بنيوية

البنيوية Structuralism أساسا منهج درس مستخدم في عدة تخصصات فهمية تقوم على دراسة العلاقات المتبادلة بين العناصر الأساسية المكونة لبنى يمكن ان تكون: عقلية مجردة، لغوية، اجتماعية، ثقافية.

برزت البنيوية في بدايتها في مطلع القرن التاسع عشر ضمن حقل فهم النفس، لكن نجمها سطع عملا في منتصف القرن العشرين حين لاقت شعبية منبترة النظير مخترقة جميع أنواع العلوم والمجالات. أبرز من عمل ضمن اطارها وعمل على تطويرها فرديناند دي سوسير وكلود ليڤي شتراوس.

فهرست

النظرية

وأساس هذا التيار نظرية مفادها، حتى العالم لا يتألف من عناصر أووحدات ذات وجود مستقل أومنفرد، وإنما من وحدات توجد ضمن بنية أونسق عام يضبط علاقاتها المتبادلة لتكتسب معنى وقيمة، إضافة إلى خاصيتها الفردية. وتفقد هذه الوحدات معانيها وأهميتها خارج إطار هذا النسق أوالبنية. ولا يبحث البنيويون في خصائص الوحدات والأجزاء أومحتواها، وإنما في علاقة الأجزاء فيما بينها بقصد الكشف عن وحدة العمل الكلية أوالنسق. وتعتمد هذه النظرية التي طبقت في جميع المجالات، وخاصة في العلوم الإنسانية والفيزيائية، على ثلاث مقولات رئيسية هي: الكلية والتحول والضبط الذاتي. والكلية نظام تام من العلاقات المتبادلة بين جميع الوحدات التي تنتمي إليه، وتستمد منه معناها وقيمتها. فاللغة بنية كليّة، أونسق من العلاقات الدلالية والصرفية والنحوية، يحدد معاني الحدثات ووظائفها. فحدثة mouse، وهي وحدة في بنية اللغة الإنكليزية الكليّة، تعني «فأراً» في هذه اللغة وحدها، بمقارنتها بالحدثات التي تنتمي إلى المجموعة الوظيفية ذاتها، كالكلب والبقرة والقطة؛ فإذا أخرجت من هذه البنية تفقد هذا المعنى، ما لم يكن لها معنى آخر في نسق لغوي آخر، إذا كان صوتها يوحي بهذا المعنى؛ وهذا نادر، ولاقد يكون إلا مصادفة.

أما التحول فهونظام تتمتع به البنية، على ثباتها، ليساعد في إيجاد معاني وهجريبات متجددة دائماً، لكن ضمن قواعدها الثابتة والضبط الذاتي لكل وحدة فيها. فمثلاً إذا أي حدثة في اللغة لها وظيفة ثابتة ضمن البنية الكلية، كأن تكون اسماً، أوعملاً أونعتاً، ولكن يمكن حتى ترد هذه الحدثة في عدة تشكيلات وهجريبات تحول معناها بشرط حتى تحافظ على وظيفتها. فحدثة cat في الإنكليزية وهي اسم، ولا يمكن حتى تأتي بوظيفة عمل إلا بخرق القانون العام للبنية، ولكنها تأتي في عدة هجريبات. وضمن هذا التحول أيضاً، يمكن لهذه الحدثات حتى تكتسب معاني جديدة حسب تبدل العلاقات بعضها ببعض وحسب التغيرات التي تطرأ على استخدام اللغة في مجتمعاتها لتكسبها مدلولات جديدة. وهنا يأتي الضبط الذاتي ليحافظ على وظيفة الوحدات وعلاقتها ببعضها ضمن ضوابط ثابتة داخل النسق العام.


البنيوية في اللغة

يعد اللغوي السويسري فرديناند دي سوسور واضع الأسس العملية للبنيوية الألسنية. ففي «محاضرات في الألسنية العامة» (1915) Cours de linguistique générale ميز دي سوسور اختلافاً بين ثلاثة مستويات داخل النشاط اللغوي: اللسان وهوالمظهر الأوسع للنشاط اللغوي لأنه يضم المقدرة الإنسانية على الكلام؛ واللغة وهي نظام يستخدمه الناس لتوليد المحادثة؛ والكلام وهوالشكل الفردي الخاص في استعمال اللغة. ويعد تعريف دي سوسور للّغة بأنها «نظام لا يعهد إلا ترتيبه الخاص» أول توصيف للّغة كبنية. وقد وضع دي سوسور مجموعة من الأدوات المفهومية أسهمت في وصف ذاك النظام، وكان لها الأثر الكبير في تطوير المنهج البنيوي بوجه عام.

1ـ التزامن والتزمّن: التزامن هودراسة حال اللغة والعلاقة بين عناصرها في فترة زمنية محددة من دون الاهتمام بتطورها التاريخي، ويقوم على اعتبار اللغة كلاً متماسكاً إلى حد ما. أما التزمّن فهودراسة اللغة في تطورها من خلال التغيرات التي تطرأ عليها. فالحاجة قائمة في العلوم إذن للتفريق بين محورين: محور أفقي (محور المعيّة) الذي يهتم بالعلاقات القائمة بين عناصر تتواجد في الوقت نفسه، ومحور شاقولي (محور التعاقب) الذي يهتم بتغير العناصر والعلاقات بينها في أوقات متعاقبة. وقد اهتم دي سوسور بالتزامن لدراسة اللغة، وليس بالتزمن.

2ـ العلاقات الهجريبية syntagmatique والعلاقة التبادلية paradigmatique: العلاقات الهجريبية هي تلك التي تقيمها وحدة ألسنية ما مع الوحدات الأخرى في المستوى نفسه لتشكل هجريباً (مثل العلاقات التي تقيمها الحدثات لبناء جملة)؛ أما العلاقات التبادلية فهي تلك التي توجد بين وحدات تقوم بالوظيفة نفسها ويمكن إبدالها فيما بينها.

3 ـ العلامة: رأى سوسور حتى اللغة نظام «علاماتي» وليس منتوجاً تاريخياً، وأعاد تعريف العنصر الرئيس للبنى اللغوية فأطلق عليه تسمية علامة ثم بيّن حتى لهذه العلامة ماهية مزدوجة، أي أنها كلٌّ مركب يربط بين صورة سمعية (الدالّ) وتصور ذهني (المدلول) ولا يسبب أحدهما وجود الآخر، ولكن يعتمدان على بعضهما في تشكيل علامة تعد عنصراً في بنية اللغة ككل. أما العلاقة التي تربط بينهما فهي علاقة خطية واعتباطية، أي إذا اختيار هذه الصورة السمعية حاملاً لذاك التصور الذهني هوأمر مفروض على مستخدمي اللغة نفسها في إطار بنية اللغة التي تسهم في حياة الناس في مجتمعاتهم.

تطورت البنيوية الألسنية تطورا كبيرا بعد دي سوسور، وذلك في ثلاثة مناح أساسية هي:

1ـ مدرسة براگ: هجرزت التوجهات الأساسية لهذه المدرسة حول المظاهر الصوتية للّغة. وكان من أشهر أقطابها الروسيان نيكولاي تروبتسكوي ومن أشهر خطه «مبادئ التصويتية»، ورومان ياكوبسون[ر] R.Jakobson الذي اشتهر إلى جانب دراساته في الألسنية بدراساته في الشعرية La poétique التي شرح فيها نظريته حول العلاقات الديالكتيكية في اللغة وفي اللسان، وعرضها بشكل محدد في دراسته المشهجرة مع كلود لڤي شتراوس حول قصيدة «الهررة» لبودلير[ر]، وكذلك في كتابه «مسائل في الشعرية» (1973) Questions de poétique وقد كان لشتراوس كبير الأثر في إرساء قواعد التحليل اللغوي.

2ـ المدرسة الوظيفية الفرنسية: وأهم ممثليها أندريه مارتينيه الذي ركز دراساته على التصويتية في «اقتصاد التغيرات التصويتية» (1955) ، و«مبحث في التصويتية التزمنية» (1955) وعلى مفهوم «التمفصل المزدوج». وإيميل بنفينست في كتابه «مسائل في الألسنية العامة» (1966) Problèmes de linguistique générale.

3ـ مدرسة كوپنهاگن: وأهم أعلامها لويس يلمسليڤ (1899 - 1965) الذي طوّر مفاهيم دي سوسور وسعى إلى تأسيس فهم للدلالة قائم على وجود تشابه في بنية الشكل والمضمون.

البنيوية في الأدب

تطورت مناهج التحليل البنيوي في الأدب انطلاقاً من النظرة إلى النص الأدبي كمظهر من مظاهر اللغة، ما يجعل بالإمكان دراسته بوساطة الشبكات أوالبنى المستعملة في دراسة اللغة: بنى نحوية، خطابية، صوتية، ليصبح بذلك نسق اللغة نموذجاً للنقد. وقد طبق البنيويون التحليل البنيوي على الأجناس والأشكال والأساليب الأدبية لفهم كيف من الممكن أن تعمل وكيف هجرب ضمن نسق لغوي ذي نظام ثابت ومتغير في الوقت نفسه ضابط النصوص الأدبية، وطبق هذا النظام على بنية الرواية، ولم يكن التطبيق على المعنى الذي يقدمه النص الأدبي بل على البنية التي يخضع لها النص ليولد المعنى. ومضى البنيويون إلى إظهار العمل الأدبي نموذجاً أومنتجاً يمثل هذه البنية. وكان لدراسة ليفي شتراوس للأسطورة وبنيتها أكبر الأثر في تطوير نظرية النقد البنيوي في الأدب، إذ سلط الضوء على أسطورة أوديب مثلاً، بأن تناولها وقسّمها إلى أحداث صغيرة تتكرر، ويعاد هجريبها وتشكيلها ضمن شبكة ذات بعدين متضادين ليستخرج منها التقابلات المهمة ذات الدلالة التي يُفترض حتى الأسطورة تدور حولها، ليس حسب التسلسل الزمني أوالتراكم الحدثي وإنما الدلالي البنيوي لها. فأحداث الأسطورة مهما كان عددها تُصنف حسب البنية التي تحكمها إلى أعمدة أربعة تبعاً للمعايير التالية: الإفراط في تقدير صلات القرابة (أوديب يتزوج يوكاستا)، الحط من قدر صلات القرابة (أوديب يقتل أباه)، اغتال الوحوش (أوديب يقتل الهولة)، صعوبة الوقوف بانتصاب (لايوس أعسر، لابداكوس أعرج). إلى غير ذلك فجميع الأساطير تتبع نظاماً بنيوياً واحداً ولكن تظهر في أشكال متعددة ومتكررة.

إلى غير ذلك يوظف النص الأدبي نموذجاً يوضح البُنى والمعايير التي تحكمه، ويعتمد في هذا على مبدأ القطبية الثنائية أوالثنائيات الضدية التي يُبنى على أساسها الإطار الذي يولد المعنى ويُحصر ضمنه مثل: الطبيعة/ الحضارة، الذكر/ الأنثى، الحياة/ الموت، المفتوح/ المغلق، الخير/ الشر.

وقد أسهم ياكوبسون أيضاً في دراسته للنص الأدبي واللغة المستخدمة للكتابة باكتشاف قوانين جديدة تحكم النص، فعارض النظرة السائدة حول معايير الرواية الأدبية التي تقول بأن الرواية الأدبية تتقدم زمنياً من خلال تطور الأحداث فيها، وبأنها لاتخضع لقانون التزامن وإنما التزمن فقط؛ وقدم طرحاً جديداً بأن اللغة الأدبية موجودة في فضاء محدد ترتبط فيه عناصرها ببعضها أفقياً، كما العلاقة بين المركبات والحدثات التي تؤلف جملة؛ وشاقولياً بعلاقة تبادلية تسمح للحدثات التي تنتمي إلى الفئة الوظيفية نفسها بأن تحل محل بعضها في الجملة. فهناك إذاً محور شاقولي يختار فيه الأديب الحدثات ثم يركبها حسب المحور الأفقي في فضاء بنيوي يولد النص الأدبي الروائي الذي تضبطه معايير وقوانين بنية هذا الفضاء. وفقاً لهذا يظهر النص تبعاً لنظامه اللغوي وليس لإرادة المؤلف، وعلى الباحث حتى يسبح في فضاء النص ليكشف البنية الحقيقية عن طريق التناص، وما يضعه المؤلف هونصوص مكتوبة سلفاً لنظام أونسق للكتابة مسبق الصنع.

ولقد أجريت أولى المقاربات البنيوية للأدب في روسية. فهناك من جهة دراسة ڤلاديمير پروپ (1895-1970) V.Propp عن الحكايات الشعبية في روسية: «مورفولوجية الحكايات الشعبية» (1928) Morphology of the Folktale، وفيها يعالج مئة حكاية من الحكايات الشعبية ويدرس جميع حكاية على حدة بصفتها بنية متفردة، ليستنتج حتى شخصيات الحكايات متغيرة لكن وظائفها «أي ما تعمله الشخصية من وجهة نظر أهميتها في مجرى الحدث» تظل ثابتة ومحدودة، ونجد من جهة أخرى الدراسات التي خطت في المدة الممتدة بين 1915 و1930 ولم تعهد في أوربة إلا في الستينات تحت اسم الشكلانية Formalisme الروسية. ومن بين واضعي هذه الدراسات تتميز أسماء توماشڤسكي (1890-1957) B.V.Tomasjevski، وآيخنبوم (1886-1959) B.M.Eichenbaum ، وشكلوڤسكي (1893ـ) V.V.Chklovski، وتينيانوڤ (1894-1943) V.V.Tynyanov، وڤينوگرادوڤ (1895-1969) V.V.Vinogradov، كما تدخل في سياق هذه المقاربات كتابات الناقد ميخائيل باختين M.Bakhtin «فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية إبان النهضة» (1965)، و«شعرية دستويفسكي» (1929)، و«فهم جمال الرواية ونظريتها» (1965)، و«جمالية الإبداع اللغوي» (1979)، و«الماركسية وفلسفة اللغة» (1929). وقد وجدت دراسات بروب ورثة لها في النقد البنيوي الفرنسي لدى جميع من الجيرداس جوليان گريماس (1917- 1986) A.J.Greimas وكلود بريمون (1929-) Cl.Bremond وتزفيتان تودوروف (1939-) T.Todorov.

اهتم الناقد اللتواني الأصل گريماس، بوجه خاص، بفهم الدلالة في مؤلفاته «فهم الدلالة البنيوي» (1966) و«أبحاث في فهم الدلالة» (1970)، و«فهم الدلالة والعلوم الاجتماعية» (1976) فوضع مجموعة من المفاهيم التي تسمح باستشفاف البنية الأساسية للمعنى. وقد نظم هذه المفاهيم في مخطط نمطي قابل للتطبيق على أي نص سردي. وتابع بريمون في «منطق الحكاية» (1973) الارتباط المنطقي للوظائف التي تتضمنها جميع حكاية ليحدد الإمكانات البنيوية لترابط السرد تبعا لمنظومة ارتقاء وانحطاط، مما يسمح له بوضع تصنيف للمقاطع السردية. أما تودوروف فقد استخلص من دراساته للأدب العجائبي في «مدخل إلى الأدب العجائبي» (1970) Introductionla littérature fantastique الهيكلية البدئية العميقة التي تُبنى عليها نصوص هذا الجنس الأدبي.

إلى جانب هذه التصديات البنيوية لقضايا عامة في الأدب هناك مقاربات ترد على ما أخذه نقاد البنيوية على منهجيتها من عدم صلاحيتها لقراءة النصوص الفردية. ومن أبرز ما ابتكر في هذا المضمار أعمال رولان بارت R.Barthes مثل دراسته «اس/ زد» (1970) S.Z التي يقدم فيها قراءة نقدية عملية لسيرة «العربي» لبلزاك، ودراسة تزفيتان تودوروف «قواعد ديكاميرون» (1969) Grammaire du Décaméron عن كتاب بوكاتشو، وجيرار جينيت (1930ـ) G.Genette في الجزء الثالث من كتاب «أشكال 3» (1972) Figures III الذي يقدم فيه دراسة منهجية لرواية «البحث عن الزمن المفقود» A la recherche du temps perdu لمارسيل بروست، ويعد هذا الكتاب المرجع الأساسي للدراسات السردية. وبهذه المقاربات وصلت البنيوية إلى فترة ما بعد البنيوية.


البنيوية في العلوم الإنسانية

سبق نجاح البنيوية في مجالات العلوم الإنسانية نجاحها في مجالي الأدب واللغة وخاصة في فهم الإناسة Anthropology، إذ بيّن الإناسي الفرنسي كلود ليفي-ستروس حتى الحمل التفصيلي للممارسات الاجتماعية يسمح باستخلاص البنى الخفية التي تحدد هذه الممارسات، وهذا ما أثبته في عديد من خطه مثل «فهم الإناسة البنيوي» (1955) Anthropologie Structurale، «النيئ والمطبوخ» (1964) Le cru et le cuit، «من العسل إلى الرماد» (1966) Du miel aux cendres. ومن المحطات المهمة في مقاربة البنيوية للعلوم الإنسانية أعمال لوي آلتوسير (1918-1990) L.Althusser الذي ينطلق في كتابيه «من أجل ماركس» و«قراءة رأس المال» الصادرين عام 1965 من البنى الاقتصادية والاجتماعية التي يدرسها ماركس في «رأس المال» ليصل إلى نظريته في التطبيق العملي «البراكسيس» Praxis سيرورةً للتحولات المستقلة، وأعمال ميشيل فوكو(1926 - 1984) M.Foucault «الحدثات والأمور» (1966) Les mots et les choses و«أحفوريات الفهم» (1969) L’Archéologie du savoir وفيها يرى أنه لتطور العلوم الإنسانية يجب التخلي عن تراكمات الأنظمة الإنسانية التي تدل على انحطاط الإنسان أكثر من رقيه، وعلى جهله أكثر من وعيه، وتدمر هذا الإنسان وما حوله، بسبب الإيديولوجيات التي هي مجرد أوهام وأباطيل يخلقها فتقيده.

ما بعد البنيوية

بدأت البنيوية في الانهيار في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسة ما اصطلح على تسميته ما بعد البنيوية. وكان رولان بارت وجاك دريدا أبرز فلاسفتها. وكان بارت قد تحول عن البنيوية إلى ما بعد البنيوية، وانتقل في دراسته من أهمية المحرر في هجريب النص الأدبي باعتماد معايير وبنى جاهزة الصنع إلى دور قارئ النص في توليد معاني جديدة لا نهاية لها. واتى هذا في منطقته «موت محرر» (1968) La mort d’un auteur التي أعرب فيها استقلالية النص وحصانته ضد أي تقييد له بمعايير أوبحدود مضمونة أوبحدود ما قصده المحرر منه، فيصبح القارئ بهذا هوالمنتج للنص ولمعان متجددة فيه. يؤكد بارت في كتابه «متعة النص» (1975) Le plaisir du texte أنه في غياب المحرر تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص لإمكانات «اللعب» بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلياً فوضوياً عن جميع القيود، وإنما تفكيكاً وهدماً منظمين لإنتاج معان أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتجاً له وليس مستهلكاً، وهذا أساس الممضى التفكيكي، الذي طوره ديريدا، وهوأساس «مابعد البنيوية».

كان لمنطقة ديريدا الشهيرة «البنية والدال واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» (1966) أكبر الأثر في الخطاب ما بعد البنيوي، إذ شكك فيها بأسس البنيوية بقوله: «لكي لا تنهار يجب حتىقد يكون لها مركز خارج هذه البنى»، ووجود هذا المركز يدحض فكرة البنيوية ويظهر تناقضها من الداخل. وهويرى حتى هذا المركز غير ثابت، فمثلاً إذا نظرنا إلى المتضادات الثنائية على أنها الأحجار التي تشكل البنى، نرى أنها تعمل بصورة نسقية هرمية إذ تسيطر واحدة على الأخرى وتتمايز عنها (مثل ثنائية ذكر/ انثى)، ولكن إذا قلبت علامة التمايز هذه يتولد منطق تفكيكي يهدم البنية ويهز استقرارها ليعيد خلق معان جديدة دائمة التغير.

وإضافة إلى ديريدا كان فوكوFoucault ولاكان Lacan، في مجال التحليل النفسي، ناشطَين في حركة مابعد البنيوية على الرغم من أنهما كانا في البداية بنيويين، إذ طرح فوكوفي كتاباته نظريته بأن أي نظام علاماتي لا يمكن حتى يعمل بمعزل عن علاقات السيطرة التي تربط المفاهيم ببعضها، وطرح لاكان حتى اللاوعي وليد اللغة وليس العكس.

وفي حين يرى البنيويون حتى الإنسان لا يملك وسيلة للوصول إلى الحقيقة إلا عبر اللغة وبنيتها وليس العكس، فإن ما بعد البنيويين يرون أنه من المحال الوصول إلى الحقيقة، حتى عبر اللغة، فكل شيء تابع «لميتافيزيقية الوجود» والدال الكلامي مائع يسبح دائماً بعيداً ومتحرراً عن المدلول. وبهذا تصبح اللغة مائعة قابلة «للانزلاق» و«للانسكاب»، والعلامات تهجرب عشوائياً، لأنها تملك ديناميكية لا تظهر إلا في النص المكتوب، حيث تعيد تشكيل وخلق معان جديدة ضد المعنى الظاهر، ولاسيما حتى النص يبقى بعد موت المحرر، فيعمل النص ضد ذاته. إلى غير ذلك لا يمكن لمعاني الحدثات حتى تكون ثابتة، فالحدثات مشوبة بعكوساتها، مثلاً: لا يمكن إدراك «الليل» إلا بالرجوع لمفهوم «النهار». وقلب العلامة بين المتضادات يؤدي إلى عدم استقرار اللغة الذي هوأساس فلسفة «ما بعد البنيوية» التي هجرز على قراءة النص ضد نفسه، والبحث عن «لاوحدته» بدل وحدته، وعما خط فيه في «اللاوعي» بدل الظاهر السطحي.

وقد تأثر ما بعد البنيويين بفلسفة تخصصه وهايدگر وفرويد الذين رأوا فقدان «المركز» في عالمنا الفكري، بالمقارنة مع عصر النهضة الذي كان الإنسان فيه هوالمركز به يقاس جميع شيء؛ فإنسان القرن العشرين فقد هذا «المركز» في عملية عدم تمركز، بسبب الأحداث السياسية مثل الحرب العالمية التي كانت نهاية الوهم بأن أوربة هي مركز الحضارات والثقافات، أوبسبب ثورة الاكتشافات الفهمية مثل التوصل إلى نظرية النسبية التي قضت على مفهوم حتى الوقت والزمان مطلقان مركزيان، أوبسبب الثورة الفكرية والفنية مثل حركة الحداثة في الفن والأدب التي رفضت الانسجام في الموسيقى والسرد الزمني ووحدة النص في الرواية. ففي العالم ما بعد البنيوي لا يوجد مركزية ثابتة للأشياء ولا نقاط ثابتة مطلقة، فالكون الذي نعيش فيه لا تمركزي ونسبي في طبيعته، وهذا يعطي حرية «اللعب» بخلق مراكز جديدة متغيرة باستمرار إلى مالا نهاية. إلى غير ذلك لا توجد حقائق أكيدة، وإنما تفسيرات وتأويلات، لا يمكن لأي منها حتى يدعي الصحة أوالسيطرة أوالثبات. ولا يزال هناك جدل كبير حول إذا ما كانت ما بعد البنيوية امتداداً للبنيوية أم ثورة عليها، ومع حتى ما بعد البنيوية سيطرت وتفوقت على البنيوية إلا أنها يمكن حتى تُعد مجرد مراجعة وصياغة جديدة لها.

انظر أيضاً

  • الفلسفة القارية
  • حركة ثقافية
  • Deconstructivism: an architectural movement inspired by deconstruction
  • deconstruction-and-religion
  • feminism
  • feminist theory
  • indeterminacy (philosophy)
  • intentional fallacy
  • list of thinkers influenced by deconstruction
  • نقد أدبي
  • نظرية أدبية
  • تمظهر
  • ما بعد الحداثة
  • ما بعد البنوية
  • psychoanalysis
  • queer theory
  • recursionism
  • structuralism
  • deconstruction (building): a way to un-build (deconstruct) buildings
  1. ^ حسان عباس، ريما حكيم. "البنيوية وما بعد البنيوية". الموسوعة العربية. Retrieved 2011-12-22.
تاريخ النشر: 2020-06-04 20:54:02
التصنيفات: جغرافيا بشرية, نقد أدبي, بنيوية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

أوكرانيا: نتابع تدريبات بيلاروسيا العسكرية مع روسيا عن كثب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:21
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 57%

وزير دفاع إسرائيل يدعو من البحرين لمواجهة "التهديدات البحرية

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:25
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 54%

إسرائيل توقع مذكرة تفاهم أمنية مع البحرين

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:16
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 64%

بايدن: خليفة البغدادي فجر نفسه واعتمدنا على القوات الخاصة لق

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:23
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

البنك المركزي يعلن تثبيت أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير

المصدر: المصري اليوم - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:02
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 55%

قبل مباراة مصر والكاميرون.. قارئ يرسم صلاح وأبو جبل بالطريقة الرقمية

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:12
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 35%

مصدر مغربى مسئول: إنقاذ الطفل المغربي ريان يحتاج 4 ساعات

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:11
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 43%

اشتية: إسرائيل تعرقل تطور الاقتصاد الفلسطيني

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:19
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 63%

لجنة الانضباط بـ"كاف" تلغى عقوبة مروان داوود بعد استئناف اتحاد الكرة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:09
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 38%

مفتي لبنان يبحث مع وزير خارجية الفاتيكان الأوضاع في البلاد

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:27
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 56%

دبي تستقبل 7.28 مليون زائر دولي في 2021

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:44
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 96%

«التعليم» تعلن ضوابط امتحانات الثانوية العامة

المصدر: المصري اليوم - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:01
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

واشنطن تدين مقتل عابرة جنسيا على يد شقيقها في العراق

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:26
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 68%

تشديدات أمنية في محيط ملعب أوليمبى قبل مواجهة مصر والكاميرون.. فيديو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:13
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 41%

الصحة العالمية: 11% من سكان أفريقيا تلقوا لقاح كورونا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:17
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 51%

"ثاني خليفة لداعش".. من هو قرداش الذي أعلنت واشنطن مقتله؟

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-02-03 18:21:22
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 52%

تحميل تطبيق المنصة العربية