جان-جاك روسو

عودة للموسوعة

جان-جاك روسو

جان-جاك روسو
باستيل بريشة Maurice Quentin de La Tour، 1753 الاسم = جان جاك روسو
وُلـِد 28 يونيو1712 (جنيف، سويسرا)
توفي 2 يوليو1778 (إرمنونفي، فرنسا)
العصر فلسفة القرن الثامن عشر
(فلسفة حديثة)
المنطقة فلسفة غربية
المدرسة نظرية العقد الاجتماعي
الاهتمامات الرئيسية
فلسفة سياسية، الموسيقى، التعليم، الأدب، السيرة الذاتية
الأفكار البارزة
الإرادة العامة، amour-propre، الطبيعة الخيرة للبشر

جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (و. 28 يونيو1712 - ت. 2 يوليو1788)، هوفيلسوف ومحرر ومحلل سياسي سويسري أثرت أفكاره السياسية في الثورة الفرنسية وفي تطوير الاشتراكية ونموالقومية. وتعبر مقولتة الشهيرة "يولد الإنسان حراً ولكننا محاطون بالقيود في جميع مكان" والتي خطها في أبرز مولفاتة العقد الاجتماعي تعتبر أفضل تعبير عن أفكاره الثورية وربما المتطرفة.

كان لاعترافات جان جاك روسوالتي كُتبت بين 1765-1770 ونُشرت بين 1781-1788 تأثير تاريخي مهم لأنها قدمت طرقاً جديدة لفهم النفس وعلاقتها بالآخرين الذين تعيش في وسطهم. شجاعة المحرر وتصميمه على إعادة تقييم ما يعتبر القيِّم والتافه، الصواب والخطأ، في حياته يؤثر حتى على من يقرأ الكتاب بعد اكثر من مئتي عام بعد صدوره.

الحقائق المعروفة عن حياة روسومحدودة، من الممكن بسبب الاعترافات التي أعرب فيها انه سيقول الحقيقة كاملة وان اهتم أكثر في واقع الأمر بشرح مبادئه والدفاع عن نفسه. هجر روسومنزله في سن الخامس عشرة ومضى للحياة مع السيدة دوارنز التي حمته وصارت فيما بعد المرأة التي ارتبط بعلاقة معها. عمل في عدة مجالات من سكرتير الى مسؤول حكومي في باريس حيث استقر سنة 1745. وقد عاش هناك مع ثريسال قاسور التي ادعت فيما بعد أنها أنجبت منه خمسة أطفال مضىوا جميعا الى منزل الأيتام لرفضه رعايتهم. وإن كانت لم تقدم اي أدلة لاثبات هذه الانادىءات، فهولم يسع لنفيها. أحياناً كثيرة، اضطر روسوللهرب من فرنسا الى سويسرا بسبب بعض ما خطه، كما مضى الى لندن سنة 1766 ونزل في ضيافة الفيلسوف ديفد هيوم. وقد سُمح له بالعودة الىباريس سنة 1770، وكان السماح مشروطا بالتوقف عن أنتقاد نظام الدولة في كتاباته.

أثارت أفكار روسوالتي شرحها في رواية جوليا وفي مذكراته ومنطقاته السياسية التي كان أهمها العقد الاجتماعي ضجة كبيرة أثناء حياته. فقد آمن روسوبان المؤسسات الحكومية تُدمر حياة الإنسان، وبأن الجنس البشري سينحط مع مرور الزمن اذا لم يرجع الناس الى الطبيعة ويطبقون أسسها على نظم الحياة الاجتماعية. وهوكذلك يؤمن بان فضائل الإنسان العادي تميزه على الطبقات العليا التي أفسدها الثراء البالغ والترف المدقع.

سيرته

شبابه

المنزل الذي وُلد فيه روسو، رقم 40، گران-رو.

كيف وقع حتى رجلاً ولد فقيراً، وفقد أمه عند مولده، ثم هجره أبوه بعد قليل وابتلي بسقم أليم مذل، وهجر يضرب في الآفاق اثنتي عشر عاماً بين مدن غريبة ومذاهب دينية متناحرة، مرفوضاً من المجتمع والحضارة، رافضاً ڤولتير، وديدرو، والمسوعة، وعمر العقل، رجلاً طورد من مكان إلى آخر باعتباره ثائراً خطراً، واتهم بالإجرام والجنون، وشهد في شهور حياته الأخيرة تأليه خصمه الألد-نقول كيف من الممكن أن وقع حتى رجلاً كهذا، بعد موته؛ انتصر على فولتير، وأحيا الدين، وقلب التعليم رأساً على عقب، وحمل أخلاقيات فرنسا، وألهم الحركة الرومانية، والثورة الفرنسية، وأثر في فلسفة كانت وشوينهاور، وتمثيليات شيلر، وروايات جوته، وشعر وردزورث وبيرون وشيلي، واشتراكية ماركس، وأخلاق تولستوي وأتيح له-على الجملة- من التأثير على الأجيال التالية ما فاق تأثير أي محرر أومفكر آخر في ذلك القرن الثامن عشر؛ القرن الذي فاق في تأثير الكتاب تأثيرهم في أي عهد سبقه،يا ترى؟ هنا تقابلنا هذه المشكلة إذا كان لها حتى تقابلنا في أي موضع: ما الدور الذي لعبته العبقرية في التاريخ، ما دور الإنسان إزاء المجتمع والدولة؟

كانت أوروبا آنئذ مهيأة لإنجيل يبوئ الوجدان مكاناً فوق الفكر فلقد سئمت قيود التنطقيد والأعراف، والآداب، والقوانين. وسمعت ما يكفي عن العقل، والجدل العقلي، والفلسفة، وبدا حتى جميع هذه الفوضى، فوضى العقول التي أطلق حبلها على غاربها، قد جردت الدنيا من المعنى، وعطلت النفوس من الخيال والراتى، وكان الرجال والنساء بينهم وبين أنفسهن تواقين للعودة إلى حظيرة الإيمان. لقد ملت باريس، ملت الضجيج والعزلة، وسجن حياة المدينة وتزاحمها المجنون، وهفت الآن إلى حلم حياة الريف الأكثر هوناً، الحياة التي قد يجلب نظامها الرتيب البسيط للبدن صحة وللعقل سلاماً، والتي يرى فيها الإنسان من حديث نساء تزينهن الحشمة والحفر، والتي تلتقي فيها القرية كلها في كنيسة الأبرشية في هدنة أسبوعية. قم ما بال هذا "التقدم" الذي يزهون به، و"تحرير العقل" هذا الذي يفاخرون به-هل أحلا شيئاً محل ما دمراه،يا ترى؟ هل أعطيا الإنسان صورة للعالم ومصير الإنسان أكثر وضوحاً للإفهام أوإلهاماً للنفوس،يا ترى؟ هل حسنا حظوظ الفقراء، أوأتيا بالعزاء والسلوى للمحزونين على فقد الأعزاء أوللمتألمين المكروبين،يا ترى؟ سأل روسوهذه الأسئلة، وأضفى الشكل والإحساس على هذه الشكوك، فأصغت إليه أوربا بأسرها بعد حتى أخمد صوته. وبينما كان فولتير يعيد على المسرح في الأكاديمية (1778)، وبينما كان روسوالموبخ المزدرى يختبئ في ظلام حجرة من حجرات باريس، بدأ عصر روسو.

اعترافات جان-جاك روسو. للقراءة، اضغط على الصورة.


ولقد ألف أشهر ترجمة ذاتية في أخريات أيامه، وهي كتابه الاعترافات. ذلك أنه-وهوالرجل الحساس لكل نقد الظنون الذي خال جريم، وديدرو، وغيرهما يأتمرون به ليشوهوا سمعته في صالونات باريس وفي "مذكرات" مدام دينيه-هذا الرجل بدأ عام 1768، بإلحاح من أحد الناشرين، كتابة قصته هوليروي سيرته وخلقه. وكل التراجم الذاتية من طبيعة الحال غرور في غرور، غير حتى روسو-الذي أدانته الكنيسة، وحمته من حماية القانون ثلاث دول، وهجره أخلص أصدقائه-كان له الحق في الدفاع عن نفسه، بل في الدفاع المستفيض: وحين قرأ فقرات من هذا الدفاع على بعض المحافل في باريس حصل خصومه على أمر من الحكومة يحظر إي قراءة علنية أخرى لمخطوطته. فلما فت في عضده، هجرها عند موته مشفوعة براتى للأجيال التالية نطق فيه:

إليكم هذه اللوحة الإنسانية الوحيدة-المنقولة بالضبط عن الطبيعة بكل صدق-الموجودة الآن أوالتي ستوجد إطلاقاً في أغلب الظن. وأيما كنتم، يا من نصبكم قدري وثقتي حكماً على هذا السجل، فإني أستحلفكم بحق ما أصابني من خطوب ومحن وبحق ما تشعرون به من أخوة البشر، وباسم الإنسانية جمعاء، ألا تدمروا عملاً نافعاً فريداً في بابه، قد يصلح بحثاً مقارناً من الدرجة الأولى لدراسة الإنسان. وألا تنتزعوا من شرف ذكراي هذا الأثر الصادق الوحيد لخلقي، الأثر الذي لم ينل من خصومي مسخاً وتشويهاً".

والكتاب، بمحاسنه ومآخذه، نتاج ما فطر عليه مؤلفه من شدة الحساسية، وقوة الذاتية، ورهافة العاطفة. يقول روسو"إن قلبي الحساس كان أس بلائي كله". ولكن هذا القلب أضفى ألفة حارة على أسلوبه، وحناناً على ذكرياته، وفي كثير من الأحيان سماحة على أحكامه، وكلها تذيب نفورنا ونحن نمضي في قراءة الكتاب. ففيه يغدوجميع تجريد واقعاً شخصياً مجسداً، وكل سطر شعوراً نابضاً بالحياة فهذا الكتاب أشبه بالنبع الذي تتدفق منه نهر الاعترافات المستبطنة، النبع الذي روى أدب القرن التاسع عشر، لا لأنه لم يكن له ضريب سابق من خط الاعترافات، ولكن حتى القديس أوغسطين لم يستطع حتى يضارع هذه التعرية للذات، أويدعي دعواها في الأمانة والصدق. والكتاب يستهل بدقة من البلاغة التي تتحدى المقلدين:

إنني مقبل على مغامرة لم يسبق لها نظير، ولنقد يكون لتطبيقها مقلد، أريد حتى أظهر إخواني في الإنسانية على إنسان في جميع صدق الطبيعة، وهذا الإنسان هوأنا نفسي. أنا مجرداً من جميع شيء. إنني أعهد قلبي، وأنا عليم بالناس. ولم أخلق كأي حي من الأحياء. وإذا لم أكن خيراً منهم، فإنني على الأقل مختلف عنهم. أما حتى الطبيعة أحسنت أوأساءت بتحطيم النطقب الذي صببت فيه، فذلك شيء لا يستطيع الحكم عليه إنسان إلا بعد حتى يقرأني.

وأياً كان موعد الساعة التي سيُنفخ فيها في صور يوم الحشر، فسوف آتي وكتابي هذا في يميني لأمثل أمام الديان الأعظم وسوف أقول بصوت عالٍ: كذلك سلكت ، وكذلك فكرت، وكذلك كنت، لقد تحدثت إلى الأبرار والأشرار بنفس الصراحة، وما أخفيت شيئاً فيه سوء، ولا أضفت شيئاً فيه خير. وقد أظهرت نفسي كما أنا: حقيراً خسيساً حين كنت كذلك، وخيراً سمحاً نبيلاً حين كنت كذلك، لقد أمطت اللثام عن أعمق أعماق نفسي.

وتتردد دعواه في توخي الصدق الكامل في الكتاب مراراً وتكراراً. ولكن روسويسلم بأن تذكره لأشياء انقضى عليها خمسون عاماً كثيراً ماقد يكون تذكراً مبتوراً لا يمكن الركون إليه، وللجزء الأول في جملته جومن الصراحة يشيع الطمأنينة في القارئ. أما الجزء الثاني فتشوهه الشكاوى المملة من الاضطهاد والتآمر. وأياً كان الكتاب، فهومن أعظم ما نعهد من الدراسات السيكولوجية كشفاً عن النفس، وهوسيرة روح حساسة شاعرة خاضت صراعاً أليماً مع قرن واقعي قاس. وعلى أية حال، فأن كتاب الاعترافات، لولم يكن ترجمة ذاتية، لكان من إحدى الروايات العظيمة في العالم".

ويقول روسوفي اعترافاته: ولدت بجنيف في 1712، ابناً لإسحاق روسووسوزان برنار، المواطنين". والحدثة الأخيرة كانت تعني الكثير، لأن ألفا وستمائة فقد من بين سكان جنيف العشرين ألفاً كانوا يملكون اسم المواطن، وسيشارك هذا العامل في تاريخ جان-جاك. وكانت أسرته فرنسية الأصل، ولكنها وطنت في جنيف منذ 1529. وكان جده قسيساً كلفنياً، وقد ظل الحفيد في صميمه كلفنياً طوال تطويفه الديني كله. أما أبوه فكان من أقطاب صناعة الساعات، رجلاً خصب الخيال لا يستقر له قرار، أتاه زقابل (1704) بصداق قدره عشرة آلاف فلورين. وبعد حتى أنجب غلاماً هجر زوجته (1705) ورحل إلى الآستانة حيث مكث ست سنوات ثم عاد لأسباب مجهولة، "وكنت الثمرة الحزينة لهذه العودة" وماتت الأم بحمى النفاس بعد أسبوع من مولد جان جاك "جئت إلى العالم أحمل إمارات قليلة جداً على الحياة، بحيث لم يكن هناك كبير أمل في الإبقاء عليّ". وكفلته خالة له وأنقذته، وهوعمل "أغتفره لك دون تحفظ" على حد قوله. وكانت الخالة يجيد الغناء والترتيل، ولعلها بثت فيع ذلك الشغف بالموسيقى الذي لازمه طيلة حياته. وكان طفلاً عبقرياً، تفهم القراءة في زمن وجيز، ولما كان أبوه إسحاق مولعاً بالقصص الرومانسية، فقد راح الوالد والولد يقرءان الروايات المتنوعة في مخطه أمه الصغيرة. ونشئ جان-جاك على مزيج من القصص الغرامية الفرنسية، وتراجم بلوتارخ، والفضائل الكلفينية، وجعله هذا المزيج قلقاً مهزوزاً. قد وصف نفسه وصفاً دقيقاً بأنه "أبيٌ هش في وقت معاً، في خلقي أنوثة وهومع ذلك خلق عاتٍ لا يقهر، دأب على وضعي في موضع التناقض مع نفسي لأنه متذبذب بين الضعف والشجاعة، وبين الترف العفة".

لى كارمت، حيث عاش روسوبرفقة مدام دى وارن عامي 1735–6، أصبح حالياً متحفاً لروسو.

وفي 1722 تشاجر أبوه مع رجل يدعى الكابتن جوتيه، فأسال الدم من أنفه، فاستنادىه القاضي المحلي ولكنه هرب من المدينة اتقاء السجن، واتخذ مقره مدينة نيون على ثلاثة عشر ميلاً من جنيف. وبعد سنوات تزوج ثانية. وكفل فرانسوا وجان-جاك خالهما جابريل برنار. وألحق فرانسوا بصانع ساعات، فهرب، واختفى من التاريخ. وأما جان-جاك وابن خاله أبراهام برنار فقد أوفدا إلى مدرسة داخلية يديرها القس لامبرسييه في قرية بوسيه القريبة "هنا كان علينا حتى نتفهم اللاتينية، وكل اللغوالتافه الذي أطلق عليه اسم التعليم". وكان التعليم المسيحي الكلفني جزءاً من صميم المنهج.

وأحب مفهميه، ولا سيما أخت القسيس، الآنسة لامبرسييه، وكانت في الثلاثين، وجان-جاك في الحادية عشرة، فسقط في غرامها على طريقته العجيبة. كان إذا ساطته عقاباً على سوء الأدب، أبهجه حتى يتعذب على يديها، "فإن شيئاً من الشهوانية اختلط بالألم والخزي، مما خلف فيّ الرغبة في تكرار العقوبة أكثر من الخوف". فلما عاد إلى الذنب وضح التذاذه بالعقاب وضوحاً صممت معه على ألا تعود إلى ضربه بالسوط. وقد ظل عنصر مازوكي يلازم تكوينه العشقي إلى النهاية.

"إلى غير ذلك قضيت سن المراهقة، ببنية متقدة، دون حتى أعهد أوحتى أشتهي أي إشباع آخر لرغباتي المشبوبة غير ما أوحت به إليّ الآنسة لامبرسييه في براءة، وحين بلغت مبلغ الرجال لم يخفِ هذا الميل الصبياني بل اتحد مع الميل الآخر. ولقد ظلت هذه الحماقة وما صاحبها من شدة حياء فطري تحول دائماً بيني وبين الاجتراء مع النساء، إلى غير ذلك كنت أقضي أيامي أتحرق في صمت شوقاً لم أهيم بهن دون حتى أجرؤ على البوح برغباتي.

"وهانذا قد خطوت أول خطوة وأشقها في تيه اعترافاتي الحالك الأليم. ذلك أننا لا نستشعر في البوح بذنب ينطوي على الإجرام عملاً ذلك النفور الشديد الذي نستشعره في البوح بذنب لا يثير غير السخرية".

نص كتاب العقد الاجتماعي. للقراءة، اضغط على الصورة.

ويجوز حتى روسو، في حياته اللاحقة، عثر عنصر لذة في شعوره بالمقاومة والصد من العالم، ومن أعدائه، ومن أصدقائه.

وبعد اللذة التي وجدها في عقوبات الآنسة لامبرسييه عثر متعة في المنظر الطبيعي الرائع الذي أحاط به، "كان في الريف من الفتنة...ما حبب إليّ الحياة الريفية حباً لم يستطع الزمن حتى يطفئه". ولعل هذين العامين الذين أنفقهما في بوسيه كانا أسعد سني عمره رغم ما تكشفه له من ظلم في هذه الدنيا. فقد عوقب مرة على ذنب لم يجنه، فاستجاب بسخط لم يفارقه قط، وبعدها "تفهم حتى يرائي، ويتمرد، ويكذب، وبدأت جميع الرذائل المألوفة في حياتنا تفسد براءتنا السعيدة".

ولم يجاوز قط هذه الفترة من التعليم المدرسي أوالكلاسيكي وربما كان افتقاره إلى التوازن، وصواب الحكم، وضبط النفس، وإخضاعه العقل والوجدان-ربما كان هذا كله راجعاً لإنهاء تعليمه المدرسي في فترة مبكرة. ففي 1724؛ حين بلغ الثانية عشرة، أعيد هووابن خالته إلى بيت أسرة برنار. وزار أباه في نيون، وهناك هام بفتاة تدعى فورسون، فصدته عنها، ثم بأخرى تدعى جوتون "أبت حتى تسمح له بشيء من التجاوز معها، في حين أباحت لنفسها أشد الحريات معي". وبعد عام من التردد والتذبذب ألحق صبيا بحفار في جنيف. وكان يحب الرسم، وقد تفهم الحفر على ظروف الساعات، ولكن مفهمه كان يضربه بقسوة على ذنوب صغيرة، "فدفعني إلى رذائل كنت أحتقرها بفطرتي، كالكذب، والكسل، والسرقة". وأنقلب الصبي الذي كان من قبل سعيداً إلى غلام منطوٍ مكتئب كاره لعشرة الناس.

ووجد السلوى في الإدمان على قراءة الخط التي استعارها من مخطة قريبة، وفي الرحلات الريفية يقوم بها في الآحاد. وحدث مرتين أنه تباطأ في الحقول حتى عثر أبواب المدينة مغلقة إذ حاول العودة، فأنفق الليل في العراء، ومضى إلى عمله نصف مشدوه، وكان جزاؤه علقة ساخنة.

وفي رحلة ثالثة من هذه الرحلات حملته ذكرى هذا الضرب على حتى يقرر ألا يعود إطلاقاً فمضى قدماً إلى كونفنيون في سافوي الكاثوليكية، على ستة أميال من بلدته، وهولم يبلغ بعد السادسة عشرة (15 مارس 1728) لا نقود معه ولا ثياب سوى ما يحمله على ظهره.

هناك طرق باب قسيس القرية الكاثوليكي الأب بنوا ديونفير، ولعله سمع حتى هذا الكاهن الشيخ تواق لهداية الجنيفيين الشريدين، فهويقدم لهم الطعام الطيب عملاً بالنظرية القائلة حتى المعدة الممتلئة تعين على التفكير المستقيم. وقد قدم لجان-جاك غذاءً طيباً، ونطق له "امضى إلى آنسي، حيث تجد سيدة صالحة خيرة يتيح لها كرم الملك حتى تحول النفوس عن تلك الخطايا التي أقلعت عنها لحسن الحظ". ويضيف روسوحتى هذه السيدة هي "مدام دفاران، التي اهتدت إلى الكثلكة مؤخراً، والتي رتب القساوسة حتى يبعثوا إليها بأولئك التعساء المستعدين لبيع عقيدته، وكانت إلى حد ما مضطرة إلى حتى تشارك هؤلاء معاشاً قدره ألفا فرنك أنعم بها عليها ملك سردانيا". ورأى الفتى الشريد حتى شطراً من ذلك المعاش قد يستأهل تغيير العقيدة. وبعد ثلاثة أيام، في آنسي، مثل أمام مدام فرانسوا-لويز دلاتور، بارونة فاران.

كانت في التاسعة والعشرين، امرأة حلوة، كيسة، دمثة، سمحة جذابة الملبس، "ما رأيت وجهاً أجل ولا جيداً أبدع، ولا ذراعين مليحتين أروع تكويناً". وكانت في مجموعها أبلغ حجة تناصر الكاثوليكية رآها روسوعلى الإطلاق. ولدت يفيفي بأسرة طيبة، وتزوجت وهي صغيرة جداً من المسيو(البارون فيما بعد) دفاران اللوزاني وبعد سنوات من التنافر الأليم هجرته، وعبرت البحيرة إلى سافوي، ونالت حماية الملك فكتور أمادو، وكان يومها في إفيان. وبعد حتى نزلت آنسي، قبلت اعتناق الكاثوليكية، معتقدة أنها لوأدت شعائرها الدينية على الوجه السليم لغفر الله لها غرامياتها التي تقع فيها بين الحين والحين،

ثم إنها لم تستطع حتى تصدق حتى يسوع الرقيق القلب سيقذف بالرجال-فما بالك بامرأة جميلة-في النار الأبدية.

وكان يطيب لجان-جاك حتى يمكث معها لولا أنها كانت مشغولة. فنفحته ببعض المال، وأمرته بأن يمضي إلى تورين ويتلقى التعليم في "نزل الروح المقدس" وقد استقبل هناك في 12 إبريل 1728، وفي 21 إبريل عمد في الممضى الكاثوليكي الروماني. وحين استعاد ذكرى هذه الواقعة بعد أربعة وثلاثين عاماً-وقبل عودته إلى البروتستانتية بثماني سنوات-خط يصف في رعب تجربته في النزل، بما في ذلك محاولة للاعتداء على عفته من زميل مغربي حديث الاهتداء؛ وقد خيل إليه حتى موقفه من اعتناق الكاثوليكية كان موقف النفور، والخزي، والتسويف الطويل. ولكن الظاهر أنه تكيف مع الظروف التي وجدها في النزل لأنه مكث هناك دون إكراه أكثر من شهرين بعد حتى قبل في كنيسة روما.

ثم هجر النزل في يوليو، مسلحاً بستة وعشرين فرنكاً. وبعد حتى أنفق أياماً في مشاهدة معالم المدينة عثر عملاً في متجر جذبه إليه جمال السيدة الواقفة خلف منضدته. وسقط في غرامها للتووالساعة، وما لبث حتى جفا أمامها وبذل لها عهداً بالوفاء مدى الحياة. وابتسمت مدام بازيل، ولكنه لم تسمح له بأن يتجاوز يدها، ثم حتى زوجها كان وشيك الوصول في أية لحظة. يقول روسو"إن عدم توفيقي مع النساء نشأ دائماً عن إفراطي في حبهن" ولكن كان في فطرته حتى يجد في التأمل لذة أعظم مما يجد في الإشباع وقد فرج عن ضيقه بتلك "التكملة الخطرة التي تخدع الطبيعة وتنقذ الفتيان، الذين على شاكلتي مزاجاً، من اضطرابات كثيرة، ولكن على حساب صحتهم، وقوتهم، وأحياناً حياتهم".

ولعل هذه العادة، التي تفاقمت حماها نتيجة النواهي المرهبة، لعبت دوراً خفياً في زيادة نزقه، وأهامه الرومانسية، وشعوره بالقلق في المجتمع، وحبه للوحدة. وهنا نجد "الاعترافات" تتوخى صراحة لم يسبق لها نظير.

نص كتاب أحلام يقظة جوال منفرد. للقراءة، اضغط على الصورة.


"كانت أفكاري في شغل شاغل بالفتيات والنساء ولكن بطريقتي الخاصة. وقد أبقت هذه الأفكار حواسي في نشاط دائم مؤذٍ...وبلغ في التهيج مبلغاً جعلني ألهب رغباتي بأشد المناورات إسرافاً بعد حتى عجزت عن إشباعها. فكنت ألتمس الأزقة المظلمة والأركان المنزوية، حيث أستطيع حتى أتعهد عن بعد أمام أشخاص من الجنس اللطيف في الوضع الذي اشتهيت حتى أكون عليه بقربهن. أولم يكن ما رأيته مني هوعورتي-فذلك مل لم يخطر لي ببال، إنما كان العضوالمثير للضحك (الأرداف). ولا يمكنني وصف اللذة الحمقاء التي استشعرها في تعريتها أما أعينهن. ولم تكن بين هذا وبين المعاملة المشتهاة (وهي الجلد) غير خطوة واحدة؛ ولست أشك حتى امرأة حازمة كانت في مرورها مانحتي هذه المتعة لوإنني جرؤت على التمادي في عملتي.

"وذات يوم مضىت لأقف في مؤخرة حوش به بئر تستقي منه فتيات البيت...وعرضت عليهن مشهداً يثير الضحك أكثر مما يثير الغواية. أما أحكمهن فتظاهرن بأنهن لا يرين شيئاً؛ وبدأ بعضهن يضحكن، وأحس غيرهن بالإهانة فصحن مستغيثات".

ولكن واحدة منهن لم تتقدم للأسف لتجلده-وبدلاً من ذلك جاء حارس يحمل سيفاً ثقيلاً وله شارب رهيب، ومن خلفه أربعة عجائز أوخمس مسلحات بالمكانس. أما روسوفنجا بأن نطق في تعليل مسلكه أنه "شاب غريب من أسرة كريمة إلتاث عقله" ولكن ماله قد يمكنه ف المستقبل من مكافأتهم على غفرانهم عملته، "وتأثر الرجل المرعب" وخلى سبيله، الأمر الذي أسخط العجائز غاية السخط.

وكان خلال ذلك قد عثر وظيفة تابع يرتدي زي الخدم في بيت مدام دفرسللي، وهي سيدة تورينية لهالا نصيب من الثقافة. هناك اقترف جريمة أثقلت ضميره طوال عمره. ذلك أنه سرق شريطاً من أشرطة المدام الزاهية الألوان، فلما أتهم بهذه السرقة ادعى حتى خامة أخرى أعطته الشريط. ووبخته الخادمة-ماريون-البريئة تماماً من السرقة توبيخاً انطوى على نبوءة، فنطقت له "إيه يا روسو، ظننتك ذا طبيعة خيرة. أنك تجعلني غاية في التعاسة، ولكنني لا أرضى حتى أكون في موقفك". وطرد كلاهما، ويضيف روسوفي اعترافاته:

لست أدري ما أصاب ضحية افترائي هذا، ولكن كان الاحتمال ضعيفاً جداً في حتى تجد لها وظيفة حسنة بعد ذلك، لأنها عانت من تهمة مؤذية لسمعتها من جميع الوجوه...ولقد الذكرى الأليمة لهذا العمل..تثقل ضميري إلى اليوم، وفي وسعي حتى أكون صادقاً حتى رغبتي في التخفيف من ألم هذه الذكرى شاركت كثيراَ في تصميمي على كتابة اعترافاتي.

وقد هجرت تلك الشهور الستة التي عمل فيها خادماً بصمتها على خلقه، فهولم يصل قط إلى احترام نفسه رغم جميع وعيه بعبقريته: شجعه قسيس شاب لقيه وهويخدم مدام دفرسللي على الاعتقاد بأن في استطاعته التغلب على أخطائه إذا حاول مخلصاً القرب من أخلاقيات المسيح. ونطق السيد جيم هذا إذا أي دين صالح مادام يشيع السلوك المسيحي؛ ومن ثم فقد أومأ إلى حتى جان-جاكقد يكون أهنأ بالاً إذا هوعاد إلى مسقط رأسه وممضىه الأصلي. وقد استقرت هذه الآراء "لرجل من أفضل عهدت من الرجال" طويلاً في ذاكرة روسو، وأوحت إليه بصفحات مشهورة في كتابه "إميل". وبعد عام التقى في مدرسة سان-لازار اللاهوتية، بقس آخر هوإذ الأبيه جاتييه، رجل له "قلب يفيض رقة وحناناً" فاته الترقي بأنه كان سبباً في حمل عذراء في أبرشيته. يقول روسومعقباً "لقد كانت هذه العملة فضيحة رهيبة في أسقفية شديدة التزمت، لا يصح فيها أبداً للقساوسة (الخاضعين لتنظيم حسن) حتىقد يكون لهم أبناء-إلا من نساء متزوجات". ومن "هذين القسيسين الفاضلين ألفت شخصية قسيس سافوا".

وفي مطلع صيف عام 1729، عاود روسو-الذي بلغ الآن السابعة عشرة-الحنين إلى حياة الترحل، ثم أنه علل نفسه بأنه قد يجد بمعونة مدام دفاران وظيفة أقل إذلالاً لكبريائه. فأنطلق بصحبة غلام جنيفي مرح يدعى باكل سيراً من تورين، واخترقا ممر جبل سنيس في الأب إلى شامبري وآنسي. وقد صور قلمه الرومانسي تلك الانفعالات التي جاشت بها نفسه وهويدنومن مسكن مدام دفاران تصويراً رائعاً "فقد ارتعشت ساقاي من تحتي وغامت عيناي، فلم أبصر ولم أسمع ولم أذكر أحداً، واضطررت مراراً إلى الوقوف لألتقط أنفاسي وأملك أحاسيسي المشدوهة". ولا شك في أنه كان غير واثق من أنها سترحب بمقدمه. فكيف يستطيع حتى يفسر لها جميع ما طرأ على حياته من صروف وتقلبات منذ هجرها،يا ترى؟ على حتى "نظرتها الأولى بددت جميع مخاوفي. ووثب قلبي لسماع صوتها. وألقين نفسي عند قدميها، وفي نشوة من الفرح العارم ضغطت شفتاي على يدها": ولم يسوءها هيامه بها، فخصصت له حجرة في بيتها، وحين بدأ البعض يتقولون كان جوابها "فليقولوا ما شاءوا، ولكني مادامت العناية قد ردته إليّ، فإني عازمة على ألا أتخلى عنه".


البلوغ

پلازوملكاً لتوماسوكويريني في 968 كانارگيوالبندقية، والذي كان مقر السفارة الفرنسية عندما كان روسوسكرتير السفير.

وتعلق بها تعلقاً شديداً، كأي فتى يتعلق بامرأة الثلاثين كان يلثم سراً الفراش الذي تنام عليه، والكرسي الذي تجلس عليه "بل الأرض ذاتها حين يخطر إلى أنها مشت عليها".

وكان شيد الغيرة من جميع من ينافسونه على الاستئثار بوقتها. وهجرته يخرخر كالهر السعيد، وكانت تدعوه تارة بالقط الصغير، وتارة بالطفل، وشيئاً فشيئاً أرتضى حتى يدعوها "ماما" واستخدمته في كتابة رسائلها وإمساك حساباتها، وجمع الأعشاب لها، ومعاونتها في تجاربها الكيميائية. وأعطته خطاً ليقرأ-الاسبكتاتور، ويوفندرف، وسانت افرمون، وملحمة فولتير الهنرياده. وكانت هي نفسها تحب حتى تتصفح "قاموس بويل التاريخي النقدي" وكانت لا تسمح للاهوتها بأن يضايقها، ولعل استمتاعها بصحبة الأب جرو، ناظر مدرسة اللاهوت المحلية، مرجعه أنه كان يساعدها على إحكام عقد مشدها "وبينما كان مشغولاً بهذا كانت تجري في أراتى الغرفة، هنا أوهنا كما تدعوالدواعي. وكان الأب، ناظر المدرسة، يتبعها متذمراً تجره الأربطة من خلفها، وهولا يفتأ يردد "أرجوكِ حتى تقفي ساكنة يا سيدتي". وكان هذا كله مشهداً مسلياً حقاً".

وربما كان هذا القسيس المرح هوالذي أشار بأن جان-جاك قد يستوعب من التعليم قدراً يؤهله لأنقد يكون قسيس قرية، ذلك على الرغم من جميع أمارات الغباوة البادية عليه. ووافقت مدام دفاران وهي مغتبطة بالعثور له على مهنة يرتزق منها. وعليه ففي خريف 1729 ولج روسومدرسة سان-لازار اللاهوتية ليحضر للقسوسة. وكان قد ألف الكاثوليكية الآن بل شغف بها؛ أحب فيها طقوسها المهيبة، ومواكبها، وموسيقاها، وبخورها، وأجراسها التي خالها تعلن على الملأ جميع يوم حتى الله في سمائه، وأن العالم بخير أويفترض أنقد يكون بخير، أضف إلى ذلك حتى ممضىاً يستهوي مدام دفاران ويغفر لها خطاياها لا يمكن حتىقد يكون سيئاً. غير حتى التعليم المدرسي الذي حصله من قبل كان من الضآلة بحيث اقتضى الأمر حتى يفرض عليه منهج مركز في اللاتينية. ولكنه لم يستطع صبراً على تصاريف أسمائها وصفاتها وأفعالها، وبعد خمسة أشهر من الجهد والعرق رده مفهموه إلى مدام دفاران بتقرير يقول أنه "غلام لا بأس بتقواه" ولكنه لا يصلح [كاهن|كاهناً]].

وحاولت مساعدته من جديد. ونادىها ما لاحظته من ميله للموسيقى إلى تقديمه إلى نيكولوز لوميتر، عازف الأرغن في كتدرائية آنسي ومضى جان-جاك ليعيش معه طوال شتاء 1729-30، وعزاؤه أنه لا يبعد عن ماما سوى عشرين خطوة. وراح يرتل في فرقة الترتيل ويعزف على الفلوت، وأحب الترانيم الكاثوليكية، ووجد الغذاء الطيب، وكان سعيداً. ولم يعكر عليه صفوالعيش مع المسيولوميتر غير إسراف هذا العازف في الشراب. وذات يوم تشاجر رئيس فرقة الترتيل الصغير مع رؤسائه، فجمع كراسات موسيقاه في صندوق، ورحل عن آنسي. وامرت مدام دفاران روسوحتى يصحبه حتى ليون. هناك سقط لوميتر على الطريق مغشياً عليه بعمل (البطاح) أي هذيان الحمى الذي يصيب مدمني الخمر. واستغاث جان-جاك بالمارة وقد أصابه الرعب، وأعطاهم العنوان الذي كان مدرس الموسيقى يبحث عنه، ثم فر راجعاً إلى آنسي وماما. "أن تعلقي بها بكل ما فيه من حساسية وصدق اقتلع من قلبي جميع مخطط يمكن تصوره وكل حماقات الطموح. فلم أر سعادة في غير العيش بقربها، وما كنت لأخطوخطوة دون حتى أشعر حتى المسافة بيننا قد بعدت". ولكن علينا حتى نذكر أنه لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة.

نص كتاب دين الفطرة. للقراءة، اضغط على الصورة.


فلما وصل إلى آنسي عثر حتى المدام قد رحلت إلى باريس ولا أحد يعهد متى تعود. وأحس أنه وحيد مهجور، فراح ينفق اليوم تلواليوم هائماً على وجهه في الريف، يتأسى بالمنظر إلى ألوان الربيع المشرقة وسماع زقزقة الطيور-هذه الطيور العاشقة بلا ريب. وكان أحب الأمور إليه حتى يستيقظ مبكراً ويرقب الشمس تطلع ظافرة فوق الأفق. ورأى في إحدى جولاته تلك آنستين راكبتين، تحثان جواديهما المترددين على خوض غدير أمامهما. وفي نوبة من نوبات البطولة أمسك بعنان أحد الجوادين وعبره الماء والآخر يتبعه. وكان على وشك المضي إلى حال سبيله لولا حتى الفتاتين أصرتا على حتى يصحبهما إلى كوخ يجفف فيه حذاءه وجواربه، فوثب على ظهر أحد الجوادين خلف الآنسة ج. تلبية لدعوتها "فلما اضطررت إلى الإمساك بها لأستقر في مكاني راح قلبي يدق وكانت دقاته من العنف بحيث أحست بها" في تلك اللحظة بدأ يكبر في هيامه بمدام دفاران. وأنفق الشباب الثلاثة يومهم في رحلة خلوية معاً، وتجرأ روسوفقبل يد إحدى الفتاتين ثم هجرتاه، فقفل إلى آنسي لا يكاد يعبأ بغياب ماما عنها. وقد حاول العثور على الآنستين ثانية، ولكن دون جدوى.

وما لبث حتى عاد يضرب في الأرض من جديد، واصطحب هذه المرة خادمة مدام دفاران إلى فريبورج. وإذا اخترق جنيف "ألفيتني متأثراً بالغ التأثر حتى لم أكد أقوى على المضي في طريقي...فقد حملت صورة الحرية (الجمهورية) روحي إلى الذرى". ومن فيبورج سار إلى لوزان. ولم يعهد التاريخ محرراً شديد الولع بالمشي مثله. فمن جنيف إلى تورين إلى آنسي إلى لوزان إلى نوشاتل إلى برن إلى شامبري إلى ليون عهد الطريق واستمتع شاكراً بالمناظر والروائح والأصوات.

"يطيب لي حتى أمشي على سجيتي، وأن أقف حيث أشتهي، فحياة المشي ضرورية لي. والسفر على الأقدام، في ريف جميل، وجوبديع، وبهدف لطيف أختم به رحلتي-هذا أنسب ما يروقني من ضروب العيش".

ذلك أنه لعدم شعوره بالاطمئنان في حضرة الرجال الذين أصابوا حظاً من التعليم، وبالخجل والعي في خضرة النساء الجميلات، كان يسعد إذا انفرد بالغابات والحقول، والماء، والسماء، فجعل من الطبيعة مستودع سره ونجواه وأفضى إليها بغرامياته وأحلامه في حديث صامت. وخيل إليه حتى حالات الطبيعة المتقلبة تمتزج أحياناً في تناغم صوفي مع حالته النفسية. ولم يكن أول من أشعر الناس بجمال الطبيعة، إلا أنه كان أشد رسلها تحمساً لها وتأثيراَ فيهم فنصف شعر الطبيعة منذ روسوهوجزء من تراثه، لقد شعر هاللر من قبل بجلال جبال الألب ووصفه، ولكن روسوجعل من سفوح سويسرا على طوال الساحل الشمالي لبحيرة جنيف ملكه الخاص، وأورث الأجيال عبير كرومها المدرجة. فلما أراد اختيار مسقط لبيت يسكنه شخصيتي جولي وفولمار أسكنهما هنا، في كلارنس بين فيفيه ومونترو، في فردوس أرضي امتزجت فيه الجبال والخضرة والماء والشمس والثلوج.

وانتقل إلى نوشاتل حين لم يصب نجاحاً في لوزان "هنا....بفضل تدريسي للموسيقى اكتسبت بعض الإلمام بها دون وعي مني." وفي بلدة قريبة تدعى بودري التقى بحبر يوناني يلتمس بعض المال لترميم كنيسة القبر المقدس في أورشليم، فرافقه روسومترجماً له، ولكنه هجره في سوليووسار خارجاً من سويسرا داخلاً فرنسا. وفي أثناء سيره ولج كوخاً وسأل صاحبه أيستطيع شراء طعام، فقدم له الفلاح خبز الشعير واللبن، ونطق إذا هذا جميع ما يملك، ولكنه حين رأى حتى جان-جاك ليس جابي ضرائب فتح باباً مسحوراً هبط منه ثم عاد بخبز قمح، وبيض، ونبيذ. وعرض روسوحتى يدفع ثمن طعامه، ولكن الفلاح أبى حتى يقبله، وعلل سلوكه بأنه مضطر إلى إخفاء خير الطعام مخافة حتى يفرض عليه المزيد من الضرائب. إذا ما نطقه لي خلف في ذهني أثراً لا يمحى، وبذر بذور تلك الكراهية التي لا تطفأ والتي نمت منذ ذلك الحين في قلبي، الكراهية لما يقاسيه هؤلاء التعساء من عنت، والسخط الشديد على ظالميهم.

وفي ليون أنفق أياماً بغير مأوى، يفترش المقاعد في الحدائق العامة أوينام على الأرض، واستخدم حيناً في نسخ الموسيقى. فلما سمع حتى مدام دفاران.

تسكن شامبري (على أربعة وخمسين ميلاً إلى الشرق)، انطلق لينضم إليها من جديد. ووجدت له وظيفة سكرتير لملاحظ الأنطقيم (1732-34) وكان خلال ذلك يعيش تحت سقفها، لا ينقص من سعادته بعض الشيء غير ما كشف من حتى مدير أعمالها كلود آنية هوأيضاً يعشقها. ويتضح ما طرأ على غرامه من فتور من هذه الفقرة الفريدة في اعترافاته: "لم أستطع حتى أفهم، دون ألم، أنها تعيش في مودة أوثق مع إنسان غيري...ومع ذلك فبدلاً من حتى أشعر بأي كراهية للشخص الذي تفوق عليّ على هذا النحووجدت الود الذي أكنه لها يمتد عملاً إليه، فلقد تمنيت لها السعادة فوق جميع شيء وإذ كان معنياً بخطتها التي توسلت بها للسعادة، فقد رضيت له السعادة هوأيضاً واعتنق خلال ذلك أفكار خليلته تماماً وشعر بصداقة مخلصة لي...إلى غير ذلك عشنا في وحدة أسعدتنا جميعاً، وحدة لا يقوى على فصم عراها غير الموت. ومما يشير على سموخلق هذه المرأة الودود حتى جميع الذين أحبوها أحبوا بعضهم بعضاً، فحتى الغيرة والتنافس أذعنا للعاطفة التي ألهمتهم إياها وما رأيت قط واحد ممن أحاطوا بها بضمير أقل حقد للآخرين. فليتوقف القارئ هنيهة عند هذا المديح، وإذا استطاع حتى يتذكر أي امرأة أخرى تستحقه فليرتبط بها إذا أراد لنفسه السعادة.

نص كتاب خطاب حول أصل التفاوت وجذوره بين البشر. للقراءة، اضغط على الصورة.


أما المستوى التالية في هذه الرواية الغرامية المتعددة الأطراف فكانت هي أيضاً نقيضاً لكل قواعد الزنا. ذلك حتى مدام دفاران حين أدركت حتى جارة لها تدعى المدام دمانتون تتطلع إلى حتى تكون أول من يفهم جان-جاك فنون الغرام، عرضت نفسها عليه خليلة دون حتىقد يكون في هذا الوضع إضرار بخدماتها المماثلة لآنية، إما لأنها أبت حتى تسلم بالتفوق لجارتها وإما لأنها أرادت حتى تحمس الفتى من ذراعين أقل حناناً من ذراعيها وأنفق جان-جاك ثمانية أيام يدير الأمر في رأسه، فقد كان من أثر طول ألفته بها حتى أفكاره كانت بنوية أكثر منها شهوانية. يقول "لقد أحببتها حباً منعني من حتى اشتهيها" وكان آنئذ يعني من الأمراض التي قدر لها حتى تطارده حتى النهاية، وهي التهاب المثانة وضيق مجرى البول. وأخيراً، وبكل الحياء المنتظر منه، ارتضى العمل باقتراحها. بقول:

"وأخيراً اتى اليوم الذي كنت أخشاه أكثر مما أتوق إليه....فلقد كان قلبي يحبذ غرامياتي دون حتى يشتهي الجائزة. ولكني حصلت عليها رغم ذلك. ورأيتني لأول مرة بين ذراعي امرأة، وامرأة أعبدها. أكنت سعيداً،يا ترى؟ لا لقد ذقت اللذة، ولكني لا أدري أي حزنٍ طاغٍ سمم هذه التعويذة فلقد شعرت كأني أقترف سفاح المحارم. وبينما كنت أضمها بين ذارعي في نشوة الفرح أغرقت صدرها مرتين أوثلاثاً بدموعي. أما هي فلم تكن بالحزينة ولا بالفرحة، بل كانت هادئة وهي تعانقني وتقبلني ولم تستشعر أي انتشاء، ولا أحست بالندم قط، لأنها لم تكن شهوانية على الإطلاق، ولم تكن تبحث عن اللذة بتاتاً.

وقد عزا روسوإلى سم الفلسفة مناورات هذه السيدة وهويستحضر ذكرى هذا الحدث البارز فيما بعد. نطق:

"أكرر حتى جميع مشاعرها كانت نتيجة خطئها لا نتيجة شهواتها. فلقد كانت كريمة المولد، نقية القلب، نبيلة السلوك، وكانت رغباتها سوية فاضلة، وذوقها رقيقاً مرهفاً. وبدا أنها خلقت لذلك الطهر الرائع-طهر الآداب-الذي أحبته على الدوام ولكنها لم تمارسه قط، لأنها بدلاً من حتى تصغي إلى أوامر قلبها اتبعت عقلها الذي ضللها... ومن سوء حظها أنها كانت تعتز بالفلسفة، وكان من أثر المبادئ الخلقية التي استخلصتها من هذه الفلسفة إفساد الفضيلة التي أشار بها قلبها.

ومات آنيه في 1734. واستنطق روسومن وظيفته في خدمة ملاحظ الإقليم، وتولى أعمال المدام وقد وجدها طالما خطيرة من الخلل تشرف على الإفلاس فحصل على بعض المال بتدريس الموسيقى،ـ وفي 1737 آلت إليه ثلاثة آلاف فرنك استحقت له من ميراث أمه، فأنفق بعضها على الخط، ومنح الباقي لمدام دفاران. ثم لزم الفراش، فسقمته ماما بحنان. ولما لم يكن لبيتها حديقة فقد استأجرت (1736) كوخاً في ضاحية يسمى الشارميت هناك "سارت حياتي سيراً هادئاً غاية الهدوء" ومع أنه "لم يكن يحب قط حتى يصلي في قاعة" فإن الخلاء خارج الكوخ حفزه لشكر الله على جمال الطبيعة وعلى مدام دفاران، وللب البركة الإلهية على رباطهما. وكان يومها شديد التعلق باللاهوت الكاثوليكي مع شائبة حزينة من الجانسنية "فكثيراً ما عذبني خوف الجحيم".

وكان يقلقه اكتئاب هوضرب من الوهم كان رائجاً في ذلك العهد. وقد خيل إليه حتى هناك ورماً في غشاء قريب من قلبه، فقصد مونبلييه في مركبة البريد: وفي الطريق هدأ من اكتئابه بما زعم أنه تحقيق لوصال بمدام دلارناج (1738) وكانت أماً لفتاة في الخامسة عشرة. فلما عاد إلى شامبري عثر حتى مدام دفاران تجرب علاجاً مماثلاً، وأنها اتخذت عشيقاً جديداً لها من صانع باروكات شاب يدعى جان فنتسنريد. واحتج روسو؛ فنطقت له إنه يسلك كالأطفال، وأكدت له حتى في حبها متسعاً لاثنين باسم جان. ولكنه أبى حتى "يحط من كرامتها على هذا النحو"، فاقترح عليها حتى يعود إلى وضعه القديم. فزعمت أنها موافقة، ولكن استياءها من تخليه عنها بهذه السرعة أصاب محبتها له بالفتور. وأعتكف في شارميت وأقبل على دراسة الفلسفة.

ولول مرة (حوالي 1738) وعى بنسائم "لتنوير" الهابة من باريس وسيريه. فقرأ بعض أعمال نيوتن، وليبنتز، وبوب، وقلب في متاهات قاموس بيل. ثم عاد إلى تفهم اللاتينية، وأحرز في ذلك بجهده وحده تقدماً أكثر مما أحرز من قبل على يد مفهميه ووفق إلى حتى يقرأ شذرات من فرجل، وهوراس، وتاسيتوس، وترجمة لاتينية لمحاورات أفلاطون. وطلع عليه لابروبير، وبسكال، وفنيلون، وبريفوست، وفولتير، وكأنهم رؤيا لفت رأسه "لم يفتنا شيء مما خطه فولتير"؛ والواقع حتى خط فولتير هي التي "أوحت إليّ بالرغبة في حتى أتأنق في الكتابة، وحملتني على محاولة تقليد تلوينات ذلك الكتاب الذي فتنت به أية فتنة"وعلى غير وعي منه فقد اللاهوت القديم الذي كان من قبل إطار أفكاره، شكله وصرامته، فوجد نفسه يفكر دون رعب في عشرات الهرطفات التي كانت تبدوله في شبابه فاضحة شائنة. وحل محل إله الكتاب المقدس إيمان حار يوشك حتىقد يكون مشوباً هوالإيمان بوحدة الوجود. هناك إله، نعم، والحياة بدونه لا معنى لها ولا يطيقها الإنسان، ولكنه ليس ذلك الإله الخارجي، المنتقم، الذي تصوره الناس القساة الجبناء؛ إنما هوروح الطبيعة، والطبيعة في صميمها جميلة، والطبيعة البشرية في أساسها خيرة. وعلى هذا الإيمان، وعلى بسكال، سيقيم روسوفلسفته.

وفي 1740 وجدت له مدام دفاران وظيفة مفهم خاص لولدي المسيوبونودمابليه، رئيس بلدية ليون وافترق عنها دون لوم ولا عتاب من أحد الطرفين، وأعدت له ثياب الرحلة، وخاطت لها بعض الملابس بيديها اللتين كانتا فتنة له يوماً ما.


العودة لپاريس

Pierre Alexandre du Peyrou, rich inhabitant of Neufchâtel, plantation owner, writer, friend and publisher of some of Rousseau's oeuvre. His mansion was Le Palais du Peyrou.

كانت أسرة مابليه حافزاً جديداً لروسو. وكان رئيس البلدية أكبر أخوة ثلاثة نابهين، أحدهم جابرييل بونودمابليه الذي اقترب من الشيوعية، والآخر هوالأبيه إيتين بونودكوندياك، الذي أوشك حتىقد يكون مادياً. وقد التقى روسوبثلاثتهم. وبالطبع سقط في غرام مدام دمابليه، ولكنها كانت من السماحة بحيث لم تعر الأمر أهمية. واضطر جان-جاك حتى ينصرف إلى مهمته، وهي تعليم ولديها. فأعد للسيد دمابليه بياناً بأفكاره التربوية، وكانت في بعضها تتفق والمبادئ التحررية التي ستعرض عرضاً رومانسياً ممتازاً في كتابه "إميل" بعد اثنين وعشرين عاماً، وفي بعضها تناقض رفضه اللاحق لـ"الحضارة"، لأنها اعترفت بقيمة الفنون والعلوم في تطوير النوع الإنساني. وكان يلتقي مراراً برجال كالأستاذ بورد عضوأكاديمية ليون (وكان صديقاً لفولتير)، فتشرب قدراً أكبر من "التنوير"، وتفهم حتى يهزأ بالجهل والخرافة الشائعين بين الجماهير. ولكنه ظل طوال حياته مراهقاً. فذات يوم رأى شابة عارية تماماً إذ اختلس النظر إليها وهي تستحم في الحمامات العامة، وتوقف قلبه عن النبض، فلما خلا إلى نفسه في حجرته وجه إليها خطباً جريئاً غفلاً من التوقيع نطق فيه:

"لا أكاد أجرؤ يا آنسة بالظروف التي أدين لها بسعادة رؤيتي إياك وعذاب حبي لك. فقد فتنني فيك ما أكثر من ذلك الجسد النحيل اللطيف الذي لا ينتقص العري من جماله، وذلك القوام الأنيق، وتلك الخطوط الرشيقة...ما هوأكثر من نضارة الزئبق المنثور على شخصك بهذا السخاء الكثير...أنها حمرة الخجل الناعمة التي رأيتها تكسوجبينك حين أسفرت عن وجودي لعينيك بعد حتى جردتم بخبث شديد-بغناء بيتين من الشعر.

وكان الآن وقد شب إلى السن التي تغريه بعشق الصبايا، فكادت جميع فتاة حسنة الطلعة تثير أشواقه وأحلامه، ولكنه تعلق على الأخص بسوزان سير. "مرة-وا أسفاه، مرة واحدة فقط في حياتي،يا ترى؟ لمس فمي فمها. إيه أيتها الذكرى،يا ترى؟ هل أفقدك في القبر؟" وبدأ يفكر في الزواج منها، ولكنه اعترف لها قائلاً "ليس لدي ما أقدمه لك سوى قلبي" ولما لم يكن قلبه عملة قانونية، فإن سوزان قبلت يد غيره، وانكفأ روسوإلى أحلامه من جديد.

إنه لم يخلق ليكون عاشقاً ناجحاً ولا مفهماً كفئاً.

"كان لدي من الفهم القدر اللازم تقريباً لمدرس خاص...وبدا حتى رقة طبعي الفطرية تهيئني لهذا العمل، لولا حتى تعجل الأمور اختلط بهذا الطبع فإذا سارت الأمور رخاء ورأيت حتى الجهود التي لم أضن بها أثمرت كنت ملاكاً، أما إذا أخفقت فقد كنت أنقلب شيطاناً. فإذا لم يفهمني تلميذاي تعجلت الشرح، وإذا أظهرا أي أمارات على الطبع المشاكس كان ذلك يستفزني استفزازاً يكاد يحملني على قتلهما....وصممت على هجرهما بعد حتى اقتنعت بأنني لن أنجح أبداً في تعليمهما التعليم السليم. وتبين المسيودمابليه هذا بالوضوح الذي تبينته به وأن كنت ميالاً إلى الاعتقاد بأنه ما كان ليطردني قط لولا أنني أعفيته من هذا العناء".

إلى غير ذلك استقل مركبة البريد قافلاً إلى شامبري بعد حتى استنطق وهوحزين، أوطرد طرداً كريماً. والتمس العزاء من حديث بين ذراعي ماما. فاستقبلته هي في تلطف وأفسحت له مكاناً على مائدتها مع عشيقها. ولكنه لم يكن سعيداً في هذا الموقف، فأغرق نفسه في الخط والموسيقى، وابتكر طريقة للتدوين الموسيقي تستخدم الأرقام بدلاً من الرموز. ولما عزم على الذهاب إلى باريس وعرض اختراعه على أكاديمية العلوم أثنى الجميع على قراره. وفي يوليو1742 عاد إلى ليون ملتمساً خطابات تقديم إلى الأعيان في العاصمة. وأعطاه آل مابليه خطابات إلى فونتنيل والكونت دكايلوس وقدمه بورد إلى الدوق درشليو. ومن ليون استقل المركبة العامة إلى باريس تداعب رأسه أحلام المجد.

وكانت فرنسا آنذاك مشتبكة في حرب الوراثة النمساوية (1740-48) ولكن الحرب كانت تدور رحاها على أرض أجنبية، وعليه فقد سارت باريس سيرتها الأولى وواصلت حياة المرح البهي والاضطراب الفكري، حياة المسارح الناطقة بمسرحيات راسين، والصالونات المتألقة بالهرطقات والسخريات، والأساقفة الذين يقرؤون فولتير، والشحاذين الذين ينافسون البغايا، الباعة الجوالين الذين ينادون على بضائعهم، والصناع الذين يبذلون العرق في سبيل لقمة العيش إلى هذه الدوامة أقبل جان-جاك روسو، وهوفي الثلاثين من عمره، في أغسطس 1742، وفي كيسه من المال خمسة عشر جنيهاً. واستأجر حجرة في فندق سان-كنتان بشارع الكوردلييه قرب السوربون-"شارع حقير وفندق تعس، وحجرة بائسة" وفي 22 أغسطس قدم إلى الأكاديمية "مشروعاً عن علامات جديدة للتدوين الموسيقي". ورفض الفهماء مشروعه في مجاملة لطيفة. وشرح له رامورأيهم قائلاً "أن علاماتك حسنة جداً...ولكن عليها اعتراضاً، هوأنها بحاجة إلى إعمال الذهن، وهوأمر لا يمكن دائماً حتى يرافق سرعة التطبيق. أما موضوع علامتنا فيصور للعين دون تزامن مع هذه العملة" واعترف روسوبأن الاعتراض لا يمكن التغلب عليه.

نص كتاب محاولة في أصل اللغات. للقراءة، اضغط على الصورة.


وأتاحت له خطابات التقديم التي أخذها معه ذلك الاتصال بفونتيل الذي كان هوفي عامه الخامس والثمانين أحرص على طاقته من حتى يأخذ روسومأخذ الجد، والاتصال بماريفوالذي قرأ مخطوطة مسرحية روسوالهزلية "نارسيس" واقترح حتى يدخل عليها تحسينات، وذلك رغم انشغاله بنجاحه روائياً ومحرراً مسرحياً وقابل الوافد الجديد ديدرو، الذي لم يكن بعد قد نشر أي مؤلف يؤبه به، وكان يومها يصغر جان-جاك بعام واحد.

"كان ولوعاً بالموسيقى، يعهدها نظرياً... وقد حدثني ببعض مشروعاته الأدبية... وسرعان ما وثق هذا بيننا صلة دامت خمسة عشر عاماً، وأغلب طني أنها كانت ستدوم إلى اليوم لولا أننا لسوء الحظ... أبناء حرفة واحدة".

وكان يصاحب ديدروإلى المسرح أويلاعبه الشطرنج، والتقى روسوفي تلك اللعبة بفيليدرووغيره من مهرة لاعبيها، و"لم يكن عندي شك في أنني في النهاية سأتفوق عليهم جميعاً". ووجد سبيله إلى بيت مدام دوبان وصالونها، وكانت ابنة المصرفي صموئيل برنار، وعقد صداقة مع ابن زوجها كلود دوبان دفرانكوي وخلال ذلك أوشكت نقوده على النضوب.

وبدأ يبحث من حوله عن عمل يستكمل به جهود أصدقائه في إطعامه. فعرضت عليه بنفوذ مدام بزنفال وظيفة سكرتير للسفارة الفرنسية في البندقية. وبعد حتى بتر رحلة طويلة محفوفة بالخطر بسبب الحرب، وصل إليها في ربيع 1743 وقدم نفسه إلى السفير الكونت دمونتاجو. ويؤكد لنا روسوحتى هذا الكونت كان أمياً تقريباً، وكان على السكرتير حتى يفك شفرة الوثائق وأن يحررها، وكان يقدم رسائل الحكومة الفرنسية إلى مجلس شيوخ البندقية بشخصه لأنه لم ينسَ الإيطالية التي كان قد تفهمها في تورين وكان فخوراً بمنصبه الجديد، وشكا من حتى مركباً تجارياً زاره لم يطلق المدافع تحية له مع حتى هذه "التحية نالها من هم أقل شأناً". وتشاجر الرئيس والمرءوس على أيهما يظفر بالرسوم التي تدفع نظير استخراج السكرتير لجوازات السفر إلى فرنسا. وقد صلحت حال روسوبفضل نصيبه من هذه الرسوم، فتناول الطعام الطيب على غير العادة، واختلف إلى المسرح والأوبرا، وسقط في غرام الموسيقى الإيطالية والفتيات الإيطاليات.

وذات يوم زار مومساً تسمى لابدوانا "لكيلا أبدوشديد البلاهة أمام رفاقي" وطلب إليها حتى تغني فغنت، فنقدها دوكاتيه وهم بالانصراف، ولكنه رفضت حتى تأخذ بترة النقود دون حتى تكون قد بذلت في نيلها جهداً. فأرضاها، وعاد إلى مسكنه "مقتنعاً جميع الاقتناع بأنني سأتجرع عواقب هذه العملة، فكان أول شيء عملته أنني استدعيت جراح الملك ألتمس منه الدواء "ولكن الطبيب" أقنعني بأن في خلقتي ما يجعلني لا أقبل العدوى بسهولة" وبعد فترة أقام له أصدقاؤه حفلة يثاب فيها بجائزة هي الغانية الجميلة زوليتا فدعته إلى حجرتها وخلعت ثيابها. "وفجأة، بدلاً من حتى اضطرم بنار الشهوة أحسست ببرودة قاتلة تسري في عروقي، وباشمئزاز ينفذ إلى أعماقي، فجلست وانخرطت بالبكاء كالأطفال". وقد علل عجزه هذا فيما بعد بأن أحد ثديي المرأة كان مشوهاً. أما زوليتا فقد انقلبت عليه هازئة ونطقت له "دع النساء وشأنهن، وانصرف إلى تفهم الرياضة".

وأوقف المسيودمونتاجوصرف راتب روسولأن راتبه هوكان متأخراً. فعادا إلى الشجار، ورفت السكرتير (1744) وشكا روسوإلى أصحابه في باريس وأوفد استفسار إلى السفير فأجاب "يجب حتى أبلغكم كم كنا مخدوعين في السيد روسو. ذلك حتى حدة طبعه ووقاحته الناجمين عن شدة اعتداده بنفسه، وعن جنونه، هما اللذان أفضيا به إلى الحال الذي وجدناه عليه. لذلك طردته كما يطرد خادم سيئ" وقفل جان- جاك إلى باريس (11 أكتوبر) وطرح على الموظفين المختصين في الحكومة وجهة نظره في النزاع فلم ينصفوه. فلجأ إلى مدام ديزنفال، ولكنها رفضت حتى تستقبله. فأوفد إليها خطاباً عنيفاً نستطيع حتى نحس فيه لفحات الثورة الفرنسية البعيدة:

"كنت مخطئاً يا سيدتي، فقد ظننتك منصفة فإذا بك "نبيلة" فقط، وكان يجب عليّ حتى أذكر هذا وأن استوعب أنه لا يليق بي-وأنا رجل غريب أنتمي إلى طبقة العامة-أن أشكر أحد السادة. ولوحتى قدري رماني ثانية في قبضة سفير بهذا الخلق لكابدت آلامي دون شكوى. فإذا كان مفتقراً إلى الإحساس بالكرامة، ينقصه سموالنفس، فذلك لأن النبالة في غنى عن هذا كله، وإذا اقترن بكل ما حقير دنيء في بلد من أشد بلاد الله فساداً، فذلك لأن أجداده خلقوا له من الشرف ما يكفيه؛ وإذا عاشر الأوغاد، أوكان هونفسه وغداً، وإذا أكل على خادم أجره، إذن يا سيدتي فلن أخلص إلا إلى هذا الرأي، وهوحتى من حسن حظ المرء ألاقد يكون وليد أفعاله هو. فهؤلاء الأجداد-من كانوا،يا ترى؟ أشخاص لا شهرة لهم، ولا مال، نظرائي، كان لهم موهبة من نوع ما، وبنوا لأنفسهم سمعة، ولكن الطبيعة تبذر بذرة الخير والشر، أعطتهم نسلاً حقيراً".

ثم أضاف روسوفي "الاعترافات":

"لقد خلفت عدالة شكاواي وعدم جدواها في ذهني بذور السخط على نظمنا الاجتماعية الحمقاء التي تضحي فيها دائماً رفاهية الشعب والعدل الحقيقي في سبيل مظهر للنظام ما أنزل الله به من سلطان، لا ثمرة له إلا أنه يضيف موافقة السلطة العامة إلى ظلم الضعفاء وبغي الأقوياء".

ولما عاد مونتاجوإلى باريس أوفد روسو"بعض المال تسوية لحسابي...وتسلمت من أعطاني وسددت جميع ديوني، وعدت يا مولاي كما خلقتني. "واستقر ثانية في فندق سان-كنتان وارتزق بنسخ مدونات الموسيقى. ولما سمع النبيل الذي كان يحمل آنئذ لقب دوق أوليان بفقره أعطاه كراسات موسيقى لينسخها مشفوعة بخمسين جنيهاً مضىياً، فاحتجز روسومنها خمسة ورد الباقي لأنه يزيد على حقه.

وكان ما يكسبه أقل كثيراً مما يتيح له حتى يعول زوجة، ولكنه رأى حتى في استطاعته حتى يعول خليلة إذا أحكم التدبير وكان من بين من يؤاكلونه في فندق سان-كنتان صاحبة الفندق، وبعض الآباء الدينيين المفلسين، وشابة تخدم الفندق غسالة أوخياطة. وكان في هذه المرأة، واسمها تريز لقاسير، ما في جان-جاك من إحجام وتردد، ووعي بالفقر وأن لم تكن فخورة بفقرها مثله. وكان يدافع عنها إذا عاكسها الآباء. وانتهى بها الأمر إلى حتى ترى فيه حاميها، وسرعان ما عثر الواحد منهما سبيله إلى حضن صاحبه (1746) وبدأت أصارحها بأنني لن أتخلى عنها ولن أتزوجها". واعترفت بأنها ليست عذراء، ولكنها أكدت له أنها لم تأثم غير مرة واحدة، وكان ذلك منذ أمد بعيد. فصفح عنها صفحاً جميلاً، مؤكداً لها حتى عذراء العشرين مخلوق نادر الوجود في باريس على أي حال.

وكانت مخلوقة بسيطة لا سحر فيها ولا دلال، لا تستطيع الكلام في الفلسفة أوالسياسة كنسا الصالونات، ولكنها تعهد كيف من الممكن أن تطهو، وتدبر شؤون البيت وتحتمل في صبر نزواته وعاداته الغريبة. وكان يتحدث عنها عادة باعتبارها "مدبرة البيت" أما هي فتقول عنه "رجلي" وندر حتى اصطحبها في زياراته لأصدقائه، لأنها ظلت على الدوام مراهقة ذهنياً، كما ظل هوعلى الدوام مراهقاً خلقيا.

"حاولت أول الأمر حتى أصلح عقلها، ولكن جهودي أدراج الرياح. ذلك حتى عقلها بقي على ما فطرته الطبيعة، فهولا يقبل التثقيف. ولا يخجلني حتى اعترف أنها لم تعهد قط كيف من الممكن أن تقرأ جيداً، وإن كانت تخط كتابة لا بأس بها.. ولم تستطع قط حتى تتلوشهور السنة بالترتيب، أوتميز بين عدد وآخر رغم ما بذلت من عناء في محاولة تعليمها. وهي لا تعهد كيف من الممكن أن تعد النقود، ولا تحسب ثمن أي شيء فإذا تحدثت كانت الحدثة التي تخطر لها هي في أحيان كثيرة عكس الحدثة التي تقصدها. وقد صنفت فيما مضى قاموساً بعباراتها لأروح به عن المسيودلكسمبورج، وكثيراُ ما ذاع أمر أغلاطها بين أخص أصحابي".

فلما حملت "أرتبك أشد ارتباك" فماذا هوصانع بالأطفال،يا ترى؟ وأكد له بعض أصحابه أنه من المألوف إرسال الأطفال غير المرغوب فيهم إلى الملجأ لقطاء. فلما ولد الطفل عمل هذا رغم احتجاجات تريز، ولكن بتعاون أمها (1747) وخلال الأعوام الثانية التالية ولد له أربعة أطفال تصرف فيهم على هذا النحو. وقد ألمع بعض الشكاك إلى حتى روسولم يرزق أطفالاً، وأنه أخترع هذه السيرة ليخفي عجزه الجنسي، ولكن كثرة دفاعه عن تنصله هذا من المسئولية تجعل هذه النظرية بعيدة الاحتمال. وقد أعترف سراً بتصرفه في هذا الأمر لديدرو، وجريم، ومدام ديينيه؛ واعترف به ضمناً في كتابهم "إميل"؛ واستشاط غضباً على فولتير لأنه أذاع خبره، ثم أقر به صراحة في كتابه "الاعترافات" وأعرب عن ندمه. إنه لم يخلق للحياة العائلة، لأنه كان حزمة مرهفة من الأعصاب، وجواباً شريداً في الجسد والروح. وكان يعوزه ذلك الاهتمام بالأطفال الذي يجعل الأب صاحباً رزيناً، ولم تكتمل رجولته قط.

في نحوهذه الفترة أسعده الحظ بأن يجد وظيفة مريحة. فقد اشتغل سكرتيراً لمدام دويان، ثم لابن أخيها. وحين أصبح دويان دفرانكوي أميناً عاماً للصندوق رقى روسوصرافاً براتب ألف فرنك في السنة. واتخذ الآن الضفيرة المضىية، والجوارب الجوارب البيض، والباروكة، والسيف، كلها شارات حاكا بها الأدباء ثياب الطبقة الأرستقراطية ليجدوا طريقهم إلى بيوت النبلاء. وفي وسعنا حتى نتصور ضيقه بشخصيته المنقسمة على ذاتها. وقد أستقبل في عدة صالونات وصنع أصدقاء جدد، منهم رينال، ومارمونيتل، ودوكلو، ومدام دينيه، ثم فريدرش ملشيور جريم، الذي ارتبط به ارتباطاً حميماً جداً ومؤذياً جداً. وأختلف إلى حفلات العشاء المثيرة في بيت البارون دولباخ حيث كان ديدرويقتل الآلهة بسلاح سماه خصومه فك حمار. في وكر الملحدين ذاك ذاب وتلاشى جل كثلكة جان-جاك.

وألف الموسيقى خلال ذلك. وكان قد بدأ في 1743 مزيجاً من الأوبرا والباليه سماه "ربات الفنون الرشيقات" يحي به غراميات أناكربون، وأوفيد، وتاسو، وأخرجت الأوبرا في 1745 محدثة بعض الضجة في بيت جابي الضرائب لابولفيير، وقد سخر منها رامووزعم إنها محاكاة لإنتحالات من الملحنين الإيطاليين، ولكن الدوق رشليوأحب بها وعهد إلى روسوبتنقيح أوبرا وباليه تسمى "أعياد رامير" أعدها رامووفولتير على سبيل التجربة. وفي 11 ديسمبر 1745 خط روسوأول رسالة لأمير أدباء فرنسا:

"لقد ظللت خمسة عشرة عاماً أكد وأكدح لأجعل نفسي جديراً باحترامك وبالعطف الذي تحبوبه شباب الأدباء الذين تكتشف فيهم الموهبة. ولكني بفضل كتابتي موسيقى إحدى الأوبرات أجدني قد انقلبت موسيقياً. وأياً كان النجاح الذي تحققه جهودي الضعيفة فإنها ستكون في نظري جهوداً رائعة لوكسبت لي شرف معهدتك إياي، والإعراب عن الإعجاب والاحترام العميق اللذين يشرفني حتى يكنهما لك خادمك المتواضع المطيع جداً".

وأجاب ڤولتير: "سيدي، إنك تجمع في شخصك موهبتين وجدتا على الدوام منفصلتين على الدوام، فهذان مبرران طيبان يحملانني على تقديرك ومحبتك".

وبهذين الخطابين من خطابات الحب بدأت خصومتهما الشهيرة.


في عام 1749 سجن ديدروفي فانسين عقاباً له على فقرات مهينة في كتابه "رسائل عن المكفوفين" وخط روسوإلى مدام دبومبادور يلتمس الإفراج عن صديقه أوالإذن له بأن يشاركه سجنه. وخلال ذلك الصيف قام غير مرة برحلة دائرية طولها عشرة أميال بين باريس وفانسين ليزور ديدرو. وفي واحدة منها أخذ نسخة من مجلة الماركيز دفراني ليقرأ أثناء سيره. إلى غير ذلك سقط على الإعلان عن جائزة تقدمها أكاديمية ديجون لأفضل منطق يجيب عن هذا السؤال "هل أعان إحياء العلوم والآداب والفنون على إفساد الأخلاق أم على تطهيرها؟" وأغراه الإعلان بدخول المسابقة، فهوالآن في السابعة والثلاثين، وقد آن الأوان ليحقق لنفسه الشهرة. ولكن هل بلغ من الإحاطة بالفهم أوالفن أوالتاريخ مبلغاً يكفي لمناقشة مثل هذه الموضوعات دون حتى يفضح ما تعليمه من قصور،يا ترى؟ وقد وصف في خطاب خطه إلى مالزيرب في 12 مايو1762 بحماسته العاطفية المتميزة تلك الرؤيا التي تراءت له أثناء هذه المسيرة. نطق:

"وفجأة أحسست حتى مئات الأضواء المتلألئة تخطف بصري. وتزاحمت حشود من الخواطر النابضة بالحياة في ذهني بقوة واختلاط جعلاني أضطرب اضطراباً لا يوصف وأحسست برأسي يدوّم في دوار كأنني مخمور، وضاق صدري بخفقان عنيف. فلما عجزت عن السير لصعوبة التنفس ارتميت على شجرة على الطريق وقضيت نصف ساعة طالما من الانفعال الشديد حتى أنني حين قمت وجدت مقدمة صدريتي كلها مبللة بالدموع..أوه، لوأتيح لي حتى أخط ولوربع ما رأيت وأحسست تحت تلك الشجرة، فبأي وضوح كنت أميط اللثام عن جميع تناقضات نظامنا الاجتماعي! بأي بساطة كنت أبين حتى الإنسان بفطرته خير، وأن نظمنا هي التي جعلته شريراً".

وهذه العبارة الأخيرة ستكون نشيد حياته المتردد، وتلك الدموع التي تدفقت على صدريته كانت منبعاً من المنابع العليا التي انبثقت منها الحركة الرومانسية في فرنسا وألمانيا. لقد كان في وسعه الآن حتى يكسب قلبه في هجوم على جميع تكلف باريس وتصنعها، وفساد أخلاقها، وزيف سلوكها المصقول، وإباحية أدبها، وشهوانية فنها، وتعالي طبقيتها، وسفه أغنيائها الغليظ الذي تموله إبتزازاتهم من الفقراء، وجفاف الروح لحلول الفهم محل الدين، والمنطق محل الوجدان. إنه بإعلانه الحرب على هذا الانحلال يستطيع حتى يبرر بساطة ثقافته، وعاداته الريفية، وقلقه وضيقه في المجتمع، ونفوره من حيث القيل والنطق، ومن الفكاهة التي تجردت من الاحترام، ويبرر احتفاظه المتحدي بإيمانه الديني وسط إلحاد أصحابه. لقد عاد في أعماق نفسه كلفنياً كما كان، وذكر بشيء من الحنين تلك العفة التي لقنها في صباه. إنه بدخوله مسابقة ديجون سيحمل وطنه جنيف فوق باريس، وسيشرح لنفسه ولغيره لم كان سعيداً في ليشارميت، وشقياً غاية الشقاء في صالونات باريس.

فلما وصل إلى فانسين كاشف ديدرومنيته في دخول المسابقة. فهلل ديدروللفكرة، وأشار عليه بأن يهاجم حضارة جيلهما بكل ما في وسعه من قوة. فلن يجرؤ متسابق آخر على اتخاذ هذا الموقف، وسيكون موقف روسوفريداً في بابه عاد جان-جاك إلى مسكنه وهويتحرق شوقاً لهدم الآداب والعلوم التي كان ديدرويستعد للإشادة بها في "الموسوعة" أوالقاموس العقلاني للعلوم والآداب والحرف: (1751 وما يليها) وخطت "الموضوع" بطريقة فريدة جداً...فكرست له ساعات الليل التي جفاني فيها النوم، وكنت أتأمل في فراشي وجفناي مغمضتان، وأدير في ذهني المرة بعد المرة عباراتي بعناية واهتمام لا يصدقان..وحالما فرغت من الموضوع دفعته لديدروفرضي عنه، وأشار ببعض تصويبات يجب في رأييه إجراؤها...وأوفدت الموضوع دون حتى أبلغ بأمره أحداً غيره، اللهم إلا جريم فيما أذكر". أما أكاديمية ديجون فقد توجت منطقه بالجائزة الأولى (23 أغسطس 1740)-وهي ميدالية مضىية وثلاثمائة فرنك، واتخذ ديدروالإجراءات بما عهد به من حماسة، لنشر الموضوع الذي سمي "منطقاً في الآداب والفنون والعلوم" وسرعان ما خط إلى المؤلف يبلغه النبأ إذا منطقك ساحر إلى حد فاق جميع تصور، فلم يكن لهذا النجاح ضريب على الإطلاق، وكأني بباريس وقد أدركت أنه هاهنا، في قلب حركة التنوير تماماً، قام رجل يتحدى عصر العقل، ويتحداه بصوت سيصغي إليه العالم.

أما الموضوع فقد بدا في استهلاله مشيداً بفوزات عصره:

"أنه لمشهد جليل جميل حتى نرى الإنسان يحمل نفسه-إن جاز هذا التعبير-من العدم بجهوده هو؛ فيبدد بنور العقل جميع السحب الكثيفة التي اكتنفته بالطبعة فسما فوق نفسه، وحلق بالفكر إلى أجواء الفضاء، واشتمل بخطى عملاقة آفاق الكون الشاسعة كأنه الشمس؛ وأجل من ذلك وأعجب أنه انكفأ إلى نفسه ليدرس الإنسان ويصل إلى فهم فطرته وواجباته وهدفه..كل هذه المعجزات رأيناها تجدد خلال الأجيال القليلة الأخيرة".

ولابد حتى فولتير جاد بابتسامة الرضى عن فرحة هذا الاستهلال، فهاهنا تلميذ حديث لجماعة "الفلاسفة"؛ والرفاق الطيبين الذين سيقضون على الخرافة "والعار"؛ ثم ألم يكن لوشنقار الفتى هذا مساهماً في الموسوعة عملاً،يا ترى؟ ولكن ما إذا اتىت الصفحة التالية حتى اتخذت المناقشة وجهة مؤسفة. فنطق روسوإذا تقدم الفهم هذا كله جعل الحكومات أعظم سطوة، فسحقت حرية الفرد واستبدلت بالفضائل البسيطة والكلام الصريح لعهد أكثر خشونة وبدائية، نفاق اللباقة الاجتماعية.

"لقد أقصيت من بين الناس الصداقة المخلصة، والاحترام الحقيقي، والثقة الكاملة وتسترت الغيرة والريبة، والخوف، وبرودة العاطفة، والتحفظ والكراهية، والغش، دائماً وراء ذلك القناع الواحد الخدَّاع، قناع التأدب، والصراحة والكياسة اللتين يتباهى بها الناس، ذلك القناع الذي ندين به لنور عصرنا وقيادته..فلتطالب الآداب والفنون والعلوم بنصيبها الذي أسهمت به في هذا العمل المفيد".

ويكاد فساد الفضائل والأخلاق نتيجة لتقدم الفهم والفن حتىقد يكون قانوناً من قوانين التاريخ "لقد غدت مصر أم الفلسفة والفنون الجميلة، وسرعان ما غزاها الغزاة". أما اليونان التي كان يسكنها الأبطال يوماً ما فقد قهرت آسيا مرتين، وكانت "الآداب" يومها في المهد، ولم تكن فضائل إسبارطة قد حلت محلها-مثلاً إغريقياً أعلى-تلك الثقافة الأثينية المهذبة، وسفسطة السفطائيين، وتماثل براكستيلبس الشهوانية؛ فلما بلغت تلك "الحضارة" أوجها، أطاح بها فليب المقدوني بضربة واحدة، ثم قبلت نير روما في استكانة. أما روما فقد غزت عالم البحر المتوسط كله يوم كانت أمة من الفلاحين والجند، متمرسة بنظام صارم، فلما أسلمت نفسها للذات الأبيقورية، وأشادت ببداءات أوفيد وكاتللوس، ومارتيال، باتت مرتعاً للرذيلة "وهزؤاً بين الأمم، وهدفاً لاحتقار الشعوب حتى الهمج منها. وحين عادت روما إلى الحياة في حركة النهضة الأوربية، عادت الفنون والآداب تنخر في عافية المحكومين والحاكمين، وخلفت إيطاليا أوهى من حتى تثبت للهجوم. فأخضع شارل الثامن ملك فرنسا توسكانيا ونابلي دون حتى يمتشق حساماً تقريباً، وعزت حاشيته كلها هذا النجاح غير المتسقط إلى انصراف أمراء إيطاليا ونبلائها باهتمام أعظم إلى تثقيف عقولهم دون الاهتمامات النشيطة والأعمال العسكرية".

والأدب ذاته عنصر من عناصر الفناء:

"يحكى حتى الخليفة عمر حين سُئل في أمر مخطة الإسكندرية وما يعمله بها أجاب: "وأما الخط التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامه" وقد ساق أدباؤنا هذا الأسلوب في التفكير على أنه بلغ غاية السخف، ولكن لوحتى البابا جريجوري الأكبر كان في مكان عمر، والإنجيل في مكان القرآن، لأحرقت المخطة رغم ذلك، ولربما عد هذا أروع عمل قام به في حياته".

أنظر إلى تأثير الفلسفة الممزق فبعض "محبي الحكمة" هؤلاء يخبروننا بأنه ليس هناك شيء اسمه المادة، وغيرهم يؤكدون لنا أنه لا وجود لشيء إلا للمادة وليس إله آخر غير الكون ذاته؛ وطريق ثالث يعلن حتى الفضيلة والرذيلة ليستا سوى أسمين، وأنه لا اعتبار لشيء إلا للقوة والمهارة فهؤلاء الفلاسفة "يقوضون أسس إيماننا ويحطمون الفضيلة. إنهم يسخرون من الحدثات القديمة التي نستعملها مثل "الوطنية" و"الدين" ويكرسون مواهبهم لهدم وتشويه جميع ما نقدسه غاية التقديس". ومثل هذا الهراء ما كان ليعمر في العصور القديمة بعد موت صاحبه، أما الآن فبفضل الطباعة "ستبقى إلى الأبد تأملات هوبز وسبينوزا المؤذية. إذن فاختراع الطباعة كان من أفدح الكوارث في تاريخ الإنسانية، ومن السهل حتى نرى حتى الملوك في المستقبل سيحرصون على إقصاء هذا الفن الرهيب عن ممالكهم حرصهم من قبل على تشجيعه".

ولنلاحظ ما أوتيت الشعوب التي لم تعهد قط الفلسفة أوالفهم أوالأدب من قوة وتفوق؛ الفرس في عصر كورشن أوالألمان كما وصفن تاكيتوس، أو"في زماننا هذا الأم البسيطة (سويسرا) التي لم تقوَ حتى الشدائد والكوارث على قهر بسالتها المشهورة، والتي لم يستطع أي مثال حتى يفسد أمانتها" وأضاف الجنيفي الفخور إلى هذه الشعوب "تلك الأمم السعيدة التي لم تعهد حتى أسماء الكثير من الرذائل التي يصعب القضاء عليها، متوحشي أمريكا الذين لم يتردد مونتيني في تفضيل طريقة حكمهم البسيطة الفطرية، لا على قوانين أفلاطون فحسب، بل على أكمل الرؤى التي تستطيع الفلسفة حتى تستشرفها".

إذن فأي نتيجة ينبغي حتى نخلص إليها،يا ترى؟ هي حتى "الترف والإسراف، والرق، كانت في جميع الأجيال سوط عذاب سلط على جهود كبريائنا للخروج من حالة الجهالة السعيدة تلك التي وضعتنا فيها حكمة العناية الإلهية. فليتفهم البشر ولومرة حتى الطبيعة كانت تحميهم من الفهم، تماماً كما تخطف الأم سلاحاً خطراً من يدي ولدها".

والجواب عن سؤال الأكاديمية العالمة هوحتى الفهم إذا تجرد من الفضيلة كان فخاً، وإن التقدم الحقيقي الوحيد هوالتقدم الخلقي، وإن رقي الفهم قد أفسد أخلاق البشر أكثر مما طهرها، وإن الحضارة ليست ارتقاء الإنسان إلى وضع أسمى، بل سقوطه من بساطة ريفية كانت فردوس البراءة والسعادة.

وقبيل ختام الموضوع كبح روسوجماح قلمه وألقى ببصره في شيء من الخوف على أشلاء الفهم، والفن، والأدب، والفلسفة، التي خلفها في إثره وتذكر حتى صديقه ديدرويعد موسوعة كرسها لتقدم الفهم. فاكتشف فجأة حتى بعض الفلاسفة-كبيكن وديكارت-كانوا "مفهمين عظاماً" ورأى حتى النماذج الحية من هذه السلالة ينبغي حتى يرحب بهم حكام الدول مشيرين لهم. ألم يعين شيشرون قنصلاً لروما، وأعظم الفلاسفة المحدثين قاضياً لقضاة إنجلترا،يا ترى؟ ولعل ديدروحشر تلك السطور في الموضوع، ولكن جان-جاك كان صاحب الحدثة الأخيرة:

"أما نحن البشر العاديين الذين لم تشأ السماء حتى تحبونا مواهب عظيمة فلنظل في جهالتنا. ولنهجر لغيرنا مهمة تعليم الناس واجباتهم، ولننصرف إلى القيام بواجباتنا. أيتها الفضيلة أيتها الفهم السامية للعقول البسيطة أليست مبادئك منقوشة على جميع قلب،يا ترى؟ وهل نحن في حاجة، لكي نتفهم نواميسك إلى أكثر من..الإصغاء لصوت الضمير،يا ترى؟ هذه هي الفلسفة الصادقة التي يجب حتى نتفهم القناعة بها".

ولم تدرِ باريس أتأخذ هذا الموضوع مأخذ الجد، أم تفسره على أنه محاولة ماكرة في المبالغة والمفارقة خطها المؤلف بخبث. ونطق بعضهم (فيما روى روسو) أنه لم يصدق حدثة واحدة مما خط. أما ديدروالذي آمن بالفهم وضاق بقيود العهد والأخلاق فيبدوأنه أستحسن مبالغات روسوباعتبارها عقاباً افتقر إليه المجتمع الباريسي، وأما حاشية الملك فقد حبذت الموضوع باعتباره توبيخاً للفلاسفة السفهاء الهدامين كانوا يستحقونه منذ أمد بعيد. ولابد حتى نفوساً حساسة كثيرة ضاقت كهذا المحرر البليغ بما في باريس من ثرثرة حمقاء وبريق كاذب. وقد عبر روسوعن معضلة تظهر في جميع مجتمع متقدم، فهل ثمرات التكنولوجيا تستأهل ما في الحياة المصنعة من عجلة، وتوترات، ومناظر، وضجيج، وروائح،يا ترى؟ وهل التوتر يقوض الأخلاق،يا ترى؟ وهل من الحكمة حتى نمضي وراء الفهم إلى خراب شامل، ووراء الفلسفة إلى اليأس من جميع راتى مشدد للعزائم؟.

وانبرى الكثير من النقاد للدفاع عن الحضارة منهم بورد عضوأكاديمية ليون، ولاكا عضوأكاديمية روان، وفورميه عضوأكاديمية برلين، ولا ننسَ ستانسلاس لسكفنسكي، الطيب القلب ملك بولندا السابق ودوق اللورين اللاحق. وأشار الأدباء إلى حتى هذا الهاتى لم يزد على حتى توسع في الشكوك التي أعرب عنها مونتيني في منطقه "عن آكلة لحوم البشر" وسمع غيرهم فيه بصوت بسكال يرتد من الفهم إلى الدين، وبالطبع كان مئات من "اللاهوتيين والقديسين" قد أدانوا الحضارة منذ زمن بعيد باعتبارها سقماً أوخطيئة. وكان في وسع اللاهوتيين حتى يزعموا حتى "براءة" الحالة الطبيعية وسعادتها التي نطق بها روسو، والتي سقط منها الإنسان، ليست إلا سيرة جنة عدن معادة، فحلت "الحضارة" محل "الخطيئة الأصلية" علة في سقوط الإنسان، وفي كلتا الحالتين قضت الرغبة في الفهم على سعادة الإنسان. أما المفكرون المعتزون بفهمهم مثل فولتير عجبوا لرجل في السابعة والثلاثين يخط هذه المرثية الصبيانية ليهاجم منجزات الفهم، ونعمة السلوك المهذب، وإلهامات الفن، وإما الفنانون أمثال بوشيه فلعلهم كانوا يتلوون ألماً تحت سوط روسو، ولكن فنانين آخرين مثل شاردان ولاتور كان في وسعهم حتى يرموه بالتعميم العشوائي، وأما الجنود فقد سخروا من إشادة هذا الموسيقار الرقيق بالصفات العسكرية وبالتأهب الدائم للحرب.

واعترض جريم، صديق روسو، على أي رجوع إلى "الطبقية" فنطق متعجباً "ياله من هراء شيطاني!: ثم سأل سؤالاً شائكاً، ما الطبقية؟" فلقد لاحظ بيل أنه لا تكاد توجد حدثة تستعمل استعمالاً أكثر غموضاً من حدثة ...الطبيعة...وليسمن المؤكد "أنه لأن شيئاً ما مصدره الطبيعة فهوإذن خير وصواب: فنحن نرى في النوع البشري أشياء سيئة جداً مع أنه لا يتطرق إلينا شك في أنها من عمل الطبيعة". ولا ريب حتى مفهوم روسوعن الطبيعة البدائية كان تصويراً رومانسياً للطبيعة في حالتها المثالية. فالطبيعة (أي الحياة دون تنظيم وحماية اجتماعيين) "حمراء في الناب والمخلب" وناموسها الأساسي هو : أقتل وإلا قتلت. والطبيعة التي أحبها جان-جاك؛ كما يتجلى حبه في قيقيه أوكلارنس كان ضرباً متحضراً من الطبيعة، روضها وهذبها الإنسان. والحق أنه لم يرد حتى يرتد إلى الأحوال البدائية بكل ما انطوت عليه من قذارة، وخطر، وعنف بدني، إنما أراد حتى يعود إلى الأسرة الأبوية التي تفلح الأرض وتعيش على ثمارها، وهفت نفسه إلى التحرر من قواعد المجتمع المهذب وقيوده-ومن الأسلوب الكلاسيكي، أسلوب الاعتدال والعقل. وقد أبغض باريس وحن إلى شارميت وقبيل ختام حياته، في كتابه "أحلام جوال وحيد" صور هذه الفكرة القاصرة تصويراً مثالياً فنطق:

ولدت أكثر الناس ثقة بالناس، ولم تخذل هذه الثقة ولومرة واحدة طوال أربعين سنة. فلما سقطت فجأة بين صنف آخر من الأشخاص والأمور انزلقت إلى مئات الفخاخ..واقتنعت أنه ليس في مظهر الابتسامات المتكلفة التي أغدقت على غير الغش والكذب، فانتقلت بسرعة من النقيض إلى النقيض....وأصبحت أشمئز من الناس...وأنا لم أعتد قد اعتياداً حقيقياً على المجتمع الحضري الذي جميع ما فيه هم وإكراه والتزام، والذي يجعلني استقلالي الفطري عاجزاً فيه على الدوام عن ألوان الخضوع التي لا مندوحة عنها لكل من يريد العيش بين الناس.

وفي "الاعترافات" سلم في شجاعة بأن هذا "الموضوع" الأول (كان مفتقراً الافتقار كله إلى المنطق والنظام وإن زخر بالقوة والحرارة؛ فهوأضعف ما خطت إطلاقاً من حيث الحجة، وأخلاه من الإيقاع والانسجام).

ومع ذلك فقد رد على نقاده بقوة، وأكد مفارقاته من جديد. ومجاملة لستانسلاس استثنى شيئاً واحدا: فنطق أنه بعد الروية قرر ألا تحرق المخطات أوتغلق الجامعات والأكاديميات "لأننا لن نجني من وراء هذا إلا إغراق أوربا مرة أخرى في دياجير الهمجية"؛ و"حين يفسد البشر فإن من الخير لهم حتىقد يكونوا متفهمين عن حتىقد يكونوا جهلة". ولكنه لم يعدل عن أي فقرة من اتهامه للمجتمع الباريسي. ودليلاً على انسحابه منه أقلع عن لبس السيف والضفيرة المضىية والجوارب البيضاء، وارتدى ما يرتديه رجال الطبقة الوسطى من رداء سهل وباروكة أصغر. نطق مارمونتيل "إلى غير ذلك منذ تلك اللحظة اختار الدور الذي سيلعبه، والقناع الذي سيلبسه". فإن كان هذا قناعاً فإنه أحسن لبسه، وأصر عليه إصراراً شديداً، حتى لقد أصبح جزءاً من صميم الرجل وغير وجه التاريخ.

العودة لجنيڤ (1754)

Ramsay, Allan (1766), Rousseau wearing an Armenian costume .

في ديسمبر 1750 اشتد على روسوسقم المثانة حتى ألزمه الفراش ستة أسابيع وزادته هذه المحنة نزوعاً إلى الاكتئاب والعزلة، وأوفد إليه معارفه الأغنياء أطباءهم ليعودوه، ولكن تطبيب ذلك الزمان لم يؤهلهم لمساعدته "فحدثا امتثلت لأوامرهم ازددت شحوباً ونحولاً وهزالاً. ولم يوحِ لي خيالي...على هذا الجانب من القبر، بغير الآلام المتصلة كابدتها من الرمل والحصاة وحصر البول، وكان جميع ما يخفف من آلام غيري من السقمى كنقيع الشعير، والحمامات والفصد-يضاعف من عذابي"(88).

وفي مطلع عام 1751 أنجبت له تريز طفلاً ثالثاً تبع أخويه إلى ملجأ اللقطاء. وقد علل هذا في فترة لاحقة بأنه كان أفقر من حتى يربي أطفالاً، وأنه لووكلهم إلى آل لقاسير لكان في ذلك بوارهم، وأنهم كانوا سيعبثون عبثاً منكراً في عمله محرراً وموسيقياً وأكرهه السقم على الاستنطقة من وظيفته صرافاً لديوان دفرانكوي التخلي عن دخله منها، وراح منذ الآن يكسب معظم قوته بنسخ كراسات الموسيقى براقع عشرة سنوات للصفحة. ولم يتلقَ روسوأي ولج من بيع "الموضوع" سواء كان سبب إهمال ديدروأوشح الناشرين وتبين حتى موسيقاه أكسب له من فلسفته.

وفي 18 أكتوبر 1752، وبفضل نفوذ دوكلو، مثلت أوبريت روسو"عراف القرية" أمام الملك والبلاط في فونتنبلو، ولقيت من النجاح ما أعطى لها عرضاً ثانياً بعد أسبوع وظفرت حفلة للجمهور في باريس (أول مارس 1753) باستحسان أضم، ووجد المؤلف المعتكف نفسه مرة أخرى رجلاً يشار إليه بالبنان. وكان هذا "الفاصل" الصغير، الذي ألف روسوحدثاته وموسيقاه، أشبه باللحن المصاحب "الموضوع": فالراعية كوليت، التي أحزنتها مغازلات كولان لفتيات المدينة، يرشدها عراف القرية إلى استمالته ثانية بمغازلة غيره من الرجال، فيغار عليها كولان ويعود إليها، ثم ينشدان معاً أغاني راسيرة تشيد بحياة الريف وتذم حياة المدينة. وحضر روسوالحفلة الافتتاحية وكاد يرضى عن المجتمع بعد الخصام.

"غير مسموح بالتصفيق أمام الملك، وعليه فقد كان جميع شيء مسموعاً، وهذا يخدم المؤلف والتمثيلية. وسمعت من حولي همس النساء اللاتي يدون في حسن الملائكة. وكانت الواحدة تقول للأخرى في صوت خافت: "هذا رائع، هذا خلاب، ليس هناك لحن واحد لا ينفذ إلى الفؤاد" وقد أثار دموعي سروري بأنني أشعر هذا العدد الكبير من الأشخاص اللطفاء بهذه العاطفة، ولم أستطع حتى أمسكها في اللحن الثنائي الأول حين لاحظت أنني لم أكن الوحيد الذي يبكي".(89)

في ذلك المساء بعث إليه الدوق دومون حدثة يطلب إليه الحضور إلى القصر في الساعة الحادية عشرة من صباح الغد ليقدم إلى الملك، وأضاف الرسول حتى من المتسقط حتى ينفح الملك المؤلف معاشاً. ولكن مثانة روسوأفسدت الخطة. يقول:

"أيصدق أحد حتى ليله هذا النهار الرائع كانت ليلة عذاب وحيرة،يا ترى؟ فقد كان أول خاطر لي إنني بعد حتى أقدم للملك سأضطر إلى الانسحاب غير مرة وكانت هذه الضرورة قد سببت لي معاناة شديدة في المسرح: وقد تعذبني في الغد وأنا في البهوأوفي حجرة الملك، بين جميع العظماء، منتظراً خروج جلالته. لقد كانت علتي هي السبب الأهم في الحيلولة بيني وبين الاختلاط بالجماعات الراقية والاستمتاع بحديث الحسان...ولا يستطيع غير من خبر هذا الموقف حتى يحكم بالفزع الذي يوحي به التعرض لخطره(90).

وعليه فقد أوفد حدثة يعتذر من الحضور. وبعد يومين وبخه ديدروعلى تضييعه فرصة كهذه تتيح رزقاً أنسب له ولتريز" وتحدث عن المعاش بحرارة أكثر مما كنت أتسقط في موضوع كهذا من فيلسوف...مع أنني شكرت له تمنياته الطيبة، فإنني لم أستطع حتى أسيغ مبادئه، الأمر الذي أثار بيننا نقاشاً حامياً هوأول ما سقط بيننا من نزاع(91). على أنه لم يحرم جميع كسب من وراء تمثيليته. فقد أعجبت به مدام ديونبادوإعجاباً حملها على حتى تمثل هي نفسها دور كوليت في عرضها الثاني في البلاط، وأوفدت له خمسين جنيهاً مضىياً، وأوفد له لويس مائة.(91) وراح الملك نفسه، "بأنكر صوت في مملكته يتغنى بلحن كوليت الحزين" "لقد فقدت خادمي"-وكان هذا إرهاصاً بظهور جلوك.

وكان روسوخلال ذلك يعد منطقات عن الموسيقى للموسوعة "وقد خطتها في عجلة شديدة، وكتابة سيئة لهذا السبب، في الشهور الثلاثة التي أتاحها لي ديدرو. وقسا راموفي نقد هذه الموضوعات في كتيب سماه "أخطاء حول الموسيقى في الموسوعة" (1755) وعدل روسوفي الموضوعات، وجعلها أساساً لــ"قاموس الموسيقى" (1767) واعتبره معاصروه، باستثناء رامو، موسيقياً من أعلى طراز(93) وينبغي حتى نعده الآن مؤلفاً مجيداً في فرع صغير من فروع الموسيقى، ولكنه كان ولا شك أكثر من خط عن الموسيقى طرافة وإمتاعاً في ذلك الجيل.

ولما غزت فرقة من مغنى الأوبرا الإيطالية باريس في 1752 تفجر الجدل حول مزايا جميع من الموسيقى الفرنسية والإيطالية. وقفز روسوإلى المعركة بــ"رسالة في الموسيقى الفرنسية" (1753) يقول جريم إنه "يثبت فيها استحالة تلحين الموسيقى في ألفاظ فرنسية، وأن اللغة الفرنسية لا تصلح إطلاقاً للموسيقى، وإنه لم يكن قط للفرنسيين ولنقد يكون لهم أبداً موسيقى(94)". وكان روسوبكليته في صف إتساق الألحان (الميلوديا). خط في روايته "أحلام جوال وحيد" يقول "غنينا أغنية قديمة كانت أفضل كثير من النشاز الحديث(95)" وأي جيل لم يسمع تلك الشكوى،يا ترى؟ وفي منطقه "الأوبرا" الذي تضمنه قاموسه الموسيقي أعطانا إلماعاً لفاجنر، فعهد الأوبرا بأنها "مشهد درامي غنائي يحاول الجمع من حديث بين جميع مفاتن الفنون الجميلة في تمثيل حركة عاطفية مشبوبة...ومقومات الأوبرا هي القصيدة الشعرية، والموسيقى، والزخرفة: فالشعر يتحدث إلى الروح، والموسيقى إلى الأذن، والصورة إلى العين...والدرامات اليونانية كان يمكن حتى تسمى أوبرات(96)".

وحوالي تلك الفترة (1752) رسم موريس كنتان دلاتور صورة لروسوبالباستيل(97)، التقط فيها ملامح جان-جاك مبتسماً، وسيماً، أنيقاً، وقد أنكر ديدروالصورة لأنها لا تتفق والحقيقة(98). ووصف مارمونتيل روسوكما رآه في تلك السنوات في حفلات عشاء دولباخ فنطق "كان قد كسب لتوه الجائزة..في ديجون...فيه تأدب يشوبه الإحجام، قد...يبلغ من للتواضع مبلغاً يقرب من التذلل. ترى عدم الثقة واضحة من خلال تحفظه المشوب بالخوف، وكانت عيناه المطرقتان ترقبان جميع شيء بنظرة ملؤها الارتياب الحزين. وقل حتى شارك في حديث، وندر حتى كشف لنا عن دخيلة نفسه(99)".

وغدا مركز روسوبعد تنديده بالفهم والفلسفة بهذا العنف حرجاً بين جماعة الفلاسفة الذين سيطروا على الصالونات. وكان منطقه قد ألزمه بالدفاع عن الدين. وتروي مدام دينيه أنه في عشاء دعت إليه مدام كينو، وجدت المضيفة حتى الحديث عن الدين أصبح نابياً، فرجت ضيوفها "أن يحترموا على الأقل الدين الطبيعي" وبادر بالرد المركيز دسان-لامبير، الذي كان مؤخراً مزاحماً لفولتير على حب دوشاتليه، وسيكون عما قليل مزاحماً لروسوعلى حب مدام دوديتوفنطق "أنه لا يستحق من الاحترام أكثر من أي دين آخر". وتواصل مدام ديينيه كلامها فتقول: "فلما سمع روسوهذا الرد غضب وتمتم بكلام أضحك الجماعة عليه". نطق: "إذا كان من الجبن حتى يسمح الإنسان لآخر حتى يغتاب صديقاً فإن من الإجرام حتى يسمح لأحد بأن يتحدث عن إلهه الذي هوحاضر، وأنا أومن بالله يا سادة...واتجهت إلى سان لامبير وقلت له "إنك يا سيدي وأنت شاعر، ستوافقني على حتى وجود كائن خالد، كلي السلطان، عظيم الذكاء، هوالبذرة لأروع ضروب الحماسة". فأجاب "أعترف بأنه جميل حتى نرى هذا الإله يوجه وجهه إلى الأرض،... ولكنها بذرة الحماقات"، وقاطعه روسوقائلاً "سيدي، سأبرح الحجرة إذا زدت حدثة واحدة". والواقع أنه كان قد قام عن كرسيه وكان يفكر جدياً في الهروب لولا حتى أعرب عن قدوم الأمير(100).

ونسي الجميع موضوع الجدل. وفي رواية وردت في مذكرات مدام ديينيه، حتى روسونطق لها حتى هؤلاء الكفرة يستحقون النار الأبدية(101).

وجدد روسوالحرب على الحضارة في مقدمة مسرحيته الهزلية "نارسيس"، التي مثلتها فرقة الكوميدي فرانسيز في 18 ديسمبر 1752 "أن الميل إلى الآدابقد يكون دائماً إيذاناً في الشعب ببداية فساد سرعان ما يعجل به هذا الميل. ولا ينبعث هذا الميل في أمة إلا من منبعين خبيثين...التبطل، وشهوة الامتياز(102)". ومع ذلك استمر حتى عام 1754 يختلف إلى "مجمع" دولباخ المؤلف من أحرار الفكر. هناك انصت مارمونتيل، وجريم، وسان-لامبير، وغيرهم إلى الأبيه بتي يقرأ مأساة من تأليفه، فوجدوها عملاً تافهاً يدعوللرثاء، ولكنهم أطروها إطراءً جميلاً، وكان الأديب قد ثمل بالخمر إلى حد أعماه عن إدراك ما في ثنائهم من تهكم، فانتفخت أوداجه رضى وغبطة، أما روسوالذي غاظه نفاق أصحابه فقد انتقض على الأب بقريع لا هوادة فيه، فنطق له "أن تمثيليتك لا قيمة لها...وكل هؤلاء السادة يسخرون منك، فانصرف وعد لتكون قسيساً في قريتك(103)". ووبخ دولباخ روسوعلى فظاظته، فانصرف غاضباً وانبتر عن الجماعة عاماً.

لقد دمر رفاقه كثلكته، ولكنهم لم يدمروا إيمانه بمقومات المسيحية. وعادت بروتستانتية صباه تطفوفي الوقت الذي تغوص فيه كثلكته. فتصور جنيف صباه كاملة مبرأة من العيوب، وخيل إليه أنه سيكون فيها أكثر راحة واطمئناناً من في بلد أضنى روحه كباريس. ولوعاد إلى جنيف لاكتسب من حديث لقباً يبعث على الفخر، هولقب المواطن، ومعه الامتيازات الخاصة التي ينطوي عليها هذا اللقب. وعليه ففي يونيوسنة 1754 استقل مركبة البريد إلى شامبري وهناك عثر مدام دفاران فقيرة تعسة، ففتح لها كيس نقوده، ثم واصل رحلته إلى جنيف. هناك رحب به القوم ابناً ضالاً قد ثاب إلى رشده: ويبدوأنه سقط إقراراً يؤكد فيه من حديث عقيدته الكلفنية(104)؛ وأغتبط رجال الدين الجنيفيون باستعادتهم "موسوعياً" إلى حظيرة إيمانهم الإنجيلي ورد إليه اعتباره مواطناً، وراح بعدها يسقط في فخر "جان-جاك روسو، المواطن": نطق:

"تأثرت تأثراً بالغاً بما لقيت من عطف...المجلس (المدني) والمجمع (الكنسي) وعظيم احترام القضاة، والوزراء، والمواطنين، وحفاوتهم بي....حتى إنني أقلعت عن فكرة العودة إلى باريس إلا لفظ إدارة البيت، والعثور على مل للسيد لفاسير وزوجته، أوتدبير أمر معاشهما، ثم العودة مع تريز إلى جنيف لأستقر فيها ما بقي لي من عمر(105)".

واستطاع الآن حتى يتذوق جمال البحيرة وشواطئها تذوقاً أكمل مما عمل في صباه "لقد احتفظت بذكرى حية...لطرف البحيرة الأبعد، وخطت له وصفاً بعد سنوات في هلويز الجديدة". ودخل الفلاحون السويسريون في حلم الفردوس الريفي الذي سيصفه في تلك الرواية: فهم ملاك لمزارعهم لا يخضعون لضريبة رؤوس أوسخرة، يشغلون أنفسهم بالحرف المنزلية في الشتاء، ويقفون في قناعة بمنأى عن ضجيج العالم وصراعه. وكانت ذكرى دويلات المدن السويسرية عالقة بذهنه وهويصف مثله السياسي الأعلى في كتاب "العقد الاجتماعي".

وفي أكتوبر 1754 قصد باريس على وعد بالعودة منها سريعاً. ووصل فولتير إلى جنيف بعد رحيل روسوعنها بشهرين، واستقر به المقام في فيلا ديليس. واستأنف جان-جاك في باريس صداقته لديدرووجريم، دون حتى تبلغ من الثقة ما بلغته من قبل. ولما نمى إيه نبأ موت مدام دولباخ خط إلى البارون خطاب تعزية رقيقاً؛ وتصالح الرجلان، وعاد روسويؤاكل الزنادقة، وظل ثلاثة أعوام أخر يظهر من جميع الوجوه واحداً من جماعة الفلاسفة، ولم يبحث كثيراً في عقيدته الكلفنية الجديدة. واستغرقه الآن الإشراف على طبع "منطقه" الثاني الذي قدر له حتى يهز الدنيا أكثر مما هزه سابقه.


جرائم الحضارة

في نوفمبر 1753 أعربت أكاديمية ديجون عن مسابقة أخرى، أما السؤال الجديد فكان "ما الأصل من عدم المساواة بين البشر، وهل يقره قانون الطبيعة"،يا ترى؟ يقول روسو"استرعى انتباهي هذا السؤال الخطير، وأدهشني حتى الأكاديمية اجترأت على طرحه للنقاش، ولكن ما دامت قد أظهرت شجاعتها...فقد عكفت فوراً على مناقشته(106)". وأختار لبحثه هذا العنوان "منطق في أصل وأسس عدم المساواة بين البشر". وفي شامبري في 12 يونيو1754 أهدى هذا الموضوع الثاني "إلى جمهورية جنيف" وأضاف خطاباً موجهاً إلى "سادتها الحاكمين" الرفيعي الشرف والمجد، يعرب عن بعض الآراء الفذة في السياسة:

"في بحوثي عن خير القواعد التي يمكن حتى يرسيها الإدراك السليم عن تكوين الحكومة أدهشني حتى أجدها كلها تحققت عملاً في حكومتكم، بحيث أنني لولم أولد بين أسوار مدينتكم لرأيته لزاماً عليّ حتى أقدم هذه الصور عن المجتمع الإنساني إلى ذلك الشعب الذي يظهر أنه انفرد دون سائر الشعوب بحيازته لأعظم مزاياهم، ووفر لنفسه أفضل وقاية من مساوئها(107)". ثم هنأ جنيف بعبارات تصدق تماماً على سويسرا اليوم:

"بلد انصرف عن شهوة الغزوالهمجية لافتقاره السعيد للقوة، وأمن بفضل مسقطه الأسعد حظاً من خوف الوقوع غنيمة في يد غيره من الدول: مدينة حرة تتوسط عدة أمم، لا مصلحة لواحدة منها في العدوان عليها، ومصلحة جميع منها في منع غيرها من هذا العدوان(108)".

وبارك معبود الثورة الفرنسية المستقبل تلك القيود المفروضة على الديمقراطية في جنيف، حيث لا حق في التصويت إلا لثمانية في المائة من السكان:

"لكي نتقي خدمة المصالح الخاصة والمشروعات الطائشة وجميع البدع الخطرة التي انتهت بالقضاء على الاثنين، ينبغي ألا تطلق الحرية لكل رجل في اقتراح القوانين الجديدة على هواه، بل يقصر هذا الحق على القضاة دون غيرهم...فقدم القوانين هوأبرز عامل في إضفاء القدسية والاحترام عليها، والناس سرعان ما يتفهمون الاستهانة بالقوانين التي يرونها تبدل وتغير جميع يوم، ولواعتادت الدول حتى تهمل تنطقيدها القديمة بحجة التحسين والإصلاح، لجلبت من الشرور ما أسوأ مما تحاول حتى تقضي عليه(109)".

أكان هذا مجرد ذريعة يلتمس بها العودة إلى المواطنة الجنيفية،يا ترى؟

أما وقد تحقق لروسوهذا الهدف فإنه قدم منطقه لأكاديمية ديجون. ولم يمنح الجائزة، ولكن حين نشر الموضوع في يونيو1755، سره حتى يصبح من حديث الحديث المثير لصالونات باريس. ذلك أنه لم يهجر مفارقة إلا تناولها ليثير الجدل حولها. فهولم ينكر عدم المساواة "الطبيعي" أوالإلزامي، ويلم بأن هناك أفراداً هم بحكم مولدهم أصح أوأقوى من غيرهم في البدن أوالخلق أوالذهن. ولكنه زعم حتى جميع ضروب عدم المساواة الأخرى-الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والخلقية، عير طبيعية، نشأت حين هجر البشر "الحالة الطبيعية"، وأقاموا الملكية الخاصة وأسسوا دولاً تحمي الثروة والامتياز.

"فالإنسان بطبيعته طيب(110)"، وأكثر ما يجعله شريراً تلك النظم الاجتماعية التي تقيد أوتفسد ميوله للسلوك الطبيعي. وقد صور روسوحالة فطرية مثالية كان الناس فيها أقوياء الأطراف، خفاف الأقدام، حديدي البصر ، يعيشون حياة الحركة والعمل، حياة كان الفكر فيها دائماً أداة للعمل وتابعاً له، لا بديل مضعفاً عنه. ثم قارن بين هذه الصحة الفطرية وبين الأمراض المتكاثرة التي تنجم في الحضارة عن الثروة والأعمال التي تتطلب القعود الكثير:

"أن أغلب عللنا من صنعنا، وكان يسيراً علينا حتى نتجنبها، كلها تقريباً، بالتزام أسلوب الحياة البسيط، المماثل ، المنعزل، الذي قررته الطبيعة. فإذا كانت الطبيعة. قد قضت بأنقد يكون الإنسان سليماً سليماً، فأنني أجرؤ على الزعم بأن حالة التفكير والتأمل حالة تناقض الطبيعة، وأن (I'homme Qui M(dite est un aminal d(rar(.).

وحين نفكر في بنية المتوحشين القوية-على الأقل أولئك الذين لم ندمرهم بمشروباتنا الروحية-وفي أنهم لا يكادون يعانون من أي علل غير الجروح والشيخوخة، يغرينا هذا بالاعتقاد بأننا تتبعنا لتاريخ المجتمع المدني؛ إنما نحن نروي تاريخ أمراض البشر(112)".

ويسلم روسوبأن هذه الحالة المثالية "الحالة الطبيعية.. ..ربما لم توجد قط؛ وأغلب الظن أنها لن توجد أبداً(113)". فهولا يعرضها بوصفها حقيقة واقعة من حقائق التاريخ بل مقياساً للمقارنة. وهذا ما عناه بهذا الاقتراح المفزع "فلنبدأ إذن بتنحية الحقائق جانباً لأنها لا تمس السؤال.والتحقيقات التي يصح حتى نخوض فيها....يجب ألا تعالج على أنها حقائق تاريخية، بل حجج مشروطة وفرضية(114)": على أننا قد نكون فكرن عن حياة الإنسان قبل قيام النظام الاجتماعي، بملاحظة حال الدول الحديثة السلوك، لأن "الدول اليوم ما زالت في حالة طبيعية(115)".فكل منها ذات سيادة فردية، لا تعهد عملاً أي قانون إلا قوانين المكر والقوة، ويجوز حتى نفرض حتى الإنسان الذي تجاوز تكوين المجتمعات كان يحيا في حالة مماثلة من السيادة الفردية، وعدم الأمان، والفوضى الجماعية، والعنف بين الحين والحين. ولم يكن مثل روسوالأعلى هوهذه الحياة المتخيلة التي سبقت المجتمعات (لأن المجتمع قد يحدث قديماً قدم الإنسان)، بل فترة لاحقة من التطور عاش فيها الإنسان في أسر أبوية النظام وجماعات قبلية، ولم ينشئوا بعد نظام الملكية الخاصة "إن أقدم المجتمعات قاطبة، والمجتمع الطبيعي الوحيد، هوالأسرة(116)".

ذلك كان العصر الذي بلغت فيه سعادة البشر أقصاها. حقاً أنه لم يخل من عيوب، وآلام، وعقوبات، ولكنه خلا من القوانين، اللهم إلا السلطة الأبوية والنظام الأسري؛ "لقد كانت هذه الحالة في جملتها أفضل حالة يستطيع الإنسان ممارستها، فلم يكن ليعدل عنها لولا حتى أصابه خطب فادح(117). وهذا الخطب هوإقامة الملكية الفردية، وما نجم عن ذلك من تفرقة اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، ومعظم شرور الحياة الحديثة.

"أن أول رجل سور بترة من الأرض ث خطر له حتى يقول "هذه ملكي" ووجد الناس من البساطة بحيث يصدقونه؛ هذا الرجل كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المتمدن. ليت شعري كممن الجرائم، والحروب، والاغتيالات، كم من الفظائع والكوارث، لم يكن في استطاعة أي إنسان حتى ينقذ البشرية منها باقتلاع الأوتاد المحددة للأرض أوردم القناة المحيطة بها والصياح بإخوانه حتى احذروا الاستماع إلى هذا النصاب، إنكم إذا نسيتم حتى ثمرات الأرض ملك لنا جميعاً، وأن الأرض ذاتها ليست ملكاً "لأحد، كان في ذلك هلاككم(118)". ومن هذا الاغتصاب الذي جاز به الناس انبعثت لعنات الحضارة: كالانقسامات الطبيعية، والعبودية، ورق الأرض، والحسد، والسرقة، والحرب، والظلم القانوني، والفساد السياسي، والغش التجاري، والاختراعات، والفهم، والأدب، والفن، و"التقدم"-وبحدثة واحدة، الانحطاط. فلحماية الملكية الخاصة نظمت القوة ثم أصبحت هي الدولة، ولتيسير الحكم طور القانون لتعويد الضعفاء الإذعان للأقوياء بأقل قدر من الإكراه والتكلفة(119). إلى غير ذلك نشأ هذا الوضع الذي نرى فيه "القلة المميزة تكتظ بالكماليات، على حين تفتقر الجماهير الجائعة إلى أبسط ضروريات الحياة(120)". يضاف إلى هذه المظالم الأساسية طائفة أخرى متفرعة عنها" كالوسائل المخزية التي يمارسها الناس أحياناً لمنع ولادة البشر، والإجهاض، وقتل الأطفال، وخصي الذكور، والانحرافات الجنسية، وهجر الكثيرين من الأطفال الذين يقعون فريسة لإملاق أبويهم في العراء أوقتلهم(121)". هذه الكوارث كلها مفسدة مضعفة، والحيوانات لا تعهدها؛ وهي تجعل "الحضارة" سرطاناً ينهش جسد البشرية. وعلى نقيض هذا الفساد والانحراف المتعدد الأشكال، نجد حياة المتوحشين سليمة، سليمة، رحيمة،. أينبغي حتى نعود إذن إلى الهمجية،يا ترى؟ "أيجب حتى تلغى المجتمعات إطلاقاً،يا ترى؟ وتبطل تعبير "مُلكي" و"مُلكك"، ونعود إلى الغابة لنحيا بين السباع؟" لم يعد هذا في وسعنا، فسم الحضارة يسري في دمائنا، ولن ننتزعه بالهروب إلى الغابات، والقضاء على الملكية الخاصة، والحكومة؛ والقانون، معناه الزج بالناس في فوضى هي شر من الحضارة. "لن يستطيع الإنسان العودة أبداً إلى زمان البراءة والمساواة متى هجره(122)". وقد تبرر الثورة، لأن القوة قد تطيح عدلاً بما أقامته القوة وساندته(123)، ولكن الثورة ليست مستحبة الآن. وخير ما نستطيعه هوحتى ندرس الأناجيل من جديد، ونحاول تطهير دوافعنا الشريرة بممارسة أخلاق المسيحية(124). في استطاعتنا حتى نجعل من العطف الفطري على إخواننا البشر أساساً للأخلاق والنظام الاجتماعي. ونستطيع العزم على حتى نحيا حياة أقل تعقيداً، نقنع فيها بالضروريات، ونحتقر مسببات البذخ والترف، ونجتذب سباق "التقدم" وحماه. نستطيع حتى ننبذ ما في الحضارة من ضروب الزيف، والنفاق، والفساد، واحداً بعد الآخر، ونعيد تشكيل أنفسنا على الأمانة الطبيعية، والإخلاص. نستطيع حتى نهجر ضوضاء مدننا وصخبها، وأحقادها، وفسقها، وجرائمها، ونمضى لنعيش في بساطة الريف ومسئوليات الأسرة وقناعتها. نستطيع حتى نطلق نادىوى الفلسفة ومسالكها المسدودة، ونعود إلى إيمان ديني يشد أزرنا حين نقابل آلام الموت".

ونحن نحس اليوم شيئاً من التكلف في هذا السخط البار بعد حتى سمعنا هذا كله مائة مرة. فلسنا على ثقة من حتى الشرور التي وصفها روسوتنجم عن الأنظمة الفاسدة أكثر مما تنجم عن طبيعة البشر؛ وعلى أية حال فالطبيعة البشرية هي التي صنعت الأنظمة. ويوم خط جان-جاك "منطقه" الثاني كانت الإشادة بذلك "الهمجي اللطيف المعشر، المتدفق العاطفة" قد بلغت ذروتها. ففي 1640 كان ولتر هاموند قد نشر كتيباً "يثبت حتى أهل مدغشقر أسعد شعوب الأرض(125)". وبدا حتى القصص التي رواها اليسوعيون عن هنود هورون وإيركوا مصداق للصورة التي رسمها الروائي ديفولخادم روينصن كروزواللطيف "فرايداي". أما فولتير فكان يسخر عموماً من أسطورة الجمجي الشريف، ولكن استخدمها بمرح في قصته "الساذج" وداعبها يدور في قصته "تذييل الرحلة بوجانفيل" ولكن هلفينيوس هزأ بإشادة روسوبالهمجي مثلاً أعلى(126)، وزعم دوكلو-رغم أنه كان صديقاً وفياً لجان-جاك-أن "الهمج هم الذين تستشري بينهم الجريمة، وطفولة أمة ما ليست عصر براءتها(127)". ويمكن القول على الجملة حتى المناخ الفكري كان مواتياً لنظرية روسو.

أما ضحايا مطاعن روسوفقد هدءوا ضمائرهم بالزعم حتى هذا الموضوع الثاني متكلف كسابقهِ. ووصفته مدام دودفان صراحة بأنه دجال(128). وسخر الشكاك من انادىءاته بسلامة عقيدته المسيحية، وبتفسيره الحرفي لسفر التكوين(129) وبدأ جماعة الفلاسفة يرتابون فيه لأنه يقلب خططهم الرامية إلى استمالة الحكومة إلى أفكارهم في الإصلاح الاجتماعي، ولم يحبذوا استثارة كراهية الفقراء. وسلموا بحقيقة الاستغلال، ولكنهم لم يروا أي مبدأ في إحلال الغوغاء محل القضاة. أما الحكومة فلم تحتج على اتهامات روسو،والراجح حتى القصر لم يرَ في الموضوع إلا تدريباً على الخطابة. وكان روسوفخور ببلاغته، فأوفد نسخة من الموضوع إلى فولتير، وترقب في شوق حدثة ثناء منه. وجواب فولتير درة من درر الأدب والحكمة وآداب السلوك الفرنسية. نطق: "تلقيت يل سيدي كتابك الجديد الذي يهاجم النوع الإنساني. وأني أشكرك عليه. وأنك لتسر الناس الذين تخبرهم بحقائق تهمهم، ولكنك لن تقوم بذلك اعوجاجهم. إنك ترسم بألوان صادقة جداً فضائع المجتمع الإنساني،...وأن أحداً لم يبذل قط مثل هذا الذكاء الكثير ليقنع الناس بأنقد يكونوا وحوشاً. والمرء حين يقرأ كتابك تتملكه الرغبة في حتى يمشي على أربع (Marcher ( Quatre Pattes) ولكن بما أنني فقدت تلك العادة منذ أكثر من ستين عاماً. فأني لسوء الحظ أشعر أنه يستحيل عليّ استئنافها... "وإني متفق معك على حتى الآداب والعلوم كانت أحياناً علة الكثير من الشرور...(ولكني) اقرر أنه لا شيشرون، ولا قارو، ولا لوكريتيوس، ولا فرجيل، ولا هوراس، كان لهم أقل نصيب في تحريمات ومصادرات ماريوس، وصلا، وأنطونيوس، وليبدوس، وأكتافيوس...وعليك حتى تعترف بأن بترارك وبوكاشيولمقد يكونا السبب فيما عانته إيطاليا من متاعب داخلية، وأن مزاح مارولم يكن السبب في مذبحة القديس برتولومي، وأن مسرحية كورنبي "السيد" لم تثر حروب الفروند. إذا الجرائم الكبرى قد اقترفها رجال مشهورون ولكنهم جهلة، والذي جعل هذه الدنيا، وسوف يجعلها على الدوام، وادياً للدموع هوجشع الناس الذي لا يشبع وغرورهم الذي لا يفتر...أن الأدب يغذي الروح، ويقومها، ويعزيها، أنه يخلق مجدك في ذات الوقت الذي تهاجمه فيه... "لقد أنبأني السد شابوي حتى صحتك سيئة للغاية. عمليك ان تحضر وتستردها في جووطنك، وتستمتع بالحرية، وتشرب معي لبن أبقارنا، وتعيش على أعشابنا. وأني يا سيدي بكل، الفلسفة وكل التقدير المشرب بالمحبة، خادمك المتواضع جداً المطيع جداً(130).

ورد روسوالتحية بمثلها، ووعد بأن يزور فيللا المباهج عن عودته إلى سويسرا(131).ولكن حز في نفسه كثيراً ذلك الاستقبال الذي استقبل به منطقه في جنيف التي أهداها إياه بمثل هذا المديح السار. والظاهر حتى الأوليجاركية الصغيرة المحكمة التي تسلطت على الجمهورية أوجعتها بعض تعليقات ذلك الموضوع اللاذعة، ولم تسغ تنديد روسوالكامل بالملكية، والحكومة، والقانون "لم أحس حتى جنيفياً واحداً سر بما حواه الموضوع من حماسة قلبية(132). وعليه فقد قررت حتى الوقت لم يحن بعد لعودته إلى جنيف.

المحافظ

شهد عام 1755، الذي نشر فيه الموضوع الثاني، ظهور منطق طويل بقلم روسوفي المجلد الخامس من الموسوعة عنوانه، منطق في الاقتصاد السياسي. وهوجدير بالملاحظة لأنه خالف الموضوعين السابقين عليه في بعض تفاصيله الهامة. ففي هذا الموضوع نرى المحرر يبجل المجتمع، والحكومة، والقانون، باعتبارها نتائج طبيعية لفطرة الإنسان وحاجاته، ويصف الملكية الخاصة بأنها عطية اجتماعية وحق أساسي. "من المؤكد حتى حق الملكية أقدس حقوق المواطنة، بل أنه من بعض الوجوه أبرز من الحرية ذاتها. فالملكية هي الأساس السليم للمجتمع المدني، والضمان الحقيقي لتعهدات المواطنين(133) بمعنى حتى الناس لن يعملوا فوق ما تتطلب أبسط حاجاتهم ما لم يحتفظوا بالناتج الفائض لأنفسهم، ليستهلكوه أوينقلوه لغيرهم كما يشاءون. ويوافق روسوالآن على حتى يورث الآباء ثروتهم لأبنائهم، ويقبل في اغتباط ما يتمخض عنه هذا من انقسامات طبقية. "ما من شيء أضر بالفضيلة والجمهورية من انتنطق المراتب والثروات باستمرار بين المواطنين: ومثل هذه التغيرات هي الدليل على وجود مئات من ضروب الخلل والاضطراب، وهي مصدرها في الوقت نفسه، ومن شأنها حتى تقلب جميع شيء رأساً على عقب وتفسده(134).

ولكنه يواصل التنديد بالظلم الاجتماعي وبما في القانون من محاباة طبقية. فكما حتى من واجب الدولة حتى تحمي الملكية الخاصة ووراثتها القانونية، كذلك ينبغي حتى يسهم أعضاء المجتمع ببعض ثروتهم لإعالة الدولة. وينبغي حتى تُفرض ضريبة صارمة على جميع الأشخاص بنسبة تصاعدية مع ثروتهم و"فائض ممتلكاتهم"(135)، وألا تُفرض ضريبة على الضروريات، وأن تفرض ضريبة مرتفعة على الكماليات، وينبغي حتى تمول الدولة نظاماً قومياً للتعليم. "أن الأطفال إذا نشئوا معاً (في مدارس قومية) في حضن المساواة وإذا أشربوا قوانين الدولة ومبادئ الإدارة العامة..فلن نشك في أنهم سيحبون بعضهم بعضاً كما يعمل الأخوة. ليصبحوا في الوقت المناسب مدافعين وآباء الوطن الذي كانوا أبناؤه(136). والوطنية خير من العالمية أوالتظاهر الهزيل بالعطف العالمي(137)".

وكما طغت النزعة الفردية على الموضوعين الأولين، طغت النزعة الاجتماعية على منطق الاقتصاد السياسي. وهنا يصرح روسولأول مرة بعقيدته الغريبة وهب حتى في جميع مجتمع "إرادة عامة" فوق المجموع العدد لما يحبه الأفراد الذين يؤلفونه وما يكرهون. فالمجتمع، في فلسفة روسوالمقطورة، كائن اجتماعي له روحه الخاصة. "أن الدولة هي أيضاً كائن معنوي، يملك الإرادة، وهذه الإرادة العامة التي تنحودائماً إلى صيانة ورفاهية الدولة كلها وكل جزء فيها، هي مصدر القوانين، وهي التي تشكل لجميع أعضاء الدولة، في علاقاتهم بعضهم ببعض القاعدة التي تفرق بين العدل والظلم(138).

وحول هذا المفهوم يقيم روسوالأخلاق والسياسة التي ستغلب منذ الآن على آرائه في الشؤون العامة. فنرى الثائر الذي اعتبر الفضيلة تعبير الإنسان الحر الطبيعي يعهدها الآن بأنها "ليست سوى مطابقة الإيرادات الفردية للإرادة العامة"(139). ونرى الرجل الذي كان ينظر إلى القانون مؤخراً جداً على أنه إثمٌ من آثام الحضارة، وأنه أداة مريحة لفرض النظام الطيع على الجماهير المستغلة، يصرح الآن بأن القانون وحده هوالذي يدين له الناس بالعدل والحرية، وهذا الجهاز النافع من أجهزة الإرادة الجماعية هوالذي يرسي، في الحق المدني، المساواة الطبيعية بين البشر، أنه الصوت السماوي الذي يملي على جميع مواطن مبادئ العقل العام"(140).

ولعل محرري الموسوعة المطاردين كانوا قد نبهوا روسوإلى التخفيف في هذا الموضوع من هجومه على الحضارة. وسنجده بعد سبع سنوات، في كتابه "العقد الاجتماعي" يدافع عن الجماعة ضد الفرد، ويقيم فلسفته السياسة على فكرة الإرادة العامة المقدسة السامية. على أنه لم يزل خلال ذلك فردياً وثائراً يبغض باريس، ويؤكد ذاته ضد أصدقائه، ويصنع جميع يوم أعداء جدداً.

الهارب

كان أصدقاؤه الحميمون الآن هم جريم، وديدور، ومدام دينييه. أما جريم فقد ولد في راتزبون عام 1723، فكان بذلك يصغر روسوبأحد عشر عاماً. وقد تفهم في ليبزج في العقد الأخير من حياة باخ، وتلقى عن أوهان أوجست إرنشتي أساساً مكيناً في لغتي اليونان والرومان وآدابهما. فلما وفد على باريس في 1749 تفهم الفرنسية بما عهد عن الألمان من إتقان ودقة، وما لبث حتى وافى مجلة المركيز بمنطقاته. وفي 1750 أصبح السكرتير الخاص للكونت فون فريزن. وأغراه حبه للموسيقى بالتعلق بروسو، كما رماه جوع أكثر عمقاً تحت قدمي الآنسة فل المغنية بالأوبرا، فلما آثرت عليه المسيوكاهوزاك، يقول روسوحتى جريم: "حز في نفسه حتى أصبحت إمارات خطبه مأساوية-فكان ينفق الأيام والليالي في تراخ وتبلد. ويرقد وعيناه مفتوحتان..لا يتحدث، ولا يأكل، ولا يتحرك. وكنت والأبيه رينال نرعاه، فالأبيه-وكان أشد مني وأصح-يسهر عليه ليلاً، وأنا أرعاه نهاراً، فلا نغيب عنه معاً في وقت واحد"(141).

واستدعى فون فريزن طبيباً يعوده، فأبى حتى يصف له دواء غير الزمن. وأخيراً ذات صباح، قام جريم، وارتدى ثيابه، واستأنف نظام حياته العادي، دون حتى يذكر يومها أوبعدها..هذا التبلد الشاذ(142).

وقدم روسوجريم إلى ديدور، وراح ثلاثتهم يحلمون بالذهاب معاً إلى إيطاليا. واستوعب جريم في نهم سيل الأفكار المتدفق من معين عقل ديدور وتفهم لغة "الفلاسفة" الخالية من التوقير؛ وألف كتاباً لا أدرياً "في التعليم الديني للأطفال" وأشار على فون فريزن بأن يتخذ ثلاث خليلات في وقت واحد "تذكاراً للثالوث الأقدس"(143) وأقلقت روسوتلك الألفة النامية بين جريم، الذي سيصفه سانت بوف بأنه "أكثر الألمان فرنسية"، وبين ديدور "أكثر الفرنسيين ألمانية"(144) وفال روسوشاكياً "إنك تهماني ياجريم، وأنا أغفر لك هذا" وأخذه جريم عند حدثته. فنطق لي إنني مصيب...ثم حطم جميع قيد، فلم أعد أراه إلا في صحبة أصدقائنا المشهجرين(145).

وفي سنة 1747 كان الأبيه رينال قد بدأ يرسل للمكتتبين الفرنسيين والأجانب خطاب أنباء نصف شهري سماه "الأنباء الأدبية" يورد فيه الوقائع في جنيا الأدب والعلوم والفلسفة والفنون الفرنسية-وفي 1753 عهد بالمشروع إلى جريم الذي-واصله بمعونة من ديدرووآخرين حتى 1790. وأثناء اضطلاع جريم بالمجلة كان من بين من وافاها بمنطقاتهم أفراد بلرزون. كملكة السويد لويزا أوريلكا وملك بولندة السابق ستانسلاس لسكيزنسكي، وكاترين الثانية قيصرة روسيا، وأميرة ساكس-جوتا، وأمير وأميرة هيس-دارمشات، ودوقة ساكس-كوبورج ودوق تسكانيا الكبير، والدوق كارل أوجست أمير ساكس-فيمار. أما فردريك الأكبر فقد أحجم عن المشاركة فيها لكثرة عدد من يبادلهم الرسائل في فرنسا وأخيراً وافق على حتى يتسلم المجلة، ولكنه لم يدفع لها مالاً قط. وقد أذاع جريم العدد الأول من المجلة عقب اضطلاعه بإصدارها (مايو1753):

في الصفحات المطلوبة منا لن نضيع وقتاً على النشرات التي تغرق باريس جميع يوم...بل سنحاول حتى نعطي تقريراً دقيقاً، وتحليلاً منطقياً (Critique Raisonn(e) للخط التي تستحق حتى يتهم بها الجمهور.

وستكون الدراما جزءاً هاماً من تقريرنا لأنها فرعٌ رائع من فروع الأدب الفرنسي وعلى العموم لن نغفل شيئاً جديراً بفضول غيرنا من الشعوب(146).

وهذه الرسائل الأدبية المشهورة هي الآن سجل رئيسي نفيس لتاريخ فرنسا الفكري في النصف الثاني من القرن الثامن العشر، وقد استطاع جريم حتىقد يكون صريحاً في منطقاته النقدية، لأنها لم تكن معروفة للجمهور الفرنسي أوللمؤلف الذي تتناوله. وكان يتوخى الإنصاف عادة، إلا مع روسوفي فترة لاحقة. وقد أصدر الكثير من الأحكام الصائبة، ولكنه أساء الحكم على "كانديد" فزعم أنها لا تثبت-للنقد الجاد، على حتى هذا الرأي لم يدفق إليه تحامل على فولتير، فقد وصفه بأنه: "أعظم الرجال في أوربا جاذبية وأكثرهم لطفاً، وأبعدهم صيتاً(147)".

ورد فولتير التحية بطريقته الشيطانية فنطق: "ما الذي يتراوى لهذا البوهيمي حتى يبزنا ذكاء وفطنة؟" ورسائل جريم هذه هي التي أذاعت في أراتى أوربا أفكار التنوير الفرنسي أكثر من أي كتابات أخرى باستثناء مؤلفات فولتير. ومع ذلك خامرته الشكوك في جماعة الفلاسفة وفي إيمانهم بالتقدم، فنطق: "إنما العالم مركب من: شرور لا يحاول إصلاحها غير إنسان معتوه"(149) وفي 1757 خط يقول:

"يبدوحتى القرن الثامن عشر فاق جميع القرون في المدائح التي كالها لنفسه...ولوتمادى في هذا قليلاً لأقنع خيرة المفكرين أنفسهم بأن دولة الفلسفة، الهادئة المسالمة، أوشكت حتى تسود بعد عواصف الجنون الطويلة، وأن ترسي إلى الأبد سلام البشر وهدوؤهم وسعادتهم...ولكن الفيلسوف الصادق، لسوء الحظ، لديه أفكار أقل تعزية ولكنها أصح وأدق....وهيهات حتى أصدق أننا مقتربون من عصر العقل، وأكاد أعتقد حتى أوربا تتهددها ثورة مدمرة"(150).

ونلمح هنا أثراً من الكبرياء والغرور اللذين كانا يغيظان أصدقاء جريم أحياناً. فلقد كان هذا المتفرنس، ينفق الساعات في التزين، وذر المساحيق على وجهه وشعره، والإسراف في التعطر إسرافاً لقب من أجله بدب المسك(151). وهويظهر في رسائله ينير التحيات بمنة ويسرة بيد تتسقط الرد عليها. وقد اشترط فردريك للاشتراك في الرسائل حتى "يعفيني جريم من تحياته"(152). ومثل هذا التملق كان من طبيعة الحال من أسلوب الرسائل في ظل "النظام القديم".

واسترعى جريم انتباه باريس، وهوالوجل البارد المتزن عادة، بإشرافه على الموت هياماً بالآنسة فل، وبدخوله في مبارزة من أجل مدام ديينيه. وكانت هذه الأخيرة-لويز-فلورانس تارديوديسكلافيل-ابنة بارون من فالنسين توفي في خدمة الملك عام 1737. وبعد ثمانية أعوام حين بلغت لويز العشرين، تزوجت من دنيس-جوزف لاليف ديينيه وكان ابن جابٍ غني. ومضىا للعيش في قصر ريفي جميل يدعى الشاتودلاشيفريت، على تسعة أميال من باريس، بقرب غابة مونمورنسي. وفاضت حياتها سعادة، فتساءلت "أيستطيع قلبي حتى يتحمل هذه السعادة،يا ترى؟ وخطت إلى ابنة عم لها تقول" كان يعزف على البيان القيثاري، وأنا جالسة على مسند كرسيه ويسراي على كتفه، ويمناي تقلب الأوراق، فلم يفته قط حتى يقبلها في جميع مرة تمر أمام شفتيه(153).

ولم تكن جميلة، بل صغيرة الجسم أنيقة على نحوساحر، بديعة التكوين Yres Bien Faint (كما تنبئنا)(154)؛ وستفتن عيناها السوداوان النجلاوان فولتير بعد حين. ولكن " الإحساس دائماً بنفس الشيء يصبح بعد قليل تماماً كالإحساس بلا شيء"(155)، فلم يمضِ غير عام حتى كف ديينيه عن ملاحظة هاتين العينين. لقد كان قبل الزواج فاسقاً عربيداً فعاد الآن كما كان، يسرف في الشراب، ويسرف في القمار، وينفق المال الطائل على الأختين فريير، اللتين أسكنهما كوخاً على مقربة من لاشيفريت وولدت له زوجته خلال ذلك طفلين. وفي 1748 عاد من رحلة في الإقليم، وضاجع امرأته، فنقل إليها عدوى الزهري. وحصلت على انفصال شرعي عن زوجها بعد حتى اعتلت صحتها وتحطمت روحها. ووافق على تسوية سخية؛ وورثت هي ثروة عمها، فاحتفظت بلاشيفريت، وحاولت حتى تنسى تعاستها في الحدب على طفليها ورعاية صديقاتها. فلما أصيبت إحداهن-وهي مدام دجوللي-بالجدري إصابة مميتة مضىت لويز لتسقمها، ومكثت معها إلى النهاية، معرضة نفسها لعدوى قد تؤدي بها أوتشوهها مدى الحياة.

وأجمعت صديقاتها على حتى يحسن بها حتى تتخذ عشيقاً. واتى عشيق (1746) وهودوبان دفرانكوي، الرجل الذي وظف روسوعنده. وقد بدأ بالموسيقى، وانتهى بالزهري، ولم يلبث حتى شفي من هذا الداء في حين ظلت هي تعاني منه(156). وانضم إلى زوجها في اقتسام الآنستين دفيريير. ونطق لها دوكلوفي صراحة جافية "أن فرانكوي وزوجك يقتسمان الأختين فيما بينهما(157)". فأصيبت بحمى وهذيان داما ثلاثين ساعة. وحاول دوكلوالحلول محل دوبان، ولكنها طردته. ثم كانت مأساة أخرى حين أعطتها مدام دجوللي وهي على فراش الموت حزمة أوراق تفضح غرامياتها وألحت عليها في حتى تحرقها، فعملت. واتهمها المسيودجوللي بأنها أحرقت عن عمد شهادات مديونيتها هي له. وأنكرت التهمة ولكن القرائن كانت ضدها، إذ كان معروفاً أنها كانت تعين زوجها بالمال رغم انفصالها عنه.

في هذه الأزمة ولج جريم الدراما، وكان روسوقد قدمه إلى لويز في 1751، وكثيراً ما اشهجر ثلاثتهم في عزف الموسيقى أوالغناء معاً. وذات مساء في حفلة أقامها الكونت فون فريزن أعرب أحد الضيوف عن اعتقاده بأن مدام ديينيه مذنبة..ودافع عنها جريم، واحتد النقاش إلى حد المساس بالشرف، وتبارز صاحب الاتهام والمدافع، فجرح جريم جرحاً طفيفاً. بعد حين وجدت الوثائق المفقودة، وبرئت ساحة السيدة، فشكرت جريم باعتباره "فارسها الهمام" ونمى تقدير الواحد منهما لصاحبه فاكتمل جباً من أبقى وأثبت ما شهده ذلك العصر القلب. وحين أتلف الحزن صحة البارون دولباخ لموت زوجته، وسافر جريم للعناية به في الريف، سألته لويز "ولكن من سيكون فارسي يا سيدي إذا هاجمني أحد في غيابك"،يا ترى؟ فأجاب جريم "هوما كان من قبل-حياتك الماضية(158)" ولم يكن الجواب قاطعاً مانعاً، ولكنه فاق حدود الثناء.

وكان روسوقد التقى بمداد ديينيه في 1748 في بيت مدام دويان. ودعته إلى لاشيفريت. وفي "مذكراتها" وصف له:

"أنه يقدم التحيات والمجاملات، ولكنه ليس مؤدباً، أوعلى الأقل يعوزه مظهر التأدب. والظاهر أنه جاهل بعادات المجتمع، ولكن من الواضح أنه مفرط الذكاء. وله بشرة سمراء، وعينان بيضاوان تتوهجان وتضفيان الحيوية على قسماته.....وينطق أنه عليل، ويتجلد لعذاب يحرص على كتمانه....وهذا في ظني هوالذي يضفي عليه أحياناً....، مظهر الاكتئاب(159)".

أما الصورة التي رسمها لها فلم تكن شديدة التأنق:

"لم يكن حديثها الخاص ممتعاً، وأن لم يعوزه اللطف في حضرة الجنسين...وأسعدني حتى أبدي لها بعض المجاملات، وقبلتها قبلات أخوية صغيرة، ولم تبدوأكثر شهوانية منها هي....لقد كانت غاية في النحول، والشحوب، ولها صدرٌ كظاهر يدها. وكان هذا العيب وحده كافياً للتخفيف من أحر رغباتي(160)".

وظل سبع سنوات يلقى الترحيب في بيت مدام ديينيه. فلما رأت مبلغ ضيقه في باريس فكرت في سبل تقديم المعونة له، ولكنها كانت تفهم أنه سيرفض المال. وبينما كانا ذات يوم يسيران في حديقتها خلف لاشيفريت، أرته كوخاً يسمى "الأرميتاج (الصومعة)" كان من قبل ملكاً لزوجها. وكان مهجوراً متهدماً، ولكن مسقطه على حافة غابومونمورنسي حمل روسوعلى حتى يقول في انفعال: "ياله من مسكن مبهج يا سيدي! كأن هذا الملجأ أعد لي خصيصاً"(161). ولم تجب السيدة، ولكن حين عودا السير إلى الكوخ في سبتمبر 1755، أدهش روسوحتى يجده قد رمم، وأثثت حجراته الست، ونظفت الأرض المحيطة به ورتبت. وينقل عنها أنها نطقت "يا عزيزي، إليك ملجأك، فأنت الذي اخترته، حتى الصداقة تقدمه لك. وأرجوحتى يزيل هذا فكرتك القاسي، فكرة الانفصال عني" وكانت تفهم أنه فكر من قبل في حتى يقيم في سويسرا، ولعلها لم تعهد ما طرأ من فتور على تحمسه لجنيف. و"فاضت دموعي على اليد الكريمة" يد صديقته، ولكنه تردد في قبول عرضها. فأغرت تريز ومدام لفاسير بقبول خطتها، و"أخيراً تغلبت على جميع قراراتي".

وفي أحد القيامة، 1756، ولكي تجمل الهدية بلياقة، اتىت باريس في مركبتها، وأخذت "دبها" كما كانت تدعوه، هووخليلته وحماته، إلى الأرميتاج. ولم يلذ تريز فراقها لباريس، أما ورسو، فما حتى استنشق هواء الخلاء حتى شعر بأنه أسعد منه في أي وقت منذ أيام فردوسه الريفي مع مدام دفاران. "فيتسعة إبريل 1756 بدأت أحيا"(162)، ولكن جريم أفسد الفرحة بتحذير لمدام ديينيه:

"إنكِ تضرين روسوضرراً بليغاً بإعطائه الأرميتاج، ولكنكِ تضرين نفسك ضرراً أبلغ. فستكمل العزلة مهمة تسويد خياله، وسيبدوجميع أصدقائه في عينيه ظلمة جاحدين، وأنت أولهم، إذا رفضت ولومرة واحدة حتى تمتثلي لأوامره"(163).

وانطلق بعد ذلك جريم، الذي أصبح الآن سكرتيراً للمرشال دستريه، ليلعب دوره في الحرب التي سترسم خريطة العالم من جديد.


كان روسوقد انتقل إلى كوخ مدام دينيه فيتسعة إبريل 1756 مصطحباً غير الشرعية تريز لافاسير وأمها. وسعد بالعيش هناك حيناً، إذ أحب غناء الطيور وزقزقتها، وحفيف الأشجار وعبيرها، وهدوء الجولات المنفردة في الغابات. وكان في جولاته يحمل قلماً وكراسة ليقتنص الأفكار وهي تمرق منه.

ولكنه لم يخلق للراحة والسلام. ذلك حتى حساسيته ضاعفت جميع عناء، وخلقت مزيداً من المتاعب. لقد كانت تريز زوجة وفية ولكنها لا تستطيع حتى تكون رفيقاً لذهنه، خط في إميل يقول "ينبغي ألا يقترن الرجل الذي يفكر بزوجة لا تستطيع مشاطرته أفكاره"(1). ولم يكن بتريز المسكينة حاجة تذكر للأفكار، ولا كبير حاجة للحدثات المكتوبة. لقد بذلت له جسدها وروحها، واحتملت غضباته، وأغلب الظن أنها ردت عليها بمثلها، وسمحت له بأن يقترب من حافة الخيانة مع مدام دودتو، وكانت هي على قدر ما نفهم وفية في تواضع باستثناء حادث لا سند لنا فيه إلا في رواية بوزويل. ولكن أنى لهذه المرأة الساذجة حتى تستجيب لذلك الاتساع والتنوع الجامح في عقل قدر له حتى يزلزل نصف القارة،يا ترى؟ انصت إلى تفسير روسو:

"ماذا يظن القارئ إذا قلت له...إنني منذ اللحظة الأولى التي سقط عليها بصري حتى اللحظة التي أخط الآن فيها لم أشعر قط بأقل حب لها، ولم أشتهِ قط حتى أملكها...وأن الحاجات البدنية التي أشبعت بشخصها كانت بالنسبة لي حاجات الجنس فقط، دون حتى تنبعث إطلاقاً من شخصيتها؟...لقد كانت أولى حاجاتي، وأعظمها، وأقواها، وأشرهها، كلها في قلبي: الحاجة إلى رباط (روحي) حميم، حميم ما أمكن. وكانت هذه الحاجة الفريدة بحيث لا يشبعها أوثق الاتصال البدني، ولم يكن بد لها من وجود روحين"(2).

ولعل تريز كانت ترد على هذه الشكاوى بردها، لأن روسوكان قد كف الآن عن القيام بوظائفه الزوجية. ففي 1754 قرر لطبيب جنيفي: "لقد تعرضت طويلاً لأقسى الآلام، لعلة حصر البول التي لا شفاء لي منها، والتي نجمت عن احتقان في مجرى البول يسد القناة سداً يستحيل معه فيها حتى قسطرات الدكتور داران المشهور"(3). وزعم أنه أقلع عن جميع اتصال جنسي مع تريز بعد 1755(4) ثم أضاف "حتى ذلك التاريخ كنت صالحاً، ومن تلك اللحظة أصبحت طاهراً، أوعلى الأقل متيماً بالطهارة.

وجعل وجود حماته معهما هذا المثلث حاداً إلى درجة مؤلمة. وقد عالها هي وزوجته ما استطاع من دخله الذي اتىه من نسخ الموسيقى ومن بيع خطه. غير حتى مدام لافاسير كان لها بنات أخريات تحتجن إلى مهور ويعشن في ضنك مقيم. وجمع جريم وديدروودولباخ فيما بينهم للمرأتين معاشاً سنوياً قدره أربعمائة جنيه، وأخذوا عليهما العهد بكتمان الأمر على روسومخافة جرح كبريائه. واختصت الأم نفسها وبناتها بمعظم المال (على رواية روسو)(5)، واستدانت باسم تريز، ودفعت تريز الديون، وأخفت أمر المعاش طويلاً، وأخيراً كشف روسوسره، فاستشاط غضباً على أصدقائه لإذلاله على هذا النحو. وقد زادوه غضباً بالإلحاح عليه في حتى ينتقل من الإيرمتاج قبل حلول الشتاء، فالكوخ (في رأيهم) لم يعد للجوالبارد. وحتى لواحتملت زوجته برد الشتاء فيه فهل في طاقة الأم احتماله،يا ترى؟ وكان ديدروقد خط في تمثيلية "الابن الطبيعي"(6): "إن الرجل الصالح يحيا في مجتمع؛ ولا يعيش وحيداً غير الطالح". وخيل لروسوأنه المقصود بهذا القول، وبدأ الآن نزاع طويل لم تكن المصالحات التي تخللته إلا مهادنات. وشعر روسوحتى جريم وديدرويحولان إغرائه بالعودة إلى مدينة فاسدة لأنهما يحسدانه على السلام الذي وجده بين الغابات. وقد كشف في خطاب أوفده إلى صاحبة الفضل عليه، مدام ديينيه، (وكانت في باريس) عن خلقه بصراحة ونفاد صبر. نطق:

"أريد حتىقد يكون أصدقائي أصدقاء لا سادة عليّ؛ أريد حتى ينصحوني لا حتى يحاولوا التسلق علىّ؛ وأنقد يكون لهم جميع المطالب على قلبي دون مطلب واحد يقيد حريتي. إني لأراها غريب تلك الكيفية التي يتدخل بها الناس باسم الصداقة في شؤوني دون حتى يطلعوني على شؤونهم...وحرصهم الشديد على حتى يؤدوا لي ألف خدمة يرهقني، ففيه لمسة من الاستعلاء تضنيني؛ ثم إذا جميع إنسان في وسعه حتى يعمل مثل ما يعملون..."

وإني لتوحدي وانعزالي على الناس أشد حساسية من غيري. فلوفرضنا أنني تشاجرت مع إنسان يعيش وسط الزحام، فإنه يفكر في الأمر لحظة ثم تنسيه إياه عشرات الشواغل بقية النهار. أما أنا فلا يصرف أفكاري عنه شيء ولا أفتأ أقلبه في ذهني طوال الليل وأنا مؤرق، وأفكر فيه وأنا أتسار وحدي من شروق الشمس إلى غروبها، وقلبي لا يهدأ لحظة واحدة، وإساءة من صديق كفيلة بأن تجعلني أعاني في يوم واحد سنوات من الحزن. وإن لي أنا العليل حقا في التسامح الواجب من أخوتي البشر نحوهفوات رجل مريض وغضباته...وأنا فقير، وفقري يخول لي بعض الرعاية (أوكذلك يخيل إلي)". "لا يدهشك إذن إذا أنا أبغضت باريس أكثر فأكثر. ليس لي شيء أنشده من باريس سوى رسائلك. ولن يراني أحد هناك ثانية أبداً. وإذا شئت حتى تنبئني بآرائك حول هذا الموضوع، وبكل ما تبغين من قوة وعنف، فلك الحق في ذلك. فستلقي مني قبولاً حسناً، وستكون-عديمة الجدوى"(7).

وقد أجابته بما يكفي من العنف فنطقت "أوه، دع هذه الشكاوى التافهة لمن خلت قلوبهم ورؤوسهم(8). ولكنها استفسرت مراراً عن صحته وراحته، واشترت له حاجياته، وأوفدت له الهدايا الصغيرة. "ذات يوم والحرارة بلغت من التجمد درجة قصوى، وجدت وأنا أفتح طرداً به عدة أشياء طلبت إليها حتى تبتاعها لي جونلة داخلية من الفانيلا الإنجليزية نطقت إنها كانت تلبسها، ورغبت إلي في حتى ألبسها صدرية داخلية، ورأيت في هذه الرعاية البالغة الود حناناً شديداً-وكأنها تعرت لتكسوني-حتى رحت في انفعالي أقبل الخطاب والجونلة جميعاً غير مرة وأنا أذرف الدمع. وخالتني تريز قد جننت(9)".

وخلال عامه الأول في الإرميتاج صنف "قاموس الموسيقى" ولخص بلغته المجلدات التي ألفها الأبيه دسان-بيير عن الحرب، والسلام، والتعليم، والإصلاح السياسي. وفي صيف 1756 تلقى من المؤلف نسخة من قصيدة فولتير في الزلزال الذي أهلك خمسة عشر ألف شخص، وجرح خمسة عشر ألف آخرين في لشبونة في عيد جميع القديسين أول نوفمبر 1755، وقد تساءل فولتير كما تساءل نصف العالم لم اختارت العناية، المفترض فيها أنها خيرة، لهذه المذبحة العمياء عاصمة قط\ر كله كاثوليكي، وساعة-9.40 صباحاً-كل الأتقياء يصلون فيها في الكنيسة. وفي نغمة من التشاؤم المطلق رسم فولتير صورة للحياة والطبيعة محايدتين حياداً قاسياً بين الشر والخير. وفي الفقرة التالية من الاعترافات نقرأ رد عمل روسولهذه القصيدة القوية:

"حين أدهشني حتى أرى هذا المسكين، الغارق (إن جاز القول) في مسببات الثراء والتشريف، يشكوبمرارة أرزاء هذه الحياة، ويجد جميع شيء خطأ، فكرت في مشروع جنوني هوحتى أجبره على تحويل اهتمامه إلى نفسه، وعلى إثبات حتى جميع شيء صواب. إذا فولتير وهويظهر مؤمناً بالله لم يؤمن قط في الواقع بشيء غير الشيطان، لأنه إلهه المزعوم كائن خبيث لا يلتذ إلا بالشر، كما يقول. وسخف هذه القصيدة الصارخ يثير أشد التقزز من رجل ينعم بثراء فاحش، رجل يحاول من حضن السعادة حتى يشيع اليأس في قلوب أخوته البشر بما يصور من صورة رهيبة قاسية لكل الكوارث التي أعفي منها، أما أنا الذي يحق لي أكثر منه حتى أعدد وأزن جميع شرور الحياة البشرية، فقد فحصتها في غير تحيز، وأثبت له أنه ما من شر من جميع الشرور الممكنة يجب حتى ننسبه للعناية، وألا نرده بالأحرى إلى إساءة استعمال الإنسان لقدراته لا إلى الطبيعة"(10).

وعليه في 18 أغسطس 1756 أوفد روسوإلى فولتير "رسالة في العناية الإلهية من خمس وعشرين صفحة، بدأها بإقرار لطيف بفضل فولتير. نطق:

"اتىتني قصائدك الأخيرة يا سيدي في عزلتي، ومع حتى جميع أصدقائي يعهدون محبتي لكتاباتك، فلست أدري من كان ممكناً حتى يرسل لي هذا الكتاب سواك. فقد وجدت المتعة والفائدة جميعاً، وتبينت فيه يد الأستاذ...ولزام علي حتى أشكرك على المجلد وعلى صنيعك"(11).

ثم ناشد فولتير ألا يلوم العناية الإلهية على مصائب البشر. فمعظم الشرور راجع لحماقتنا، أوخطيئتنا، أوإجرامنا: "لاحظ حتى الطبيعة لم تحشد عشرين ألف بيت من ستة طوابق أوسبعة، وأنه لوكان سكان تلك المدينة الكبرى موزعين توزيعاً أكثر توازناً في مساكن أقل تكاثفاً، لكانت الخسارة أقل كثيراً، أومن الممكن انعدمت، ولكان جميع أهلها قد هربوا نعد أول هزة، ولرأيناهم في الغد على بعد عشرين فرسخاً، مرحين كأن شيئاً لم يصبهم"(12).

وكان فولتير قد خط أ، قلة من الناس من يودون حتى يولدوا من حديث في نفس الظروف؛ فرد روسوبأن هذا لا يصدق إلا على الأثرياء الذين أتخموا باللذات، وملوا الحياة، وأعوزهم الإيمان؛ أوعلى الأدباء القاعدين، غير الأصحاء، الغارقين في تأملاتهم، الساخطين؛ ولكنه لا يصدق على بسطاء الناس كالطبقة الوسطى الفرنسية أوالقرويين السويسريين. والذي يجعل من الحياة معضلة لنا هوإساءة استعمالها(13). ثم إذا شر الجزء قد يحدث خير الكل؛ فموت الفرد يتيح الحياة المتجددة للنوع. والعناية الإلهية عامة لا خاصة؛ فهي تسهر على الكل، ولكنها تهجر أحداثاً نوعية للأسباب الثانوية والقوانين الطبيعية(14). وقد يحدث الموت المبكر نعمة كذلك الذي أصاب أطفال لشبونة، وهوعلى أية حال غير ذي بال ما دام هناك إله، لأنه تعالى سيكافئ الجميع على ما أصابهم من معاناة لا يستحقونها(15). ومسألة وجود الله تجاوز الحل بالعقل. ولنا حتى نختار بين الإيمان والكفر، فلم نرفض إيماناً ملهماً معزياً؟؛ أما عن نفسي "فقد عانيت في هذه الحياة كثيراً، لهذا يملؤني الراتى في حياة أخرى. وكل دقائق الميتافيزيقا لن تشككني لحظة في وجود عناية خيرة وفي خلود النفس. أنني أحس هذا، وأؤمن به، وأتمناه... وسأدافع عن هذه المعتقدات إلى آخر نسمة من حياتي"(16).

واختتم روسوخطابه ختاماً لطيفاً، فنطق إنه متفق مع فولتير على التسامح الديني، وأكد له "إنني أوثر حتى أكون مسيحياً على طريقتك لا على طريقة الصوربون"(17). ورجا فولتير حتى ينظم بكل ما في شعره من قوة وفتنة "كتاب تعليم مسيحي للمواطن" يتضمن قاموساً أخلاقياً يهدي الناس في فوضى العصر. وخط فولتير إقراراً مهذباً بوصول رسالة روسو، ونادىه للنزول ضيفاً عليه في الدليس(18)، ولم يبذل محاولة منظمة لتطبيق حجج روسو، ولكنه رد عليها بطريق غير مباشر بروايته "كانديد" (1759).


حفل شتاء 1756-1757 بالأحداث لروسو. ففي فترة ما خلال تلك الشهور بدأ يخط أشهر رواية في القرن الثامن عشر "جولي، أوهلويز الجديدة" وقد تصورها أول الأمر دراسة في الصداقة والحب. فابنتا العم جولي وكلير تحبان سان-برو، ولكنه حين يغوى جولي تظل كلير الصديقة الوفية لكليهما. فلما أخجله حتىقد يكون الكتاب مجرد رواية غرامية، عمد إلى حمل السيرة إلى مقام الفلسفة بتحويل جولي إلى التدين، والعيش في ولاء مثالي لزوجها فولمار وهوسيد شكاك استسلم لتعاليم فولتير وديدرو. يقول روسوفي اعترافاته:

"كانت العاصفة التي أطلقتها الموسوعة..في ذلك الحين على أشدها. فلم يلبث الفريقان، اللذان بلغ سخطهما بعضهما على بعض نهايته، حتى أصبحا أشبه بذئاب غاضبة... لا مسيحيين ولا فلاسفة يرغب جميع منهما في إثارة الآخر وإقناعه وهداية إخوانهم إلى طريق الحق. وكنت قد جهزت بالحقائق الصارمة للفريقين لأنني بطبعي عدولكل أنواع التخريب، ولكنهم لم يستمعوا إلي. ففكرت في طريقة أخرى، بدت لي في بساطتي جديرة بالإعجاب؛ وهي التخفيف من كراهيتهما المتبادلة بأن أحطم تعصبهما، وأظفر لكل فريق ما للآخر من فضائل وحسنات تستحق تقدير الجميع واحترامهم. وأحرزت الفكرة...النجاح المرتقب، فقد قربت ووحدت الحزبين المتنافسين على هدف واحد هوسحق الكتاب...ولما رضيت..عن خطتي، عدت إلى المسقطين تفصيلاً...فأسفر هذا عن الجزأين الأول والثاني من "هلويز"(19).

وكان يقرأ على تريز ومدام ليفاسير جميع مساء صفحات من السيرة عند المدفأة. وشجعته الدموع التي كانت تذرفها تريز، فدفع بالمخطوطة إلى مدام ديينيه حين عادت إلى قصرها الريفي، لاشتزيت، على ميل من الإيرميتاج. وفي مذكراتها استعادة للحدث: "حين وصلنا هنا...وجدنا روسوفي انتظارنا. وكان هادئاً رائق المزاج للغاية. وأحضر لي رواية (جانباً منها) قد بدأها...وقد قفل إلى الإيرميتاج أمس ليستأنف هذا العمل، الذي يزعم أنه قوام سعادة حياته"(20). وبعد قليل خطت إلى جريم:

"وبعد العشاء قرأنا مخطوطة روسو. ولست أدري هل أنا متحيزة ضدها، ولكني غير راضية عنها، إنها مكتوبة بأسلوب في غاية الروعة، ولكنها مسرفة في التفصيل، وتبدوغير واقعية ومفتقرة إلى الحرارة. ولا تقول شخوصها حدثة واحدة مما ينبغي حتى تقوله، فالمؤلف هوالذي يتحدث دائماَ. ولا أدري كيف من الممكن أن أخرج من هذا المأزق، فلست أحب حتى أخدع روسو، ولا أستطيع حتى أستقر على إدخال الحزن على قلبه"(21).

على حتى روسو، على نحوما، بث الحرارة في جولي خلال الشتاء، أكان ذلك لأن سيرة حب حية دخلت حياته،يا ترى؟ ذلك في 30 يناير 1757 زارته سيدة كان قد لقبها في باريس باعتبارها أخت زوج مدام ديينيه. وكانت هذه السيدة، واسمها اليزابث-صوفي دبيلجارد، قد تزوجت الكونت دودتو، ثم هجرته، وأصبحت الآن خليلة عدة سنوات للمركيز دسان-لامبير، الذي كان يوماً ما مزاحماً لفولتير على مدام دناتليه. وكان زوجها وعشيقها كلاهما قد انطلق إلى ساحة القتال. وفي صيف 1756 كانت الكونتيسة قد استأجرت قصر أوبون الريفي، على نحوميلين ونصف من الإيرميتاج. وخط لها سان-لامبير حتى روسوعلى رحلة جواد قصيرة منها، واقترح عليها حتى تسري عن وحدتها بزيارة المحرر الشهير الذي أوقف الحضارة كلها موقف الدفاع عن نفسها. فمضىت في مركبة، فلما انغرزت في الوحل واصلت الرحلة سيراً، فوصلت وحذاؤها وثوبها ملطخان. "وجعلت المكان يدوي بضحكها الذي شاركتها فيه من جميع قلبي"(22). وأعطتها تريز تغيرة ملابس. ومكثت المركيزة لتتناول "وجبة ريفية خفيفة" وكانت في السابعة والعشرين، وروسوفي الخامسة والأربعين. ولم تكن باهر الجمال سواء في طلعتها أوقوامها، ولكن رقتها، وروحها المرحة أثارت حياته المظلمة. وفي العصر التالي أوفدت إليه رسالة لطيفة، محاورة إياه باللقب الذي اتخذه بعد حتى استوطن جنيف ثانية:

"أيها المواطن العزيز، أعيد إليك الثياب التي تفضلت بإعارتي إياها. وقد وجدت عند رجوعي طريقاً أفضل كثيراً، ويجب حتى أقول لك بمبلغ سروري بهذا، لأنه ييسر لي العودة إلى زيارتك. ويؤسفني أنني لم أمكث إلا قليلاً...وسيكون أسفي أقل إذا كنت أكثر حرية، واثقة دائماً من أنني لا أزعجك. وداعاً يا مواطني العزيز، وأرجوك حتى تشكر للآنسة ليفاسير جميع ما أبدته نحوي من عطف"(23).

وبعد أيام عاد سان-لامبير من الجبهة. وفي إبريل استدعي من حديث للخدمة العسكرية، وما لبثت الكونتيسة المرحة حتى خطرت إلى الإيرميتاج على صهوة جوادها ثياب الرجال. وصدم زيها روسو، ولكنه ما لبث حتى أحس أنه يحتوي امرأة فاتنة. فنطلق مع ضيفه سيراً في الغابات تاركاً تريز لواجباتها المنزلية وأبلغته مدام دودتوعن شدة محبتها لسان لامبير، وفي مايورد زيارتها، فمضى إلى أوبون في الوقت الذي تكون فيه "وحيدة تماماً" كما نطقت له. يقول "كنت أحياناً في رحلاتي المتكررة لأوبون أنام هناك...

وكنت أراها جميع يوم تقريباً طوال ثلاثة أشهر. ورأيت شخصية جولي متمثلة في مدام دودتو، ثم لم أعد أرى غير مدام دودتو(في جولي)، ولكن بكل مسببات الكمال التي جملت بها معبودة قلبي"(24).

وأسلم نفسه زمناً لهذا الهذيان المحموم حتى لقد كف عن كتابة سيرة، وراح بدلاً من هذا يخط الخطابات الغرامية التي حرص على حتى تعثر عليها في كوي أشجار أوبون. فنطق لها أنه يجب، ولم يقل من محبوبته؛ ولكنها بالطبع. فوبخته، وأكدت له أنها ملك سان-لامبير جسداً وروحاً، ولكنها سمحت له بمواصلة زياراته وتودده الحار؛ والمرأة على أي حال تحيا حياة واحدة فقط حين تحب، وحياة مضاعفة حين يحبها اثنان. "لم تنكر على شيئاً يمكن حتى تمنحه أرق الصداقات، ولكنها لم تمنحني شيئاً يجعلها خائنة". وهويروي أنباء ما كانا يخوضان فيه من "أحاديث مستفيضة متكررة...خلال الشهور الأربعة التي أنفاها في صلة حميدة لا تكاد تضارعها صلة بين صديقين من الجنسين يحصران نفسهما داخل الحدود التي لم نتجاوزها قط"(25). وفي روايتها لهذه العلاقة نجد الحركة الرومانسية على أشدها: فلا شيء في قصته يمكن حتى يضارع هذه النشوات:

"لقد سكرت كلا بخمر الحب-حبها لحبيبها، وحبي لها،؛ وامتزجت تنهداتها ودموعنا...ولم تنسَ نفسها قط لحظة واحدة في حميا هذا السكر اللذيذ، وأؤكد تأكيداً قاطعاّ إنني حتى كنت مرة، وأنا منساق بحواسي، قد حاولت حملها على الخيانة، فإنه لم يكن بي رغبة حقيقية في النجاح..ذلك حتى واجب نكران الذات تسامى بعقلي...لقد كان من الممكن حتى أقارف الجريمة، وقد قورفت مائة مرة في قلبي؛ ولكن حتى ألوث شرف حبيبتي صوفي! آواه، أممكن هذا،يا ترى؟ كلا! لقد قلت لها مائة مرة إنه محال...فإن حبي لها أعظم ما حتى يغريني بتملكها...تلك كانت اللذة الوحيدة لرجل أوتي مزاجاً من أكثر الأمزجة تأججاً، ولكنه من الممكن كان في الوقت ذاته من أجبن من أنجبتهم الطبيعة من البشر"(26).

ولاحظت مدام ديينيه حتى "دبها لم يعد يزورها الآن إلا لماماً، وسرعان ما فهمت بنبأ رحلاته لأخت زوجها. فآلمها النبأ. وخطت إلى جريم في يونيوتقول "من القسوة على أي حال حتى يهرب منك فيلسوف في أقل اللحظات تسقطاً لهروبه"(27). وذات يوم في أوبون عثر روسو"صوفي" تبكي. ذلك حتى سان-لامبير نمى إليها خبر عبثها هذا، وقد أبلغ بالخبر (كما نطقت لجان-جاك) "بطريقة سيئة. إنه ينصفني، ولكنه مغيظ...وأخشى ما أخشاه حتى تكلفي حماقاتك الراحة والهدوء بقية أيامي"(28). واتفقا على حتى الذي باح بالسر لسان-لامبير لابد هومدام ديينيه، لأننا "كما نفهم أنه تراسله". أولعلها باحت به لجريم، الذي كان يلقى سان-لامبير بين الحين والحين في وستفاليا. وقد حاولت مدام ديينيه-في رواية ورسو-أن تحصل من تريز على خطاباته التي تلقاها من مدام دودتو، واتهم مضيفته بخيانته في خطاب عنيف:

"هناك عاشقان (صوفي وسان-لامبير) عزيزان عليّ، وهما وثيقا الارتباط جديران بحب الواحد لصاحبه...وأحسب حتى محاولات بذلت للتفريق بينهما، وأنني استخدمت لبث الغيرة في صدر أحدهما. ولم يكن الاختيار سديداً، ولكنه بدا محققاً لأغراض الحقد؛ وأنت التي أشتبه في أنها مذنبة بهذا الحقد..إلى غير ذلك كان يمكن حتى يُلصق بالمرأة التي أمن لها أعظم تقدير...عار قسمة قلبها وشخصها بين حبيبين، ويلصق بي أنا عار كوني أحد هذين التعيسين. ولوفهمت أنك فكرت في هذا إطلاقاً ولولحظة واحدة في حياتك، سواء عنها أوعني، لأبغضتك حتى آخر نسمة من حياتي، ولكني لا أتهمك بالتفكير في هذا فحسب، بل بقوله أيضاً.

"أتفهمين كيف من الممكن أن أكفر عن أخطائي في الفترة القصيرة التي أنا مضطر للمكث فيها بقربكِ، بعمل ما لا يعمله أحد سواي: بمصارحتك برأي الناس فيكِ وبالصدود التي عليكِ حتى ترأبيها"(29).

وأحزن عنف هذه التهم مدام دينيه، سواء أكانت مذنبة أم بريئة (ولا فهم لنا بالحقيقة)، فأبلغتها إلى حبيبها البعيد جريم. وأجاب بأنه قد حذرها من "المآذق الشيطانية"، التي ستتورط فيها بإنزال روسوالنزق الغريب الأطوار في الإيرميتاج(30). ودعت جان-جاك إلى شفريد، وحيته بالعناق والجموع، وأجاب على الدموع بمثلها، ولم تدلِ له بأي تفسير وصل إلينا فهمه، وتعشى معها، ونام في بيتها، ورحل في الغد مونادىً بعبارات الصداقة.

وزاد ديدور الطين بلة. فقد أشار على روسوبأن يخط إلى سان-لامبير معترفاً بميله لصوفي، مؤكداً له رغم ذلك وفاءها. ووعد روسوبأن يخط (في رواية ديدرو) ولكن مدام دودتورجته ألا يعمل، وأن يدعها تنقذ نفسها بطريقتها الخاصة من المآزق التي ورطها فيها هيامه وعبثها. فلما عاد سان-لامبير من الجبهة حدثه ديدروبالعلاقة، مفترضاً حتى روسوقد اعترف بها. ولام روسوديدروورماه بخيانته، ولام ديروورسوورماه بخديعته. ولم يتصرف تصرف الفلاسفة غير سان-لامبير. فقد اتى وصوفي إلى الإيرميتاج، و"نادى نفسه إلى العشاء معي...وعاملني بصرامة ولكن بروح الصداقة". ولم يسقط عليه عقوبة أشد من النوم والشخير بينما كان جان-جاك يقرأ عالياً خطابه المطول إلى فولتير. على حتى مدام دودتور لم تشجع المزيد من اللقاءات بروسو. وأعاد لها الخطابات التي خطتها يناء على طلبها، ولكن حين طلب خطاباته إليها نطقت إنها أحرقتها. يقول "جرؤت على الشك في زعمها هذا...وما زلت أشك. فلم تلق في النار قط خطابات كخطاباتي. لقد رأى الناس حتى خطابات هلويز (لأبيلار) حارة! فيا للسماء!، فماذا كانوا يقولون في خطاباتي هذه؟"(31) وانكفأ إلى عالمه الخيالي مجروحاً شاعراً بالخزي، واستأنف كتابه "هلويز الجديدة"، وسكب فيه عواطف رسائله المشوبة لمدام دودتو.

على حتى صنوفاً جديدة من الذل كانت في انتظاره حين عاد جريومن الحرب (سبتمبر 1757) "لم أكد أتبين فيه جريم القديم" الذي كان فيما مضى "يعده شرفاً له حتى ألقي عليه نظرة"(32) ولم يستطع روسوحتى يفهم العالة في فتور جريو، ولم يعهد حتى جريم عهد بأمر الخطاب المهين الذي أوفده إلى مدام ديينيه. وكان جريم يقرب من جان-جاك أنانية، ولكنه فيما عدا ذلك نقيضه عقلاُ وخلقاً-فهوشكاك، واقعي، فظ، قاس(33). إلى غير ذلك فقد روسوصديقين بخطاب واحد.


وحدثت أزمة جديدة حين قررت مدام ديينيه في أكتوبر 1757 حتى تزور جنيف. وإليك سيرة روسو: خطت إليّ تقول "يا صديقي، سأقوم فوراً بالرحلة إلى جنيف، لأن صدري ساءت حالته، وصحتي اعتلت كثيراً، بحيث يتعين عليّ حتى أمضى لاستشارة ترونشان". وزادت دهشتي لهذا القرار الذي اتخذ هكذا فجأة، وفي بداية أسوأ طقس في السنة...وسألتها من سيصحبها، فأجابت بأنه ابنها ومفهمه مسيودليفان، ثم أردفت بغير اكتراث "وأنت يا عزيزي، ألا تمضى أنت أيضاً؟" ولم يخطر لي أنها جادة فيما تقول، لأنني في هذا الفصل منت لا أكاد أقوى على المضي إلى حجرتي (أي السفر بين لاشفريت والإيرميتاج) فقد رحت امزح حول الفائدة التي يسديها مريض لآخر. ولم تكن هي ذاتها، قيما بدا لي، جادة في اقتراحها، وإلى هنا انتهى الأمر"(34).

وكان له مبررات وجيهة للزهد في مصاحبة المداد، فقد حالت دون ذلك آلامه وأوصابه، ثم كيف من الممكن أن يستطيع حتى يهجر تريز،يا ترى؟ أضف إلى ذلك حتى الشائعات أرجفت بأن مضيقته حبلى، من جريم على الأرجح، وصدق روسوالسيرة حيناً وهنأ نفسه على النجاة من موقف مثير للسخرية. ولكن المرأة المسكينة كانت صادقة، فهي تعاني من السل، ويبدوأنها كانت مخلصة في رغبتها في حتى يرافقها روسو، ولم لا يبهجه حتى يعود، على نفقتها، لزيارة المدينة التي كان يفخر كثيراً بأنه مواطن فيها،يا ترى؟ وخط ديدرو، العالم بشعورها، إلى روسويناشده حتى يأخذ طلبها مأخذ الجد ويستجيب له، ولولما في ذلك من بعض الرد على إحساناتها. وأجاب روسوبأسلوبه المعهود:

"أحس حتى الرأي الذي تراه مصدره غيرك. وفضلاً عن عدم ميلي لأن أدع نفسي أساق على غير إرادتي تحت ستار اسمك من إنسان ثالث أورابع، فإنني ألاحظ في هذه النصيحة الثانوية نزعاً من الغدر لا يتفق وصراحتك، ويحسن بك حتى تكف عنه مستقبلاً لأجلك ولأجلي"(35).

وفي أكتوبر أخذ خطاب ديدرووجابه عليه إلى لاشفريت وقرأهما "بصوت عالٍ واضح" على جريم ومدام ديينيه. وفي الخامس والعشرين من الشهر رحلت قاصدة باريس. ومضى روسوليودعها وداعاً محرجاً، يقول "ولحسن الحظ قامت في الصباح، وبقي لي من الوقت متسع للذهاب والغداء مع أخت زوجها" في أوبون.(36) وفي التاسع والعشرين (كما اتى في مذكرات مدام ديينيه) خط إلى جريم.

"قل لي يا جريم لم يعلن جميع أصدقائي حتى من واجبي حتى أصحب مدام ديينيه،يا ترى؟ أمخطئ أنا، أم أنهم كلهم مسحورون؟...إن مدام ديينيه مسافرة في مركبة أجرة لطيفة، ويصحبها زوجها، ومعلن ولدها، وخمسة خدم أوستة...فهل أحتمل أنا السفر في مركبة أجرة،يا ترى؟ وهل أطمع في القيام برحلة طويلة كهذه وبهذه السرعة الكبيرة دون حتى يقع لي حادث،يا ترى؟ وهل عليّ حتى أطلب وقوفها في جميع لحظة لأنزل، أم عليّ حتى أعجل بعذاباتي وساعاتي الأخيرة باضطراري إلى فرض القيود على نفسي،يا ترى؟ (يلوح) حتى أصدقائي المخلصين...مصممون على إرهاقي حتى الموت"(37).

وفي 30 أكتوبر غادرت مدام دينيه باريس قاصدة جنيف، وفيخمسة نوفمبر (في رواية المذكرات) رد جريم على روسو: "لقد بذلت ما وسعني من جهد لأتجنب الرد القاطع على الدفاع الرهيب الذي وجهته إلي. وأنت تلح عليّ في حتى أرد...إنه لم يدر بخلدي قط أنه كان من واجبك حتى تصحب مدام ديينيه إلى جنيف. وحتى لوكان دافعك الأول هوحتى تعرض عليها صحبتك لها، لكان من واجبها حتى ترفض عرضك، وأن تذكرك بما يجب عليك نحومركزك، وصحتك، والمرأتين اللتين جررتهما إلى معتكفك؛ هذا رأيي...وأنت تجسر على حتى تحدثني بعبوديتك، أنا الذي كنت طوال أكثر من عامين الشاهد اليومي على جميع دلائل الصداقة البالغة الحنان والكرم، التي منحتها إياك هذه المرأة، ولواستطعت حتى أصفح عنك لرأيتني غير جدير بصداقة إنسان. أنني لا أريد حتى أراك ما حييت، وسأحسب نفسي سعيداً إذا استطعت حتى أطرد من عقلي ذكرى سلوكك. سأطلب إليك حتى تنساني وأنت تكف عن إزعاجي"(38).

ومن جنيف خطت مدام ديينيه إلى جريم: "لقد تلقيت شكر الجمهورية على الكيفية التي عاملت بها روسوواستقبلت وفداً من صانعي الساعات للغرض ذاته...إن القوم هنا ينظرون إليّ نظرة الإجلال من أجله"(39). ونبهها تونشان إلى ضرورة بقائها عاماً تحت رعايته الطبية. وكانت تختلف مراراً إلى بيتي فولتير في جنيف ولوزان. وبعد حين لحق بها جريم، وقضيا معاً ثمانية أشهر في عيشة سعيدة.

وفي 23 نوفمبر 1757 خط إليها روسو(كما يروي) يقول:

إن كان ممكناً لإنسان حتى يموت حزناً لما كنت الآن على قيد الحياة.....إن الصداقة قد انطفأت بيننا يا سيدتي، ولكن ذلك الذي مضى وانقضى ما زالت له حقوقه، وأنا أحترمها. فأنا لم أنسَ كرمكِ معي، ولك حتى تنتظري مني ما يمكن من عهدان بالجميل لشخص لا أستطيع حتى أحبه بعد...

"أردت حتى أغادر الإيرميتاج. وكان ينبغي لي حتى أعمل، ويزعم أصدقائي أنه لابد من بقائي هناك إلى الربيع، وما دام أصدقائي يريدون هذا فسأبقى هناك إذا وافقت"(40).

وفي أوائل ديسمبر اتى ديدرولزيارة ورسو، فوجده ساخطاً باكياً لما حل به من "استبداد" أصدقائه. وقد وردت رواية ديدرولهذه الزيارة في خطابه المؤرخخمسة ديسمبر إلى جريم:

"إن الرجل مسعور Forcen ... لقد زرته، ولمته على شناعة سلوكه بكل القوة التي منحتني إياها الصراحة والأمانة. وقد دافع عن نفسه في ثورة غضب أحزنتني...إن هذا الرجل يقف حائلاً بيني وبين عملي، ويربك عقلي؛ وكأني بجواري أحد المحكوم عليهم بالهلاك الأبدي...أي منظر هذا-منظر رجل شرير ضار! لا تدعني أراه ثاني، فهويحملني على الإيمان بالشيطان والجحيم"(41).

وتلقى روسورداً من مدام ديينيه فيعشرة ديسمبر. والظاهر حتى جريم كان قد نقل إليها ملاحظات روسوعن "عبوديته" في الإيرميتاج، لأنها خط إليه بمرارة غير معهودة فيها:

"كل ما يسعني عمله الآن حتى أرثي لك، بعد حتى بذلت لك طوال سنوات عديدة جميع أمارات الصداقة الممكنة. فأنت شقي جداً..." "وما دمت مصمماً على مغادر الإيرميتاج، ومقتنعاً بأنه ينبغي لك حتى تعمل، فإنه يدهشني حتى يقنعك أصدقاؤك بعد إلحاح بالبقاء فيه. أما أنا فلا أستشير أصدقائي أبداً في أمر واجي، وليس عندي ما أزيد في أمر واجبك"(42).

وفي 15 ديسمبر، ورغم حلول الشتاء، غادر روسوالإيرميتاج ومعه تريز وكل متعلقاتها. أما أمها فقد أوفدها لتعيش في باريس مع بناتها الأخريات ولكنه وعد بأن يسهم في نفقاتها. وانتقل إلى كوخ في مونمورنس أجره له وكيل للوي-فرانسودبوريون، أمير كونتي. هناك، وقد ولى ظهره لأصدقائه السابقين، ابتكر في خمس سنوات ثلاثة من أعظم خط القرن تأثيراً.


خصامه مع جماعة الفلاسفة

كان مسكنه الجديد يقع فيما سماه "حديقة مون-لوي" وهو"حجرة واحدة" أمامها مرجة، وفي طرف الحديقة حصن قديم فيه "طاقة خالصة على الهواء". وكان عليه حتى يستقبل زائريه حين يجيئون "وسط أطباقي القذرة وقدوري المحطمة" ويرتعد مخافة حتى ينخسف "أرض الحجرة التي تهدمت" تحت أقدام ضيوفه. ولم يكترث لفقره، فقد كان يكسب ما يكفيه بنسخ الموسيقى، أغتبط بكونه حرفياً كفئاً(43)، وبأنه لم يعد تابعاً لامرأة غنية. وكان يرد هدايا جيرانه اللطفاء حين يرسلونها إليه، فقد أحس حتى من الذل حتى يأخذ المرء أكثر مما يعطي. وأوفد له الأمير دكنوتي الدجاج مرتين، فأبلغ الكونتيسة دبوفليه أنه سيرد الهدية الثالثة إذا اتىت.

ونلاحظ عرضاً كثرة الأرستقراطيين الذين ساعدوا ثورا التنوير. لا لموافقتهم على آرائهم بقد تعاطفهم الكريم مع العبقرية المحتاجة. لقد كان في نبلاء النظام القديم الكثير من عناصر النبل، وقد خصت الأرستقراطية روسوبصداقتها رغم تنديده بها. وكان الحرفي المعتز بنفسه ينسى نفسه أحياناً ويفخر بأصدقائه حملة الألقاب، نطق في معرض حديثه عن مرجته: "كانت تلك الشرفة قاعة الجلوس التي استقبلت فيها مسيوومدام لكسمبورج، والدوق ديفيلروا، وأمير تنجري، ومركيز أمرنتيير، ودوقة مونمورنسي، ودوقة بوفليه ، والكونتيسة دفالنتنوا، والكونتيسة دبوفلييه، وغيرهم من نفس الرتبة...الذين تنازلوا بأن يحجوا إلى مون-لوي"(44).

وكان منزل المرشال والمرشالة دلكسمبورج غير بعيد من كوخ روسو. وما لبثا عقب وصوله حتى دعواه إلى العشاء فرفض الدعوة. ثم كرراها في صيف 1758 فرفضها ثانية. ثم أتيا حوالي عيد القيامة في 1759 ومعهما ستة من أصدقائهم النبلاء يتحدونه في معكفه. وراعه الأمر فقد اكتسبت المرشالة يوم كانت الدوقة دبوفليه سمعة بأنها فتنت عدداً هائلاً من الرجال. ولكنها خلفت خطاياها وراءها وغدت في نضجها امرأة فيها فتنة الأمومة لا مجرد فتنة الجنس؛ وسرعان ما أذابت تحفظه الخجول وهمزته ليشارك في حديث حي. وتسائل الزائري لم يعيش رجل أوتي هذه المواهب في هذا الضنك. ونادى المرشال روسووتريز ليمضىا ويعيشا معه حتى يمكن إصلاح كوخهما؛ ولكن جان-جاك ظل على مقاومته؛ وأخيراً اقتنع هووتريز بأن يسكنا حيناً "القصر الريفي الصغير" الواقع في ضيعة لكسمبورج. فانتقلا إليه في مايو1756. وكان روسوأحياناً يزور لكسمبورج وزوجته في بيتهما الفخم، هناك كان يغرى بسهولة بأن يقرأ عليهما وعلى ضيوفهما بعض فصول الرواية التي كان يكملها. وبعد بضعة أسابيع عاد هوتريز إلى كوخهما ولكنه واصل زياراته لآل لكسمبورج، وظلا هما على وفائهما له طوال تقلبات مزاجه. وشكا جريم من حتى روسو"هجر أصدقائه القدامى واستبدل بنا قوماً من أعلى الطبقات"(45) ولكن جريم هوالذي نبذ روسو، وفي خطاب خطه جان-جاك إلى مالزيرب في 28 يناير 1762 رد على من اتهموه بالتنديد بالنبلاء، وبالتودد إليهم:

"سيدي، إنني أكره كرهاً شديداً تلك الطبقات الاجتماعية التي تتسلط على غيرها...ولا يضايقني حتى أعترف لك بهذا وأنت سلسل أسرة مشهورة بعراقتها...إنني أبغض العظماء، أبغض وضعهم، وقسوتها، وأهواءهم...ورذائلهم...بمثل هذا المزاج مضىت كإنسان يجر جراً إلى قصر (آل لكسمبورج) الريفي في مونمورنس. ثم رأيت سادته؛ وقد أحبوني، وأحببتهم يا سيدي، وسأظل أحبهم ما حييت...وإني لأبذل لهم، لا أقول حياتي فتلك عطية هزيلة..بل الفخر الوحيد الذي مس قلبي-وهوذلك التشريف الذي أتسقطه من الخلف، والذي سيمنحنيه ما في ذلك شك، لأنه حقي، ولأن الخلف منصفون دائماً".

وكان يود حتى يحتفظ بصديقة سابقة-هي مدام دودتو، ولكن سان-لاميير لامها على الشائعات التي ربطت فيها باريس اسمها باسم روسو، فأبلغت روسوبأن يكف عن الكتابة لها. وتذكر أنه أعترف لديدروبحبه لها، فخلص الآن إلى حتى ديدروهوالذي ثرثر به في الصالونات و"عقدت النية على مقاطعته إلى الأبد"(46).

ولكنه أختار أسوأ اللحظات والوسائل ففي27 يوليو1758 كان هلفتيوس قد نشر في كتابه "في العقل" هجوماً عنيفاً على الكهنوت الكاثوليكي. وأفضت الضجة المترتبة على هذا الهجوم إلى المطالبة المتصاعدة بخطر "الموسوعة" (التي كان قد صدر منها سبعة مجلدات) وكل الكتابات التي تنتقد الكنيسة أوالدولة. وكان المجلد السابع يتضمن منطق دالامبير المتهور عن جنيف، الذي امتدح فيه القساوسة الكلفنين على عقيدة التوحيد التي يتكتمونها وناشد السلطات الجنيفية حتى تسمح بإقامة مسرح. وفي أكتوبر 1758 نشر روسو"خطاباً إلى مسيودالامبير عن المسرح" وكان على اعتدال لهجته إشهار حرب على عصر العقل، وعلى زندقة فرنسة منتصف القرن الثامن عشر وفساد خلقها، وقد بذل روسوفي مقدمتها قصارى جهده في التبرؤ من ديدرو، دون حتى يذكر اسمه صراحة: "كان من بين أصحابي أرستارخوس" رجل صارم، عادل ولكنه لم يعد صاحباً لي ولست أريد مزيداً من صحبته، على أنني لن عن الأسف عليه وأن قلبي ليفتقده أكثر من كتاباتي، وأضاف في هامش معتقداً حتى ديدروقد أفشى سره لسان-لامبير:

"إن كنت قد امتشقت حساماً على صديق فلا تيأس لأن هناك سبيلاً لرد الحسام إليه وإن كنت قد أشقيته بكلامك فلا تخف لأن في الإمكان مصالحته. أما الإهانة واللوم المؤذي وإفشاء السر وجرح قلبه بالخيانة فهذه كلها تسخطه عليك وهوتاركك إلى غير عودة(47)".

أما الخطاب الذي تبلغ صفحاته في الترجمة 135 فكان بعضه دفاعاً عن الدين كما يبشر به علانية في جنيف. كان روسونفسه موحداً-أي رافضاً للاهوت المسيح كما سيدل على ذلك كتاب "إميل" بعد قليل، ولكنه حين تقدم طالباً المواطنة الجنيفية كان قد أقر بالعقيدة الكلفنية الكاملة، وفي هذا الخطاب دافع عن الدين القديم، وعن الإيمان بالوحي الإلهي، باعتبارهما أمرين لا غنى عنهما لأخلاق الشعب. "أن ما يمكن إثباته لأغلبية الناس بالعقل ليس إلا الحساب، إذا ما يمكن إثباته لأغلبية الناس بالعقل ليس الحساب النفعي للمصلحة الشخصية" ومن ثم كان مجرد الدين الطبيعي" سيهبط بالأخلاق إلى مستوى لا يزيد على تجنب اكتشاف الذنوب.

ولكن اللاهوت كان مثاراً صغيراً للجدل في حجة روسو، أما همجيته الأمامية فكانت على اقتراح دلامبير بأن يصرح بإقامة مسرح في جنيف. هنا لم يكن العدوالخفي هودالامبير، بل فولتير. فولتير الذي حجب سناء شهريته نزيلاً بجنيف، فخر روسوبمواطنته الجنيفية، حجباً أثار حنقه، فولتير الذي جرؤ على تقديم التمثيليات في جنيف أوقربها، والذي حث لامبير بلا شك على حتى يضمن منطقاً في الموسوعة نداء بإنشاء مسرح جنيفي. فماذا،يا ترى؟ أتدخل في مدينة اشتهرت بأخلاقها البيورتانية ضرباً من اللهو. كان في جميع مكان تقريباً يمجد الفساد الخلقي،يا ترى؟ حتى الدرامات المحزنة تصور جريمة دائماً، وهي لا تظهر العواطف ما افترض أرسطو، بل تلهبها، ولاسيما عواطف الجنس والعنف. وأما التمثيليات الهزلية فنادراً ما تعرض الحب الزوجي النقي، وكثيراً ما تهزأ بالفضيلة، كما عمل حتى موليي في مسرحيته "مبغض البشر". وكل الناس عليمون بأن الممثلين يحيون حياة العربدة والفساد، وأن معظم ممثلات المسرح الفرنسي الفاتنات هن مضرب الأمثال في فوضى الجنس، وبؤر ومصادر الفساد في مجتمع يعبدهن. وربما كانت شرور المسرح هذه في المدن الكبيرة مثل باريس ولندن لا تؤثر إلا في شطر صغير من السكان، أما في مدينة صغيرة كجنيف (لا يسكنها أكثر من 14.000 نسمة) فإن سمومها تتغلغل في جميع الطبقات ، وتثير العروض أفكاراً مولعة بالجديد وحرباً بين الأحزاب(48).

وإلى هنا كان روسويردد الرأي البيورتاني أوالكلفني في المسرح، ويقول في فرنسا عام 1758 ما نطقه من قبل ستيفن جوسون في إنجلترا عام 1579، ووليم يرين عام 1632، وجريمي كوليار عام 1698. ولكن روسولم يقتصر على التنديد. فهولم يكن بيورتانياً؛ ومن ثم نادى إلى الرقص والمراقص تحت رعاية الدولة وإشرافها. ونطق إنه ينبغي حتى توفر مسببات الترفيه العامة ولكن من ونوع اجتماعي وصحي، كالرحلات الخلوية، والألعاب في الهواء الطلق، والمهرجانات، والاستعراضات (هنا أضاف روسووصفاً نابضاً بالحياة لسباق زائريق على بحيرة جنيف)(49).

ويقول لنا روسوحتى الحطاب "أصاب نجاحاً كبيراً" فقد بدأت باريس تمل حياة الفساد؛ ولم يعد هناك لذة في الانحرافات الخارجة على العهد التي أصبحت هي ذاتها عهداً. فلقد أتخمت المدينة برجال يسلكون مسلك النساء، ونساء يتحرقن شوقاً إلى حتى يكن كالرجال. لقد شبعت من الدراما الكلاسيكية وأشكالها الطنانة المتكلفة ورأت حقارة قواد مدام دبومبادور وجنودها أما جند فردريك الإسبارطيين. وكان الاستماع إلى فيلسوف يمجد الفضيلة تجربة منعشة وسيزداد تأثير "الخطاب" الأخلاقي حتى يشارك هووكتابات روسوالأخرى في إحداث عودة للياقة تكاد تكون ثورية في عهد لويس السادس عشر. ولم يكن في وسع الفلاسفة حتى يتسقطوا هذا. فالذي أحسوا به في إعلان روسوهوأنه عمل من أعمال الخيانة، لأنه هاجمهم في لحظة خطرهم الأكبر. ففي يناير 1759 حظرت الحكومة نهائياً نشر الموسوعة أوبيعها. وحين ندد روسوبأخلاق باريس رماه أخصائه القدامى بالنفاق. وقد تذكروا مطاردته لمدام دودتو، وحين ندد بالمسرح نوهوا بأنه خط "كان القرية" و"نارسيس" للمسرح، وأنه كان يختلف إلى المسرح. ورفض سان-لامبير برسالة جافية (10 أكتوبر 1768) نسخة "الخطاب" التي أوفدها إليه روسو:

"لا أستطيع قبول هديتك، ولعل لك عذراً-على غير ما أفهم-في الشكوى من ديدرو، ولكن هذا لا يعطيك حق إهانته علناً. فأنت لا تجهل طبيعة الاضطهاد التي يعانيها....ولست أملك يا سيدي إلى حتى أقول لك إذا هذا العمل الشائن الذي اقترفته صدمني كثيراً...كلانا يختلف في مبادئنا اختلافاً أشد من حتى يتيح لنا حتى ننسجم. فانسَ أنني موجود...وأني أعدك بأن أنسى شخصك، ولا أذكر عنك شيئاً إلا مواهبك"(50).

على حتى مدام ديينيه حين عادت من جنيف شكرت روسوعلى النسخة التي بعث بها إليها، ودعته للعشاء فمضى، والتقى بسان-لامبير ومدام دودتوآخر لقاء.

ووافاه من جنيف أكثر من عشرة خطابات ثناء. وحظر قضاة جنيف على فولتير عرض أي مسرحيات على أرض جنيف بعد حتى شجعهم موقف روسو. ونقل فولتير مواهبه المسرحية إلى تورنيه. وانتقل هوإلى فرنيه. وأحس بوجع الهزيمة، فاتهم روسوبأنه هارب مارق، وأسف على تردي قطيع "الفلاسفة" الصغير إلى هوة صراع يفنون فيه أنفسهم. وخط يقول "إن جان-جاك السيئ السمعة هويهوذا الجماعة"(51) ورد روسوبخطاب (29 يناير 1760) إلى الراعي الجنيفي بول مولتو:

"أتحدثني عن ذلك الرجل فولتير؛ لم يلوث اسم ذلك المهرج رسائلك،يا ترى؟ لقد دمر ذلك التعس وطني (جنيف). ولوكان احتقاري له أقل لكرهته أكثر. وأنا لا أرى في مواهبه العظيمة إلا شيئاً مخزياً يضاف إلى خزيه، ويحط من قدره بسبب الكيفية التي يسخر بها...إيه أيها المواطنون الجنيفيون، إنه يكلفكم غالياً جزاء إيوائكم له!"(52).

وأحزن روسوحتى يفهم حتى فولتير يخرج التمثيليات في تورنيه، وأن كثيراً من المواطنين الجنيفيين يعبرون الحدود إلى فرنسا ليشهدوا هذه الحفلات-لا بل ليشارك بعضهم فيها. ووجد استياؤه مبرراً آخر للحرب حين طبع خطابه الذي أوفده إلى فولتير عن زلزال لشبونة في مجلة برلين (1760)، لأن فولتير فيما يظهر أعار المخطوطة في غير مبالاة لأحد الأصدقاء. فأوفد روسوالآن (17 يونيو) إلى فولتير خطاباً من أحب الخطابات في رسائل هذا العصر الصاخب. نطق بعد حتى لام فولتير على نشر الخطاب دون إذنه:

"إنني لا أحبك يا سيدي. فلقد آذيتني حتى تلميذك المتحمس لك أبلغ الأذى. لقد دمرت جنيف جزاء على الملجأ الذي قدمت لك. ولقد نفرت مواطني من جراء المديح الذي مدحك به بينهم. وأنت الذي تجعل مقامي في وطني شيئاً لا أطيقه، أنت الذي ستضطرني للموت على أرض غريبة، محروماً من جميع تعزيات المحتضرين، ملقي على كوم من أكوام المهملات في ازدراء، بينما يحيط بك جميع ما يستطيع إنسان حتى يطعم فيه من مسببات التكريم في وطني. فأنا باختصار أكرهك، لأنك هكذا شئت، ولكن أكرهك بمشاعر إنسان ما زال في وسعه حتى يحبك لوكنت قد رغبت في حبي. ولم يبق من جميع المشاعر التي امتلأ بها قلبي نحوك سوى الإعجاب بعبقريتك الرائعة، وحب كتاباتك. وإذا كنت لا أكرم فيك غير مواهبك فليس الذنب ذنبي. ولن يوجد قصور أونقص أبداً في الاحترام الواجب لها، ولا في المسلك الذي يقتضيه ذلك الاحترام"(53).

ولم يجب فولتير، ولكنه كان يدعوروسوسراً "المشعوذ" و"المجنون"(54) و"النسانس الصغيرة" وقد كشف فر سائله لدالامبير عن نفس لا تقل حساسية وتأججاً عن نفس جان-جاك:

"وتلقيت رسالة طويلة من روسو. لقد جن جنوناً مطبقاً...فهويهاجم المسرح بعد حتى خط هونفسه تمثيلية هزيلة رديئة؛ هويهاجم فرنسا التي تطعمه؛ وهويجد خمسة أضلاع متعفنة أوستة من برميل ديوجين ويتسلقها لينبحنا؛ وهويتخلى عن أصدقائه. ويخط إلى-إلى!-أشد ما سود به متعصب الصحائف إهانة...ولولا أنه قزم حقير لا أهمية له، انتفخت أوداجه غروراً، لما كان في الأمر أذى يذكر؛ ولكنه أضاف إلى وقاحة خطابة وعار التآمر مع متنطعي السوسنيين هنا للحيلولة بيني وبين إقامة مسرح لي في تورنيه، أوعلى الأقل لمنع المواطنين من التمثيل فيه معي. وإذا كان قصده من هذه الحيلة الوضيعة حتى يعد لنفسه عودة ظافرة إلى الأزقة الحقيرة التي نشأ فيها، فذلك عمل وغد، ولن أصفح عنه ما حييت. ولوحتى أفلاطون لعب على لعبة من هذا النوع لانتقمت منه، فما بالك بتابع خانع لديوجين. إذا مؤلف "الويزا الجديدة" ليس إلا وغداً شريراً"(55).

في هذين الخطابين اللذين خطهما أشهر محررين في القرن الثامن عشر نستشف من وراء تيارات العصر التي يحسبها الناس غير شخصية، الأعصاب التي اشتد إحساسها بكل لطمة في الصراع، والغرور البشري المشهجر الذي تضطرب به أفئدة الفلاسفة والقديسين.


إلواز الجديدة

إن الكتاب الذي أخطأ فولتير في تسميته كان طوال ثلاث سنين ملاذا لروسومن أعدائه، وأصدقائه، والعالم. بدأه عام 1756 وفرغ منه في سبتمبر 1758، وأوفده إلى ناشر في هولندا، وظهر في فبراير 1761 باسم "جولي أوهلويز الجديدة، رسائل عاشقين جمعها ونشرها ج.ج روسو". وصياغة الرواية في شكل رسائل كانت عادة قديمة، ولكن لعل الذي نادى روسوإلى التصميم عليها هومحاكاته رواية رتشاردسن "كلاريسا".

والسيرة بعيد الاحتمال ولكنها نسيج وحدها. فجولي هي ابنة بارون ديتانج، وهي في السابعة عشرة أونحوها. وتدعوأمها الشاب الوسيم سام-بروليكون مفهمها الخاص. ويقع أبيلار الجديد هذا في غرام هلويز الجديدة، كما كان يمكن حتى تتسقطه أي أم في دنيا الواقع. ولا يلبث حتى يرسل إلى تلميذته رسائل حب حددت اللحن لقرن من القصص الرومانسي:

"إني لأرتعد حدثا تصافحت أيدينا، ولا أدري كيف من الممكن أن يحدث هذا، ولكنها تتصافح دوماً. وإني أجفل حالما أحس لمسة إصبعك، وتأخذني حمى أوقولي حمى مصحوبة بهذيان بهذه المتع؛ وتتخلى عني حواسي شيئاً فشيئاً، فإذا خرجت هكذا عن طوري فماذا أستطيع حتى أقول، أوأعمل، وأين أختبئ، وكيف أكون مسئولاً عن سلوكي؟"(56) ثم يقترح حتى يرحل ولكنه يكتفي بالكلام دون العمل:

"وداعاً إذن يا جولي المفرطة الفتنة...غداً سأكون رحلت إلى الأبد. ولكن ثقي حتى غرامي العنيف الطاهر بكي لن ينتهي إلا بانتهاء حياتي، وأن قلبي المفعم بهذا المخلوق الملائكي، لن يهبط بنفسه إلى إفساح مكان فيه لحب ثانِ، وأنه سيوزع جميع ولائه المستقبل بينك وبين العفة، وأنه لن يدنس لهيب آخر المذبح الذي عبدت عليه جولي(57).

وقد تبتسم جولي لهذا التعبد، ولكن فيها من الأنوثة ما يمنعها من إقصاء مثل هذا الكائن المبهج عن المديح. فتطلب إليه حتى يؤجل قراره. فالاتصال الكهربائي بين الذكر والأنثى قد احدث بها على أي حال اضطراباً مماثلاً، وسرعان ما تعترف بأنها هي أيضاً قد أحست باللدغة الغامضة: "منذ أول يوم التقينا فيه تشربت السم الذي يسري الآن في حواسي وعقلي، شعرت به فوراً وعيناك، وعواطفك، وحديثك، وقلمك المذنب-كلها تزيد جميع يوم أذاه(58)". ومع ذلك يتعهد بألا يطلب مطلباً أشد إثماً من قبلة "كوني عفيفة وإلا احتقرت، وسأكون جديراً بالاحترام وإلا عدت كما كنت، ذلك هوالأمل الوحيد الباقي لي، والذي يفضل الأمل في الموت". ويوافق سان-بروعلى حتى يجمع بين الهذيان والعفة، ولكنه يعتقد حتى هذا يحتاج معونة خارقة من السماء.

"أيتها القرى السماوية،...انفخي فيّ روحاً تطيق السعادة العظمى! أيها الحب الإلهي! يا روح وجودي، آواه، أسندي لأنني أوشكت على السقوط تحت وطأة الوجد!...آواه كيف من الممكن أن احتمل سيل السعادة المتدفق الذي يفيض به قلبي،يا ترى؟ كيف من الممكن أن أطرد هواجس عاشقة خائفة؟(59). إلى غير ذلك طوال 657 صفحة. فإذا بلغنا صفحة 91 قبلته. والحدثات تقصر عن وصف "حالي بعد ذلك بلحظة، حين شعرت-إذ ارتعشت يداي-برعدة رقيقة-وشفتاي المعطرتان-شفتا جولي حبيبتي-تضغطان شفتي، وأنا بين ذراعيها! وبأسرع من البرق انطلقت من كياني نار مباغتة(60). فإذا وصلنا الرسالة التاسعة والعشرين وجدنا أنه أغواها، أوأنها أغوته. ويهيم هوفي عوالم من النشوة، ولكنها تحسب جميع شيء قد ضاع. "إن لحظة غفلة واحدة قد أسلمتني إلى تعاسة أبدية. لقد سقطت في وهدة العار التي لا مخرج منها"(61).

وتموت أم جولي كمداً حين تفهم بأن بكارتها فضت. ويقسم البارون حتى يقتل سان-برو، فيخرج هذا في رحلة بحرية حول الأرض. وتتزوج جولي فولمار، وهوروسي كريم المولد. متقدم السن، تكفيراً عن ذنبها وطاعة لأبيها، ولكنها تظل تراسل سان-بروخفية، وتشعر نحوه بعاطفة أقوى من حبها الواجب عليها لزوجها. ويدهشها حتى تجد فولمار إنساناً طيباً، وفياً حريصاً على راحتها، منصفاً كريماً مع الجميع، وذلك رغم إلحاده.وفي رسالة خطتها لسان-بروتؤكد له حتى الرجل والمرأة قد يجدان الرضى في "زواج المصلحة" ولكنها لن تعهد السعادة الكاملة أبداً. فانحرافها قبل زقابلا يثقل ذاكرتها وأخيراً تعترف لزوجها بلحظة الإثم تلك. ويقول أنه فهم بها، وصمم على ألا يذكرها أبداً. ويخبرها أنه لم يكن إثماً قط. وتأكيداً لغفرانه لها يدعوسان-بور للحضور والإقامة مع الأسرة مفهماً خاصاً لطفلهما، ويحضر سان-بو؛ ويؤكد لنا المؤلف حتى الثلاثة يعيشون معاً في وفاق حتى يفرق بينهم الموت. ويغيب الزوج العجيب أياماً. وتخرج جولي وسان-بروللتجديف في بحيرة جنيف، ويعبران إلى سافوي، ويريها الصخور التي خط عليها اسمها في منفاه، ويبكي؛ وتمسك بيده المرتعشة، ولكنهم يعودان بريئين من الإثم في كلارنس في إقليم فو(62).

ويعجبان كيف من الممكن أن يمكن لفولمار حتىقد يكون بهذه الطبيعة دون إيمان ديتي. ويفسر سان-بروهذه الظاهرة الشاذة، وهوكجولي بروتستنتي متمسك بدينه:

"إن فولمار الذي أقام في أقطار كاثوليكية رومانسية لم يغره ما خبره من إيمان أهلها. بأن يرى في المسيحية رأياً أفضل. فقد رأى حتى ممضىه لا يتجه إلى لمصلحة كهنتهم، وهويتألف بجملته من حركات مثيرة للسخرية ورطانة بألفاظ لا معنى لها. ولاحظ حتى ذوي الفطرة السليمة والأمانة مجمعون على رأيه، وأنهم لا يتحرجون من الجهر برأيهم، لا بل حتى القساوسة أنفسهم في الخفاء كانوا يهزؤون سراً بما يفهمون ويثبتون في الأذهان علانية، ومن ثم فكثيراً ما أكد لنا أنه بعد حتى أنفق كثيراً من الوقت والجهد في البحث، لم يلتقِ قط بأكثر من ثلاث قساوسة يؤمنون بالله(63)". ويضيف روسوفي حاشية، معاذ الله حتى أوافق على هذه التأكيدات القاسية الطائشة! ومع ذلك يمضى فولمار بانتظام إلى الخدمات الدينية البروتستنتية مع جولي، بدافع من احترامه لها ولجيرانه. وترى جولي وسان-بروفيه "أغرب اللامعقول-إنساناً يفكر تفكير ملحد ويسلك مسلك مسيحي(64)".

وهولا يستحق اللطمة الأخيرة، ذلك حتى جولي تعهدت إلى فولمار وهي على وشك الموت بحمى أصابتها وهي تنقذ ابنها من الغرق-بخطاب غير مختوم يعلن لسان-بروأنه كان على الدوام حبها الوحيد. وفي وسعنا حتى نفهم دوام ذلك الحب الأول ولكن لن نجزي طول وفاء زوجها وثقته بها بمثل هذا الرفض القاسي وهي على فرش الموت،يا ترى؟ حتى هذا لا يكاد يتفق والنبل الذي أضفاه المؤلف على خلق جولي.

ومع ذاك فهي من أعظم اللوحات في القصص الحديث. وقد استلهمها روسومن محي ذكرياته الخاصة رغم حتى (كلاريسا) وتشاردسن أوحت بها في أغلب الظن، الفتاتان اللتان قادا جواديهما عبر النهير في آنسي، والذكريات التي احتفظ بها في إعزاز لمدام دفاران حين كانت تبسط عليه حمايتها في سنوات صباه، ثم لمدام دودتو، التي أشعرته بفيض الحب حين وقفت سداً أمام شهوته، وبالطبع ليست جولي واحدة من هاتين المرأتين، ولعلها ليست أي امرأة التقي بها روسوطيلة حياته، بل مثالاً مخلقاً من أحلامه. وقد أفسد الصورة إصرار روسوعلى جعل شخوصه كلها تقريباً تتحدث كروسو، فجولي تزيدها الأمومة عمقاً تغدوحكيمة من الحكماء، فتطيل الحديث في جميع شيء من التدبير المنزلي إلى الاتحاد الصوفي بالله. وهي تقول لابد حتى نفحص صحة هذه الحجة، ولكن أي امرأة جديرة بالحب نزلت يوماً ما إلى مثل هذه التفاهة.

أما سان-بروفهومن طبيعة الحال أشبه الشخوص بروسو، حساس لكل مفاتن النساء، تواق للركوع عند أقدامهن التي يحلم بها، ويسكب عبارات الولاء والحب البليغة التي رددها في وحدته. ويصفه روسوبأنه لا يفتأ يأتي عملاً مجنوناً ثم يحاول حتى يثوب إلى رشده(65). وسان-بروإنسان متزمت أشد التزمت بالقياس إلى لفليس الوغد السافر كما صوره وتشاردسن. وهوالآخر لابد حتى ينطق بلسان روسو، فهويصف باريس بأنها دوامة من الشرور-غنى فاحش، وفقر مدقع، وحكومة عاجزة، وهواء فاسد، وموسيقى رديئة، وأحاديث تافهة، وفلسفة باطلة، وانهيار تام تقريباً للدين، والفضيلة، والزواج، وهويردد منطق روسوالأول عن صلاح الإنسان الفطري وتأثيرات الحضارة المفسدة المحطة، ويهنئ جولي وفولمار على إثارهما حياة الريف الهادئة الصحية في كلارنس.

أما فولمار فأكثر الأشخاص أصالة في معرض روسو. فمن كان النموذج الذي حاكه المؤلف على غراره،يا ترى؟ لعله دولباخ، "الملحد اللطيف"، والبارون الفيلسوف، والمادي الفاضل، والزوج الوفي لزوجة واحد ومن بعدها لأختها. أولعله سان-لامبير، الذي صدم روسوبتبشيره بالإلحاد، ولكنه صفح عنه لمغازلته خليلته. ويعترف روسوصراحة باستخدامه النماذج الأصلية الحية والذكريات الشخصية:

"إن قلبي المفعم بما سقط لي، والذي لم يزل جياشاً بالكثير من الانفعالات العنيفة، أضاف الشعور بآلامه إلى الأفكار التي أوحى إلي بعها التأمل...وعلى غير وعي مني وصفت المواقف التي كنت فيها آنئذ، ورسمت صوراً لجريم، ومدام ديينيه، ومدام دودتو، وسان-لامبير، ولشخصي(66)".

وخلال لوحات الأشخاص هذه عرض روسوجوانب فلسفته كلها تقريباً. فأعطانا صورة مثالية للزواج السعيد، ولضيعة تدار بكفاية، وعدالة، ورحمة؛ ولأطفال بيربون ليكونوا مزيجاً مثالياً من الحريووالطاعة، ومن ضبط النفس والذكاء. واستبق الحجج التي سيوردها في كتابه "إميل":أن يوجه التعليم أولاً لتربية البدن ليكون سليماً، ثم لتربية الخلق ليعود النظام الصارم، وبعد ذلك فقط لتربية الذهن ليعود الجدل العقلي. تقول جولي "إن السبيل الوحيد لجعل الأطفال طيعين ليس سبيل الجدل العقلي معهم، بل إقناعهم بأن الجدل العقلي فوق سنهم(67). وينبغي ألا نلجأ إطلاقاً للجدل العقلي، أوألاقد يكون هناك أي تعليم عقلي، قبل سن البلوغ. وحرصت السيرة حرصاً شديداً على مناقشة الدين. فترى إيمان جولي يغدوالأداة لخلاصها، وقد ألهمها الاحتفال الديني الذي قدس زقابلا إحساساً بالتطهر والوفاء. ولكنه إيمان بروتستانتي خالص ذلك الذي يشيع في الكتاب. فسان-برويسخر مما يظهر له من نفاق القساوسة الكاثوليك في باريس؛ ويندد فولمار بعزوبة الكهنة لأنها قناع يخفي وراءه الفجور، ويضيف روسوبشخصه هذه العبارة: "إن فرض العزوبة على جماعة كبيرة مثل قساوسة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ليس لمنعهم من حتىقد يكون لهم زوجات، بقدر ما لأمرهم بأن يقنعوا بزوجات غيرهم من الرجال(68)". ويصرح روسوبهذه المناسبة بتأييده للتسامح الديني، ويبسطه حتى على الملحدين، "أن المؤمن الحقيقي لا يتعصب ولا يضطهد غيره. ولوكنت قاضياً؛ ولوقضى القانون بعقوبة الموت على الملحدين؛ لبدأت بحرق جميع مبلغ يشي بإنسان آخر، لأنه هونفسه ملحد(69)".

وكان للسيرة تأثير بالغ في تنبيه أوربا لمفاتن الطبيعة وروائعها. ففي فولتير؛ وديدرو، ودالامبير، لم تشجع حمى الفلسفة وحياة الحضر الإحساس المرهف بجلال الجبال وجمال ألوان السماء. أما روسوفقد تميز بولادته في أحضان أروع مناظر أوربا سقطاً في النفوس. وكان قد سار من جنيف متجولاً في سافوي عبر الألب إلى تورين، ومن تورين إلى فرنسا؛ واستمتع بمشاهد الريف وأصواته وعبيره؛ وأحس بكل شروق شمس كأنه فوز الإله على الشر والشك. وقد تصور توافقاً صوفياً بين حالات مزاجه والمزاج المتغير للأرض والهواء؛ وعانقت نشوة حبه جميع شجرة وزهرة، وكل ورقة عشب. وتسلق الألب إلى نصف ارتفاعها، ووجد نقاء في الهواء، خيل إليه أنه يطهر أفكاره ويجلوها. وقد وصف هذه التجارب بإحساس وحيوية جعلا من تسلق الجبال، ولا سيما في سويسرا، رياضة من أكبر رياضات أوربا.

ولم يحدث من قبل في الأدب الحديث حتى ظفر الوجدان، والعاطفة المشبوبة، والحب الرومانسي، بمثل هذا العرض والدفاع المستفيضين البليغين. فلقد أعرب روسو، في تمرده على عبادة العقل من بوالوإلى فولتير، مكانة الوجدان العليا وحقه في حتى يسمع في ترجمة الحياة وتقييم القصائد، وبرواية "هلويز الجديدة" أعربت الحركة الرومانسية تحديها للعصر الكلاسيكي. وقد سبقتها من طبيعة الحال لحظات رومانسية حتى في عز الكلاسيكية، مثال ذلك حتى أوتوريه دورفيه داعب الريفي في قصته "لاستريه" (1610-1627)، وأن الآنسة سكوديري أسهبت في وصف الغراميات في قصتها "أرطمين، أوقورش العظيم" (1649-1653)، كذلك زاوجت مدام دلا فييت في الحب والموت في قصتها "أمير كليف" (1678)، وأدخل راسين هذا الموضوع في مسرحيته "فيدر" (1677)، وهي قمة العصر الكلاسيكي، ونحن نذكر كيف من الممكن أن ورث روسوالروايات الغرامية القديمة عن أمه، وقرأها مع أبيه. أما جبال الألب فإن البرشت فون هاللر كان قد تغنى بجلالها (1729)، كذلك تغنى جيمس طومسن بجمال الفصول ورهبتها (1726-1730). ولابد حتى جان-جاك قرأ سيرة بريفوست "مانون لسكو" (1731)، وأحاط فهماً برواية رتشاردسن "كلاريسا" في ترجمة بريفوست (1747-1748) (لأنه كان يقرأ الإنجليزية بصعوبة). ومن سيرة الإغواء تلك إلى ألفي صفحة (ولم تكتمل بعد) اقتبس شكل الرسائل في الرواية لصلاحيته للتحليل النفسي، وكما دبر رتشاردسن لكلاريسا نجية تدعى الآنسة هاو، كذلك دبر روسولجولي نجية هي ابنة عمها كلير. ولاحظ روسوفي غيظ حتى ديدرونشر تقريظاً حماسياً لرتشاردسن (1761) عقب نشر جولي، فحجب بذلك سناء قصته جولي.

ولا تقل رواية جولي عن كلارسيا أصالة ومآخذ، وهي تسموعنها كثيراً في أسلوبها والروايتان غنيتان في شطحات الخيال مثقلتان بالمواعظ. ولكن فرنسا، التي تبرز العالم أسلوباً، لم ترَ قط اللغة الفرنسية تتخذ مثل هذا اللون، والحرارة، والنعومة، والإيقاع، فروسولم يكن مجرد مبشر بالوجدان، وإنما كان يملكه، فكل ما يمسه مشرب بالحساسية والعاطفة. وقد نبتسم لنشواته ولكننا نجد حتى ناره تدفئنا. وقد نكرر الخطب المقحمة ونمر بها مرور الكرام، ولكنا نمضي في القراءة، وبين الحين والحين تتجدد حياة السيرة بمشهد شعر بع المؤلف شعوراً حاداً. كان فولتير يفكر بالآراء ويخط بالأبجرامات، أما روسوفكان يبصر بالصور ويؤلف بالأحاسيس. ولم تكن عباراته ووقفاته بريئة من الصنعة، فقد اعترف بأنه كان يقلبها وهوفي فراشه حين تقصي النوم عن جفنيه عاطفة الفنان المشبوبة(70). يقول كانت "لابد من حتى أقرأ روسوإلى حتى يكف جمال عباراته عن فتنتي، وعندها فقط أستطيع حتى أفحصه في روية وتعقل(71)".

ولقيت جولي النجاح في أعين الجميع إلا الفلاسفة. فوصفها جريم بأنها تقليد هزيل لكلاريسا، وتنبأ بأن النسيان سيطويها سريعاً(72). ونطق فولتير وهويهدر غضباً (21 يناير 1761) لا تزدني حديثاً عن رواية جان-جاك من فضلك، فلدق قرأتها لشدة أسفي، ولشدة أسفه لوكان لدي من الوقت ما يتسع لإبداء رأيي في هذا الكتاب السخيف(73). وبعد شهر أفصح عن رأيه في كتابه "رسائل حول هلويز الجديدة" الذي نشر باسم مستعار. فنبه إلى الأخطاء اللغوية، ولم تبد منه أي إشارة تدل على تقديره لوصف روسوللطبيعة-وإن كان سيقلد جان-جاك بعد حين بتسلقه ربوة ليتعبد للشمس المشرقة. وتبينت باريس قلم فولتير، وحكمت بأن "الشيخ" عضته الغيرة بأنيابها.

وإذا ضربنا صفحاً عن هذه الوخزات، فأن روسوابتهج بالاستقبال الذي ليقه أول عمل مطول له. يقول ميشليه "لم يعهد في تاريخ الأدب كله نجاح عظيم كهذا(74)". وظهرت الطبعة تلوالطبعة، ولكن المطبوع كان أقل كثيراً من الطلب ووقف الجمهور في طوابير أمام المخطات لشراء الكتاب، وكان القراء الملهوفون يدفعون اثني عشر سواً في الساعة ليستعيروه، وقراء النهار يؤجرونه لغيرهم يقرؤونه في الليل(75). وروى روسوفي اغتباط حتى نبيلة طلبت مركبتها وقد تهيأت للذهاب إلى مرقص في الأوبرا، وشرعت تقرأ جولي خلال ذلك، وشوقتها السيرة تشويقاً أغراها بالمضي فيها حتى الرابعة صباحاً بينما الخادمة والجياد في انتظارها(76). وقد عزا فوزه إلى اللذة التي يجدها النساء في قراءة قصص الغرام، ولكن كان هناك أيضاً نساء مللن حياتهن خليلات، وتقن إلى حتى يكن زوجات، وأنقد يكون لأطفالهن آباء. وتلقى روسومئات الخطابات في نمورنسي يشكره فيها أصحابها على كتابه، وكثر عدد النساء اللائى عرضن عليه حبهن حتى انتهى به خياله إلى أنه "ما من امرأة في المجتمع الراقي لم أكن ألقى التوفيق في الاتصال بها لوحاولته(77)".

وكان من الطريف حتى يكشف إنسان عن سريرته كشفاً كاملاً كما عمل روسوخلال سان-برووجولي، وليس هناك أكثر طرافة وإمتاعاً من نفس إنسان تتجرد أمام الناظرين ولوتجريداً جزئياً أولا شعورياً. تقول مدام دستال "هنا مزقت جميع أقنعة القلب(78)". وبدأ الآن سلطان الأدب الذاتي، تلك السلسلة الطويلة الممتدة إلى زماننا، من إفشاءات الذات، من القلوب المحطمة في صفحات مطبوعة، من " النفوس الجميلة" التي تسبح في المأساة جهاراً نهاراً. وفشا بين الناس الإفصاح عن حرارة العاطفة، والإعراب عن الانفعال والشعور، لا في فرنسا وحدها بل في إنجلترا وألمانيا أيضاً. وبدأ يتلاشى الأسلوب الكلاسيكي، أسلوب ضبط النفس، والنظام، والعقل، والشكل، وأوشكت دولة "الفلاسفة" حتى تدول. لقد أصبح القرن الثامن عشر بعد عام 1760 ملكاً لروسو(79).


العودة لپاريس: الهروب

عجيب حتى يفلت من الرقيب كتاب يحوي ما حوى إميل من هجوم صريح على جميع شيء إلا أسس المسيحية، وأن يطبع في فرنسا. ولكن الرقيب كان مالزيرب المتسامح العطوف. وقبل حتى يأذن بالنشر حث روسوعلى حتى يحذف فقرات من المؤكد أنها تدفع الكنيسة إلى العداء النشيط. ولكن روسورفض. ولقد نجا زنادقة آخرون من الاضطهاد لأشخاصهم بالتخفي وراء أسماء مستعارة، أما روسوفقد ذكر أسمه بشجاعة على صفحات غلاف خطه.

وبينما ندد جماعة الفلاسفة بإميل باعتباره خيانة أخرى للفلسفة، أدانه أحبار فرنسا وقضاة باريس وجنيف باعتباره مروقاً من المسيحية. وأعد رئيس أساقفة باريس، عدوالجنسنين، للنشر في أغسطس 1762 رسالة قوية تهاجم الكتاب. وكان برلمان باريس المناصر للجنسنين مشغولاً بطرد اليسوعيين، ولكنه أراد رغم ذلك حتى يبدي غيرته على الكاثوليكية، وأتاح له ظهور إميل فرصة ليضرب ضربته دفاعاً عن الكنيسة. واقترح مجلس الدولة الذي كان يخوض حرباً مع البرلمان، ويكره حتىقد يكون دونه غيرة على سلامة العقيدة، حتى يلقي القبض على روسو. فلما نمى الخبر إلى أصدقاء روسومن النبلاء نصحوه بالرحيل فوراً من فرنسا. وفيثمانية يونيوبعثت إليه مدام دكريكي رسالة تشي بانفعالها. نطقت: لا ريب في حتى أمراً صدر بالقبض عليك. فاستحلفك بالله حتى تهرب...إن حرق كتابك لن يضيرك أما شخصك فلا يطيق السجن. فاستشر جيرانك(1).

أما الحيران فكانا مرشال ومرشالة لكسمبورج. وقد خشيا حتى يتورطا في الأمر لوقبض على روسو(2)، فحثاه هووأمير كونتي على الهروب إلى سويسرا، وأعطوه مبلغاً من المال وعربة لعبر بها الطريق الطويل من فرنسا إلى سويسرا. وأذعن روسوعلى مضض. وهجر تريز في رعاية المرشالة. وبرح مونمورني فيتسعة يونيو. في ذلك اليوم جاء مرسوم بالقبض عليه ولكنه نُفذ ببطء رحيم، لأن الكثيرين من رجال الحكومة سرهم حتى يهجروه يهرب. وفي ذلك اليوم ذاته نطق الأستاذ أومير جولي دفلوري لبرلمان باريس وهويلوح بنسخة من إميل:

"يبدوحتى هذا العمل ألف لهدف واحد هورد جميع شيء إلى الدين الطبيعي، وتطوير ذلك النظام الإجرامي في خطة المؤلف لتربية تلميذه..."

وأنه ينظر إلى جميع الأديان على أنها تستوي في الخير، وعلى أنها كلها منبعثة من مناخ الناس، وحكومتهم وطبعهم..وأنه بناء على هذا يجرؤ على هدم صحة الكتاب المقدس والنبؤات، ويقينية المعجزات الواردة في الأسفار المقدسة. وعصمة الوحي، وسلطان الكنيسة..وهويسخر من الدين المسيحي ويجدف عليه. ذلك الدين الذي هووحده من خلق لله.

ومؤلف هذا الكتاب الذي جرؤ على وضع أسمه عليه يجب القبض عليه بأسرع ما يمكن. ومن الأهمية لمكان، حتى تجعل العدالة-من المؤلف وأولئك الذين...شاركوا في طبع هذا الكتاب وتوزيعه-مثلاً وعبرة للناس بكل صرامة.

ومن ثم فقد أمر البرلمان:

بأن يمزق الكتاب المذكور ويحرق في فناء القصر (قصر العدالة) أسف السلم الكبير، بيد كبير الجلادين، وعلى جميع الذي يملكون نسخاً من الكتاب حتى يسلموها إلى المسجل لإبادتها، ومحظور على الناشرين طبع هذا الكتاب أوتوزيعه، وسيقبض على جميع بائعيه وموزعيه ويعاقبون طبقاً لنص القانون الصارم، ويجب القبض على ج-ج روسووزجه في سجن الكونسيرجري في قصر العدالة(3).

وفي 11 يونيومزق وحرق إميل كما نص الأمر، ولكن روسوكان قد وصل إلى سويسرا. أمرت الحوذي حتى يقف لحظة دخولي إقليم برن وخرجت من مركبتي، وخررت على وجهي، وقبلت الأرض وصحت في غمرة فرحي: "حمداً لك أيتها السماء، حامية الفضيلة، إنني ألمس أرضاً للحرية(4)".

ولم يكن مطمئناً جميع الاطمئنان. فواصل ركوبه إلى إيفردون، قرب الطرف الجنوبي لبحيرة نوشاتل، في مقاطعة برن، وهناك مكث شهراً مع صديقه القديم روجان. أيبحث عن منزل في جنيف،يا ترى؟ ولكن في 19 يونيوأدان مجلس الخمسة والعشرين الذي يحكم جنيف كلاً من "لإميل" والعقد الاجتماعي" لأنهما خارجان على التقوى، فاضحان، وقحان، مفعمان بالتجاديف والافتراءات على الدين. وقد جمع المؤلف تحت ستار الشك جميع ما من شأنه حتى يضعف المقومات الرئيسية للدين المسيحي المنزل، ويهزها ويهدمها...ويتعاظم خطر الكتابين ووجوب شجبهما لأنهما مكتوبان بالفرنسية (لا باللاتينية التي لا تعهدها غير القلة) بأسلوب شديد الإغراء، منشوران باس مواطن جنيفي(5).

وعليه فقد أمر المجلس بحرق الكتابين، وحرم بيعهما، وأصدر مرسوماً بالقبض على روسوإذا ولج يوماً ما أرض الجمهورية. ولم يتعرض قساوسة جنيف على هذا التبرؤ من أشهر أبناء جنيف الأحياء. ولا ريب في أنهم شعروا بأن أي عطف يبدونه لمؤلف "إعلان بإيمان كاهن سافوى"، سيؤكد ما كشفه دالامبير عما يبطنونه من ميول للتوحيد، وانقلب عليه يعقوب فيرن الذي ظل صديقاً له سنين كثيرة، وطالب بأن يسحب روسوأقواله. يقول روسووهويذكر ذلك الموقف "لوسرت بين الجماهير أي شائعة عني لأضرت بي، وقد عاملني جميع مروجي الإشاعات والمتفيقهين كأنني تلميذ مهدد بالجلد لأنه لم يحسن حفظ درسه الديني(6)".

وتأثر فلوتير من موقف غريمه، فلقد قرأ إميل، وتعليقاته ما زالت ترى على نسخته المحفوظة بمخطة جنيف. وفي خطاب مؤرخ 15 يونيوخط عن الكتاب "إنه خليط تهرف به سقمعة بلهاء في أربعة مجلدات بها أربعون صفحة ضد المسيحية من أجرأ ما عهدنا...وهويقول في الفلاسفة من الأمور المؤذية قدر ما يقوله في المسيح، ولكن الفلاسفة سيكونون أكثر تسامحاً من القساوسة(7). على أية حال أعجبه "إعلان الإيمان" فنطق عنه خمسون صفحة كاملة، ولكنه أضاف "من المؤسف حتىقد يكون محررها...وغداً كهذا(8). وخط إلى مدام دودفان سأحب مؤلف كاهن سافوي، مهما عمل ومهما يعمل(9)..ولما سمع حتى جاك طريد لا مأوى له صاح "فليأتِ إلى هنا (إلى قريته)..يجب حتى يأتي. سأستقبله بذراعين مفتوحتين. سيكون هنا سيداً أكثر مني. سأعامله كأنه أبني(10)". وبعث بدعوته إلى خمسة عناوين مختلفة, ولابد أنها وصلت إلى أحدها، لأن روسوأعرب فيما بعد عن أسفه لأنه لم يرد عليها(11). وفي 1763 جدد فولتير الدعوة، فرفضها روسو، واتهم فولتير بأنه حرض مجلس الخمسة والعشرين على إدانة "العقد الاجتماعي" و"إميل"..ولكن فولتير أنكر التهمة، وبحق فيما يبدو.

وفي بواكير يوليو1762 أخطر مجلس الشيوخ برن روسوبأنه لا يستطيع السماح بوجوده في إقليم برن، وأن عليه حتى يرحل عنه في بحر خمسة عشر يوماً وإلا قابل السجن. وتلقى خلال ذلك خطاباً رقيقاً من دالامبير ينصحه بأن يحاول الإقامة في إمارة نوشاتل، وكانت تقع في قضاء فردريك الأكبر، ويحكمها إيرل ماريشال جورج كيث، الذي نطق عنه دالامبير إنه سيستقبلك ويعاملك كما كان الآباء في العهد القديم يستقبلون ويعاملون الفضيلة المضطهدة(12). وتردد روسو، لأنه كان قد انتقد فردريك زاعماً أنه طاغية في ثياب فيلسوف(13). ومع ذلك قبل فيعشرة يوليو1762 دعوة ابنة أخي روجان مدام دلاتور، بأن ينزل بيتاً تملكه. موتييه-ترافير، على خمسة عشر ميلاً جنوب شرقي مدينة نوشايل في بقعة سيصفها بوزويل بأنها وادٍ بري بديع تحيط به الجبال الشاهقة(14). وحوالي 11 يوليوتقدم جان-جاك بالتماس إلى الحاكم، وبما تميز به من تواضع وإباء. خط إلى: (ملك بروسيا).

"لقد قلت فيك الكثير من السوء، وأغلب الظن أني قائل فيك المزيد منه؛ ولكنني أنا مطارد من فرنسا ومن جنيف، ومن مقاطعة برن، جئت ألتمس ملجأ وفي ولايتك...سيدي، لم أستحق منك فضلاً، ولا أطلب فضلاً، ولكنني أحسست بأن من واجبي حتى أصرح لجلالتك بأنني في قبضتك، وأنني شئت حتى أكون كذلك، ولجلالتك حتى تتصرف معي كما تشاء".

وخط فردريك إلى كيث في تاريخ غير مؤكد، وهولم يفرغ بعد من حرب السنين السبع: "يجب حتى ننقذ هذا الشقي المسكين. فذنبه الوحيد حتى له آراء غريبة يحسبها سديدة، سأوفد إليك مائة كروان، فتفضل بإعطائه منها ما يحتاج إليه. وأظنه سيقبلها عيناً بأسهل مما يقبلها نقداً، ولولا أننا نخوض حرباً، ولولا أننا أفلسنا، لبنيت له كوخاً بحديقة حيث يستطيع العيش كما عاش في ظني آباؤنا الأولون....أظن حتى روسوالمسكين قد أختار المهنة الخطأ، فواضح أنه ولد ليكون ناسكاً مشهوراً،وأباً من آباء البرية يشتهر بنسكه وجلده لجسده. ختاماً أقول حتى نقاء أخلاقيات صاحبك المتوحسن يعدل عدم منطقية عقله(15)".

أما المريشال، الذي يقول روسوإنه قديس بخيل، عجوز، شارد الذهن، فقد أوفد إليه الزاد والفحم والخشب، وأقترح حتى يبني له بيتاً صغيراً. وفسر جان-جاك هذا العرض بأنه آتٍ من فردريك، فرفضه، "ولكن منذ تلك اللحظة تعلقت به تعلقاً صادقاً حتى أصبحت أهتم الآن بمجده قدر ما كنت أرى فوزاته إلى ذلك الحين ظالمة(16). وفي أول نوفمبر، والحرب قاب قوسين من نهايتها، خط إلى فردريك يصف مهام السلم: "مولاي:

أنت حامي وولي نعمتي، وأن لي لقلباً خلق ليعهد الجميل، وأريد حتى أبرئ نفسي معك إذا استطعت. ترغب حتى تعطيني الخبز، أفليس بين رعاياك من يعوزه الخبز،يا ترى؟ أبعد عن عيني ذلك السيف الذي يومض ويجرحني...أن سيرة الملوك الذين أوتوا همتك عظيمة، وأنت لا تزال بعيداً عن ساعة منيتك، ولكن الوقت كالسيف، وليس أمامك لحظة واحدة تضيعها. أوتستطيع حتى تعتزم الموت دون حتى تكون أعظم الرجال قاطبة.

ولوأتيح لي يوماً حتى أرى فردريك العادل المرهوب يملأ بلاده في نهاية المطاف بشعب سعيد سيكون أباً له، إذن لمضى جان-جاك روسوعدوالملوك، ليموت فرحاً في أسفل عرشه(17)".

ولم يرد فردريك رداً وصل إلينا فهمه، ولكن حين مضى كيث إلى برلين أبلغه الملك بأنه تلقى توبيخاً من روسو(18).

وحين خيل لجان-جاك أنه ضمن بيتاً يقيم فيه، أوفد إلى تريز لتلحق به. ولم يكن واثقاً من أنها ستأتي، لأنه أحس قبل ذلك بزمن طويل بفتور محبتها له، وعزا هذا إلى توقفه عن الاتصال الجنسي بها، لأن "الاتصال بالنساء كان يؤذي صحتي(19)". فلعلها الآن تؤثر باريس على سويسرا. ولكنها حضرت. وكان لقاء ذرفا فيه الدموع وتطلعا أخيراً إلى بضع سنين ينعمان فيها بالسلام.


روسوورئيس الأساقفة

ولكن السنوات الأربع التالية كانت أشقى ما لقيا. ذلك حتى قساوسة نوشاتل الكلفنين أدانوا روسوعلانية بالهرطقة، وحظر القضاة بيع "إميل". واستأذن روسوراعي الكنيسة في موتيه في حتى ينضم إلى شعب كنيسته، من الممكن ليهدئ ثائرة القساوسة، أومدفوعاً برغبة صادقة في أتباع مبادئ كاهن سافوي، (أما تريز فظلت كاثوليكية)، فقبل واختلف إلى الكنيسة للصلاة، وتناول القربان "بعاطفة من القلب، وعيناي تملؤها دمع الحنان(20)". ومنح الساخرين منه سلاحاً باتخاذ الزي الأرمني-قلنسوة من فراء، وقفطان، وحزام. وأتاح له الروب الطويل حتى يستر آثار حصر البول الذي ابتلي به. وكان يختلف إلى الكنيسة في هذا الزي، وارتداه وهويزور اللورد كيث، الذي لم يعلق عليه إلا بتحيته بعبارة (السلام عليكم). وواصل الإضافة إلى دخله بنسخ الموسيقى، ثم أضاف أليها الآن أشغال الإبرة، وتفهم صناعة الدنتلا. كنت أحمل كالنساء مخدتي في زياراتي، أوأجلس لأشتغل بالإبرة عند باب بيتي.. وأتاح لي هذا حتى أنفق وقتي مع جاراتي دون حتى أحي مللاً..(21).

وأغلب الظن حتى الناشرين أقنعوه في هذه الفترة (أواخر 1762) بأن يبدأ كتابه "اعترافات" وكان قد أقسم حتى يعتزل التأليف، ولكن هذا لنقد يكون تأليفاً بقدر ما دفاع عن خلقه وسلوكه ضد عالم من الخصوم، لا سيما ضد تهم جماعة الفلاسفة وشائعات الصالونات. أضف إلى ذلك أنه كان مضطراً إلى الرد على عدد كبير من مختلف الرسائل. وقدم له النساء على الأخص بخوراً معزباً من إعجابهم الشديد، لا لتعاطفهن فحسب مع المؤلف المطارد لرواية مشهورة، بل لأن نفوسهن كانت تهفوللرجوع إلى الدين، ولم يرين في "كاهن سافوي" وصانعه عدواً حقيقياً للدين، بل المدافع الشجاع ضد إلحاد يشيع الكآبة في النفوس. لمثل هؤلاء النساء ولرجال عديدين، غدا أب الاعتراف، ومرشداً للنفوس الضمائر. وقد نصحهم بأن يقيموا على دين شبابه أويعودوا إليه، ضاربين صفحاً عن جميع الصعوبات التي يوحي بها الفهم الفلسفة. فتلك العجائب البعيدة التصديق ليست هي الجوهر، ولا ضير في تنحيتها في صمت، إنما العبرة بالإيمان بالله وبالخلود، فبهذا الأيمان والراتى ستطيع الإنسان حتى يتسامى فوق جميع كوارث الطبيعة التي لا تفهم، وكل آلام الحياة وأحزانها. وطلب كاثوليكي شاب متمرد على دينه تعاطف روسو، فأجابه روسوناسياً تمرداته ألا يهتم كثيراً بالتوافه العارضة. "لوأنني ولدت كاثوليكياً لظللت كاثوليكياً، فهماً بأن كنيستك تضع قيداً سليماً على شطحات العقل الذي لا يجد قراراً ولا شاطئاً حين يريد سبر أعماق الأمور السحيقة(22)". وأشار على جل طلاب الحكمة هؤلاء بالهروب من المدينة إلى الريف، ومن التكلف والتعقد إلى البساطة الطبيعية للحياة، والرضا الهادئ بالزواج والأبوة.

وأحبت النساء اللاتي صدمهن القساوسة المتعلقون بالحياة الدنيا ورؤساء الدين المتشككون، هذا المهرطق الزاهد الذي ندد به جميع الكنائس، وإن اقتصر هذا الحب على الرسائل. فنطقت مدام دبلو، النبيلة المحترمة، لجماعة من النبلاء والنبيلات، "ما من شيء يمنع امرأة ذات حس مرهف صادق من تكريس حياتها لروسوإلا أسمى ضروب العفة، لوكانت واثقة من أنه سيحبها حباً حاراً(32). وحسبت مدام دلاتور بعض ما اتى في خطاباته لها من مجاملات اعترافاً بالحب، فاستجابت في رقة وحرارة وتدفق وبعثت إليه بصورتها، مؤكدة أنها لا تنصفها. وابتأست حين أجاب بهدوء رجل لم يرها قط(24). إلا حتى معجبات أخريات تمنين لوقبلن الأرض التي يمشي عليها، وأقامت بعضهن مذابح له في قلوبهن، ونادىه بعضهن المسيح المولود من جديد. وكان يصدقهن أحياناً، ورأى في نفسه المؤسس المطلوب لدين جديد(25). وسط هذا التمجيد كله، أثار الشعب عليه كاهن أعلى من كهنة التمويل (الهيكل)-كأنما لتأكيد القياس-ليدينوه ثائراً خطراً. ففي 20 أغسطس 1762 أصدر كرستوف دبومون، رئيس أساقفة باريس، رسالة لجميع الكهنة في أسقفيته ليقرئوا على شعبهم، ويعلنوا على الملأ، اتهامه لإميل ذات التسع والعشرين صفحة. وكان رجلاً صارم العقيدة طاهر السمعة، حارب الجانسنيين والموسوعية والفلاسفة؛ وبدا له الآن حتى روسو، بعدما ظهر من انفصاله عن الملحدين، صد أنظم إليهم في مهاجمة الإيمان الذي يرتكز عليه في رأي رئيس الأساقفة نظام فرنسا الاجتماعي كله وحياتها الأخلاقية بأسرها.

واستهل اتهامه بالاستشهاد لما اتى في رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس:

"ستأتي أزمنة صعبة لأن الناسقد يكونون محبين لأنفسهم..متعظمين، مستكبرين، مجدفين..غير طائعين لوالديهم متصلفين، محبين للذات، دون محبة الله...أناس فاسدة أذهانهم ومن وجهة الإيمان مرفوضون(26)". وهاهي قد اتىت تلك الأزمنة ما في ذلك شك:

"إن الكفر الذي تشجعه جميع الشهوات يلبس جميع لبوس ليكيف نفسه على نحوما وفق جميع الأعمار، والأشخاص والطبقات...فقد يستعير أسلوباً خفيفاً لطيفاً لعوباً، ومن هنا الحكايات الكثيرة التي تستوي بذاءة وزندقة (روايات فولتير)، وترفه عن الخيال لأنها غواية للعقل ومفسدة للقلب. وقد يدعي الرجوع إلى الأصول الأولى للفهم متظاهراً بعمق آرائه وسموها، ويزعم له سنداً إليها، لكي يخلع نيراً يقولون إنه يجلل البشر بالعار. وقد يعلوا صوته كأنه امرأة غضبى فيهاجم الغيرة الدينية، ومع ذلك يبشر بالتسامح الكامل بحماسة. وقد يمزج الجد بالهزل في جمعه بين هذه الأساليب الكلامية المتنوعة، ويخلط الحكم بالفحش، والحقائق الكبيرة بالأخطاء الكبيرة، والإيمان بالتجديف، ويأخذ على عاتقه-باختصار-التوفيق بين النور والظلمة، وبين المسيح وبليعال"(27).

ونطق رئيس الأساقفة حتى هذه الطريقة لجأ إليها إميل بصفة خاصة، فهوكتاب حفل بلغة الفلسفة دون حتىقد يكون فلسفة حقاً، وطفح بنتف من الفهم لم تثر المؤلف، وكل ما تعمله أنها تربك قراءه لا محالة. أنه رجلٌ مولع بمفارقات الآراء والسلوك، يجمع بين بساطة العادات وخيلاء الفكر، بين الحكم القديمة وجنون التجديد؛ وبين احتجاب عزلته ورغبته في حتى تعهده الدنيا بأسرها. إنه يندد بالعلوم، ثم يصادقها. إنه يمتدح روعة الإنجيل، ثم يدمر تعاليمه. لقد أقام نفسه مفهماً للنوع الإنساني ليخدعه، ومرشداً للشعب ليضل العالم، ونبياً للقرن ليهدمه، فيالها من مغامرة(28).

وهال رئيس الأساقفة ما أقترحه روسومن إغفال ذكر الله أويدين لإميل حتى يبلغ الثانية عشرة أوحتى الثانية عشرة، فمعنى هذا حتى "الطبيعة كلها تكون قد تحدثت عبثاً بعظمة الخالق..وأن جميع تعليم خلقي سيفقد مساندة الإيمان الديني. ولكن الإنسان ليس بطبيعته خيراً كما زعم المؤلف. فهويولد ملوثاُ بالخطيئة الأصلية، وهويشارك في إفساد البشرية العام. والمفهم الحكيم-وخير المفهمين كاهن ترشده النعمة الإلهية-يتوسل بكل وسيلة سليمة ليغذي دوافع الخير في الناس، ويقتلع دوافع الشر، ومن ثم فهويطعم الطفل بلبن الدين الروحي، لكي ينمونحوالخلاص..وبهذا التعليم وحده يمكن حتى يغدوالطفل عابداً مخلصاً للإله الحق ، وواحداً من رعايا الملك الأوفياء(29). وأن الكثير من الخطايا والجرائم ليظل باقياً حتى بعد هذا التعليم المجتهد، فما بالك بها إذا حرم الطفل منه. إذا سيلاً عارماً من الشر يغرق في هذه الحالة(30)".

ونطق رئيس الأساقفة في ختام كلامه إنه لهذه الأسباب:

"بعد استشارة عدة أشخاص عهدوا بورعهم وحكمتهم، وبعد التضرع لاسم الله القدوس، ندين هذا الكتاب لأنه يحوي تعليماً بغيضاً من شأنه حتى يقلب القانون الطبيعي وأسس الدين المسيحي، وأن يرسي مبادئ تناقض تعليم الأناجيل الخلقي، وينحوا إلى تكدير سلام الدول. وتزعم الثورة على سلطان الملك، ولأنه يتضمن الكثير جداً من النادىوى الباطلة المفترية المفعمة بالحقد على الكنيسة ورعاتها..لذلك نحظر صراحة على جميع الأشخاص في أسقفيتنا حتى يقرؤوا الكتاب المذكور أويقتنوه، وإلا سقطوا تحت طائلة العقاب(31)".

وطبع هذه الرسالة "بامتياز الملك" وسرعان ما وصلت إلى موتيه-ترافير. وقرر روسوحتى يرد عليها، وهوالذي كان على الدوام مصمماً على الكف عن الكتابة. وقبل حتى يضع قلمه (18 نوفمبر 1762) كان قد أطلق له العنان حتى بلغ الرد 128 صفحة، وطبع بأمستردام في مارس 1763، بهذا العنوان: "من جان-جاك روسوالمواطن الجنيفي إلى كرستوف ديمومون رئيس أساقفة باريس". وسرعان ما أدانه برلمان باريس ومجمع جنيف. ورد روسوعلى الهجوم الذي شنه عليه مذهلا أوربا الكبيران بالهجوم عليهما جميعاً. وراح الرومانسي الخجول الذي نبذ من قبل جماعة الفلاسفة يكرر الآن حججهم بجرأة مستهترة.

وأستهل رده بسؤال ما زال يسأله جميع الخصوم بعضهم لبعض في هذا الجدل الذي لا ينتهي. "لم يتحتم عليّ حتى أقول أي شيء لك يا صاحب النيافة،يا ترى؟ وأي لغة مشهجرة يمكننا حتى نتحدث بها، وكيف نستطيع حتى يفهم الواحد منا الآخر(32)،يا ترى؟ وأبدى أسفه لأنه ألف كتاباً على الإطلاق، وهولم يفل إلا حين بلغ الثامنة والثلاثين، وقد جره إلى هذه الغلطة أنه لاحظ مصادفة ذلك "السؤال التعس" الذي وجهته أكاديمية ديجون، ودفعه نقاد الموضوع إلى الرد عليهم، ثم أفضى جميع جدل إلى جدل جديد...فألفيتني، إذا جاز التعبير أغدومؤلفاً في سن يهجر فيها المؤلفون التأليف عادة..ومنذ ذلك الحين إلى اليوم اختفت الراحة والأصدقاء(33)". وزعم أنه في حياته كلها كان:

"أكثر حماسة مني استفادة..ولكني كنت مخلصاً في جميع شيء..بسيطاً طيعاً، وإن كنت مرهف الحس ضعيفاً أعمل الشر كثيراً وأحب الخير دائماً..أتبع عواطفي أكثر من مصالحي..أخشى الله دون حتى أخشى الجحيم..أجادل في الدين ولكن دون إباحة. لا أحب الكفر ولا التعصب، ولكن أمقت المتعصبين أكثر مما أمقت الملحدين..وأعترف بأخطائي لأصدقائي وأعرب آرائي للعالم كله(34)".

وأحزنته إدانة الكاثوليك لإميل أقل مما أحزن إدانة الكلفنين. فهوالذي كان يعتز بلقبه "مواطناً جنيفياً" هرب من فرنسا أملاً في حتى يتنفس في مسقط رأسه نسيم الحرية، وأن يجد من الترحيب ما يعزيه عما لقي من إذلال كثير. أما الآن "فمادا أقول،يا ترى؟ إذا قلبي ينفلق؛ ويدي ترتعد، والقلم يسقط منها، وعليّ حتى أصمت..ويجب حتى أجتر في الخفاء أشد أحزاني مرارة(35). فها هوالرجل الذي اجترأ في قرن اشتهر بالفلسفة، والعقل والإنسانية، على حتى يدافع عن قضية الله، هاهوقد وسم؛ وحرم وطورد من بلد إلى بلد، ومن ملجأ إلى ملجأ، دون اكتراث لفقره، ولا رحمة لأمراضه" ثم عثر ملاذاً آخر الأمر عند "ملك مستنير ذائع الصيت" وانزوى في قرية صغيرة رابضة بين جبال سويسرا، ظاناً أنه في النهاية، واجد العزلة والهدوء، ولكن طاردته حتى هناك لعنات الكهنة..أن رئيس الأساقفة هذا "الرجل الفاضل، النبيل النفس، الكريم المحتد"، كان ينبغي حتى يوبخ هؤلاء المضطهدين، ولكنه بدلاً من هذا أصدر الأذن في غير خجل، "وهوالذي كان يجب حتى يدافع عن قضية المظلومين(36).."

وأحس روسوحتى أشد ما ساء رئيس الأساقفة هوتعليم روسوحتى الناس يولدون أخيار، أوغير أشرار على الأقل، وقد استوعب بومون أنه لوكان هذا حقاً، ولولم يكن الإنسان ملوثاً منذ مولده بوراثته خطيئة آدم وحواء، لسقط التعليم بكفارة المسيح، وهذا لتعليم لب العقيدة المسيحية. ورد روسوبأن تعليم الخطيئة الأصلية لم يذكر بوضوح في أي مكان من الكتاب المقدس. وقد استوعب حتى رئيس الأساقفة قد صدمه الاقتراح بتحايل تعليم الدين، فرد بأن تربية الأطفال على أيدي الراهبات والقساوسة لم تقلل من الخطيئة أوالجريمة، فهؤلاء الأطفال بعد حتى يكبروا يفقدون خوفهم من الجحيم، ويؤثرون لذة صغيرة حاضرة على الجنة التي وعدوا بها. ثم ما بال هؤلاء القساوسة أنفسهم-أتراهم نماذج للفضيلة في فرنسا المعاصرة(37)،يا ترى؟ ومع ذلك "فأنا مسيحي، مسيحي بإخلاص، طبقاً لتعليم الإنجيل، لا مسيحي متلمذ للقساوسة، بل تلميذ للمسيح". ثم أضاف روسووعينيه على جنيف "إنني في سعادة بالولادة في أقدس وأعقل دين في الأرض، ما زلت متعلقاً تعلقاً لا انفصام فيه بأيمان آبائي. وأنا مثلهم أتخذ من الأسفار المقدسة والعقل القواعد الوحيدة بأيماني(38)..." وأحس بلوم من أبلغوه بأنه "مع حتى جميع أصحاب العقول الذكية يفكرون كما تفكر، فأنه ليس من الخير حتى يفكر العوام على هذا النحو".

"ذلك ما يتصايحون به عليّ من جميع جانب، ولعله ما كنت نفسكَ قائله لي لوكنا وحيدين في مخطك. هكذا الناس، فهم يغيرون لغتهم مع ملابسهم، ولا يقولون الحق إلا وهم في أروابهم، أما في ثيابهم التي يبدون فيها أمام الناس فلا يعهدون إلا حتى يكذبوا. وهم ليسوا مخادعين غشاشين أمام وجوه البشر فحسب، بل إنهم لا يخجلون من حتى يعقبوا جميع من يأبون حتىقد يكونوا غشاشين كذابين علانية مثلهم، مخالفين في ذلك ضمائرهم(39)".

وهذا الخلاف بين ما نؤمن به وما نبشر به هوسر الفساد في الحضارة العصرية. حتى هناك تحيزات ينبغي حتى نحترمها على ألا تحيل التربية إلى خداع هائل وتقوض الأساس الخلقي للمجتمع(40). فإذا أصبحت هذه التحيزات قتالة فهل نسكت على جرائمها؟

"لست أقول، ولا أرى، حتى الدين الحسن لا وجود له...ولكن الذي أقول له....أنه ما من دين من الأديان التي سادت لم يثخن الإنسانية بالجراح. وكل المذاهب عذب بعضها بعضاً وكلها قدم لله قربان الدم البشري. وأياً كان مبعث هذه التناقضات فهي قائمة، فهل من الإجرام الرغبة غب إزالتها(41)؟".

وقبيل ختام رده دافع روسوعن إميل دفاع المحب المتيم بكتابه، وتسائل لم لم يقم لمؤلفه تمثال. "هبني ارتكبت بعض الأخطاء، لا بل كنت دائماً مخطئاً، أفلا شفاعة لكتاب يشعر المرء في جميع جزء فيه-حتى في أغلاطه وحتى في الضرر الذي قد يحدث فيه-بالحب الصادق للخير وبالغيرة على الحق؟..كتاب لا يشع غير السلام، واللطف، والصبر، وحب النظام، وطاعة القوانين في جميع شيء، حتى في أمر الدين. كتاب تؤكد فيه قضية الدين تأكيداً رائعاً، وتحترم فيه مكارم الأخلاق احتراماً كبيراً....ويصور الشر فيه على أنه حماقة، والفضيلة على أنها شيء محبب للنفوس...أجل، إنني لا أخشى حتى أقولها..فلوحتى في أوربا حكومة وحدة مستنيرة حقاً .. لخلعت على مؤلف إميل مسببات التشريف العلنية، ولأقامت له تمثالاً...ولكن خبرتي الكبير بالبشر تمنعني من حتى أتسقط تقديراً كهذا وأنا لم أعهده فهم تكفي لأن أتسقط ذلك الذي أتوه".

ولكنهم أقاموا له التماثيل.


روسووالكلفنيون

لم يبتهج بخطاب روسوالذي وجهه إلى كرستوف بومون غير بعض أحرار الفكر في فرنسا وبعض المتمردين السياسيين في سويسرا. واتىت من البروتستنت معظم الردود "المفندة" لنادىوى روسووالموجه إلى المؤلف. ورأى قساوسة جنيف الكلفنيون في الخطاب هجوماً على المعجزات وتنزيل الكتاب المقدس، والإغضاء عن هذه الهرطقات معناه التمهيد من حديث للخطر الذي عرضهم له دالامبير. وغضب روسومن إحجام الأحرار الجنيفيين عن الجهر بالدفاع عنه، فأوفد (12 مايو1763) إلى مجلس جنيف الكبير يتخلى عن مواطنته. وقد حضي عمله هذا ببعض التأييد المسموع في 18 يونيوحمل وفد إلى الرئيس الأول للجمهورية "احتجاجاً غاية في التواضع والاحترام من مواطني جنيف وسكان مدنها" شكا فيما شكا من مظالم، من حتى الحكم الصادر على روسوغير قانوني، وأن مصادرة نسخ إميل من مخطات جنيف كانت عدواناً على حقوق الملكية. ورفض مجلس الخمسة والعشرين الاحتجاج وفي سبتمبر أصدر المدعي العام، جان روبير ترونشان (أبن عم طبيب فولتير)، خطابات مكتوبة من الريف "للدفاع عن إجراءات المجلس المختلف عليها. وناشد "المحتجون" روسوالرد على ترونشاني. وإذ لم يكن بروسوأي نية في البعد عن الشر، فقد نشر (ديسمبر 1764) تسعة "خطابات مكتوبة من الجيل"-وهي رد من بيته الجبلي على أوليجاركية السهل الجنيفي. وكان ساخطاً أشد السخط على القساوسة والمجلس جميعاً، فهاجم الكلفنية كما هاجم الكاثوليكية، وأحرق بذلك معظم جسور من خلفه.

وقد وجه الخطابات من الناحية الشكلية لزعيم المحتجين. واستهلها بتناول الأذى الذي لحق به من جراء الإدانة المتعجلة لخطه وشخصه، دون حتى تتاح له أي فرصة للدفاع. واعترف بعيوب خطه. "لقد وجدت أنا نفسي الأخطاء الكثيرة فيها. ولست أشك في حتى غيري قد يرون فيها أخطاء أكثر وأنه ما زالت هناك أخطاء أخرى لم أدركها لا أنا ولا غيري...فبعد الاستماع إلى الطرفين سيحكم الجمهور..وسينجح الكتاب أويسقط وتنتهي القضية عند هذا(43). ولكن أكان الكتاب مؤذياً،يا ترى؟ أيمكن حتى يقرأ إنسان "هلويز الجديدة" "وإعلان إيمان كاهن سافوي" ثم يعتقد حقاً حتى مؤلفها قصد هدم الدين،يا ترى؟ سليم حتى الكتابين حاولا تدمير الخرافة لأنه شر بلاء رزئت به البشرية، ولأنها محنة الحكماء وأداة الطغيان(44). ولكن ألم يؤكد ضرورة الدين،يا ترى؟ إذا المؤلف يتهم بعدم إيمانه بالمسيح، وهومؤمن بالمسيح ولكن بطريقة مختلفة عن طريقة متهميه. إننا نعترف بسلطان المسيح، لأن فكرنا يوافق على تعليمه ولأننا نجدها تعاليم سامية. ونحن نسلم بالوحي منبثقاً من روح الله، دون حتى نعهد كيف..وإذ نقر بسلطان إلهي في الإنجيل، فإننا نؤمن بأن المسيح بشر بهذا السلطان، ونحن نقر بفضيلة في سلوكه تفوق فضيلة البشر، وبحكمة في تعاليمه تفوق حكمة البشر".

وأنكر الخطاب الثاني حق مجلس مدني في الحكم في قضايا الدين (ناسيا العقد الاجتماعي). وفي إدانة إميل انتهاك لمبدأ أساسي من مبادئ حركة الإصلاح البروتستنتي، وهوحق الفرد في حتى يفسر الكتاب المقدس لنفسه(45).

"لوبرهنت لي اليوم في مسائل الدين مضطراً للإذعان لقرارات غيري، فسأتحول إلى الكاثوليكية غداً(46)". وسلم روسوبأن نادىة الإصلاح البروتستنتي أصبحوا بدورهم مضطهدين للتفسير الفردي(47). ولكن هذا لا يبطل المبدأ الذي لولاه لكانت ثورة البروتستنت على السلطة البابوية ظالمة. واتهم القساوسة الكلفنيين (باستثناء راعي) بأنهم اعتنقوا روح الكاثوليكية المتعصب، ولوكانوا أوفياء لروح الإصلاح البروتستنتي لدافعوا عن حقه في نشر تفسيره الخاص للكتاب المقدس. وجاد الآن بحدثة ثناء على رأي دالامبير في قساوسة جنيف:

"أن أحد الفلاسفة يلقي عليهم نظرة عجلى، ثم يتغلغل إلى أعماقهم، فيريهم أنهم أريوسيون، سوسينيون، فيقول هذا، ويحسب أنه بهذا القول يشرفهم ولكنه لا يدرك أنه يعرض مصالحهم الدنيوية للخطر، وهوالأمر الوحيد الذي يقرر على العموم إيمان البشر في هذه الدنيا(48)".

وفي الخطاب الثالث تناول اتهامه برفض المعجزات. فنحن إذا عهدنا المعجزة بأنها خرق لقوانين الطبيعة، فلن نستطيع أبداً حتى نعهد هل الشيء معجزة أم غير معجزة، لأننا لا نعهد جميع قوانين الطبيعة(49). فحتى في ذلك العصر كان جميع يوم يشهد معجزة جديدة يحققها الفهم، لا مخالفاً بذلك قوانين الطبيعة، بل بفضل معهدته بها فهم أعظم.

كان الأنبياء في قديم الزمان يستنزلون النار من السماء بحدثتهم، أما اليوم فالأطفال يعملون هذا ببترة صغيرة من الزجاج (المشتعل). إذا يشوع أوقف الشمس، وأي واضع للتقاويم يستطيع الوعد بمثل هذه النتيجة إذا حسب كسوف الشمس(50). وكما حتى الأوربيين الذين يجرون عجائب كهذه بين الهمج يعدهم هؤلاء آلهة، فكذلك معجزات الماضي-حتى معجزات المسيح-ربما كانت نتائج طبيعية فسرتها الجماهير خطأ بأنها تعطيلات إلهية للقانون الطبيعي(51). ولعل لعازر الذي أقامه المسيح من بين الأموات لم يكن في حقيقة الأمر ميتاً. ثم، كيف من الممكن أن حتى تثبت معجزات مفهم صدق تعليمه، إذ كان مفهموالتعاليم المعتبرة عموماً تعاليم كاذبة قد أجروا معجزات قيل إنها أيضاً حقيقية، كما وقع حين بارى سحرة مصر هارون في تحويل هارون في تحويل العصي إلى حيات؟(52). حتى المسيح حذر من "المسحاء الكذبة" الذين يعطون آيات عظيمة وعجائب(53).

كان روسوقد بدأ خطاباته بغرض مساعدة المحتجين من رجال الطبقة الوسطى، ولم يطلب توسيعاً لحق الانتخاب في اتجاه ديمقراطي، لا بل إنه في الخطاب الرابع يلتزم بالرأي بأن الأرستقراطية المنتخبة هي خير أشكال الحكم، وأكد لحكام جنيف حتى المثل الأعلى الذي رسمه في "العد الاجتماعي" كان في صميمه متفقاً مع الدستور الجنيفي(54). ولكن في الخطاب السابع أبلغ أصدقاءه من البرجوازية المحتجة حتى الدستور لا يقر سيادة المواطنين ذوي الحقوق الانتخابية إلا خلال الانتخابات للمجلس العام ومؤتمره السنوي، أم في باقي السنة فالمواطنون مجردون من السلطة. وفي تلك الفترة الطويلة كلهاقد يكون مجلس الخمسة والعشرين الصغير هوالحكم الأعلى في القوانين، وفي مصير جميع الأفراد تبعاً لذلك، والواقع حتى المواطنين والبرجوازيين الذين يبدون أصحاب سيادة في المجلس العام، يصبحون بعد فضه عبيداً لسلطة استبدادية بغير دفاع لرحمة خمسة وعشرين مستبداً(56).

وكان هذا أقرب إلى الدعوة للثورة. ولكن روسواستنكر هذا الملجأ الأخير. ففي خطابه الأخير أثنى على البرجوازية باعتبارها أعقل طبقة في الدولة، وأكثرها حباً للسلام، محصورة بين طبقة أشراف غنية ظالمة، وجماهير متوحشة غبية(57). ولكنه نصح المحتجين بالصبر والمصابرة، وبأن يركنوا إلى العدالة والزمن لينصفاهم من مظالمهم.

وأغضبت "خطابات الجبل" هذه أعداء روسووساءت أصدقاءه..وأفزعت هرطقاته القساوسة الجنيفيين، وزادهم فزعاً انادىؤه أنهم يشاطرونه إياها. فأنقلب الآن عنف على القساوسة الكلفنيين ورماهم بأنهم "رعاع غشاشون، بطانة غبية، وذئاب مسعورة". "وأعرب عن إيثاره للكهنة الكاثوليك البسطاء في القرى والمدن الفرنسية(58). ولم يستعن "المحتجون" بالخطابات في حملتهم الناجحة لنيل المزيد من السلطة السياسية؛ واعتبروا روسوحليفاً خطراً لا يركن إليهم، فاعتزم ألا يشارك بعدها بأي نصيب في السياسة الجنيفية".


روسووڤولتير

كان قد تساءل في الخطاب الخامس، لم لم يوحِ "المسيوفولتير" الذي "طالما زاره" أعضاء المجلس الجنيفيون، لهم "بروح التسامح تلك التي لا يني عن التبشير بها، والتي يحتاج هوإليها أحياناً،يا ترى؟ وأجرى على لسان فولتير حديثاً خيالياً(59) يحبذ فيه حرية الكلام للفلاسفة بحجة حتى قلة لا تُذكر هي التي تقرأ لهم. وكان تقليده لأسلوب فولتير الخفيف الرشيق بارعاً. ولكنه صور حكيم فرنيه معترفاً بتأليفه لكتاب نشر حديثاً اسمه "عظة الخمسين" وكان فولتير أنكر أبوته غير مرة لأنه زخر بالهرطقات. ولا ندري أكان كشف روسوللسر متعمداً خبثاً،يا ترى؟ على أي حال هذا ما رآه فولتير، وحنق منه أشد الحنق، لأنه عرضه لإمكان طرده من فرنسا من جديد، في الوقت الذي كان مستقراً فيه في فرنية.

وصاح حين قرأ الخطاب الواشي "يا للمجرم! يا للوحش! كان يجب حتى أضربه بالنبوت-نهم، سآمر بضربه بالنبوت في جباله عن ركبتي مربيته؛" ونطق متفرج "أرجوحتى تهدئ روعك، لأني أفهم حتى روسوينوي حتى يزورك، وسيكون في فرنية قريباً جداً"..وصاح فولتير وقد بدت عليه نية الأذى "آه، فليأتِ فقط". "ولكن كيف من الممكن أن ستستقبله؟".

"سأقدم له العشاء، وأعطيه فراشي، وأقول له هاك عشاء طيباً، وهاهوأفضل فراش في البيت؛ فتفضل بقبول الاثنين وانعم بالسعادة هنا(60)".

ولكن روسولم يحضر. وثأر فولتير لنفسه بإصداره (31 ديسمبر1764) كتيباً بقلم مجهول، سماه "عواطف المواطنين" هولطخة من أشد اللطخ التي تلوث خلقه ومهنته سواداً. ولا بد من نقل ما اتى به ليصدق القارئ:

"أننا نرثي للأحمق، ولكن حين تستحيل حماقته جنوناً فأننا نوثق رباطه. ذلك حتى التسامح-وهوفضيلة-يصبح عنها رذيلة.....لقد غفرنا لهذا الرجل رواياته، التي آذى فيها اللياقة والحياء كما آذى المنطق السليم. وحين خلط الدين بقصصه، اضطر قضاتنا إلى محاكاة قضاة باريس....وبرن...واليوم ألا يفرغ الصبر حين ينشر كتاباً جدياً يعتدي فيه اعتداءاً مجنوناً على الدين المسيحي، وعلى الإصلاح البروتستنتي الذي يدعيه، وعلى جميع خدام الإنجيل المقدس وكل هيئات الدولة؟-إنه يقول بجلاء، وبسمه صراحة، ليس في الإنجيل معجزات نستطيع أخذها حرفياً دون حتى نطلق عقولنا...."

"أهوعالم يجادل الفهماء،يا ترى؟ لا...بل رجل مازال يحمل آثار فجوره المخزية...ويجر معه من بلد إلى بلد، ومن جيل إلى جيل، المرأة التعسة التي كان سبباً في موت أمها، والتي ألقى بأطفالها على باب مستشفى...جاحداً جميع مشاعر الطبيعة، كإنكاره لمشاعر الشرف والدين..."

"أيريد حتى يطيح بدستورنا بتشويهه، كما يريد حتى يطيح بالمسيحية التي يدعيها،يا ترى؟ يكفي حتى ينذر بأن المدينة التي يزعجها تنكره......فإذا افترض أنها تمتشق الحسام (أي تقوم بثورة) بسبب (إدانة) إميل، فليضف هذه الفكرة إلى سخافاته وحماقاته..ولكن يجب حتى يخبر بأننا إذا ترفقنا في عقاب رواية فاجرة، فإننا سنقسوفي عقاب خائن لئيم(61)".

وكان هذا الكلام عملة مخزية لا يشفع لها غضب فولتير ولا أمراضه ولا شيخوخته، (وكان الآن في السبعين). لأعجب إذا كان روسولم يصدق قط (وحتى في يومنا هذا لا نكاد نصدق) حتى فولتير هومحرره، بل نسبه إلى القس الجنيفي فيرن، الذي أكد عبثاً أنه ليس محرره. وأذاع روسوفي لحظة من أجمل لحظاته رداً على "العواطف" (يناير 1765):

"أريد حتى أدلي ببساطة بالتصريح الذي يظهر أنه مطلوب مني بهذا الموضوع. فما من علة صغيرة أوكبيرة، كما يدعي المؤلف، قد لوثت قط جسدي. والعلة التي أصابتني ليس هناك أدنى شبه بينها وبين تلك المشار إليها فقد ولدت معي، ويعهد الذين رعوني في طفولتي، الباقون على قيد الحياة. وهي معروفة للسيدات مالوان، وموران، وتيري، وداران...فإذا وجدن في هذه العلة أقل أمارة من أمارات الفجور، فأني أرجوهن حتى يلعنني ويفضحنني..والمرأة العاقلة التي يقدرها العالم، والتي تعنى بي في كوارثي..لا يشقيها إلا مشاطرتها لشقائي. أما أمها فهي في الواقع فياضة بالحياة، وفي صحة سابغة، رغم شيخوختها (فقد عمرت إلى الثالثة والتسعين). ولم ألق قط، ولا تسببت في إلقاء على باب مستشفى ولا في أي مكان آخر...ولن أزيد..اللهم إلا القول بأنني حين يحضرني الموت أؤثر حتى أكون قد ارتكبت ما يتهمني به المؤلف، عن حتى أكون محرر كتيب كهذا..(62)"

ومع حتى تسليم روسوأطفاله لملجأ للقطاء (لا إلقاءهم في العراء بالضبط) كان موضوعاً يعهده المقربون في باريس (فقد اعترف به للمرشالة لكسمبورج)، فإن نشر فولتير كانت أول إفشاء علني لهذا السر. وخامر جان-جاك الظن في حتى مدام ديينيه أفشته عند زيارتها لجنيف، واقتنع الآن بأنها هي وجريم وديدروكانوا يأتمرون لتشويه سمعته. وقد هاجم جريم روسوفي هذه الفترة غير مرة في "الرسائل الأدبية(63)". وفي خطابه المؤرخ 15 يناير 1765 في معرض الحديث عن "خطابات من الجبل" انظم إلى فولتير في اتهام روسوبالخيانة: "إن عثر في أي مكان على الأرض جريمة تدعى الخيانة العظمى، فهي ولا ريب في مهاجمة الدستور الأساسي لدولة بالأسلحة التي أستخدمها روسوليطيح بدستور وطنه".

والشجار الطويل الذي نشب بين فولتير وروسومن أفجع اللطخ التي لوثت وجه حركة التنوير. لقد باعد بينهما مولدهما ومركزهما. ففولتير، ابن الموثق الموسر، تلقى تعليماً حسنناً، لا سيما في الدراسات القديمة؛ أما روسوالمولود في أسرة فقيرة وشيكة التفكك، فلم يتلقَ أي تعليم نظامي، ولم يرث أي تقليد كلاسيكي، وقد قبل فولتير القواعد الأدبية التي وضعها بوالوا-"أحب العقل، ولتستقِ جميع كتاباتك من العقل بهائها وقيمتها(64)". أما في رأي روسو(كما في رأي فاوست وهويغوي مارجريت بروسو) فإن "الوجدان جميع شيء(65)". وكان فولتير لا يقل عن جان-جاك حساسية وسرعة انفعال، ولكنه عادة كان يرى من سوء الأدب حتى يهجر الانفعال يشوه فنه، وقد اشتم في دعوة روسوللوجدان والغريزة لا عقلية فوضوية فردية تبدأ بالثورة وتنتهي بالدين. وقد شجب فولتير بسكال، أما روسوفردده كالصدى. وكان فولتير يعيش كما يعيش أصحاب الملايين، أما روسوفكان ينسخ الموسيقى ليكسب قوته. وكان فولتير خلاصة جميع لطائف المجتمع، أما روسوفكان يشعر بالقلق في المجتمعات، وكان أقل صبراً وأضيق صدراً من حتى تحتفظ بصداقة صديق. وكان فولتير أبن باريس، وربيب مرحها وترفها، أما روسوفكان طفل جنيف، برجوازياً مكتئباً، وبيورتانياً يكره تميز الطبقات الذي يجرحه، وألوان البذخ التي لا قدرة له على الاستمتاع بها، ودافع فولتير عن الترف لأنه يداول مال الأغنياء بتشغيل الفقراء، أما روسوفأدانه لأنه "يطعم مائة فقير في مدننا ويسبب هلاك مائة ألف في قرانا(66)" ومضى فولتير إلى حتى آثام الحاضرة ترجحها فنونها وما توفره من مسببات الراحة، أما روسوفكان لا يشعر بالراحة في أي مكان، ويندد بكل شيء تقريباً. وأصغى المصلحون إلى فولتير، وأستمع الثوار إلى روسو.

إن هوراس وليلول حين نطق إذا "هذه الدنيا ملهاة لمن يفكروا، ومأساة لمن يشعرون(67)". أجمل في سطر واحد؛ على غير قصد منه؛ حياة أعظم عقلين من عقول القرن الثامن عشر تأثيراً في الناس.


بوزويل يلتقي بروسو

في رواية بوزويل لزيارات خمس قام به لجان-جاك في ديسمبر 1764 تصوير غاية في اللطف لروسو. فلقد أقسم ذلك المعجب الذي لا مهرب منه يميناً مغلظة (21 أكتوبر) أنه "لن يحدث ملحداً؛ ولن يتمتع بامرأة؛ قبل حتى يلقى روسو(68)" وفي ثلاثة ديسمبر شد رحاله من نوشاتل إلى موتييه-ترافير. وحين بلغ بروفي منتصف الطريق وقف بنزل وسأل ابنة صاحبه ماذا تعهد عن فريسته. وكان جوابها مقلقاً:

"إن المسيوورسويحضر هنا كثيراً ويمكث أياماً مع مدبرة بيته؛ الآنسة ليفاسير. وهورجل لطيف جداً؛ له وجه جميل؛ ولكنه لا يحب حتى يأتي الناس ويحملقوا فيه كأنه رجل له رأسان. يا للسماء! حتى فضول الناس لا يصدق؛ حتى كثيرين؛ كثيرين يأتون ليروه؛ وكثيراً ما يرفض لقاءهم. إنه مريض، ويكره حتى يزعجه أحد(69)".

ولكن بوزويل واصل رحلته بالطبع. وفي موتييه هبط بفندق القرية.

"وأعددت خطاباً لمسيوروسوأبلغته فيه حتى سيداً أسكتلندياً عتيق الطراز في الرابعة والعشرين قدم بأمل لقائه. وأكدت له أنني جدير باحترامه...وفي خاتم خطابي بيت له حتى لي قلباً وروحاً...والخطاب آية في بابه حقاً. وسأحتفظ به ما حييت برهاناً على حتى في قدرة روحي حتى تتسامى(70)".

وكان خطابه-الذي خطه بالفرنسية-مزيجاً بارعاً من السذاجة المتعمدة والإعجاب الذي لا يرد:

"إن كتاباتك يا سيدي أذبلت قلبي. وحملت روحي. وألهبت خيالي. صدقني سيبهجك حتى تلتقي بي. إيه يا سان-بروالعزيز! أيها المفهم المستنير! أي روسوالبليغ المحبوب! يحدثني قلبي بأن صداقة شريفة حقاً ستولد اليوم..لدي الكثير الذي أحدثك به. ومع أنني لسن إلا شاباً فقد خبرت من ألوان الحياة ما سيدهشك...ولكني أتوسل إليك حتى تلقاني وحدك...ولا أدري هلا أفضل حتى ألقاك إطلاقاً من حتى ألقاك أول مرة في صحبة. وأني مترقب ردك بفارغ الصبر(71).

وأوفد له روسوحدثة يقول إذا في استطاعته الحضور إذا تعهد بأن تكون زيارته قصيرة. ومضى بوزويل "مرتدياً سترة وصدرية بدانتيللا ممضىة، وبنطلون ركوب من جلد الغزال، ومنتعلاً حذاءاً طويلاً. وفوق ذلك كله لبس معطفاً كبيراً من وبر الجمل الأخضر المبطن بفراء الثعلب". وفتحت تريز الباب "فتاة فرنسية قصيرة رشيقة أنيقة". وقادته صعداً إلى روسو-رجل ظريف أسمر اللون في زي الأرمن...وسألته عن صحته فنطق: "مريض جداً ولكني طلقت الأطباء". وأعرب روسوعن إعجابه بفردريك وازدرائه للفرنسيين-"شعب جدير بالاحتقار، ولكنك ستجد نفوساً عظيمة في أسبانيا". بوزويل: " وفي جبال اسكتلندا". ونطق روسوعن اللاهوتيين أنهم "سادة يقدمون تفسيراً جديداً لشيء من الأمور ويهجرونه مغلقاً على الإفهام كما كان". وناقشا أحوال كورسيكا، ونطق روسوأنه قد طلب إليه حتى يشرع لها قوانين، وبدأ بوزويل تحمسه الدائم لاستقلال كورسيكا. ثم صرفه روسوبعد قليل، قائلاً أنه يود التمشي منفرداً.

وفي أربعة ديسمبر استأنف بوزويل الحصار. وتحدث معه روسومليا، ثم صرفه: إنك "تزعجني. هذا طبعي ولا حيلة لي فيه". بوازيل: "أحمل الكلفة معي". روسو"أمضي". وصحبت تيريزا بوازوبل إلى الباب ونطقت له "لقد عشت مع المسيوروسواثنين وعشرين عاماً، ولن أتخلى عن مكاني لأكون ملكة فرنسا. وأنا أحاول الانتفاع النصيحة الطيبة التي يسديها إليّ. وإذا توفي سأضطر إلى دخول الدير(71).

وطرق بوازيل الباب مرة أخرى فيخمسة ديسمبر. وتأوه روسو"يا سيدي العزيز، يؤسفني عجزي عن التحدث إليك كما أشتهي" بوزويل: بحي هذه الأعذار وأثار الحديث بقوله: لقد اعتنقت الكاثوليكية وأنوي الاختفاء في دير روسويل للحماقة!..بوزويل: "أبلغني بحق أأنت مسيحي؟" وقرع روسوصدره وأجاب: "نعم إنني أعتز بأني مسيحي". بوزويل (الذي كان مصاباً بالاكتئاب) قل لي: هل تعاني من الاكتئاب،يا ترى؟ روسو: لقد ولدت هادئا، وليس بي ميل طبيعي للاكتئاب. لقد أصابتني به الكوارث التي حلت بي. بوزويل: ما رأيك في الأديار، والكفارات، والعلاجات التي من هذا النوع،يا ترى؟ روسو: كلها سخافات. بوزويل: هل لك يا سيدي حتى تضطلع بإرشادي الروحي،يا ترى؟ روسو: لا أستطيع. بوزويل: سأعود. روسو: لا أعد بلقائك. إنني أعاني ألماً، إنني أحتاج إلى مبولة جميع دقيقة(73).

في عصر ذلك اليوم، في بيت القرية خط بوزويل في أربع عشرة صفحة مجملاً لحياتي وبعث به إلى روسو. وقد اعترف فيه بحادث زنا أتاه، وسأل روسوألا يزال في إمكاني حتى أجعل نفسي رجلاً،يا ترى؟ وعاد إلى نوشاتل، ولكنه كان بباب روسومرة أخرى في 14 ديسمبر وأبلغته تريز حتى سيدها مريض جداً، وأصر بوزويل، واستقبله روسو"ووجدته جالساً وهوفي غاية الألم". روسو: لقد غلبتني العلل، وخيبات الأمل، والحزن. إنني أستعمل مجساً. جميع إنسان يعتقد حتى من واجبي حتى أصغي له..عد في العصر. بوزويل: وكم تطول زيارتي،يا ترى؟ روسو: "ربع ساعة، لا أكثر. بوزويل: عشرين دقيقة. روسو: هيا انصرف. ولكنه لم يتمالك نفسه من الضحك.

وعاك بوزويل في الرابعة وهويحلم بلويس الخامس عشر. "إن الأخلاق تبدوأي أمراً غير يقيني. فأنا مثلاً أحب حتىقد يكون لي ثلاثون امرأة. ألا أستطيع حتى أشبع تلك الرغبة،يا ترى؟ لا. ولكن انظر، لوكنت غنياً لاستطعت حتى تتخذ عدداً من الفتيات، وأحبلهن، وبهذا يزداد النسل. ثم أعطيهن مهوراً، وأزوجهن لفلاحين طيبين سيسعدون جداً بالزواج منهن. إلى غير ذلك يصبحن زوجات في نفس السن التي كن يتزوجن فيها لوظللن أبكاراً، وأكون أنا من ناحيتي قد أفدت بالاستمتاع بعدد كبير من مختلف النساء. فلما لم يقع من نفس روسوهذا الفرض الملكي، سأله "أبلغني من فضلك كيف من الممكن أن أكفر عن الشر الذي ارتكبته؟" وأجاب روسوجواباً مضىياً "ليس هناك تكفيراً عن الشر إلى الخير(74)". وطلب بوزويل إلى روسوحتى يدعوه للغداء، ونطق روسو"غداً" وعاد بوزويل إلى الفندق منتعشاً غاية الانتعاش.

وفي 15 ديسمبر تناول الطعام مع جان-جاك وتريز في المطبخ، وقد وجده نظيفاً مشرقاً. وكان روس رائق المزاج، ولم تبدُ عليه علامات الاضطراب العقلية التي ستظهر فيما بعد. وكان كلبه وبترته على وفاق مع بعضهما البعض ومعه. "ووضع بعض الطعام على صينية خشبية، وجعل كلبه يرقص حوله وغنى روسو..لحناً مرحاً بصوت رخيم وذوق رفيع. وتحدث بوزويل في الدين.."أن الكنيسة الأنجليكانية أفضل المذاهب عندي. روسو: نعم، ولكنها ليست الإنجيل. ألا تحب القديس بولس،يا ترى؟ إنني أحترمه، ولكني أحسبه مسئولاً إلى حد ما عما في رأسك من اختلاط. لوعاش لكان قسيساً أنجليكانياً.

الآنسة ليفاسير: استلقى المسيودفولتير يا سيدي،يا ترى؟ بوزويل: بكل تأكيد. ثم إلى روسو: حتى المسيودفولتير لا يحبك. روسو: حتى المرء لا يحب من أذاهم أذى شديداً. حتى حديثه ممتع جداً، لا بل إنه بفضل خطه. وطال بوزويل المكث فوق ما تحتمله الضيافة، ولكن حين ودع "قبلني روسومرات، وضمني بين ذراعيه بود رقيق". فلما وصل بوزويل إلى الفندق نطقت ربته سيدي: أضنك كنت تبكي. ويضيف إنني أحتفظ بذكرى هذه الحدثات إطراءً صادقاً لإنسانيتي(75).


دستور لكورسيكا

بعد حتى زار بوزويل فولتير في فرنيه، مضى في رحلته إلى إيطاليا ونابلي وكورسيكا، من الممكن درس من روسو. وكانت كورسيكا بزعامة باسكالي دي باولي قد حررت نفسها من سيطرة جنوة (1755) ورحب روسوفي "العقد الاجتماعي" من قبل بمولد الدولة الجديدة.

"ما زال في أوربا بلد واحد مفتوح للمشرع. إنه جزيرة كورسيكا. والبسالة والإصرار اللذان برهن بهما هذا الشعب الشجاع على قدرته على استرداد حريته والدفاع عنها يستحقان المعونة من إنسان حكيم يفهمهم كيف من الممكن أن يحتفظون بها. ونفسي تحدثني بأن هذه الجزيرة الصغيرة يفترض أن تدهش أوربا يوماً ما(76)". ولوأخذ رأي فولتير لرأى حتى روسوآخر رجل في أوربا يصح دعوته للتشريع. ولكن الذي وقع حتى جان-جاك تلقى في 31 أغسطس 1764 الخطاب الآتي من ماتيوبوتافوكو، المبعوث الكورسيكي لدى فرنسا:

"لقد ذكرت كورسيكا يا سيدي في "عقدك الاجتماعي" على نحويتيه به وطننا. وهذا الثناء من قلم مخلص جميع الإخلاص كقلمك...أوحى بالرغبة القوية في إنك يمكن حتى تكون المشرع الحكيم الذي يعين الأمة على الحفاظ على الحريات التي اقتنتها بدم كثير. وإني استوعب من طبيعة الحال حتى المهمة التي أجرؤ على الإلحاح عليك في الاضطلاع بها بحاجة إلى فهم خاصة بالتفاصيل...ولكنك إذا تفضلت حتى تقبل المهمة فسأزودك بكل الفهم الضرورية لإنارتك. وسيبذل المسيوباولي...قصاراه ليرسل إليك من كورسيكا جميع المعلومات التي قد بحاجة إليها. ويشاطرني رغبتي هذا الزعيم المرموق، لا بل جميع إخواني المواطنين الذين أتيح لهم الإطلاع على أعمالك، ويشاركني مشاعر الاحترام التي تشعر بها أوربا كلها نحوك، والتي أنت أهل لها لأسباب كثيرة جداً(77)".

ورد روسو(15 أكتوبر 1764) بقبول المهمة، وطلب تزويده بالمعلومات عن طبيعة الشعب الكورسيكي، وتاريخه، ومشاكله. واعترف بأن العمل قد يحدث "فوق طاقتي وإن لم يكن فوق تحمسي". ثم خط إلى بوتافيوكو، في 26 مايو1765 يقول: "غير إني أعدك أنه لنقد يكون لي اهتماماً فيما بقي لي من أجل غير نفسي وكورسيكا، وكل ما عدا ذلك من أمور سأقصيه عن أفكاري(78)". ثم عكف من فوره على وضع "مشروع دستور لكورسيكا".

واقترح روسوفي مشروعه و"العقد الاجتماعي" في ذاكرته، حتى يسقط جميع مواطن على تعهد ملزم لا رجعة فيه بوضع نفسه-"جسدي وأملاكي وإرادتي، وكل قدراتي"-تحت تصرف الأمة الكورسيكية(79). وحيا "الكورسيكيين البواسل" الذين ظفروا باستقلالهم، ولكنه نبههم إلى حتى فيهم رزائل كثيرة-كالكسل، وبتر الطريق، والعداوات، والوحشية-ومعظمها ناجم عن كراهيتهم لسادتهم الأجانب. وخير علاج لهذه الرذائل حتى يعيشوا عيشة زراعية خالصة. وينبغي حتى توفر القوانين جميع إغراء للشعب ليلزم الأرض بدلاً من التجمع في المدن، فالزراعة تعين على الخلق الفردي والصحة القومية، أما التجارة بأنواعها والمالية فتفتح الأبواب لكل ضروب الغش والاحتيال، ويجب على الدولة ألا تشجعها. ويجب حتىقد يكون السفر كله على الأقدام أوعلى ظهور الدواب، وأن يكافأ الزواج المبكر والأسرة الكبيرة؛ وأن تسقط المواطنة عن الرجال الذين يظلون عزاباً إلى الأربعين. ويجب خفض الملكة الخاصة وزيادة ملكية الدولة. "بودي حتى أرى الدولة المالك الوحيد؛ ولا يصيب الفرد من الملكية المشهجرة إلا بنسبة خدماته(80)"، وينبغي إلزام السكان بفلاحة أراضي الدولة إذا اقتضى الأمر، وأن تشرف الحكومة على التعليم كله، وعلى الآداب العامة كلها؛ وأن تشكل الحكومة نفسها على غرار الولايات السويسرية (الكنتونات).

وفي 1768 اشترت فرنسا كورسيكا من جنوه؛ وجردت عليها جيشاً؛ وعزلت باولي، وأخضعت الجزيرة للقانون الفرنسي. وكف روسوعن المضي في مشروعه؛ وندد بالغزوة الفرنسية لأنها انتهاك "لكل عدل؛ وإنسانية؛ وحق سياسي، وتفكير سليم(81)".

اللاجئ

ظل روسوعامين يحيا حياة متواضعة هادئة في موتييه؛ يقرأ؛ ويخط ويرعى سقمه، ويعاني من إصابة بعرق النسا (أكتوبر 1764)؛ ويحتفي بالزائري الذين تجيزهم تريز بعد الفحص. وقد وصفه أحدهم وصف عارف بالجميل فنطق:

"أنك لا تتصور أي سحر في الاجتماع به؛ ولا أي أدب صادق في سلوكه؛ ولا أي عمق في سلوكه؛ ولا أي عمق من الهدوء والبشاشة في حديثه. ألم تتسقط صورة مغايرة تماماً لهذه الصورة؛ وألم تصور لنفسك مخلوقاً غريب الأطوار؛ جاداً دائماً لا بل فظاً أحياناً،يا ترى؟ فيا لها من غلطة! إنه يجمع إلى سمات اللطف الكثيرة نظرة من نار؛ وعينين لم ير قط مثل لحيويتيهما. فإذ تناولت موضوعاً يهتم به، تحدثت عيناه، وشفتاه، ويداه-وكل ما فيه. وأنت تخطئ جميع الخطأ حتى تصورته إنساناً لا يكف عن التذمر. فهوعلى النقيض يضحك مع الضاحكين ويثرثر ويمزج مع الأطفال؛ ويسخر من مديرة منزله(82)".

ولكن القساوسة المحليين كانوا قد اكتشفوا ما في "إميل" و"خطابات الجبل" من هرطقات، ورأوها فضيحة حتى يمضي هذا الوحش في تلويث سويسرا بوجوده فيها. ورغبة في تهدئة ثائرتهم عرض (10 مارس 1765) حتى يتعهد، في وثيقة رسمية "بألا ينشر أبداً أي كتاب حديث في أي موضوع ديني، لا بل حتى يتناوله عرضاً في أي كتاب حديث آخر...وأكثر من ذلك أنني سأظل شاهداً، بمشاعري وسلوكي، بالقيمة العظمى التي أعلقها على سعادة الاتحاد بالكنيسة(83)". واستنادىه مجمع كنيسة نوشاتل للمثول أمامه والرد على تهم الهرطقة الموجهة إليه، فالتمس إعفاءه: "يستحيل على رغم صدق نيتي حتى أحتمل جلسة طويلة(84) وهوما كان الحقيقة المؤلمة". وانقلب عليه راعي كنيسته، وندد به في مواعظ علنية متهماً إياه بأنه عدوالمسيح(85). وألهبت هجمات القساوسة شعب أبرشياتهم، فراح بعض القرويين يحصبون روسوإذا خرج للتمشي. وقرب نصف ليلة 6-7 سبتمبر أيقظته هووتريز حجارة تقذف على جدرانهما وتحطم نوافذهما. وأخترق حجر كبير الزجاج وسقط عند قدمه. واستدعى جار له-وكان موظفاً في القرية-بعض الحراس لإنقاذه، وتفرق الجمع، ولكن أصدقاء روسوالباقين في موتييه نصحوه بأن يبرح المدينة.

وأتته عدة عروض تقد له الملجأ "ولكني كنت متعلقاً بسويسرا تعلقاً منعني من حتى أصمم على الرحيل عنها ما دام في استطاعتي العيش فيها(86)". وكان قد زار قبل عام "الأيل دسان-بيير"، الجزيرة الصغيرة الواقعة وسط بحيرة بيين، ولم يكن على الجزيرة سوى بيت واحد-هوبيت الوكيل، وخيل لروسوحتى المكان بقعة مثالية لعاشق للعزلة يكرره الناس. وكان يقع في كانتون برن التي طردته قبل عامين، ولكنه تلقى تأكيدات غير معتمدة بأن في استطاعته الانتنطق إلى الجزيرة دون حتى يغشى الاعتنطق(87).

إلى غير ذلك، حوالي منتصف سبتمبر 1765؛ بعد ستة وعشرين شهراً في موتييه؛ هجر هووتريز المنزل الذي أصبح عزيزاً عليهما ومضىا للإقامة مع أسرة الوكيل في مكان لا يتيح انعزاله "لا للجمهور ولا لرجال الكنيسة تكديره(88)". "وخيل إليه أنني سأكون في تلك الجزيرة أشد انعزالاً عن الناس....وأن البشر سيكونون أسرع نسياناً لي(89)". ورغبة في تغطية نفقاته منح الناشر دوبير حق نشر جميع خطه؛ "وجعلته مستودع جميع أوراقي؛ بشرط صريح هوألا يستعملها إلا بعد موتي؛ لأن غاية أماني كانت حتى أختم حياتي في هدوء؛ دون حتى أعمل شيئاً يعيدني مرة أخرى إلى ذاكرة الجماهير(90)". وعرض عليه المرشال كيت معاشاً قدره ألف ومائتا جنيه؛ فوافق حتى يأخذ نصفه. ودبر معاشاً آخر لتريز واستقر معها على الجزيرة وهولا يتسقط من الحياة شيئاً آخر. وكان الآن في سنته الثالثة الخمسين.

وبعد ثلاثة عشر عاماً- في آخر سنة من عمره-ألف كتاباً من أروع خطه اسمه "أحلام متجول وحيد" وصف في بلاغة مخففة معيشته على جزيرة سان-بيير "كانت أول وأهم متعة أتوق إلى تذوقها بكل حلاوتها هي حياة الدعة اللذيذة(91)". وقد رأينا في غير هذا الموضع مبلغ إعجابه بلينايوس؛ أما الآن، وفي بيده أحد خط عالم نبات سويدي؛ فقد بدأ يعدد ويدرس النباتات التي وجدها على ملكه الصغير. أوكان إذ صحى الجويعمل كما يعمل توروعلى بركة فولدن:

"كنت أرتمي وحيداً في زورق أجدف به إلى وسط البحيرة حينقد يكون الماء هادئاً. هناك؛ وأنا ممدد بطولي كله في الزورق؛ وعيناي إلى السماء كنت أهجر نفسي للماء يحملني هوناً كما يشاء؛ ساعات عدة أحياناً، وأنا غارق في مئات الأحلام المبهجة(92)".

ولكن راحته لم تطل حتى على هذه المياه. ذلك حتى مجلس شيوخ برن أمره في 17 أكتوبر 1765 بأن يرحل عن الجزيرة والمقاطعة خلال خمسة عشر يوماً. وغلبته الحيرة والهزيمة "فالتدابير التي كنت فد اتخذتها تأميناً لموافقة الحكومة الضمنية، والهدوء الذي هجرت فيه لأستقر، وزيارات الكثيرين من أهل برن لي"، جميع هذا حدا به إلى الاعتقاد بأنه الآن في مأمن من الإزعاج والمطاردة. والتمس من مجلس الشيوخ شيئاً من التفسير والتأجيل، واقترح بديلاً يائساً لحكم النفي:

"لست أرى لي غير سبيل واحد، ومهما بدا رهيباً، فإني سأتخذه لا دون نفور فحسب، بل برغبة شديدة إذا تفضل أصحاب السعادة بالموافقة. وذلك إنني إذا طاب لهم سأقضي ما بقي لي من أجل سجيناً في إحدى قلاعهم، أوفي أي مكان آخر في ضياعهم يرون اختياره. وسأعيش فيه على نفقتي، وسأقدم ضماناً بألا أكلفهم أي نفقة. وأقبل ألا أحمل ورقاً أوقلماً، أوأكون على اتصال بأي إنسان في الخارج. فقد سمحوا لي، وع بعض الخط، بالاحتفاظ بحرية المشي بين الحين والحين في حديقة، وسيرضيني هذا. أكان ذلك إيذاناً بانهيار عقله،يا ترى؟ إنه يؤكد لنا عكس هذا:

"لا تظنوا حتى وسيلة تبدوبهذا العنف هي ثمرة اليأس. فعقلي في تمام الهدوء في هذه اللحظة. وقد ترويت في اتخاذ قراري، ولم انتهِ إليه إلا بعد تفكير عميق. وأرجوحتى تلاحظوا أنه إذا بدا هذا قراراً شاذاً فإن وضعي أكثر شذوذاً. فالحياة المضطربة التي أكرهت على حتى أحياها سنوات عديدة دون انقطاع، خليقة بتعذيب رجل موفور العافية، فما بالكم بعليل تعس براه التعب وسوء الحظ، ولم يعد له الآن من أمنية إلا حتى يموت في هدوء وسلام(93)".

وكان رد برن حتى أمرته بالرحيل عن الجزيرة وعن جميع إقليم برن خلال أربع وعشرين ساعة(94). فإلى أين يمضي،يا ترى؟ كان لديه دعوات إلى بوتسدام من فردريك، وإلى كورسيكا من باولي، وإلى اللورين من سان-لامبير، وإلى أمستردام من ناشره ري، وإلى إنجلترا من ديفد هيوم. ففي 22 أكتوبر خط إليه هيوم الذي كان يومها سكرتيراً للسفارة البريطانية في باريس يقول:

"أن محنك العجيبة التي لم يسمع بمثلها، فضلاً عن فضيلتك وعبقريتك لا بد حتى تثير عواطف جميع إنسان فينحاز إليك، ولكني أعلل نفسي بأنك واجد في إنجلترا أماناً مطلقاً من جميع اضطهاد، لا بفض ما تمتاز به قوانيننا من روح سمحة فحسب، بل بفضل الاحترام الذي يكنه جميع الناس هناك لشخصيتك(95)". وفي 26 أكتوبر غادر روسوجزيرة سان-بيير ورتب حتى تظل تريز حيناً في سويسرا، ورحل هوإلى ستراسبورج، ومكث فيها شهراً كاملاً دون حتى يستقر على رأي. وأخيراً قرر حتى يقبل دعوة هيوم إلى إنجلترا، ومنحته الحكومة الفرنسية جوازاً بالحضور إلى باريس. هناك التقى به هيوم أول لقاء، وما لبث حتى شغف به، وتحدثت باريس كلها عن عودة للنفي. وخط هيوم يقول "محال وصف أوتصور تحمس هذه الأمور لروسو...فلم يظفر إنسان قط بما ظفر به من اهتمام القوم...لقد حجب بهاء فولتير وسواه حجباً تاماً(96)".

ولكن الصدقة الوليدة أصيبت بصدع في المهد ومن العسير هنا حتى نحدد الحقائق بدقة أونرويها دون تحيز. ففي أول يناير 1766 أوفد جريم إلى قرائه التقرير الآتي:

دخل جان-جاك روسوباريس في 17 ديسمبر. وفي الغد تمشي في حدائق لوكسمبورج وهويرتدي زيه الأرمني، وإذ لم ينبه أحد إلى الأمر فأن أحداً لم ينتفع بالمشهد. وقد أسكنه الأمير كونتي في التامبل حيث يعقد الأرمني المذكور بلاطه جميع يوم. كذلك يتسار يومياً في ساعة معينة في الشوارع الكبيرة القريبة من مسكنه . وهاهوذا خطاب تداولته الأيدي في باريس خلال مكثه هنا، وقد لقي نجاحاً كبيراً(98)". وهنا نقل جريم خطاباً زعم حتى روسوتلقاه من فردريك الأكبر. وكان قد زيفه على روسوهوراس والبول. ولندع والبلول نفسه يتحدث عنه في خطاب له إلى هوراس كونواي في 12 يناير 1766.

"أن الفضل في شهرتي الراهنة لتأليف تافه جداً، ولكنه أثار ضجة لا تصدق. ذلك إنني كنت ذات مساء في بيت مدام جوفران أسخر من انادىءات روسووتناقضاته، وقلت أشياء أضحكتهم. فلما عدت إلى البيت دونتها في خطاب، وأريته في الغد لهلفتيوس ودوق نفرنوا، وقد سرا به كثيراً حتى إنهما، بعد الإشارة على بعض الأخطاء اللغوية....شجعاني على إطلاع الناس عليه. وأنا كما تفهم يطيب لي حتى أهزأ بالدجالين سواء السياسيين منهم أوالأدباء مهما عظم قدر مواهبهم، لذلك لم أنكر الفكرة. وسرت النسخ مسرى النار، وهاأنذا "أصبحت موضة Et Me Voici( la mode ...وإليك الخطاب (وهومترجم حرفياً عن فرنسية وليلول): ملك بروسيا إلى مسيوروسوعزيزي جان-جاك

لقد لفظت جنيف وطنك، لقد جعلتهم يطاردونك من سويسرا، البلد الذي أطريته كثيراً في كتاباتك، وقد أصدرت فرنسا أمراً باعتنطقك. فتعال إليّ إذن، فأنا معجب بمواهبك، وتمتعني أحلامك، وهي (بهذه المناسبة) تشغلك فوق ما ينبغي وأطول مما ينبغي. وعليك حتى تكون في النهاية حكيماً وسعيداً. لقد أثرت ما يكفي من الأقاويل بسبب غرائب لا تليق برجل عظيم بحق. فأثبت لخصومك حتى في استطاعتك أحياناً حتى تكون معقولاً، فمن شأن هذا حتى يغيظهم دون حتى يؤذيك. إذا بلادي تقدم لك معتكفاً هادئاً، وإنني أرجولك الخير، وأحب حتى أساعدك إذا استطعت حتى تستطيب مقامك. أما إذا واصلت رفض معونتي، فتأكد أنني لن أبلغ أحداً بالأمر. وإذا أصررت على إجهاد نفسك لتجد نكبات جديدة، فاختر ما يحلولك منها، فأنا ملك، وفي استطاعتي حتى أحصل لك منها على ما يلبي رغباتك، وسأكف عن اضطهادك حين تكف عن حتى تجد فخرك في حتى تضطهد-وهوبالتأكيد ما لن يحدث لك أبداً بين خصومك.

صديقك المخلص فردريك(69)

أما ولبول فلم يحدث له حتى التقى بروسوقط. ولم يجد عقله الرفيع الثقافة، وثراؤه الموروث معنى في محررات روسو. وقد عهد عيوب روسووحماقته من حفلات عشاء مدام جوفران، حيث كان يلتقي ديدرووجريم. وأغلب الظن أنه لم يدرك حتى روسوالحساس إلى درجة العصاب، قد دفعته إلى مشارف الانهيار العقلي سلسلة من المجادلات الضيقات. ولوكان وليول على فهم بهذا حقاً لكانت نادىبته قاسية شائنة. على أننا ينبغي حتى نضيف أنه حين طلب هيوم رأيه في إيجاد معتكف لروسوفي إنجلترا، تعهد وليول بأن يمد الطريد بكل ضروب المعونة(100).

أكان هيوم على فهم بهذا الخطاب،يا ترى؟ يظهر أنه كان موجوداً ببيت مدام جوفران حين لفق أول الأمر، وقد اتهم بأنه "شارك" في تحريره(101). وقد خط إلى المركيزة دباربنتان في 16 فبراير 1766:

"إن النادىبة الوحيدة التي سمحت بها لنفسي في أمر خطاب ملك بروسيا المزعوم كانت على مائدة عشاء اللورد أوسوري(102)". وفي ثلاثة يناير 1766 قام هيوم بزيارة وداع لضيوف البارون دولباخ وأبلغهم بآماله في إنقاذ "الرجل القصير القامة" من الاضطهاد وتوفير مسببات السعادة له في إنجلترا. أما دولباخ فتشكك قائلاً يؤسفني حتى أبدد الآمال والأوهام التي تخدعك، ولكني أقول لك أنه لن يمضي طويل زمن حتى ينقشع عنك الوهم بصورة محزنة. إنك لا تعهد صاحبك، وأصارحك بأنك تحتضن ثعباناً في صدرك(103)".

وفي صباح الغد غادر باريس إلى كاليه في مركبتي أجرة هيوم وروسومع جان-جاك دلوز وسلطان كلب روسو. ودفع روسونفقاته بعد حتى رفض عروض هيوم ومدام دبوفليه، ومدام دفرديلان بمده بالمال. فلما بلغوا دوفر (10 يناير) عانق هيوم، وشكره لأنه أتى به إلى بلد تسوده الحرية.


في بريطانيا (1766-67)

وصلوا إلى لندن في 13 يناير 1766 ولاحظ المارة زي روسو-قلنسوته الفراء، وروبه الأرجواني، وحزامه، وأوضح لهيوم أنه يشكوسقماً يجعل سراويل الركوب القصيرة غير مريحة له(104). واقنع هيوم صديقه كوفواي بأن يقترح معاشاً للغريب الكبير، ووافق جورج الثالث على منحه مائة جنيه في العام، وأبدى رغبة في حتى يلقي عليه نظرة سريعة بصفة غير رسمية. وحجز جاريك لروسووهيوم مقصورة في المسرح دروري لين في لقاءة المقصورة الملكية في ليلة تقرر فيها حضور الملك والملكة. ولكن حين زار هيوم روسولقي عنتاً شديداً في إقناعه بأن يهجر كلبه الذي مزق نباحه بسبب حبسه قلب الغريب المنفي. وأخيراً "احتويت روسوبين ذراعي و....حملته على المسير في شيء من الإكراه(105)". وبعد الحفل نادى جاريك روسوإلى عشاء لتكريمه وهنأه روسوعلى تمثيله: "سيدي، لقد جعلتني أذرف الدموع على مأساتك، وابتسم لملهاتك، مع أنني لم أكد أفهم حدثة من لغتك".

وإلى هنا كان هيوم على الجملة مسروراً غاية السرور بضيفه. وخط إلى مدام دباربنتان بعد وصوله إلى لندن بقليل يقول:

سألتني رأيي في جان-جاك روسو. وأني بعد حتى راقبته في جميع النواحي....أصرح بأنني لم أعهد رجلاً أكثر منه لطفاً ولا أكرم خلقاً. فهورقيق، متواضع، ودود، نزيه، مرهف الحس، فإذا بحثت عن عيوب فيه لم أجد سوى قلة صبر مفرطة، وميل لاحتضان شبهات ظالمة في خير أصدقائه...أما عن نفسي فبودي لوأمضيت حياتي في صحبته دون حتى يكدر علاقتنا مكدر. حتى في سلوكه بساطة عجيبة. وهوفي الأمور العادية طفل بمعنى الحدثة. وهذا من شأنه حتى يسهل...لمن يعيشون معه حتى يسوسوه(106)".

ثم يقول: "إن له قلباً حاراً ممتازاً، وفي الحديث كثيراً ما تشتد حماسته إلى ما يشبه الإلهام. وإني أحبه حباً جماً وأرجوحتىقد يكون لي في وده نصيب...لقد تنبأ لي فلاسفة باريس إنني لت أستطيع اصطحابه إلى كاليه دون شجار، ولكني أحسبني قادراً على العيش معه طوال حياتي في صداقة وتقدير متبادلين. وأعتقد إذا من أكبر مسببات انسجامنا حتى كلينا لا يحب الجدل، وهذا ليس حالهم. ويسؤهم منه أيضاً ظنهم إنه مغال في الدين؛ ومن الغريب حقاً حتىقد يكون فيلسوف هذا الجيل، الذي لقي أشد اضطهاد أكثرهم تديناً(107)...أن به شوقاً إلى الكتاب المقدس، وهوفي الحق أفضل من المسيحيين قليلاً(108)".

على أنه كان هناك صعوبات. ففي لندن، كما في باريس، توافد النبلاء والنبيلات، والمؤلفين والنواب على بيت السيدة آدمز في شارع بكنجهام، حيث أسكن هيوم روسو. وسرعان ما ضاق بهذه المجاملات، ورجا هيوم حتى يجد له بيتاً بعيداً عن لندن. واتى عرض بالعناية به في دير ولزي، فأراد حتى يقبله، ولكن هيوم أقنعه بأن يسكن مع بدال في تشيزيك على التيمز على ستة أميال من لندن..فانتقل إلى هذا المنزل روسووسلطان في 18 يناير وأوفد الآن في طلب تريز، وأزعج مضيفه وهيوم بإصراره على وجوب السماح لها بالجلوس إلى المائدة معه. وشكا هيوم في خطاب إلى مدام دبوفليه.

"إن مسيودلوز..يقول حتى الناس يرونها شريرة محبة للشجار والثرثرة، ويظنون أنها أبرز سبب في رحيله عن نوشاتيل (موتييه). وهونفسه تعترف أنها من الغباء بحيث لا تعهد في أي سنة ميلادية نحن ولا في أي شهر من السنة، ولا في أي يوم من الشهر أوالأسبوع، وأنها لا تستطيع حتى تتفهم أبداً القيم المتنوعة للعملة في أي بلد. ومع ذلك فهي تحكمه حكماً مطلقاً كما تحكم المربية طفلاً. وقد اكتسب كلبه هذه السيادة في غيابها، فحبه لهذا المخلوق يفوق جميع تعبير أوتصور(109).

ووصلت تريز خلال ذلك إلى باريس فاستقبلها بوزويل وتطوع باصطحابها إلى إنجلترا. وفي 12 فبراير خط هيوم إلى مدام دبوفليه يقول "اتىني خطاب فهمت منه حتى الآنسة مسافرة على جناح السرعة في صحبة صديق لي، وهوشاب في غاية الطيبة، وفي غاية اللطف، وفي غاية الجنون..وبه من الولع بالأدب ما يجعلني أتوجس من وقع مؤذ لشرف صديقنا(110). وقد ادعى بوزويل أنه برر هذا الإحساس السابق. وقد اتى في صفحات في يوميته، تالفة الآن(111)، أنه شارك تريز فرشها في هبط ثاني ليلة بعد رحيلها عن باريس. ثم ليالي عديدة بعدها. ووصلا إلى دوفر باكراً في 11 فبراير. وتقول اليومية: "الأربعاء 12 فبراير. مضىت صباح أمس إلى الفراش مبكراً جداً، وعملتها مرة، والجملة ثلاث عشرة. كنت في الحق محباً لها. وفي الثانية بعد الظهر قمنا في رحلتنا. في ذلك المساء صحب تريز إلى هيوم بلندن ووعدها بأنه "لن يذكر علاقتنا الغرامية حتى مماتها أوممات الفيلسوف".

وفي المرة الثالثة عشرة أسلمها إلى روسو. ولقيها بقبلات كثيرة..وقد بدا طالما من الشيخوخة والضعف حتى "إنك (بوزويل) لم يعد فيك حماسة له(113) طبعاً".

وفي تشيزيك، كما في موتييه، تلقى رووس من البريد أكثر مما أراد، وشكا من نفقات البريد التي كان عليه حتى يدفعها. وذات يوم، حين اتىه هيوم بــ"شحنة" من لندن، رفض تسلمها، وطلب إليه حتى يردها إلى مخط البريد. ونبهه هيوم حتى موظفي البريد في هذه الحالة سيفتحون الخطابات المرفوضة ويطلعون على أسراره. وتطوع الاسكتلندي الصبور بأن يفتح ما يرد من رسائل روسوإلى لندن وألا يأتيه إلا بما يراه هاماً منها. ووافق جان-جاك، ولكنه سرعان ما توجس شراً من عبث هيوم ببريده.

وأتته دعوات للغداء، شاملة للآنسة ليفاسير عادة، من الأعيان في لندن فاعتذر روسومن قبولها بحجة سقمه ولكن السبب على الأرجح هوكرهه إظهار تريز أمام علية القوم. وكان يبدي رغبته في الانزواء في أعماق الريف. فلما سمع رتشارد ديفنيورت برغبته هذه من جاريك، عرض عليه بيتاً في ووتن بداربيشير على 150 ميلاً من لندن. فقبله روسومغتبطاً. وأوفد ديفنيوت مركبة تنقله هووتريز، وشكا روسومن أنه بعامل معاملة المتسولين، وأردف قائلاً لهيوم "إن كانت هذه حقاً حيلة من حيل ديفنبورت، فأنت عليم بها موافق عليها، وما كان في إمكانك حتى تسيء ألي بأكثر من هذا". وبعد ساعة (كما يقول هيوم)، جلس فجأة على ركبتي، وطوق عنقي بيديه، وقبلني بكل حرارة ثم نطق وهويبلل وجهي كله بالدموع: "أممكن حتى تصفح عني يا صديقي العزيز،يا ترى؟ إنني بعد جميع دلائل الود التي تلقيتها منك، أجازيك في النهاية بهذه الحماقة وهذا المسلك السيئ. ولكن لي رغم ذلك قلباً جديراً بصداقتك، وأنا أحبك ولأقدرك، ولم تضع علي سدى أقل مكرمة من مكرماتك" فقبله وعانقه عشرين مرة بفيض من الدموع(113).

وفي الغد 22 مارس انطلق جان-جاك وتريز قاصدين ووتن، فلم يرهما قط بعد. ولم يلبث هيوم حتى خط إلى هيوبليز تحليلاً بصيراً بحالة روسووخلقه.

كان مصمماً تصميم البائس على الاندفاع إلى هذه العزلة رغم جميع اعتراضاتي، أنا أتسقط لأنه سيكون تعساً في موقفه ذاك كما كان في الواقع تعساً في جميع المواقف. فسيكون محروماً تماماً من أي شغل يشغله، ومن الأصحاب ومن أي تسلية من أي نوع تقريباً. لقد قرأ أقل القليل في حياته، وطلق الآن جميع قراءاته طلاقاً بائناً، ولقد رأى أقل القليل من الدنيا وليس به أي فضول ليرى أويلاحظ. والواقع أنه لا يملك الكثير من الفهم، وكل ما عمله طوال حياته أنه أحس فقط، وإحساسه في هذه الناحية مرهف إلى حد لا أعهد له مثيلاً، ولكنه مع ذلك يشعره بالألم بأحد مما يشعره باللذة، وما أشبهه برجل لم تنزع عنه ثيابه فحسب، بل جاده أيضاً. ثم دفع به ذلك الموقف ليصارع قوى الطبيعة الغاشمة الصاخبة التي تلم على الدوام بهذا العالم الأسفل(114).

ووصل وروسووتريز إبلا ووتن في 29 مارس. وراقه البيت الجديد لأول وهلة. فوصفه في خطاب لصديق بنوشاتل: "بيت منعزل...ليس واسعاً جداً ولكنه مناسباً جداً، شيد في منتصف الطريق على جانب واد، وأمامه "أبدع مخضرة في الوجود" ومشهد طبيعي من مروج، وأشجار، ومزارع متفرقة، وعلى مقربة منه طرق للتنزه على ضفاف غدير. وفي أسوأ الأجواء أخرج في هدوء لجميع النباتات(115)". وكان آل ديفنبورت يشغلن قسماً من البيت حين يلمون به، وبقي به خدمهم ليعنوا بالفيلسوف و"مديرة بيته". وأصر روسوعلى حتى يؤدي لديفنبورت ثلاثين جنيهاً في العام نظير الأجرة والخدمة.

ولم تعمر سعادتها أكثر من أسبوع. ففي ثلاثة إبريل نشرت مجلة لندنية تسمى "سانت جيمس كرونكل" بالفرنسية والإنجليزية خطاب فردريك الأكبر المزعوم إلى روسو، دون إشارة إلى محرره الحقيقي. وحز الأمر في نفس جان-جاك حين نمى إليه الخبر، وزاد من ألمه حتى محرر المجلة وهووليم ستراهان كان صديقاً قديماً لهيوم. يضاف إلى هذا حتى نغمة الصحف البريطانية في حديثها عن روسوتغيرت تغيراً واضحاً منذ برح تشزيك، فكثرت الموضوعات التي انتقد الفيلسوف الغريب الأطوار، واحتوى بعضها على أشياء أعتقد حتى هيوم وحده هوالذي يعهدها، ويمكن حتى يزود بها الصحف. على أية حال شعر حتى واجب هيوم كان يقتضيه حتى يخط شيئاً للدفاع عن ضيفه الأسبق. وسمع حتى الاسكتلندي كان يسكن بلندن البيت الذي يسكنه فرانسوا ترونشان، ابن عدوجان-جاك في جنيف، وأغلب الظن حتى هيوم كان الآن على فهم بنقائص روسو.

وفي 24 إبريل خط روسوإلى سانت جيمس كرونكل ما يأتي:

"لقد عدوت يا سيدي على الاحترام الذي يدين به جميع فرد لملك بأن نسبت علناً إلى ملك بروسيا خطاباً امتلأ مبالغة وغلاً، وكان يجب بناء عليه حتى تعهد إنه ما كان يمكن حتى يصدر عنه. لا بل إنك جرؤت على نقل توقيعه كأنك رأيته مكتوباً بيد. وإني أقول لك يا سيدي حتى هذا الخطاب زيف في باريس، ومما يحزنني ويمزق قلبي حتى المحتال الذي خطه له شركاء ضالعون معه في إنجلترا. وواجبك نحوملك بروسيا، ونحوالحقيقة، ونحوي أيضاً، يقتضيك حتى تنشر خطابي هذا، المسقط بإمضائي، تسليماً لخطأ لا ريب إنك كنت تلوم نفسك على ارتكابه لوفهمت حتى مؤامرة خبيثة سخرت لها. وإني أقدم لك خالص تحياتي".

جان-جاك روسو(116)

وفي وسعنا الآن حتى نفهم لم افترض روسوحتى هناك "مؤامرة" عليه. فمن غير خصومه القدامى، فولتير، وديدرو، وجريم، وغيرهم من نجوم التنوير، يمكن حتى يدبروا هذا التغير الفجائي في لهجة الصحف البريطانية من الترحيب والتكريم إلى الهزء والتحقير،يا ترى؟ وفي نحوهذه الفترة نشر فولتير "خطاباً إلى الدكتور ج.ج يانسوف"، غفلاً من اسمه، أعاد فيه ذكر الإشارات المؤذي للشعب الإنجليزي في كتابات جان-جاك-كقوله إنهم ليسوا في الحقيقة أحراراً، وأنهم شديدوالولع بالمال، وأنهم ليسوا بطبيعتهم طيبين. وأعيد نشر أكثر الفقرات إيذاء في كتيب فولتير في دورية لندنية تسمى (للويدز افننج نيوز(117)). وفيتسعة مايوخط روسوإلى كونواي يطلب إليه وقف المعاش الذي يمنح له مؤقتاً. وألح عليه هيوم في قبوله، فرد عليه روسوبأنه لا يستطيع قبول أي امتياز يأتيه من وساطة هيوم. وطالبه هيوم بالتفسير. ويبدوحتى روسوقد انتقل الآن إلى حالة من الشك والغيظ. ففيعشرة يوليوبعث إلى هيوم بخطاب من ثماني عشرة صفحة من البتر الكبيرة، لا يسمح طوله المفرط بنقله هنا كاملاً، ولكنه من الأهمية البالغة لهذا الشجار الأشهر بحيث يقتضينا الأمر حتى نتذكر بعض فقراته الرئيسية:

"إنني مريض يا سيدي، وليس بي كبير ميل للكتابة، ولكن بما أنك طلبت التفسير، فلابد من تقديمه لك.... إنني أعيش خارج العالم، وأجهل الكثير مما يدور فيه...ولا أعهد إلا ما أشعر به..." "إنك تسألني في جرأة من هوالذي يتهمك،يا ترى؟ أنه يا سيدي الرجل الوحيد في العالم كله الذي...أود تصديقه، إنه أنت...وإذا أشير إلى ديفد هيوم بشخص الغائب، فإني جاعلك الحكم فيما ينبغي حتىقد يكون رأيي فيه".

واعترف روسوفي إسهاب بأفضال هيوم، ولكنه أردف:

"أما إذا تحريت عن الخبر الحقيقي الذي صنعته بي، فإن هذه الخدمات ظاهرية أكثر منها جوهرية،..فأنا لم أكن نكرة تماماً بحيث أنني لووصلت وحيدا. لما لقيت عوناً ولا مشورة..وإذا كان مستر ديفنبورت قد تفضل بإعطائي هذا المسكن فهولم يعمل ذلك لإرضاء مستر هيوم الذي لم يكن يعهده..وكل الخير الذي أصابني هنا كان يصيبني في الطريقة ذاتها بدونه (هيوم) ولكن الشر الذي أصابني ما كان يقع لي. إذ لمقد يكون لي أعداء في إنجلترا،يا ترى؟ وكيف لم يتفق حتىقد يكون هؤلاء الأعداء بالضبط أصدقاء لمستر هيوم،يا ترى؟

"وقد نمى إلى أيضاً حتى ابن المشعوذ تروشان، ألد خصومي، لم يكن فقط صديق مستر هيوم بل محسوبه أيضاً، وأنهما يسكنان معاً...."

وكل هذه الحقائق مجتمعة هجرت في انطباعاً جعلني قلقاً...وفي الوقت نفسه لم تصل الخطابات التي خطتها إلى وجهتها، وتلك التي تلقيتها كانت مفتوحة،يا ترى؟ وهذه كلها تناولتها يد مستر هيوم". "ولكن ما الذي وقع لي حين رأيت خطاب ملك بروسيا المزعوم منشوراً في الصحف العامة؟..لقد كشف لي شعاع من النور، سر ما طرأ على اتجاه الشعب البريطاني نحوي من تغير فجائي إلى حد مذهل،يا ترى؟ ورأيت في باريس مركز المؤامرة التي تنفذ في لندن..فحين نشر هذا الخطاب المزعوم في لندن لم ينبس مستر هيوم ببنت شفة، ولا خط لي شيئاً، وهوالعليم ولا ريب بأنه خطاب زائف...."

"لم يبقَ لي غير حدثة واحدة أقولها لك. إذا كنت مذنباً فلا تخط إلي، إذ لا جدوى من الكتابة، وثق إنك لن تخدعني. ولكن إذا كنت بريئاً فتفضل بتبرير نفسك..وإلا فوداعاً إلى الأبد(118)".

وكان رد هيوم موجزاً (22 يوليو1766) ولم يجب عن التهم، لأنه خلص إلى حتى روسومشرف على الجنون. وخط إلى ديفنبورت يقول إذا جاز لي حتى أبذل النصح فهوحتى تمضي فيما بدأته من حسنة حتى يحبس كلبه في مستشفى المجاذيب(119)...فلما سمع حتى روسوندد في خطابات أوفدها إلى باريس (كخطابه إلى الكونتيسة دبوفليه فيتسعة إبريل 1766)، بعث إلى دبوفليه صورة من خطاب جان-جاك الطويل. فردت على هيوم بما يلي:

"إن خطاب روسوفظيع، أنه مبالغ جداً ولا عذر له فيه إطلاقاً...ولكن لا تحسبه قادراً على الكذب أوالخداع، ولا تتصور انه دجال أووغد، إذا غضبه بلا مبرر حق، ولكنه غضب مخلص، وليس لدي في هذا أي شك..."

"وإليك ما أتصوره السبب فيه. لقد سمعتهم يقولون، ولعله أبلغ، إنك صاحب تعبير من خير ما ورد في خطاب مستر ولبول-وأنك قلت مازحاً وأنت تتحدث باسم ملك بروسيا "إن شئت الاضطهاد، فأنا ملك، وأستطيع اضطهادهم نيابة عنك بأي نوع تريد" وأن مستر ولبول...نطق إنك صاحب هذه العبارة. فإن صح هذا، وفهم به روسو، فهل تعجب حتى يثور سخطه...وهوالمرهف الحس، الغضوب، السوادي المزاج، المتكبر(120)".

وفي 26 يوليوخط ولبول إلى هيوم يحمل نفسه جميع اللوم-دون الإعراب عن اي ندم-في أمر الخطاب المزيف، ويدين "قلب روسوالجحود الشرير"(121)، ولكنه لم ينكر حتى هيوم كان له يد في الخطاب. وخط هيوم إلى دولباخ يقول "إنك محق تماماً؛ فروسووحش". فلما سمع من ديفنبورت حتى جان-جاك يخط "اعترافاته" أفترض حتى روسوسيذيع رأيه في الأمر على الملأ. ونصحه آدم سمث، وطورجووالمرشال كيث، بأن يتحمل الهجوم صامتاً، ولكن جماعة الفلاسفة في باريس يقودهم دالامبير، حرضوه على حتى ينشر رايته عن نزاع ذاع خبره في عاصمتين. وعليه فقد أصدر (أكتوبر 1766) عرضاً موجزاً للنزاع الذي ثار بين السيدين هيوم وروسو، صاغه بالفرنسية دالامبير وسوار، وبعد شهر ظهر بالإنجليزية. وأذاع جريم مضمونه على نطاق واسع "في خطاب الاشتراك" الذي خطه في 15 أكتوبر، فتردد صدى المشاجرة في جنيف، وأمستردام، وبرلين، وسانت بطرسبورج. وضاعفت الضجة أكثر من عشر نشرات، ونشر ولبول روايته للنزاع، وهاجم بوزويل ولبول، ورمت مدام دالاتور في "مجمل عن مسيوروسو"، هيوم بأنه خائن، ووفاه فولتير بمزيد من البيانات عن نقائص روسووجرائمه، وعن اختلافه إلى أماكن سيئة السمعة وعن أعمال التحريض التي أتاها في سويسرا(123). أما جورج الثالث فقد تابع المعركة بفضول شديد(124). وأوفد هيوم الوثائق المتعلقة بها إلى المتحف البريطاني(125).

ووسط هذه الضجة الكبرى لزم روسوالصمت الرهيب. ولكنه صمم الآن على العودة إلى فرنسا أياً كان الخطر والثمن. فقد اكتأب لرطوبة مناخ إنجلترا وتحفظ الخلق الإنجليزي، وكانت العزلة التي نشدها فوق ما يطيق، ولم يكن قد بذل أي جهد في تعلن الإنجليزية فوجد مشقة في التفاهم مع الخدم. ولم يستطع الحديث إلا مع تريز-التي ما فتئت جميع يوم تلح عليه في حتى يأخذها إلى فرنسا. ودعماً لخططها أكدت له حتى الخدم يبيتون دس السم له. وعليه ففي 30 إبريل خط إلى مالك بيته الغائب يقول:

"غداً اهجر بيتك يا سيدي..ولست أجهل الكمائن التي تدبر لي، ولا عجزي عن حماية نفسي، ولكني عشت يا سيدي، ولم يبقَ لي إلا حتى أنهي بشجاعة حياة قضيت بشرف..وداعاً سيدي. سآسف دماً على المسكن الذي أبرحه الآن، ولكن أسفي سيكون أكثر لأنني وجدت فيك مضيفاً غاية في اللطف، ومع ذلك لم أستطع حتى أجعل منه صديقاً"(126).

وفي أول ما يوفر مع تريز على عجل وفي رعب. وهجرا حقائبهما ومالاً للوفاء بإيجار ثلاثة عشر شهراً..ولجهلهما بجغرافية إنجلترا استقلا مختلف وسائل الانتنطق غير المباشرة،وبترا شطراً من الطريق على الأقدام، وظلا عشرة أيام تائهين لا يعهد أحد مستقرهما. وأعربت الصحف عن اختفائهما، ثم ظهرا في 11 مايوفي سبولدنج لينكولنشير، ومنهما وجدا طريقهما إلى دوفر، وهناك استقلا سفينة إلى كاليه في 22 مايو. وبعد حتى قضيا في إنجلترا ستة عشر شهراً. وخط هيوم إلى طورجووغيره من الأصدقاء طالباً إليهم حتى يمدوا يد المعونة للمنبوذ الذي عاد الآن وحيداً مهجوراً إلى فرنسا وهومن الناحية القانونية لا يزال تحت طائلة الأمر باعتنطقه.

في فرنسا

السنوات الأخيرة

قبر روسوفي قبوالپانيون، پاريس.

حين وصل روسوإلى فرنسا في 22 مايو1767 بعد مقامه التعس في إنجلترا، وبعد حتى أشرف على الجنون، عثر بعض العزاء في الترحيب الذي لقيه من المدن التي اجتاز بها هووتريز. ومع أنه سافر متخفياً تحت اسم جان- جوزف رينو، وكان لا يزال من الناحية القانونية خاضعاً للحظر الذي صدر ضده في 1762، إلا حتى القوم تبينوه وكرموه، واستقبله أميان استقبال الظافرين، وأوفدت له مدن أخرى "نبيذ المدينة". وعرض عليه كثير من الفرنسيين- وكلهم من النبلاء- بيتاً يقيم فيه. أولهم ميرابوالأب، الذي خيره بين عشرين ضيعة، فاختار روسوفلوري- سو- مودون، القريبة من باريس. ولكن المركيز ألح عليه إلحاحاً مزعجاً ليقرأ خطه، فهرب روسو، ولجأ إلى لوي- فرانسوا البوربوني، أمير كونتي، في ترييه- لو- شاتو، القريبة من جيزور (21 يونيو1767). ووضع الأمير القلعة بأسرها تحت تصرف جان- جاك، بل إنه أوفد الموسيقيين ليشنفوا أذنيه بالموسيقى الهادئة؛ وفسر روسوهذا بأنه اتهام له بالجنون، وخامره الظن بأن شوازيل والكونتيسة بوفليه (خليلة الأمير) انضما إلى فولتير، وديدرو، وجريم، في التآمر عليه؛ والواقع حتى فولتير كان قد اتهمه بإشعال النار في المسرح بجنيف، الذي احترق وأصبح أنقاضاً في 29 يناير 1768(45). واعتقد روسوحتى جميع من في جيزور ينظر إليه كأنه مجرم. وتاق إلى العودة لجنيف، وخط إلى شوازيل يرجوه إقناع مجلس جنيف بأن يكفر لروسوعن الإساءات الماضية التي ألحقها به(46).

وأوفد إليه شوازيل تصريحاً رسمياً بالسفر إلى أي بقعة يريدها في فرنسا، وبأن يبرحها ويعود إليها متى شاء(47). وخطر لروسوالآن حتى يعود إلى إنجلترا، فخط إلى ديفنبورت يسأله حتى كان يسمح له بأن يشغل ثانية بيت ووتن، وأجاب ديفنبورت بأنه يسمح بكل تأكيد.

ثم هرب روسومن تري في يونيو1768 خوفاً على حياته فيها، وهجر تريز في القصر الريفي ضماناً لسلامتها. واستقل مركبة عامة إلى ليون، وأقام حيناً مع أقرباء دانيل روجن الذي كان قد وفر له الملجأ في 1762 في سويسرة. على أنه ما لبث حتى اعتزل في فندق الجولدن فونتن في بورجوان- أن- دوفينه. وعلى باب حجرته خط قائمة بالأشخاص الذين يعتقد أنهم يأتمرون به. ثم أوفد في طلب تريز، واستقبلها بالفرح والدموع، وقرر آخر الأمر حتى يتزوجها. وقد تم هذا القران في حفل مدني بالفندق في 30 أغسطس 1768.

وفي يناير 1769 انتقلا إلى بيت بمغرسة في موكان، قرب جربنوتل. وهناك خط آخر صفحات، "الاعترافات"، وهي صفحات نصف مجنونة، وراح يهدئ أعصابه بدراسة فهم النبات. ووجدت تريز حتى طبعه يزداد حدة، وكانت هي ذاتها تعاني من الروماتزم والأوصاب الغامضة التي تصاحب أحياناً "تغيير المعيشة". وتشاجر الزوجان الحديثان مشاجرة بلغ من شدتها حتى حملت روسوعلى الرحيل في رحلة طويلة لجمع النبات ودراسته بعد حتى هجر لها خطاباً ينصحها بدخول الدير (12 أغسطس 1769)(48). فلما عاد ووجدها تنتظره تجدد حبهما. وندم الآن على انه تخلص من أطفالها. وأحس "أن الرجل الذي يستطيع تربية أولاده تحت بصره رجل سعيد جداً(49). وخط إلى أم شابة يقول: إذا أجمل أسلوب في الحياة يمكن حتى يوجد هوأسلوب الأسرة.. فما من شيء يندمج معنا بأشد وأثبت من أسرتنا وأبنائنا... ولكن أنا الذي يتحدث على الأسرة والأبناء- ... سيدتي، أرثي لأولئك الذين يحرمهم قدرهم القاسي من هذه السعادة، أرثي لهم إذا كانوا عاثري الحظ فقط، ومزيداً من الرثاء لهم إذا كانوا مذنبين!"(50).

وكان الشتاء الذي قضته الأسرة في موكان شاقاً في بيت ريفي يقع في مهب الرياح كلها. والتمست تريز منه الرحيل إلى باريس. إلى غير ذلك استأنف الزوجان أسفارهما الطويلة فيعشرة أبريل 1770 وأنفقنا شهراً لطيفاً في ليون، حيث مثلت أوبريت روسوعراف القرية، جزءاً من احتفال أقيم تكريماً له. ثم سافرا في مراحل بطيئة مخترقين ديجون، ومونبار، وأوجزيز ثم بلغا باريس في خاتمة المطاف في 24 يونيو1770. وأقاما في الطابق الرابع من نزله القديم في الأوتيل سانت اسبري، بشارع بلاتريير- ومسماه الآن شارع جان- جاك روسوفي حي من أشد أحياء المدينة ضجيجاً. وعاش عيشة متواضعة هادئة، يتكسب بنسخ الموسيقى ويدرس النبات، وخط الآن (21 سبتمبر 1771) إلى لينايوس رسالة يعرب فيها عن إجلاله(51). فلما ذاع أنه يقيم في باريس خف لزيارته قدامى الأصدقاء ومريدوه الجدد: الأمير لين (الذي عرض عليه بيتاً في ضيعته قرب بروكسل)، وجريتري، وجلوك (الذي حاء ليناقش الموسيقى معه). والمسرح جولدوني، والمغنية صوفي أرنو، وجوستاف ولي عهد السويد، وشباب المؤلفين من أمثال جان- جوزف دوزو، وجاك- هنري برناردان دسان- بيير. وفي 1777 نال ما اشتهاه فولتير ولم ينله- وهوزيارة من الإمبراطور يوزف الثاني(52). ورد إليه تصريح الدخول إلى دار الأوبرا مجاناً، فكان يختلف إليها من حين لحين، ليسمع جلوك على الأخص. ووصفه برناردان دسان- بيير في هذه الحقبة (وكان الآن في الستين)بأنه رقيق البدن، متناسب الأعضاء، وله "جبين عال، وعينان متقدمتان. وفي غضون الجبين حزن عميق، ومرح حاد بل كاو"(53).

وقد استفزه للعودة إلى القلم- رغم وعده عام 1762 بالكف عن التأليف - اتصال هجوم أعدائه عليه. وكان في سبيل الرد عليهم، وعلى جميع ما دار حوله من شائعات معادية في باريس وجنيف، وقد اضطلع بكتابه "الاعترافات" (1765) ومن ثم أتم الكتاب الآن (نوفمبر 1770)، ومع حتى روسوكان حتى ذلك الحين عازفاً عن نشره كاملاً، إلا أنه صمم على حتى تطلع باريس على أجزائه المتصلة لهذه الهجمات. إلى غير ذلك قرأ في ديسمبر على مسامع دوزووغيره، وفي حجرته، فقرات طويلة من أعظم كتاب ألفه، واستمرت القراءة سبع عشرة ساعة بترتها وجبتان خفيفتان عاجلتان(54). وفي مايو1771 قام بتلاوة أخرى أمام الكونت والكونتيسة أجمون، والأمير بيناتللي أجمون، والمركيزة دميم، والمركيز جوينيه، واختتم بتحد من نار:

"لقد خطت الحقيقة. فإذا سمع أي إنسان أشياء مناقضة لما قررته الآن، حتى إذا أثبتت ألف مرة، فهولم يسمع سوى تشهير وافتراء، وإذا رفض بتاتاً حتى يمحصها ويراجعها معي وانا حي فهوليس صديقاً للعدالة أوالحق. أما عن نفسي فإني أعربها صريحة دون أدنى خوف حتى جميع من دقق النظر في بعينيه- طبعي، وخلقي، وسلوكي، وميولي، ولذاتي، وعاداتي- حتى بغير قراءة خطي، ثم حكم علي بأنني رجل غير شريف إنما يستحق حتى يشنق"(55).

والذين استمعوا إليه استنتجوا من شدة انفعاله حتى عقله يوشك حتى يختلط. ونطق دوزوحتى شكوك روسوواتهاماته لا تليق "بجان جاك الرجل السمح الفاضل"، فكان هذا النقد نهاية صداقتهما(56). وحمل غيره من المستمعين أصداء هذه القراءات إلى صالونات باريس، وأحس بعض ذوي النفوس الحساسة حتى روسوقد افترى عليهم. وخطت مدام ديبنيه إلى مفتش عام الشرطة تقول: "يجب حتى أحيطك فهماً مرة أخرى بأن الشخص الذي حدثتك عنه صباح أمس قد قرأ كتابه على السادة دورا، وييزيه، ودوز. ومدام يستخدم هؤلاء الرجال ليأتمنهم على القذف والتشهير فإن لك الحق في حتى تحيطه برأيك في هذا الأمر. ويخيل إلي أنه ينبغي حتى تحدثه بما يكفي من التلطف حتى لا يشكو، ولكن بحزم يثنيه عن العودة إلى خطئه. فإذا حصلت على حدثة شرف منه فإني أعتقد أنه لن يحنث بها. معذرة ألف مرة، ولكن سلامي النفسي كان في خطر"(57).

وطلبت الشرطة إلى روسوحتى يكف عن قراءات، فوافق، وخلص إلى أنه لم يستطع قط حتى يظفر بالاستماع المنصف إليه في حياته، وأعان شعور الإحباط هذا على اختلاط عقله. وبعد عام 1772 أغلق بابه دون الزائري كافة تقريباً عدا برناردان دسان- بيير. وكان في جولاته منفرداً يخامره الظن بأن جميع من يمر به تقريباً عدوله. وفيما عدا أشباح العداء هذه فإنه احتفظ بطبيعته الطيبة الأصلية. فاكتتب رغم مقاومة فولتير في المال المجموع لإقامة تمثال له. وحين أوفد إليه أحد الآباء الروحيين كراسة تندد بفولتير وبخ المحرر قائلاً: "لا ريب في حتى فولتير رجل رديء وليس في نيتي حتى أثني عليه، ولكنه نطق وعمل أشياء طيبة كثيرة جداً بحيث ينبغي حتى نرخي الستار على أخطائه"(58).

وحين كان ينصرف فكره عن "المؤامرة" التي يتخيلها من حوله، كان في استطاعته حتى يخط بوضوح كالعهد به من قبل، وبروح مدهشة من المحافظة والواقعية وقد رأينا كيف من الممكن أن التمس المؤتمر البولندي المنعقد عام 1769 اقتراحاته بشأن دستور جديد. وقد بدأ كتابه "آراء حول حكومة بولندة" وفي أكتوبر 1771، انتهى منه في أبريل 1772. وأول انطباعاتنا عنه أنه يخرق جميع المبادئ التي دافع عنها من قبل دفاعاً مشبوباً. فإذا أعدنا قراءته في شيخوختنا كان عزاء لنا حتى نرى حتى روسو(وقد بلغ الستين) يمكن حتى يشيخ هوأيضاً، وأن ينضج- كما يحب الشيوخ حتى يقولوا. فالرجل الذي صرخ قائلاً "ولد الإنسان حراً، وهوفي جميع مكان يرسف في الأغلال" هذا الرجل بعينه نبه الآن البولنديين، الذين حكم عليهم "حق النقض المطلق" بالفوضى، إلى حتى الحرية امتحان عسير كما أنها عطية إلهية، وأنها بحاجة إلى مجاهدة للنفس أشق كثيراً من طاعة الأوامر الخارجية. نطق:

"إن الحرية طعام قوي، ولكنه طعام يحتاج إلى هضم متين.. إنني أضحك من تلك الشعوب المنحطة التي تثور لمجرد حدثة من متآمر دساس، والتي تجرؤ على التحدث عن الحرية وهي تجهل جميع الجهل ما تعنيه، والتي تتصور أنه لكي يتحرر الإنسان يكفي حتىقد يكون ثائراً متمرداً. أيتها الحرية المقدسة السامية! ليت هؤلاء المساكين يعهدونك حق الفهم، ليتهم يتفهمون أي ثمن يبذل للظفر بك ولصيانتك، وليت في الإمكان تعليمهم حتى قوانينك أشد صرامة من نير الطغاة الثقيل!"(59).

لقد فهمت الحياة ومونتسكيوروسوحتى مناقشات مثل "عقده الاجتماعي" إنما هي أحلام تعوم في الفراغ ونظريات مجردة لا ترتكز على الواقع. لذلك سلم الآن بأن جميع الدول تضرب جذورها في التاريخ والظروف، وأن مصيرها الفناء حتى هي بترت جذورها دون تمييز. ومن ثم فقد نصح البولنديين بألا يدخلوا تغييرات فجائية على دستورهم، وبأن يحتفظوا بملكهم المنتخب على ان يقيدوا حق النقض المطلق، وبالكاثوليكية ديناً رسمياً للدولة مع تطوير نظام تعليمي يستقل عن الكنيسة(60). وقد بدت له بولندة بحال مواصلاتها ووسائل نقلها الراهنة أوسع من حتى تحكم من مركز واحد، فمن الخير إذن تقسيمها إلى ثلاث دول تتحد فقط في الاتصالات المشهجرة والشئون الخارجية. ومن عجب حتى الرجل الذي ندد من قبل بالملكية الخاصة أصلاً للكل الشرور، كرس الآن الإقطاعية البولندية، واقترح فرض الضرائب على جميع الأراضي، على حتى تهجر حقوق الملكية الراهنة دون مساس بها، ثم أعرب عن أمله في حتى تلغى القنية يوماً ما، ولكنه لم يدع إلى إنهائها في وقت قريب، فهذا في رأيه يجب حتى يؤجل إلى حتى يتاح للقن مزيد من التعليم. وقد أكد حتى جميع شيء رهن بنشر التعليم، وتعزيز الحرية بأسرع من تعزيز الذكاء والأخلاق معناه فتح الباب على مصراعيه للفوضى وتقسيم البلاد.

غير حتى التقسيم تم قبل حتى يتمكن روسومن إنهاء منطقه، فالسياسة العملية تجاهلت تشريعه الفلسفي في بولندة كما تجاهلته في كورسيكا. وقد شارك هذا الإحباط المزدوج في تكدير سنيه الأخيرة، وزاد من حدة احتقاره لجماعة الفلاسفة الذين أثنوا من قبل على أولئك الحكام- فردريك الثاني، وكاترين الثانية، ويوزف الثاني- الذين يبترون الآن أوصال بولندة، وامتدحهم باعتبارهم حكاماً مستبدين مستنيرين وملوكاً فلاسفة.

وفي 1772 بدأ محاولة أخرى للرد على خصومه وسمي الكتاب "حوارات: روسويحاكم جان جاك". وقد عكف على هذا الكتاب الذي بلغت صفحاته 450 فترات متبترة على مدى سنين أربع، وكان الظلام يغشى عقله أكثر فأكثر حدثا مضى فيه. وقد رجت المقدمة القارئ حتى يقرأ الحوارات الثالثة قراءة دقيقة شاملة، "انظر إلى هذا التفضل الذي يطلبه منك قلب أثقله الحزن على أنه دين إنصاف تفرضه السماء عليك"(61). وقد اعترف بما يشوب الكتاب من "إسهاب مفرط وتكرار، وحشو، وفوضى"(62)، غير حتى مؤامرة اتصلت خمسة عشر عاماً- فيما زعم- للنيل من سمعته، ولا بد حتى يبرئ نفسه قبل حتى يموت. وقد نفى وجود أي تضارب بين الفردية "الأحاديث وجماعية العقد الاجتماعي"، وذكر قراءه حتى لم يرغب قط في حتى يقضي على العلوم والفنون ويرتد إلى الهمجية. ووصف مؤلفاته- لا يما "جولي" و"أميل"- بأنها غنية في الفضيلة والحنان، وتساءل كيف من الممكن أن يمكن حتى يؤلف مثل هذه الخط فاسق أنهكه السقم كما صوره المنتقصون من قدره(63). واتهم أعداءه بأنهم أحرقوا دمية تصوره، وبأنهم ألفوا السرينادات عنه للهزء به(64)وشكا من أنهم، حتى الآن، يراقبون جميع زائريه ويحرضون جيرانه على إهانته(65). ثم يردد سيرة ميلاده، وأسراه، وصباه، ووصف رقة خلقه ونزاهته، ولكنه اعترف بما فيه من كسل، و"ميل إلى أحلام اليقظة"(66)، ونزوع إلى حتى يخلق في جولاته منفرداً عالماً وهمياً يستطيع حتى يسعد فيه ولوللحظة. وعزى نفسه بهذه النبوءة "أنا واثق من أنه سيأتي يوم يبارك فيه الناس الطيبون الشرفاء ذكراي ويبكون على مصيري"(67).

ثم أضاف إلى الحوار الأخير فصلاً عنوانه "تاريخ هذا الكتاب" ذكر فيه كيف من الممكن أن أنه لكي يلفت نظر باريس وفرساي لكتابه اعتزم حتى يودع نسخة من المخطوط، موجهة إلى العناية الإلهية، على المذبح الأعلى في كاتدرائية نوتردام. وقد حاول هذا في 24 فبراير 1776، فلما عثر المذبح مسدوداً بدرابزين، حاول الدخول إليه من جانبيه، فلما وجدهما مقفلين أصابه دوار، وخرج عدواً من الكنيسة، وراح يضرب على غير هدى ساعات في الشوارع في شبه هذيان قبل حتى يبلغ مسكنه"(68). ثم خط نداء للشعب الفرنسي عنوانه "إلى جميع الفرنسيين الذين مازالوا يعشقون العدل والحق" ونسخ صوراً منه على إعلانات وزعها على المارة في الشوارع. وقد رفضها الكثير منهم قائلين أنه ليس موجهاً إليهم(69). فأقلع عن محاولاته. واستسلم للهزيمة.

وهدأت الآن ثائرته بعد حتى راض نفسه على الإذعان. وخط في هذه الفترة (1777- 78) أجمل خطه "أحلام جواب منفرد" فروى كيف من الممكن أن حتى أهل موتييه رفضوه وحصبوا بيته، وكيف اعتكف في الأيل دسان تبيير في بحيرة بيين. وهناك عثر السعادة، ثم راح- بعد حتى استرجع ذكرى تلك الخلوة- يصور المياه الهادئة، والجداول المتدفقة، والجزيرة تغطيها الخضرة، والسماء الكثيرة الصور والأشكال. وقد عزف على نغمة رومانسية جديدة بإلماعه إلى حتى الروح المتألمة قد تجد دائماً في الطبيعة شيئاً يستجيب لمزاجها. ونحن نسأل أنفسنا حين نقرأ تلك الصفحات، أيستطيع رجل نصف مجنون حتى يخط بهذا الإتقان، وبهذا الوضوح، وأحياناً بهذا الهدوء والصفاء. ولكن الشكاوي القديمة تعود إلى الظهور، وينوح روسومن حديث لأنه نبذ أطفاله، وأنه لم يؤت الشجاعة البسيطة التي تمكنه من تربية أبنائه. وقد رأى طفلاً يلعب، فعاد إلى حجرته و"بكى وكفر عن ذنبه"(70). وفي تلك السنين الأخيرة التي قضاها في باريس كان ينظر بعين الحسد إلى ذلك الإيمان الديني الذي سماه بحياة العامة من الناس المحيطين به إلى مسرحية من الموت والبعث. وكان أحياناً يختلف إلى خدمات الصلاة الكاثوليكية. وقد زار ديراً مع برناردان دسان- بيير، وسمع الرهبان يتلون ابتهالاً فنطق "آه؛ ما أسعد الإنسان الذي يستطيع حتى يؤمن"(71). إنه لم يستطع حتى يؤمن(72)، ولكنه حاول حتى يسلك كمسيحي، ويتصدق، ويفتقد السقمى ويواسيهم(73). وقد قرأ وخط حواشي على كتاب توماس أكمبيس "الاقتداء بالمسيح".

ثم خف إحساسه بالمرارة في نفسه بدنوأجله. وحين وصل فولتير إلى باريس فانهالت عليه مسببات التكريم، شعر روسوبالغيرة منه ولكنه تحدث بخير عن عدوه القديم. ووبخ أحد معارفه الذي سخر من تتويج فولتير في التياتر- فرانسيه فنطق: "كيف تجرؤ على السخرية من التكريم الذي بذل لفولتير في الهيكل الذي هوربه، وبيد الكهان الذين ظلوا خمسين سنة يعيشون على روائعه؟"(74). ولما سمع بأن فولتير يحتضر نطق متنبئاً "كانت حياتانا مرتبطتين الواحدة بالأخرى، ولن يطول عمري بعده"(75).

وحين بدأ ربيع 1778 يزهر طلب بيتاً في الريف، فنادىه المركيز رينيه دجيراردان ليسكن كوخاً على مقربة من قصره الريفي في ارمينونفيل، على نحوثلاثين ميلاً من باريس. ومضى إليه جان- جاك وتريز في 20 مايو، وهناك راح يجمع العينات النباتية ويفهم النبات لابن المركيز البالغ من العمر عشر سنين. وفي أول يوليوتعشى بشهية مع أسرة مضيفة. وفي صباح الغد أصيب بالنقطة وسقط على الأرض. فحملته تريز إلى فراشه، ولكنه سقط منه، واصطدم بالأرض المبلطة صدمة حادة أحدثت بتراً في رأسه تدفق منه الدم، وصرخت تريز مستغيثة، فحضر المركيز، ووجد حتى روسوقد فاضت روحه.

ولاحقته الافتراءات إلى النهاية. فأذاع جريم وغيره السيرة التي زعمت حتى روسوانتحر. وأضافت مدام دستال فيما بعد أنه اغتال نفسه حزناً حين اكتشف خيانة تريز. وفاقت هذه السيرة غيرها قسوة، لأن تعقيب تريز عقب موته بقليل كشف عن حبها له. نطقت "إن لم يكن زوجي قديساً فمن يستطيع حتىقد يكون؟" ووصف غير ذلك من الشائعات روسوبأنه توفي مجنوناً، ولكن جميع الذين كانوا معه في أيامه الأخيرة تلك وصفوه بالهدوء والصفاء. وفي أربعة يوليو1778 ووري الثرى في جزيرة الحور في بركة صغيرة على ضيعة جيراردان. وظلت جزيرة الحور هذه طويلاً كعبة يحج إليها الأتقياء، فأمها المجتمع العصري كله- حتى الملكة- للصلاة على قبر روسو. وفي 11 أكتوبر 1794 نقل رفاته إلى البانتيون حيث ثوى إلى جوار رفات فولتير.

ومن ذلك المرفأ الذي نعما فيه بسلام الجوار نهضت روحاهما لتجددا حربهما في سبيل الثورة، وفرنسا، والإنسان الغربي.

الفلسفة

نظرية الإنسان الطبيعي

تمثال لروسوفي إل روسو، جنيڤ.


مراحل التطور الإنساني

Rousseau (1755) [1754], Discourse on Inequality, Holland, frontispiece and title page .



النظرية السياسية

إل روسو، جنيڤ.



التعليم وتربية الأطفال

جان جاك روسوعلى طابق بريد روماني، 1962.


الدين

ذكراه

Bicentenary of Rousseau’s birth, Geneva, 28 June 1912, "Jean-Jacques, aime ton pays [love your country]" , showing Rousseau’s father gesturing towards the window. The scene is drawn from a footnote to the Letter to d’Alembert where Rousseau recalls witnessing the popular celebrations following the exercises of the St Gervais regiment.

إلى غير ذلك ننتهي كما بدأنا بالتأمل المعزز بالدليل الآن، في ذلك الأثر الذي لا يصدق، والذي خلفه روسوفي أدب القرن الذي بدأ بموته، وفي بيداجوجيته وفلسفته، ودينه، وأخلاقه، وعاداته، وفنه، وسياسته. والكثير مما خط يظهر اليوم حتى فيه غلواً، أوإسرافاً في العاطفة، أوسخفاً، و"الاعترافات" و"أحلام اليقظة" فقط هما اللذان يحركان مشاعرنا، ولكن حتى الأمس كانت جميع حدثة من حدثاته تسمع في ميدان أوآخر من ميادين الفكر الأوربي أوالأمريكي. إذا روسوكما نطقت مدام دستال "لم يخترع شيئاً، ولكنه أشعل النار في جميع شيء"(76).

فأول شيء من طبيعة الحال هوأنه كان بمكانة الأم من الحركة الرومانتيكية. وقد رأينا غيره كثيرين يبذرون بذرتها. "طومسون، وكولنز، وجراي، ورتشردسن، وبريفو، والمسيحية ذاتها، التي يعد لاهوتها وفنها أحب ضروب الرومانسية قاطبة. ولكن روسوأنضج البذار في مستنبت عواطفه الدافئ، وأسلم لنا الثمرة مكتملة النموخصبة منذ مولدها، وفي "الأحاديث" و"العقد الاجتماعي" و"إميل" و"الاعترافات".

ولكن ما الذي سننيه بالحركة الرومانتيكية،يا ترى؟ تمرد الزجدان على الفكر، والغريزة على العقل، والعاطفة على الحكم، والذات على الموضوع، والنزعة الذاتية على الموضوعية، والوحدة على التجمع، والخيال على الواقع، والخرافة والأسطورة على التاريخ، والدين على الفهم، والتصوف على الشعائر، والشعر والنثر الشعري على النثر والشعر النثري، والفن القوطي المحدث على الكلاسيكي المحدث، والأنثوي على الرجولي، والحب الرومانسي على زواج المصلحة، و"الطبيعة" و"الطبيعي" على المدنية والتكلف، والتعبير العاطفي على الضوابط العهدية، والحرية الفردية على النظام الاجتماعي، وتمرد الشباب على السلطة، والديموقراطية على الأرستقراطية، والإنسان في لقاءة الدولة- وباختصار، تمرد القرن التاسع عشر على الثامن عشر، أوبعبارة أكثر تحديداً، الفترة 1760- 1859 على 1648- 1760: هذه كلها أمواج للمد الرومانتيكي العظيم الذي اكتسح أوربا فيما بين روسووداروين.

ولقد عثر جميع من هذه العناصر تقريباً في روسوتعبيراً وتأييداً، ووجد بعض الدعم في حاجات العصر وروحه. ذلك حتى فرنسا كانت قد ملت الفكر الكلاسيكي والانضباط الأرستقراطي. فأتاح تمجيد روسوللوجدان تحرراً للغرائز المكبوتة، والعاطفة المكظومة، والأفراد والطبقات المظلومة. وأصبحت "الاعترافات" كتاب الوجدان المقدس كما كانت "الموسوعة" العهد الجديد لعصر العقل. ولا يعني هذا حتى روسورفض العقل، فهوعلى العكس وصفه بأنه عطية إلهية، وقبله حكماً نهائياً(77)، ولكنه أحس حتى نوره البارد في حاجة إلى دفء القلب ليلهم العمل والعظمة والفضيلة. وأصبحت "الحساسية" شعار النساء والرجال.. وتفهم النساء الإغماء، والرجال البكاء، بأسرع من ذي قبل، وتذبذبوا بين الفرح والحزن، ومزجوا الاثنين في دموعهم.

وقد بدأت الثورة "الروسوية" على صدور الأمهات، هاتيك الصدور التي آن الآن أوان تحريرها من عنطق المشدات؛ على حتى هذا الجانب من الثورة كان أصعب جوانبها، ولم يعقد له النصر إلا بعد أكثر من قرن تراوح فيه الحبس والإفراج. وبعد نشر "أميل" أرضعت الأمهات الفرنسيات أطفالهن، حتى في دار الأوبرا، وفيما بين الألحان(78). وأطلق الطفل من سجن أقمطته، وقام أبواه على تربيته بأنفسهم. فإذا التحق بالمدرسة حظي بالتعليم "على طريقة روسو" في سويسرا أكثر منه في فرنسا، ولما كانت النظرة للإنسان الآن تعده خيراً بطبيعته، فإن التلميذ وجب حتى ينظر إليه لا على أنه عفريت صغير مشاكس بل ملاك رغباته هي صوت الله. ولم تعد حواسه تدان لأنها أدوات الشيطان، بل تعد أبواباً للخبرات المنيرة ولمئات المباهج البريئة. ووفقاً للنظرة الجديدة لا تعود حجرات الدرس سجوناً. أما التعليم فيجب حتى يجعل طبيعياً وساراً بتفتيح حب الاستطلاع والقوى الفطرية وتشجيعها. واما حشوالذاكرة بالحقائق، وخنق الفكر بالعقائد البترية، فيجب حتى يحل محلها التدريب على فنون الإدراك الحسي، والحساب، والتفكير. ويجب حتى يتفهم الأطفال من الأمور لا من الخط حدثا أمكن- من النبات في الحقل، والصخور في التربة، والغيوم والنجوم في السماء. وقد حفز التحمس لأفكار روسوالتربوية بستلوتزي ولافاتير في سويسرا، وبازدوف في ألمانيا، وماريا مونتسوري في إيطاليا، وجون ديوي في أمريكا؛ و"التربية التقدمية" هي جزء من تراث روسو، وقد نشأ فريدرش فروبل نظام رياض الأطفال في ألمانيا، ومنها انتشر في العالم الغربي طولاً وعرضاً.

ثم أدركت الفن نفحة من الإلهام الروسوي. فقد أثر تمجيد الطفولة في جروز ومدام فيجيه- لبرون، وعكست لوحات الفنانين من المدرسة السابقة- للرفائيلين في إنجلترا تمجيد العاطفة والغموض. وأعمق من هذا أثر روسوفي الأخلاق والسلوك. فطرأ المزيد من دفء الصداقة ووفائها، ومن التضحيات والاهتمامات المتبادلة. واقتنص الحب الرومانسي الأدب وشق طريقه إلى الحياة. واستطاع الأزواج الآن حتى يحبوا زوجاتهم دون هزء بالتنطقيد؛ واستطاع الآباء حتى يحبوا أبناءهم، وأصلح ما فسد من الأسرة، "كان الناس يغضون عن الخيانة الزوجية، أما روسوفقد جرؤ على اعتبارها جريمة"(79). سليم أنها استمرت، ولكنها لم تعد أمراً لا غنى عنه. وحل محل الإعجاب الأعمى بالمحظيات الشفقة على المومسات. وقاوم احتقار العهد طغيان الأتيكيت. وارتفعت سمعة الفضائل البورجوازية، كالاجتهاد، والاقتصاد، وبساطة العادات واللباس. وعما قليل ستطيل فرنسا "الكيلوت" (السراويل القصيرة) إلى سراويل طويلة وتصبح "صان- كيلوت" (متطرفة) في زيها كما هي في سياستها. وقد ساهم روسومع البستنة الإنجليزية في تغيير الحدائق الفرنسية من رتابة طراز النهضة إلى المنحنيات الرومانتيكية والأركان الفجائية، وأحياناً إلى فوضى برية و"طبيعية". وانطلق الرجال والنساء من المدينة إلى الريف، وزاوجوا بين حالات الطبيعة وحالاتهم النفسية وتسلق الرجال الجبال، والتمس الرجال منهم الوحدة ودلل "أنا".

واستسلم الأدب بجملته تقريباً لروسووالموجة الرومانتيكية، فغمر جوته بطله "فوتر" فيفيض من الحب، والطبيعة، والعبرات (1774)، وجعل بطله فاوست يختزل نصف روسوفي حدثات ثلاث "الوجدان هوالكل". نطق قي 1787 مسترجعاً ذكرياته "كان لكتاب أميل وما حوى من عواطف تأثير تام على العقل المثقف"(80) وأكد شيلر التمرد على القانون في "اللصوص" (1781)، وحيا روسومحرراً وشهيداً، وقارن بينه وبين سقراط(81) "تعالى يا روسووكن لي مرشداً"(82). وأعانت بلاغة روسوعلى تحرير الشعر والمسرحية الفرنسيين من قواعد بوالو، وتقليد كورنيي وراسين، وقيود الأسلوب الكلاسيكي الصارمة. وقد أبدع برناردان دسان- بيير، وهوتلميذ متحمس لروسو، رائعة رومانسية في "بول وفرجيني" (1784). وانتصر تأثير جان- جاك الأدبي بعد الفاصل النابليوني في أشخاص شاتوبريان، ولامارتين، وموسيه، وفيني، وهوجر، وجوتييه، وميشليه، وجورج صاند. وقد أنجب هذا التأثير جيلاً من الاعترافات، وأحلام اليقظة، وقصص العاطفة أوالغرام، وحبذا تصور العبقرية على أنها فطرية لا تعهد قانوناً، وأنها القاهرة لتقليد والتقييد، فحرك في إيطاليا ليوباردي، وفي روسيا بوشكن وتولستوي، وفي إنجلترا وردزورث، وصذي، وكولردج، وبايرن، وشلي، وكيتس، وفي أمريكا هوثورن وثورو.

ونصف فلسفة القرن المحصورين "إلواز الجديدة]]" (1761) وكتاب داروين "أصل الأنواع" (1859) يلونه تمرد روسوعلى عقلانية حركة التنوير. والواقع حتى روسوكان قد أعرب من قبل في رسالة وجهها عام 1751 إلى بورد عن احتقاره للفلسفة(83)، وأقام احتقاره هذا على عجز العقل في زعمه عن تعليم الفضيلة للناس. فالعقل يظهر أنه بغير حس أخلاقي، وهويناضل للدفاع عن أي رغبة مهما كانت فاسدة إذن فالحاجة إلى شيء آخر- إلى وعي فطري بالصواب والخطأ، حتى هذا الوعي لا بد من حتى يدفئه الوجدان إذا أريد منه حتى يولد الفضيلة، وأن ينجب رجلاً فاضلاً لا آلة حسابية ماهرة.

وهذا من طبيعة الحال كلام نطقه بسكال من قبل، ولكن بسكال كان قد رفضه فولتير، وفي ألمانيا كانت "عقلانية" فولف في صعود في الجامعات. وحين أصبح إيمانويل كانت أستاذاً في كونجزبرج كان قد اقتنع بما نطقه هيوم وجماعة الفلاسفة الفرنسيين من حتى العقل وحده لا يمكنه حتى يقدم الدفاع الكافي حتى عن أساسيات اللاهوت المسيحي. ولكنه عثر في روسوسبيلاً لإنقاذ تلك الأساسيات: وهي حتى تنكر مفعول العقل في العالم فوق الحسي، وتؤكد استقلال الفكر، وأولية الإرادة، والقوة المطلقة للضمير الفطري؛ وتستنبط حرية الإرادة، وخلود النفس، ووجود الله، من شعور الإنسان بالتزام غير مشروط بالقانون الأخلاقي. وقد أقر كانت بيدنه لروسو، وعلق صورته على جدار مخطه، ونادى به "نيوتنا" للعالم الأخلاقي(84). وشعر ألمان آخرون بروح روسوتتقمصهم: ياكوبي في فلسفة الوجدان، وشلايئر ماخر في تصوفه الدقيق النسيج، وشوبنهاور في تمجيده للإرادة. وتاريخ الفلسفة منذ كانت صراع بين روسووفولتير.

أما الدين فقد بدأ بتحريم روسو، ثم انتقل إلى استخدامه منقذاً له. وأجمع القادة البروتستانت والكاثوليك على تكفيره، ووضع على صعيد واحد مع فولتير وبيل بوصفهم رجالاً "يبثون سموم الضلالة والفسوق"(85). ومع ذلك فحتى في حياة روسوعثر نفر من رجال الدين والفهمانيين راحة وعزاء حين سمعوا حتى قسيس سافوا قد قبل بتحمس العقائد الجوهرية للمسيحية، وأنه نصح الشكاك بأن يثوبوا إلى إيمانهم الأصيل. وحين فر روسومن سويسرا عام 1765 رحب به أسقف ستراسبورج، وبعد حتى عاد من إنجلترا عثر بعض الكاثوليك الفرنسيين يستشهدون بأقواله شاكرين في ردهم على غير المؤمنين، وتراودهم الآمال في هدايته الظافرة. وقد حاول منظروالثورة الفرنسية إقامة أخلاقية مستقلة عن العقائد الدينية؛ على حتى روبسبيير في إقتدائه بروسوأقلع عن هذه المحاولة لفشلها، والتمس قوة تأييد المعتقدات الدينية في صيانة النظام الأخلاقي والمضمون الاجتماعي. وأدان جماعة الفلاسفة لأنهم رفضوا الله وأبقوا على الملوك؛ أما روسو(في رأي روبسبيير) فقد ارتفع فوق هامات هؤلاء الجبناء، وهاجم جميع الملوك بشجاعة وجاهر بالدفاع عن الله والخلود(86).

وفي 1793 بلغ تراثا فوليتر وروسوالمتنافسان فترة الحسم في الصراع بين جان-رينيه إيبير ومكمسليان روبسبيير. فأما إيبير، أحد قادة كومون باريس، فقد اتبع العقلانية الفولتيرية، وشجع انتهاك حرمات الكنائس، وأقام العبادة العلنية لآلاهة العقل (1793). وأما روبسبيير فكان قد رأى روسوأثناء مقام هذا الفيلسوف آخر مرة في باريس. ونطق مناجياً جان- جاك "إيه أيها القديس!.. لقد تطلعت إلى محياك المهيب... وفهمت جميع أحزان حياة نبيلة كرست نفسها لعبادة الحق"(87). وحين تقلد روبسبيير زمام السلطة أقنع المؤتمر الوطني بتبني "إعلان الإيمان" الذي دان به قسيس سافوا ديناً رسمياً للأمة الفرنسية، وفي مايو1794 افتتح مهرجان الكائن الأعظم إحياء لذكرى روسو. وحين أوفد إيبير وغيره إلى الجيلوتين بتهمة الإلحاد، شعر بأنه يتبع نصائح روسوبحذافيرها. ووافق نابليون اللاأدري روبسبيير على الحاجة إلى الدين، وأعاد وضع الحكومة الفرنسية في جانب الله (1802). ثم أعيدت الكنيسة الكاثوليكية إعادة كاملة بعودة الملكية البوربونية الفرنسية (1814) وكسبت أقلام شاتوبريان، ودميتر، ولامارتين، ولامنية القوية، ولكن الإيمان القديم اتكأ الآن أكثر فأكثر على حقوق الوجدان لا على جح اللاهوت، فحارب فولتير وديدروببسكال وروسو. وازدهرت من حديث تلك المسيحية التي بدت محتضرة في 1760- في إنجلترا الفكتورية وفرنسا في عهد عودة الملكية.

ونحن الآن فقط- من الناحية السياسية- نخرج من عصر روسو، وأول علامة على تأثيره السياسي كانت في موجة التعاطف العام الذي أيد المعونة الفرنسية الفعالة للثورة الفرنسية. وقد اقتبس جفرسن إعلان الاستقلال من روسوكما اقتبسه من لوك ومونتسكيو، واستوعب الكثير من جميع من فولتير وروسوحين كان سفيراً لدى فرنسا (1785- 89)، وردد صدى جان- جاك في افتراضه حتى هنود أمريكا الشمالية "يتمتعون في جملتهم بقدر من السعادة يفوق بمراحل أولئك الذين يعيشون في ظل الحكومات الأوربية"(88). وقد حمل نجاح الثورة الأمريكية مكانة فلسفة روسوالسياسية.

وتزعم مدام دستال حتى نابليون عزا الثورة الفرنسية إلى روسوأكثر من أي محرر آخر(89). وقد مضى إدمند بيرك إلى حتى في الجمعية التأسيسية للثورة الفرنسية (1789- 91) خلافاً كبيراً بين زعمائهم على أيهم أقرب شبهاً بروسو. والحق أنهم جميعاً يشبهونه... فإياه يدرسون، وإياه يتأملون، وإليه يرجعون في جميع الوقت الذي يستطيعون اقتناصه من شرورهم المجهدة نهاراً أوفجورهم وعربدتهم ليلاً. فروسوهوكاهن كتابهم المقدس... وله يقيمون أول تماثيلهم(90).

وفي 1799 استعاد ماليه دويان إلى الأذهان حتى "روسوكان له قراء من الطبقتين الوسطى والدنيا أكثر مائة مرة مما لفولتير. فهووحده الذي لقح الفرنسيين بعقيدة سيادة الشعب... ومن الصعب ذكر ثوري واحد لم ينتشي بهذه النظريات الفوضوية ولم يشتعل بغيرة تحقيقها... وقد سمعت مارا في 1788 يقرأ "العقد الاجتماعي" ويعلق عليه في الشوارع العامة، فيقابله السامعون المتحمسون بالتصفيق"...(91). واستشهد الخطباء في طول فرنسا وعرضها بأقوال روسوفي التبشير بسيادة الشعب؛ وبعض الفضل في استطاعة الثورة حتى تعيش عقداً من الزمان رغم خصومها وشططها راجع إلى الترحيب العارم الذي لقيته هذه العقيدة.

وقد اتصل تأثير روسوفي السياسة طوال تقلبات الثورات والرجعية. وبسبب تناقضاته، وبسبب القوة والحماسة اللتين بشر بهذه التناقضات بهما، عثر فيه الفوضويون والاشتراكيون على السواء نبياً وقديساً؛ ذلك لأن كلتا الدعوتين المتعارضتين وجدتا غذاء في إدانته الأغنياء وعطفه على الفقراء. وقد ألهمت النزعة الفردية التي اتسمت بها أول "الأحاديث" ورفضته "المدينة" الثوار من بين، وجودوين، وشلي، إلى تولستوي وكرويوتكين وإدوارد كاربنتر. نطق تولستوي "كنا أنا في الخامسة عشرة أحيط عنقي بميدالية عليها صورة روسوبدلاً من الصليب المعتاد"(92). وقد وفرت عقيدة المساواة، التي بشر بها ثاني "الأحاديث" موضوعاً أساسياً لضروب متنوعة من النظرية الاشتراكية، من "جراكوس" بابوف وشارل فورييه وكارل ماركس إلى نيقولاي لينين. ويقول جوستاف لانسون "كان جميع تقدم أحرز طوال قرن من الزمان في الديمقراطية، والمساواة، وحق التصويت للجميع، وكل نادىوى الأحزاب المتطرفة التي قد نكون موجة المستقبل، والحرب على الثراء والملكية، وكل الحركات المحرضة للجماهير الكادحة المعانية، جميع أولئك كان، من بعض النواحي، من عمل روسو"(93) أنه لم يخاطب المثقفين والكبار بالمنطق والحجة، بل تحدث إلى الشعب كله بشعور وحماسة في لغة يستطيعون فهمها، وكانت حرارة بيانه، في السياسة كما في الأدب، أقوى من سلطان قلم فولتير.

الإرادة العامة

الثورة الفرنسية

التأثير على الولايات المتحدة الأمريكية

نقد روسو

پورتريه لروسوفي سنواته الأخيرة.


التقدير والتأثير

أعماله الرئيسية

  • Dissertation sur la musique moderne, 1736
  • Discourse on the Arts and Sciences (Discours sur les sciences et les arts), 1750
  • Narcissus, or The Self-Admirer: A Comedy, 1752
  • Le devin du village: an opera, 1752, scorePDF (21.7 MB)
  • Discourse on the Origin and Basis of Inequality Among Men (Discours sur l'origine et les fondements de l'inégalité parmi les hommes), 1754
  • Discourse on Political Economy, 1755
  • Letter to M. D'Alembert on Spectacles, 1758 (Lettre à d'Alembert sur les spectacles)
  • Julie, or the New Heloise (Julie, ou la nouvelle Héloïse), 1761
  • Emile, or On Education (Émile, ou de l'éducation), 1762
  • The Creed of a Savoyard Priest, 1762 (in Émile)
  • The Social Contract, or Principles of Political Right (Du contrat social), 1762
  • Four Letters to M. de Malesherbes, 1762
  • Pygmalion: a Lyric Scene, 1762
  • Letters Written from the Mountain, 1764 (Lettres de la montagne)
  • Confessions of Jean-Jacques Rousseau (Les Confessions), 1770, published 1782
  • Constitutional Project for Corsica, 1772
  • Considerations on the Government of Poland, 1772
  • Letters on the Elements of Botany
  • Essay on the Origin of Languages, published 1781 (Essai sur l'origine des langues)
  • Dialogues: Rousseau, Judge of Jean-Jacques, published 1782
  • Reveries of a Solitary Walker, incomplete, published 1782 (Rêveries du promeneur solitaire)

إصدارات بالإنگليزية

  • Basic Political Writings, trans. Donald A. Cress. Indianapolis: Hackett Publishing, 1987.
  • Collected Writings, ed. Roger Masters and Christopher Kelly, Dartmouth: University Press of New England, 1990–2010, 13 vols.
  • The Confessions, trans. Angela Scholar. Oxford: Oxford University Press, 2000.
  • Emile, or On Education, trans. with an introd. by Allan Bloom, New York: Basic Books, 1979.
  • "On the Origin of Language", trans. John H. Moran. In On the Origin of Language: Two Essays. Chicago: University of Chicago Press, 1986.
  • Reveries of a Solitary Walker, trans. Peter France. London: Penguin Books, 1980.
  • 'The Discourses' and Other Early Political Writings, trans. Victor Gourevitch. Cambridge: Cambridge University Press, 1997.
  • 'The Social Contract' and Other Later Political Writings, trans. Victor Gourevitch. Cambridge: Cambridge University Press, 1997.
  • 'The Social Contract, trans. Maurice Cranston. Penguin: Penguin Classics Various Editions, 1968–2007.
  • The Political writings of Jean-Jacques Rousseau, edited from the original MCS and authentic editions with introduction and notes by C.E.Vaughan, Blackwell, Oxford, 1962. (In French but the introduction and notes are in English).

نصوص أونلاين

  • أعمال من Jean-Jacques Rousseau في مشروع گوتنبرگ
  • خطأ لوا في وحدة:Internet_Archive على السطر 573: attempt to index field 'wikibase' (a nil value).
  • Works by جان-جاك روسوat LibriVox (public domain audiobooks) Speaker Icon.svg
  • A Discourse on the Moral Effects of the Arts and Sciences English translation
  • Confessions of Jean-Jacques Rousseau English translation, as published by Project Gutenberg, 2004 [EBook #3913]
  • Considerations on the Government of Poland English translation
  • Constitutional Project for Corsica English translation
  • Discourse on Political Economy English translation
  • Discourse on the Origin and Basis of Inequality Among Men English translation
  • The Social Contract, Or Principles of Political Right English translation
  • نطقب:PDFWayback English translation
  • Full Ebooks of Rousseau in French on the website 'La philosophie'
  • (G.D.H. Cole translation; full text)
  • Narcissus, or The Self-Admirer: A Comedy English translation
  • Project Concerning New Symbols for Music at the Internet Archive French text and English translation, archived from the original on 2008-12-20
  • (بالفرنسية) Texts of J.-J. Rousseau and biography at athena.unige.ch
  • (بالفرنسية) Full Text of J.-J. Rousseau

انظر أيضاً

  • ديمقراطية
  • فلسفة التعليم لدى روسو
  • ليبرالية
  • قائمة المفكرين الليبراليين
  • Political absolutism
  • رومانسية
  • اشتراكية
  • معهد روسو
  • شمولية

المصادر

  • Abizadeh, Arash (2001). and the Passions" Political Theory 29.4: 556-82.
  • Bertram, Christopher (2003). Rousseau and The Social Contract. London: Routledge.
  • Cooper, Laurence (1999).Rousseau, Nature and the Problem of the Good Life. Pennsylvania: Pennsylvania State University Press.
  • Cottret, Monique, Cottret, Bernard, Jean-Jacques Rousseau en son temps, Paris, Perrin, 2005.
  • Cranston, Maurice (1982). Jean-Jacques: The Early Life and Work. New York: Norton.
  • Cranston, Maurice (1991). The Noble Savage. Chicago: University of Chicago Press.
  • Cranston, Maurice (1997). The Solitary Self. Chicago: University of Chicago Press.
  • Damrosch, Leo (2005). Jean-Jacques Rousseau: Restless Genius. New York: Houghton Mifflin.
  • Dent, N.J.H. (1988). Rousseau : An Introduction to his Psychological, Social, and Political Theory. Oxford: Blackwell.
  • Dent, N.J.H. (1992). A Rousseau Dictionary. Oxford: Blackwell.
  • Dent, N.J.H. (2005). Rousseau. London: Routledge.
  • Derrida, Jacques (1976). Of Grammatology, trans. Gayatri Chakravorty Spivak. Baltimore: Johns Hopkins Press.
  • Farrell, John (2006). Paranoia and Modernity: Cervantes to Rousseau. New York: Cornell University Press.
  • Garrard, Graeme (2003). Rousseau's Counter-Enlightenment: A Republican Critique of the Philosophes. Albany: State University of New York Press.
  • Gauthier, David (2006). Rousseau: The Sentiment of Existence. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Lange, Lynda (2002). Feminist Interpretations of Jean-Jacques Rousseau. University Park: Penn State University Press.
  • Melzer, Arthur (1990). The Natural Goodness of Man: On the System of Rousseau's Thought. Chicago: University of Chicago Press.
  • Pateman, Carole (1979). The Problem of Political Obligation: A Critical Analysis of Liberal Theory. Chichester: John Wiley & Sons.
  • Riley, Patrick (ed.) (2001). The Cambridge Companion to Rousseau. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Robinson, Dave & Groves, Judy (2003). Introducing Political Philosophy. Icon Books. ISBN 1-84046-450-X.
  • Starobinski, Jean (1988). Jean-Jacques Rousseau: Transparency and Obstruction. Chicago: University of Chicago Press.
  • Strauss, Leo (1953). Natural Right and History. Chicago: University of Chicago Press, chap. 6A.
  • Strauss, Leo (1947). "On the Intention of Rousseau," Social Research 14: 455-87.
  • Strong, Tracy B. (2002). Jean Jacques Rousseau and the Politics of the Ordinary. Lanham, MD: Rowman and Littlefield.
  • Wokler, Robert (1995). Rousseau. Oxford: Oxford University Press.

أعماله الرئيسية

  • Discourse on the Arts and Sciences (Discours sur les sciences et les arts), 1750
  • Narcissus, or The Self-Admirer: A Comedy, 1752
  • Le Devin du Village: an opera, 1752, scorePDF (21.7 MiB)
  • Discourse on the Origin and Basis of Inequality Among Men (Discours sur l'origine et les fondements de l'inégalité parmi les hommes), 1754
  • Discourse on Political Economy, 1755
  • Letter to M. D'Alembert on Spectacles, 1758 (Lettre à d'Alembert sur les spectacles)
  • Julie, or the New Heloise (Julie, ou la nouvelle Héloïse), 1761
  • Émile: or, on Education (Émile ou de l'éducation), 1762
  • The Creed of a Savoyard Priest, 1762 (in Émile)
  • The Social Contract, or Principles of Political Right (Du contrat social), 1762
  • Four Letters to M. de Malesherbes, 1762
  • Letters Written from the Mountain, 1764 (Lettres de la montagne)
  • Confessions of Jean-Jacques Rousseau (Les Confessions), 1770, published 1782
  • Constitutional Project for Corsica, 1772
  • Considerations on the Government of Poland, 1772
  • Essay on the origin of language, published 1781 (Essai sur l'origine des langues)
  • Reveries of a Solitary Walker, incomplete, published 1782 (Rêveries du promeneur solitaire)
  • Dialogues: Rousseau Judge of Jean-Jacques, published 1782

نسخ بالإنجليزية

  • Basic Political Writings, trans. Donald A. Cress. Indianapolis: Hackett Publishing, 1987.
  • Collected Writings, ed. Roger D. Masters and Christopher Kelly, Dartmouth: University Press of New England, 1990-2005, 11 vols. (Does not as yet include Émile.)
  • The Confessions, trans. Angela Scholar. Oxford: Oxford University Press, 2000.
  • Emile, or On Education, trans. with an introd. by Allan Bloom, New York: Basic Books, 1979.
  • "On the Origin of Language," trans. John H. Moran. In On the Origin of Language: Two Essays. Chicago: University of Chicago Press, 1986.
  • Reveries of a Solitary Walker, trans. Peter France. London: Penguin Books, 1980.
  • 'The Discourses' and Other Early Political Writings, trans. Victor Gourevitch. Cambridge: Cambridge University Press, 1997.
  • 'The Social Contract' and Other Later Political Writings, trans. Victor Gourevitch. Cambridge: Cambridge University Press, 1997.
  • 'The Social Contract, trans. Maurice Cranston. Penguin: Penguin Classics Various Editions, 1968-2007.

نصوص على الإنترنت

Wikisource has original works written by or about:
جان-جاك روسو
  • Emile French text and English translation (Grace G. Roosevelt's revision and correction of Barbara Foxley's Everyman translation, at Columbia)
  • (G.D.H. Cole translation; full text)
  • 'Elementary Letters on Botany', 1771-3PDF (4.23 MiB) English translation
  • A Discourse on the Moral Effects of the Arts and Sciences English translation
  • Narcissus, or The Self-Admirer: A Comedy English translation
  • Discourse on the Origin and Basis of Inequality Among Men English translation
  • Discourse on Political Economy English translation
  • The Creed of a Savoyard Priest English translation
  • The Social Contract, Or Principles of Political Right English translation
  • Confessions of Jean-Jacques Rousseau English translation, as published by Project Gutenberg, 2004 [EBook #3913]
  • Constitutional Project for Corsica English translation
  • Considerations on the Government of Poland English translation
  • أعمال من Jean-Jacques Rousseau في مشروع گوتنبرگ

وصلات خارجية

  • Rousseau Association/Association Rousseau, a bilingual association (English and French) devoted to the study of Rousseau's life and works
  • The European Enlightenment: Jean-Jacques Rousseau
  • Jean-Jacques Rousseau, from Encyclopedia Britannica, latest edition full article.
  • Jean-Jacques Rousseau page at Internet Encyclopedia of Philosophy
  • Jean-Jacques Rousseau Bibliography


  1. ^ ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
تاريخ النشر: 2020-06-04 20:40:20
التصنيفات: صفحات بها أخطاء في البرنامج النصي, Articles with hCards, جان-جاك روسو, فلاسفة التنوير, فلاسفة القرن 18, تعليم بديل, Swiss educationists, مفكرون ربوبيون, فلاسفة معاصرون مبكرون, موسوعيون, French memoirists, منظرو موسيقى فرنسيون, روائيون فرنسيون, فلاسفة فرنسيون, Philosophes, فلاسفة سياسيون, منظرون سياسيون, Swiss memoirists, منظرو موسيقى سويسريون, روائيون سويسريون, فلاسفة سويسريون, نباتيون فرنسيون, كتاب سيرة ذاتية, كاثوليك فرنسيون, أشخاص من جنيڤ, مدفونون في الپانثيون, مواليد 1712, وفيات 1778, Pages with citations using unsupported parameters

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

السودان.. البرهان يجمد نشاط النقابات واتحاد أصحاب العمل

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:29
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 86%

الحوثيون يعاقبون مرضى السرطان بعد انكشاف مقتل 20 طفلاً بدواء فاسد

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:33
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 87%

البيضاء.. مقتل قائد شرطة النجدة برصاص قيادي حوثي

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:30
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 91%

أزمة الحوار بين السنّة والشيعة سببها إيران

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:18:25
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 85%

طالبان باكستان تلغي الهدنة وتأمر بشن هجمات بأنحاء البلاد

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:31
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 93%

إسرائيل تروج لـ"إيلات" على حساب سيناء المصرية في المغرب

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:28
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 98%

البجيري.. وجهة الشتاء تعود بعد عامين من التطوير

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:18:36
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 85%

وفاة عريس أردني بعد 10 أيام من زفافه.. وحماته تنعاه بكلمات مؤثرة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:18:33
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 100%

لقاء مرتقب بين صالح والمشري في القاهرة لحل الخلافات

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:18:15
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 97%

حكاية سعودي قضى 33 عاماً في جمع القطع التراثية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:18:29
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 95%

أميركا: على الحوثيين وقف هجماتهم على الموانئ النفطية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:18:03
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 87%

المغرب يسجل 44 إصابة جديدة دون تسجيل وفيات

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:19:01
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 66%

سقوط قتلى وجرحى في انهيار عقار بمنطقة إمبابة في مصر

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:51
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 93%

منظمة دولية: حرب أوكرانيا زادت من خطر استخدام السلاح الكيمياوي

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:32
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 88%

قلق إسرائيلي كبير من التعاون العسكري الروسي الإيراني في أوكرانيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:34
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 90%

مفاجأة.. بنزيما قد يعود إلى صفوف فرنسا لاستكمال كأس العالم!

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:17:11
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 94%

روسيا تؤجّل المحادثات النووية المقررة مع واشنطن في القاهرة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-28 18:18:04
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 86%

تحميل تطبيق المنصة العربية