت في هذا العهد لسانت جيمس الأعظم. وأفصحت مباني النبلاء المدنية عن الصراع والفوضى في ذلك العصر وأنشئت البلديات للمدن في أراس ودواي وسانت-أومر ونويون وسانت كنتان وكومبيين ودرين وايفريه وأورليان وسومور-وشيدت جرينوبل "دار القضاء" عام 1505، وشيدت روين داراً أكثر بهاءً عام 1494، صممها روبرت انجوورولان ليروعلى الطراز القوطي المزخرف، وأعاد القرن التاسع عشر زخرفتها. ثم اتىت الحرب الثانية فخربتها. وهذا هوالقرن الأول الذي ظهر فيه القصر ذوالطابع الفرنسي، ذلك لأن الكنيسة أخضعت للدولة، فغلب الاستمتاع بالحياة في الدنيا على الاستعداد للآخرة، وأصبح الملوك يستطيعون حتىقد يكونوا آلهة، وأن ينشئوا، تزجية لفراغهم، فردوساً على طول نهر اللوار. وتحول "القصر المنيع" أوالقلعة بين عامي 1490، 1530 إلى "قصر الملذات". وطلب شارل الثامن بعد حتى عاد من حملته على نابولي، إلى معمارييه، حتى يشيدوا له قصراً، في فخامة ما شاهده في إيطاليا. وكان قد أخضر معه المعماري الإيطالي فراجيوفاني جيوكوندو، والمثال الرسام جيدوماتزوني، والنقاش على الخشب دومينيكوبر نابي "بوكادور"، وتسعة عشر فناناً إيطالياً آخرين، وكان بينهم معماري تخصص في المباني الخلوية هودومينيكوباتشيلو. وهوالذي أصلح قبل ذلك قلعة أمبواز القديمة، وكلف الملك هؤلاء الرجال، يعاونهم بناءون وعمال فرنسيون، حتى يحولوها إلى مسكن مترف يليق بالملك "على الطراز الإيطالي". وكانت النتيجة بالغة الفخامة: فقد نهضت بجلال، على منحدر يشرف على النهر الوديع، مجموعة من الأبراج، والقباب والطنف، وزخارف من الرفارف ومخادع وشرفات. إلى غير ذلك ولد نوع حديث من العمارة.

فضايق هذا الطراز الوطنين والمحفظين على القديم، بالمزاوجة بين الأبراج القوطية وبين قصور عصر النهضة، وبإحلال الأشكال والتفاصيل الكلاسية، محل الزخرف المشع. وظلت الجدران، والأبراج الأسطوانية والأسقف العالية المنحدرة، والشرفات الخاصة بالدفاع والخنادق العارضة، تتسم بطلع القرون الوسطى، تذكر بالوقت، الذي كان فيه دار المرء، يجب حتى تكون قلعته وحصنه في وقت واحد، ولكن الروح الجديدة أخرجت المسكن من غلافه العسكري الكثيف، وعرضت النوافذ وحددتها بخطوط مستقيمة لتسمح بدخول أشعة الشمس، وجملتها بأطر من الحجر المنقور، وزينت الداخل بأنصاف عمد كلاسيكية مربعة وأفاريز وزينات مدلاة وتماثيل ونقوش عربية وزخارف بارزة، وأحاطت البناء بالبساتين والنوافير والأزهار وغابة للصيد أوسهم بسام. ولقد أخلى الظلام في هذه الدور المترفة مكانه للنور، كما انقشع الخوف والكآبة، اللذان اتسمت بهما القرون الوسطى وحل محلها اطمئنان عصر النهضة وجرأته ومرحه. وأضحى حب الحياة طرازاً معمارياً. ونحن نبالغ في الحكم على هذه القصور في عصرها الأول إذا ألحقنا بها أصلها أوإذا عرضنا لتطورها الكامل. فإن كثيراً منها كان موجوداً قبل ذلك في صورة القلاع، ولم يحدث فيها غير مجرد التعديل، وأكمل القرنان السادس عشر والسابع عشر، هذا الشكل الفني حتى بلغا به الانسجام الأرستقراطي، وغير القرن الثامن عشر هذا الاتجاه وأحل ملحمة فرساي العظيمة، محل روح القصور الغنائية المرحة. وكان قصر شينون الحصين، قديماً، عندما استقبل فيه شارل السابع، جان (1429)، كما مر لوشي بتاريخ طويل باعتباره مرقاً ملكياً وسجناً، عندما وفد عليه لودوفيكوالموروسجيناً (1504) وذلك بعد حتى استولى لويس الثاني عشر على ميلان للمرة الثانية. وأصلح جا بوريه، وهووزير لويس الحادي عشر حوالي عام 1460، قلعة لانجيه، التي أنشئت في القرن الثالث عشر، في شكل، يتسم أساساً بطابع القرون الوسطى، وإن كانت من أحسن القصور الباقية إلى الآن. وشيد شارل دامبواز حوالي عام 1473، في شومون، قصراً آخر على نهج القرون الوسطى، وأقام أخوه الكاردينال في جايون، قصراً حصيناً فخماً (1497-1510) أتلفته الثورة الرعناء. ورمم دينوا وهونبيل "ابن سفاح من أورليان" قصر شاتودن (1464)، وأضاف كاردينال أورليان لونجفيل، جناحاً جديداً لهذا القصر، على الطراز الذي يزاوج بين القوطي وعصر النهضة. ولا تزال في قصر بلوا، أجزاء على نمط القرن الثالث عشر، وقد أنشأ له لويس الثاني عشر، جناحاً شرقياً، في وحدة متجانسة من الآجر والحجر، ومن الأبواب القوطية ونوافذ عصر النهضة، ولكن ذروة فخامته كانت تنتظر فرنسيس الأول.

وكانت الفترة الأخيرة للنحت القوطي رائعة إلى أقصى حد بالزخرف المنقور ببراعة في المقابر، وبالمحفة في كنيسة برو، حيث تبدوسيبيل أجرّبا، في شكل لا يقل جمالاً عما هي في شارترز أوريمز. ولكن الفنانين الإيطاليين كانوا يعيدون في الوقت نفسه، صياغة النحت الفرنسي على طراز عصر النهضة، استقلالاً وانسجاماً ورشاقة. وزاد الاتصال بين فرنسا وإيطاليا بفضل زيارة رجال الدين والسفراء والتجار والرحلة، وقامت الأمور الفنية الإيطالية المستوردة وبخاصة الأدوات الصغيرة المصنوعة من البرونز، مقام المبعوثين من عصر النهضة من الذوق والشكل الكلاسيين. وتحولت الحركة، بمجيء شارل الثامن وجورج وشارل صاحب امبواز، إلى تيار كتدفق والفنانون الإيطاليون هم الذين أنشأوا "مدرسة امبواز" ذات التأثير الإيطالي في المقر الريفي للملوك. وتعد مقابر الملوك الفرنسيين، في كنيسة سانت دينيس، سجلاً أثرياً، للتحول، ومن جلال النحت القوطي الجهم، إلى الأناقة الرقيقة والزخرف الذي ينم على المرح، الذين اتسم بهما تصميم عصر النهضة، معلنة المجد محتفلة بالجمال حتى في فوز الموت.

ويتجسم هذا التحول في إنسان ميكيل كولومب. ولد عام 1431، ووصف عام 1467 بأنه "أعظم نحات في المملكة الفرنسية قبل حتى تغزوفرنسا إيطاليا وتبتلعها بزمن طويل. وكان النحت الغالي من الآن فصاعداً، كله تقريباً من الحجر، فاستورد كولومب رخام جنوا، وحفر عليها صوراً لا تزال عابسة جامدة بمسحة قوطية واضحة، لكنها وضعت في أطر زاخرة بالزينة الكلاسيكية. لقد نقش لقصر جايون، نقشاً بارزاً مرتفعاً يمثل "القديس جورج والتنين"-في صورة فارس لا حياة فيه على صهوة جواد ناشط خفيف الحركة، وهما محاطان بأعمدة وأفاريز ورفرف في تصميم عصر النهضة. وبدأ في "عذراء العمود" المنقوشة على الحجر، لكنيسة سانت جالمييه، وأن كولومب حقق الوداعة الكاملة التي يتسم بها الأسلوب الإيطالي في بساطة الملامح ولطفها، وفي الخطوط الناعمة للشعر المرجل. وربما كان كولومب هوالذي نقر، في شيخوخته "المدفن الشرقي" (1496) في سرداب كنيسة سولزمس .

وتأثرت فرنسا في التصوير بالأراضي الواطئة، كما تأثرت بإيطاليا فقد بدأ نيكولاس فرومنت بواقعية هواندية في صورته "بعث لازارو"" ولكنه انتقل عام 1476 من أفنيون إلى ايكس آن بروفانس ورسم لرينيه صاحب انجوالصور ثلاثية الطيات "علـّيقة موسى"، وتظهر الصورة الرئيسية فبها، وهي العذراء على العرش، سمات إيطالية مهادها، وفي العذراء السمراء، وموسى المهيب، والمـَلَك الفاتن، وكلب الصيد المتحفز والأغنام المخلصين، وهنا أحرزت إيطاليا فوزاً كاملاً. وطبع تطور مماثل في الأسلوب أعمال "أستاذ مولان"، ولعله جان بريال. فلقد مضى إلى إيطاليا مع شارل الثامن ثم مع لويس الثاني عشر، فرجع ومعه نصف فنون عصر النهضة في سجل مؤهلاته- فكان رسام منمنمات ونقوش جدارية ومصور أشخاص ومثالاً ومعمارياً. وصمم في نانت- ونقش كولومب على الحجر- المقبرة الرائعة لفرنسيس الثاني دوق بريتاني، وخلد في مولان ذكر أوليائه آن وبيير البيجومي، مع الرسوم الجميلة للأشخاص التي توجد الآن في اللوفر.

ولم تحتفظ الفنون الصغيرة بالامتياز الذي كان لها في القرون الوسطى المتأخرة. فقد تحول المزخرفون الفلمنكيون، منذ زمن طويل إلى الموضوعات الدنيوية والمناظر الأرضية. وتمثل منمنمات جان بورديشون في "صلوات آن أميرة بريتاني" (1508) العودة إلى البساطة والتقوى اللتين تتسم بهما القرون الوسطى مثل الأساطير المحببة عن العذراء وطفلها، ومأساة جلجوثا وفوز القديسين، والرسم رديء والمهاد كلاسية واللون قوي صاف، جميع هذا في جوهادئ من التأنق والشعور النسويين. واتخذ الزجاج الملون في هذا العصر-وقد يحدث ذلك على سبيل اللقاءة- واقعية فلمينكية عند النظرة الأولى لا تلائم النوافذ التي تدخل الضوء الساطع على أرضية الكاتدرائيات، ومع ذلك فإن الزجاج الذي نقش في هذا العصر لاوخ وروين وبوفيه، فيه آثار من روعة القرن الثالث عشر. وأعادت ليموج إشعال أفرانها، التي خمدت طوال قرن كامل، ونافست إيطاليا والبلاد الإسلامية، في طلاء الأواني بالميناء الصافية. ولم يفقد الحفارون على الخشب حذقهم، ومضى رسكين إلى حتى مواضع الممثلين في كاتدرائية أمين هي خير ما في فرنسا بأسرها، وأثارت السجاجيد الملونة التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الخامس عشر، انتباه جورج صاند في قصر بريساك (1847)، وأصبحت ذخيرة متحف كلوني في باريس، وفي متحف جوبلنز سجاجيد رائعة (حوالي 1500) تصور موسيقيين يعزفون في حديقة أزهار السوسن.

وكان القرن الخامس عشر مجدباً بصورة عامة في الفن الفرنسي باستثناء عمارة القصور. فلقد حرثت أقدام الجنود الأراضي وأخصبتها بدماء الحروب، ولكن ختام هذه الفترة، هوالذي شاهد رجال عندهم الوسائل والفراغ نثروا البذور التي استطاع فرنسيس الأول حتى يجني ثمارها. فإن صورة فوكيه لنفسه إنما تنم على عصر خنوع وبأس، وتعكس منمنمات تلميذه بورديشون، السلام العائلي في الزواج الثاني للويس الثاني عشر، والطمأنينة المبتسمة للأرض المسترجعة. فقد تجاوزت فرنسا أسوأ عهودها، ويوشك أحسنها حتى يجيء.


انظر أيضاً

  • العمارة القوطية
  • Romanesque architecture
  • Cathedral architecture of Western Europe
  • Gothicmed
  • القوطية الپولندية
تاريخ النشر: 2020-06-04 17:42:04
التصنيفات: العمارة القوطية في فرنسا, العمارة الفرنسية القروسطية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

مقاييس التساقطات المطرية المسجلة خلال الـ24 ساعة الماضية في المملكة

المصدر: زاكورة بريس - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:10:28
مستوى الصحة: 18% الأهمية: 26%

التأمين الصحى يصدر قرارا بشأن الإجازات الاستثنائية

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 17:39:29
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 51%

تعادل ايجابي بين الخليج والعدالة

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2021-12-27 17:41:45
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 40%

أعراض ارتفاع الكوليسترول.. علامة تحذير كريهة الرائحة

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2021-12-27 17:42:19
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 65%

291 إصابة جديدة بكورونا تتوزع على 9 جهات بالمملكة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:10:46
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 45%

وزير الدفاع التركي يدعو الأطراف البوسنية إلى التحلي بالحكمة

المصدر: TRTعربي - تركيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:18:30
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 78%

العصبة الوطنية تكشف سبب تأجيل مبارة الجيش والرجاء

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:10:41
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 39%

ستاندرد آند بورز 500 يصعد لمستوى مرتفع بفضل بيانات التجزئة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:17:46
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 95%

العراق.. 29% من النساء يتعرضن للعنف و20% منهن أميَّات

المصدر: TRTعربي - تركيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:18:26
مستوى الصحة: 61% الأهمية: 75%

الشباب يهزم التعاون بثلاثية ويضيق الخناق على المتصدر

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:17:48
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 94%

تفاصيل تقشعر لها الأبدان.. وحش بشري يفترس ابنة الـ6 سنوات

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:18:23
مستوى الصحة: 99% الأهمية: 89%

الدفاع الروسية: الناتو يستعد لمواجهة شديدة الضراوة مع روسيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:15:02
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 95%

كوفيد بجهة مراكش آسفي..لا وفيات جديدة والإصابات ترتفع بـ32 حالة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:10:39
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 40%

الوداد يتوجه إلى الرباط مساء يومه الإثنين تأهبا لمواجهة الفتح

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:13:48
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 59%

من هو اللاعب السابق الذي اعتذرت الشرطة البريطانية عن قتله؟

المصدر: BBC News عربي - بريطانيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:14:31
مستوى الصحة: 96% الأهمية: 88%

بايدن يوقع على ميزانية دفاعية بقيمة 770 مليار دولار في العام 2022

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2021-12-27 18:17:37
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 88%

تحميل تطبيق المنصة العربية