فلنصرع الفقراء

عودة للموسوعة

فلنصرع الفقراء

مصدر الموضوع:

بلال فضل

هل نصرع الفقراء؟

حدثا اتىت سيرة (ثورة الجياع) وكثيراً ما تجيء هذه الأيام، أتذكر الشاعر الفرنسي العظيم شارل بودلير وحكايته مع الشحاذ المصفوع التي رواها في قصيدة بعنوان (فلنصرع الفقراء Assommons les Pauvres !)، ضمّها ديوانه الشهير (سأم باريس). ونشرت بعد وفاته في ديوان "قصائد قصيرة نثرية Petits poèmes en prose"، عام 1869.

شارل بودلير، تصوير نادار، 1855

ستكشف قراءة الديوان لك أنه على أيام بودلير أيضاً، وفي تلك السنين من القرن التاسع عشر، انتشرت تلك الخط التي تبيع للناس الأوهام، وتصور لهم إمكانية جعلهم "سعداء وحكماء وأغنياء في أربع وعشرين ساعة"، وانتشارها الكبير جعل شارل بودلير يقرر الاعتزال في غرفته لمدة أسبوعين، محاطاً بتلك الخط المليئة بخزعبلات (مقاولي السعادة العمومية)، محاولاً التهام واستيعاب نصائحهم للفقراء بأنقد يكونوا عبيداً، ومحاولتهم إقناع الفقراء في نفس الوقت بأنهم جميعاً "ملوك غير متوجين"، وهوتناقض جعل بودلير يعيش في حالة تشارف البلاهة على حد تعبيره.

لم تنجح تلك الخط الكاذبة الرديئة في إقناع بودلير بشيء، لكنها ألهمته من حيث لا تحتسب، فبدأ يحس ببذرة غامضة محبوسة في أعماق قلبه، لفكرة تسموعلى جميع مأثورات العجائز التي كان يتصفحها، لكنها لم تكن سوى فكرة غامضة، جعلته يخرج من غرفته بظمأ عظيم إلى الهواء الطلق، ظمأ أرجع الفضل فيه "لما تخلفه القراءات الرديئة من مذاق مشبوب يولد الحاجة إلى الانتعاش"، وفي طريقه لدخول إحدى الحانات، أعطى له شحاذ بقبعته وهويوجه إليه واحدة من "تلك النظرات التي لا تُنسى، والتي يمكن حتى تقلب العروش، لوكان للروح حتى تُزعزع المادة، ولوكان لنظرة منوم مغناطيسي حتى تنضج الكُروم". لم يتوقف بودلير كما يروي في قصيدته عند ذلك الحد، بل قام بطرح العجوز المتهالك أرضاً، وقام بتسديد ركلة إلى ظهره، كانت قوية بما يكفي لتحطيم عظامه

سمع بودلير صوتاً يوشوش في أذنه، صوتاً يعهده جيداً، "صوت ملاك طيب أوشيطان طيب يصحبني في جميع مكان"، فتذكر على الفور سقراط الذي كان له شيطان طيب، لكن شيطان سقراط لم يكن يتجلى له إلا من أجل النهي والتحذير والمنع، أما شيطان شارل بودلير الطيب ـ أوملاكه الطيب فهولم يحدد نوعه بعد ـ فقد كان يقدم له النصح والاقتراح والإقناع. كان شيطان سقراط تحريمياً، أما شيطان شارل فقد كان شيطاناً توكيدياً عظيماً، شيطاناً يسعى إلى العمل ويهدف إلى الصراع، ولأنه كذلك فقد وسوس لشارل بودلير خلال وقوفه إلى جوار الشحاذ قائلاً: "لا يتساوى مع غيره إلا من يستطيع البرهنة على ذلك، ولا يستحق الحرية إلا من يعهد الفوز بها".

في ثوان كان لوسوسة شارل بودلير شيطان مفعول السحر، فقد قفز من فوره على الشحاذ، وبضربة واحدة من قبضته، أغلق للشحاذ عيناً، سرعان ما أصبحت منتفخة مثل كرة من قوة الضربة المباغتة، ثم كسر شارل بودلير أحد أظافره، وهويقوم بتهشيم سنّتين من أسنان الشحاذ، ولأنه لم يكن لديه القدر الكافي من القوة الجسدية، بسبب ممارسته للقليل من الملاكمة، لم يتمكن من صرع الشحاذ العجوز بالسرعة التي كان يتمناها، ولذلك فقد أمسك بودلير بالشحاذ من ياقة ثوبه، وقبض على عنقه، وراح يضرب رأسه بقوة في الحائط، وبالطبع لم يكن ليعمل ذلك إلا بعد حتى قام بمسح المنطقة المحيطة بنظرة عين، وتأكد أنه في تلك الضاحية المهجورة سيكون لوقت كافٍ بمنأى عن منال أي فرد من رجال الشرطة. ولم يتوقف بودلير كما يروي في قصيدته عند ذلك الحد، بل قام بطرح العجوز المتهالك أرضاً، وقام بتسديد ركلة إلى ظهره، كانت قوية بما يكفي لتحطيم عظامه، ثم واصل الاستماع إلى وساوس شيطانه، فالتقط غصن شجرة كان مرمياً على الأرض وضرب الشحاذ بقوة عنيدة تليق بطباخ يريد تليين شريحة لحم صلبة القوام.

لم تستمر تلك الحفلة الوحشية إلى الأبد، لأن شارل بودلير كان سعيداً حين جرب فرحة الفيلسوف الذي يتحقق من امتياز نظريته، وقع ذلك حين سقطت المعجزة، ورأى ذلك الهيكل العظمي العتيق وهويستدير نحوه، ويتشامخ بحيوية لم يخطر له على بال، أنها يمكن حتى توجد في ذلك الجسم الخرب، وصوب نحوبودلير نظرة كراهية بدت له أخيراً فأل خير، قبل حتى يقفز نحوبودلير وينهال عليه ضرباً، فيورِّم له عينيه الاثنتين، ويهشم له أربع أسنان، ثم يلتقط غصن الشجرة نفسه الذي تعرض للضرب به، فيوسعه به ضرباً مبرحاً، وهوضرب لم يؤلم بودلير كثيراً، فقد كان في غاية السعادة، لأنه بفضل علاجه الحيوي، أعاد للشحاذ الكبرياء والحياة.

أوفد شارل بودلير إلى الشحاذ إشارات واضحة ليدرك أنه حقق الفوز، فيتوقف عن ضربه، وحين نهض بودلير من رقدته على الأرض بعد جميع ما تعرض له من ضرب، نطق للشحاذ بسعادة بالغة: "سيدي أنت ندُّ لي، فلتمنحني شرف اقتسام محفظتي معك، وتذكر أنك ما إذا كنت حقاً محباً للبشر، فينبغي عليك حتى تطبّق على جميع إخوانك ـ عندما يطلبون منك صدقة ـ النظرية نفسها التي كنت آسفاً على تجريبها فوق ظهرك"، فأقسم له الشحاذ إنه وعى نظريته وإنه سينفذ نصائحه. كانت الحكاية هكذا دائماً وستظل: يراهن الطغاة على تحويل الناس إلى مسوخ لا مبالية، ويحلم الشعراء بانتفاض الناس يوماً ما، حين يفيض بهم الكيل من فرط ما تعرضوا للصفع والتنكي

لا زلت أذكر كيف من الممكن أن أثارت تلك الفكرة الشيطانية "الطيبة" الكثير من الفزع، حين حدثت عنها حضور ندوة عن الفقراء والعمل الخيري، شاركت فيها قبل ثورة يناير بسنوات، وكنت وقتها قد قلت إذا العمل الخيري الذي كانت تشجعه حكومة مبارك، يضر بالفقراء بل وبالمجتمع كله، لأنه يؤخر لحظة لقاءته الحقيقية لمشاكله، ويساعد على تسكين آلام سقم سرطاني ينخر في جسد المجتمع، وحين سألني أحد الحاضرين غاضباً عما إذا كنت أطالب بتقليص العمل الخيري، قلت له إنني لا أملك إجابة قاطعة عن سؤاله، وإنني في الحقيقة كنت أتمنى تطبيق فكرة بودلير، لكنني استوعب استحالة ذلك في مجتمعنا الذي يحب المسكنات وأنصاف الحلول، وبالطبع لم أكن أنا ولا السائل ولا الحضور، نتصور أننا سنشهد الأيام التي سيتعرض الفقراء فيها للصفع والركل والتنكيل دون رحمة، مثلما يحدث الآن في عهد عبد الفتاح السيسي الذي رقص ملايين الفقراء طرباً بقدومه، ورأوا فيه المخلص والمنقذ.

في الحقيقة، لم تكن فكرة بودلير أكثر من أمل طيب لشيطان يكره الموات والاستسلام، في أيام لم يكن فيها رصاصات حية ومطاطية وقنابل مسيلة للدموع وعساكر أمن مركزي وغيرها من المستحدثات التي تجعل الفقير يفكر ألف مرة قبل حتى يرد الصفعة لمن يقوم بصرعه، وتجعل اللا مبالاة هي سلاحه الوحيد للبقاء على قيد الحياة، تلك اللا مبالاة التي أبدع شارل بودلير نفسه في وصفها في إحدى قصائد ديوانه ـ الذي أبدع الشاعر الكبير حملت سلام في ترجمته ـ والتي حملت عنوان (لكل إنسان مسخه)، حين وصف لقاءً متخيلاً بأناس محنيين، يحمل جميع منهم على ظهره مسخاً ثقيلاً، مثل جوال دقيق أوفحم، وحين سأل أحدهم إلى أين يمضون،يا ترى؟ فأجابه أنه لا يدري شيئاً لا هوولا الآخرين، لكنهم يمضون بالبديهة إلى مكان ما، ما داموا مدفوعين إلى السير بعمل ضرورة قاهرة.

لم يكن يظهر على أحد من أولئك السائرين، الانزعاج من الحيوان الضاري المعلق في رقبته والملتصق بظهره، بل كان يعتبره جزءاً من نفسه، ولم يكن يظهر على وجوههم المكدودة والمتجهمة أي أثر لليأس، بل كانوا تحت قبة السماء الكئيبة، وبأقدامهم المغروسة في تراب الأرض الموحشة، يمضون بالسحنة المستسلمة لمن حُكم عليهم بالأمل دائماً، وحين صمم الشاعر على رغبته في فهم ذلك المسير الأبدي، سرعان ما غلبته بدوره الللا مبالاة القاهرة، فأصبح مثقلاً بوطأتها، بأكثر مما كانوا هم أنفسهم مثقلين بوطأة مسوخهم الفادحة.

للأسف، كانت الحكاية هكذا دائماً وستظل: يراهن الطغاة على تحويل الناس إلى مسوخ لا مبالية، ويحلم الشعراء بانتفاض الناس يوماً ما، حين يفيض بهم الكيل من فرط ما تعرضوا للصفع والتنكيل، وما بين رهانات الطغاة وأحلام الشعراء، تتوقف صورة المستقبل على طبيعة الأمل الذي يحلم به الناس، هل هوأمل بعدالة آجلة لن تحل إلا في الآخرة التي تهون أحلامها عليهم آلام الصفع، أم أمل بعدالة عاجلة يمكن حتى يصنعوها بأيديهم، فقط لوأدركوا أنهم أقوى من جلاديهم، ليتوقفوا عن تصدير أقفيتهم للصفع.

الجملة الأخيرة في القصيدة، حـُذِفت قبل النشر، لوفاة پرودون في 1865، وكانت: "ما رأيك أيها المواطن پرودون،يا ترى؟ "

الهامش

  1. ^ بلال فضل (2018-07-30). "هل نصرع الفقراء؟". صحيفة العربي الجديد.


المصادر

  • شارل بودلير: الأعمال الشعرية الكاملة ـ ترجمة وتقديم حملت سلام ـ دار الشروق.
تاريخ النشر: 2020-06-04 20:27:11
التصنيفات: قصائد شارل بودلير, قصائد نثرية, قصائد نثر قصيرة, أعمال 1848

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

“الخولي” نقيباً للمهندسين للدورة الثانية بالبحيرة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:21:05
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 59%

تحكيم «الدوم» لمتسابقان: العلاقة بينكما على الأرجح مكنتش صح

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:50
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 56%

روسيا: بوتين ولافروف ليس لديهما حسابات فى بريطانيا أو أى دولة أجنبية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:54
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

الليلة روسيا تقتحم العاصمة كييف.. بيان عاجل من الرئيس الأوكراني

المصدر: المصري اليوم - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:21:08
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 55%

رئيس مجلس الشيوخ ينعى الكاتب الصحفي محمود الكردوسي

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:55
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 57%

منتخب مصر يخسر أولى مباراته أمام السنغال لكرة السلة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:21:07
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

«لسه بخاف لحد دلوقتي».. ليلى علوي توجه نصائح لمتسابقي «الدوم»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:51
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 59%

مواعيد التقدم لوظيفة مندوب مساعد بهيئة قضايا الدولة دفعة 2021

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:48
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

أرقام كورونا بالجزائر : ١٠٣ إصابات جديدة و٣ حالات وفاة خلال ٢٤ ساعة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:53
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 51%

الخارجية المصريه ترسل تعليماتها للمصريين بأوكرانيا

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:21:07
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 50%

يمنى تبهر لجنة تحكيم «الدوم».. وتامر محسن: «صوتك فيه لمعة وفرح»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:51
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 57%

أسرار معركة سامية جمال مع المغربي العجوز

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:59
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 58%

العثور على جثة شاب داخل شقته بمصر الجديدة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:49
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 59%

«الله لا يرمي النرد».. هكذا يمكن فهم النظريات والقوانين بأسلوب مبسط

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:20:58
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

الصين تدعم روسيا في تسوية القضية عبر التفاوض مع أوكرانيا

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-26 00:21:05
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 68%

تحميل تطبيق المنصة العربية