النبي محمد (فيلم 1926)

عودة للموسوعة

النبي محمد (فيلم 1926)

غلاف مجلة الستارة في عددها الصادر عام 1928، بعد سنتين من معركة الفيلم، وأثناء إقامته في باريس، الصورة من كتاب "روح مصر": جمع وتوثيق ودراسة جعفر إصلاح.

النبي محمد، هوفيلم أُقترح إنتاجه في عام 1926. كان الفيلم إنتاج مصري هجري مشهجر، ليقوم ببطولته الممثل المصري يوسف وهبي بالتعاون مع الممثل والمخرج الهجري وداد عهدي. لم يُنتج الفيلم بسبب انتقادات لاذعة من رجال الأزهر والرأي العام المصري. ويعد الفيلم أقدم محاولة في السينما المصرية لتجسيد شخصية الرسول محمد، بدأها الفنان الراحل يوسف وهبي عام 1926، عندما حاول تجسيد شخصية الرسول في فيلم بالتعاون مع الممثل والمخرج الهجري وداد عهدي، ولكن الأمر فشل عندما وجهت له انتقادات لاذعة من رجال الأزهر والرأي العام. وكان الفيلم الذي عرض على يوسف وهبي مأخوذاً عن رواية تحمل اسم "النبي محمد"، ولكنه رفض الدور وصرح لجريدة الأهرام في عدد 22 مايوعام 1926 بأنه لن يقوم بقبول الفيلم، قائلًا: "إنني إذا كنت رضيت حتى ألعب هذا الدور فليس إلا لحملة شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتصويره أمام العالم الغربي بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة، وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة والإرشاد للدين الإسلامي. وأضاف: "ليفهم إخواني المصريين حتى شعاري ديني قبل جميع شيء، وبناء على قرار أصحاب الفضيلة الفهماء واحترامًا لرأيهم السديد، أعرب أنني عدلت عن تمثيل الدور وسأخطر الشركة بعزمي هذا". لم يتوقف الأمر عند تصريحات يوسف وهبي برفضه الفيلم؛ وإنما انتشرت الشائعات التي تؤكد توقيعه على عقد الفيلم، وهوما دفع الملك فؤاد للتدخل في تلك الأزمة، وهدد يوسف وهبي بسحب الجنسية المصرية منه، فكانت تلك هي نهاية الفيلم الذي لم يبدأ ولم يؤد يوسف وهبي مشهدًا واحدًا به.

خلفية الأحداث

في يوليو1926 كان عدد الصحف التي حصلت على تراخيص بالعمل نحو280 صحيفة، وكانت هدى شعراوي أمام تحدٍ أخلاقي، كداعية لتحرر النساء، عندما رفض ابنها علي بك شعراوي الاعتراف بنسب طفلته من المغنية المعروفة وقتها؛ فاطمة سري، على الرغم من خطاب نشرت مجلة الحاوي صورته يؤكد الزواج، بينما قادت مجلة المسرح (التي سيكون لها دور مهم في حكايتنا القادمة) حملة ضدها بمنطق: كيف من الممكن أن ترفضين نسب الطفلة وأنت سبب تبرج وتهتك وتحرر مئات النساء،يا ترى؟ وقتها كان هناك أكثر منعشرة آلاف فدان مزروعة بنبات القنب، والأفيون مخدر شعبي، بينما الحملة في أوجها ضد الكوكايين، وموسى مراد يلقى حامض الكبريتيك على الشيخ مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا بسبب ميراث السكاكيني، وراهب اسمه دوسيموني يقتحم غرفة الراهب جاكوموويطلق عليه الرصاص، بينما تصدر المحكمة حكمها على تنظيم شيوعي يضم مصريين وأجانب وشيوخًا ويهودًا ومسيحيين.

القصص لا تنتهي عن 1926؛ الذي بدا أنه مركز لحظات ما بعد انهيار الخلافة… كيف من الممكن أن عاشت القاهرة هذه اللحظات التي يظهر لي أحيانًا أننا ما نزال محشورين داخلها، ومع الزمن اعتبرنا هذا الحشر انتنطقاً في حد ذاته،يا ترى؟ موضوع كبير ويستحق دراسة وتأمل ونحن نقترب من مرور 100 عام على هذا “الحشر المهول”….هذا طبعا قبل الظهور الكابي لتنظيمات منتظري الخلافة…المهم اليوم اخترنا هذه الحكاية التي فيها من جميع شيء، صعود الطبقات الجديدة بفنونها، وصدمتها مع مراكز السلطة القديمة، الخوف من الضياع بعد 500 سنة خلافة، الفضيحة باعتبارها بديلاً لفوار الصراع الثقافي.. لنقرأ ونتسلى ونتأمل..


بداية الصراع: الملك، الرئيس والممثل

يوسف وهبي، الذي يعتبر من مؤسسي المسرح المصري.

الملك هوأحمد فؤاد، أمير مفلس أصبح بصفقة مع الحماية البريطانية أول ملك على مصر في أكتوبر 1917، ومن يومها ذاق طعم السلطة وتحول حلمه من اصطياد المال بأي وسيلة إلى خلق أسرة ملكية تتوارث الحكم، بل إنه بدأ يحلم بالخلافة الإسلامية.

والرئيس هومصطفى كمال أتاتورك، ضابط أوفد الجسد الميت للخلافة العثمانية إلى القبر، وحرر هجريا من الاستعمار، وأصبح بطلاً مثاليًّا لشباب رأى فيه تجسيد حلم الخروج من نفق الرجل العثماني المريض.

أما الممثل فلم يكن سوى يوسف وهبي، ابن الذوات الذي أصبح مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل كما وصفته الصحافة وهي تحكي حكاية تمرده على بيت أبيه عبد الله باشا وهبي مهندس الري، واحترافه التمثيل الذي كان وقتها مهنة محتقرة اجتماعيًّا.

شبح راسبوتين في الخبر

بدأت الحكاية كما تقول تفاصيل خبر نشرته مجلة المسرح، في باب على مسرح الفن، بعددها الصادر يوم 26 مايو1926 تحت عنوان في النهاية، يقول الخبر “أظن حتى القراء عهدوا من العدد الماضي حتى شركة سينماتوغرافية حضرت إلى مصر، وأنها تحاول حتى تتفق مع بعض الفرق المصرية لتمثل لها بعض الروايات. واليوم نقدم للقراء البيان التالي: اتفق مدير إدارة الفرقة وداد عهدي بك مع نجيب أفندي الريحاني على حتى يمثل له حلقة من حياة جحا. واتفق مع يوسف وهبي على حتى ينتقل مع بعض أفراد فرقته إلى باريس حيث يمثل للشركة رواية “النبي محمد”! ويشهجر نجيب أفندي الريحاني في تمثيل هذه الرواية فيقوم بتمثيل دور “معاذ”! وقد أخذ يوسف وهبي يستعد لإخراج دوره وصنع لنفسه صورًا فوتوغرافية للشكل الذي ابتدعه لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهي صورة لا تختلف عن صورة راسبوتين التي صنعها يوسف، في كثير أوقليل.

إذًا ففي عهد يوسف وهبي،قد يكون نبينا محمد رسول الله، وحامل فهم الدين الإسلامي، وناشر حدثته، يشبه تمامًا راسبوتين الجاسوس الدنيء والدجال وزئر النساء..”. لم ينته الخبر بعد لكن لا بد من الإشارة إلى أنني سمعت للمرة الأولى بحكاية فيلم “النبي محمد” في إطار المعركة التي دارت حول فيلم يوسف شاهين “المهاجر” عام 1994، وقد استدعى اتهام شاهين بأنه قدم شخصية النبي يوسف حكاية فيلم يوسف وهبي التي وردت تفاصيلها بعد ذلك في كتاب محمود قاسم “الدين في السينما المصرية” وكتاب محمد صلاح الدين “العقيدة في السينما المصرية”، ومؤخرًا صدرت وثائق المعركة حول فيلم النبي محمد في كتاب الناقد السينمائي سمير فريد “تاريخ الرقابة على السينما في مصر” باعتبارها أولى معارك الرقابة على السينما في مصر”.

رواية يوسف وهبي

أولى هذه الوثائق حكاية الفيلم من وجهة نظر يوسف وهبي كما وردت في مذكراته التي صدرت في حياته (عام 1976 بعنوان “عشت ألف عام” ويقول فيها “في أثناء الموسم (يقصد موسم 1926) زارني بمسرح رمسيس الأستاذ الأديب الهجري وداد عهدي، وقدم لي سيدًا يدعى الدكتور كروس، وأفهمني أنه شخصية لها وزنها، وأنه رسول عاهل هجريا الرئيس أتاتورك ومستشاره الخاص، وجنسيته ألمانية، وطلب مني حتى أحدد موعدًا معه لأمر هام جدًا، فهمت في اللقاء حتى د. كروس يمثل مؤسسة سينمائية ألمانية مشهورة، وقد نال موافقة رئيس الجمهورية الهجرية على إنتاج فيلم إسلامي ضخم كنادىية مشرفة للدين الإسلامي الحنيف وعظمته وسموتعاليمه، تشارك في نفقاته الحكومة الهجرية باسم “محمد رسول الله”، وقد أعد السيناريو، وصرحت بتصويره لجنة من كبار فهماء الإسلام في أستنبول، ويظهر في الفيلم النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وتصور مناظره الخارجية في صحراء السعودية، واقترح حتى أرسم شخصية النبي”.

هل كان أتاتورك هومنتج الفيلم كما نفهم من النادىية الصحفية؟! سؤال مهم ليست هناك إجابة محددة عنه، وإن كانت المعلومات تقول إذا وداد عهدي شخصية مثيرة في تلك الفترة، وهومحرر ومخرج وممثل، تردد اسمه في أعمال سينمائية كثيرة، خصوصًا تلك التي شهدت الدفعة الأولى لنجومية بطلات السينما من آسيا إلى ماري كويني مرورًا بفاطمة رشدي وبهيجة حافظ، والغريب حتى عهدي لم يكمل أغلب هذه الأفلام، وكان يهجرها لغيره من مخرجين أوممثلين، وهوما جعله يوصف بالمغامر، وهوفي مشروع الفيلم يستخدم اسم أتاتورك من الممكن ليحتمي بسلطة الرئيس الذي تتبعه مصر اسميًّا، وبنجومية المحرر التاريخي لهجريا وبطل التحديث في العالم الإسلامي، ليتخذ شرعية ثقافية في الوقت نفسه. يحكي يوسف وهبي في مذكراته بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على المعركة التي تفجرت بسبب طريقة صياغة الخبر في مجلة “المسرح” بطريقة اصطياد الأخطاء ولي الحقائق، فمحرر الخبر تصور حتى يوسف وهبي سيرسم شخصية النبي على طريقته في رسم شخصية الراهب الروسي راسبوتين، وهومجرد تصور المحرر والمجلة التي يظهر أنها كانت في خصومة مع يوسف وهبي، وهذا ما جعلها تتعامل مع تصورها على أنه حقيقة، وبدأت تحرض المجتمع على يوسف وهبي. يقول محرر الخبر يقول “أنا لم أكن رجلاً دينيًّا، ولا درست بتعمق قواعد الدين الإسلامي، وأوصاف الرسول، إلا أنني – وكل إنسان معي– يستطيع الحكم بأن النبي محمد يختلف كثيرًا عن راسبوتين – وأن يوسف وهبي، ذا المزاج الجنوني والحركات التشنجية والعيون الشهوانية والذي يلوح الابتذال والاستهتار في منظره العام، لا يصلح مطلقاً لتمثيل هذا الدور الذي يحتاج إلى وقار الرسل وجلال الأنبياء وهيبة الصلاح ورزانة التقوى! تبدوالخصومة الموجهة إلى إنسان يوسف وهبي في السطور السابقة، أما التحريض فيأتي فيما يلي من الخبر، ثم هناك الناحية الدينية؛ ما رأي فهماء الدين الأجلاء في هذا العمل؟! إلى فضيلة مولانا الشيخ المفتي الأجل نحمل هذا السؤال؛ هل يسمح الدين لشخص ما حتى يتعدى إلى مقام النبوة الإسلامية فيعبث بها ويقدمها للعالم أجمع في صورة شوهاء؟! وما مبلغ فهم يوسف وهبي بالدين وأخلاق النبي عليه السلام وصفاته حتى يقدم على إبراز شخصيته؟! ألا يعد هذا “تهزيئًا” مؤلمًا، ثم هوإهانة جارحة لكل المسلمين؟! ليس من شأني حتى أجيب عن هذا، وإنما أنا أنبه فهماء الدين الأجلاء إلى موضع الخطر من هذا العمل، وعليهم حتى يقوموا بواجبهم، ويوقفوا هذا العمل الخطر. الفيلم وإنتاج شركة ألمانية وفكرته عرضت على يوسف وهبي عن طريق مغامر هجري نطق إنه مندوب أتاتورك محرر هجريا، وفي اعتقادي حتى من يقدم على تهزئ مقام النبوة يعد خارجًا على الدين الإسلامي مارقًا عن السنة النبوية مروقًا تامًا. هذه هي الضربة الافتتاحية في معركة انفجرت في وجه يوسف وهبي الذي كان قد وافق على القيام بدور النبي، بل ووقَّع عقد التمثيل في السفارة الألمانية بعشرة آلاف جنيه. والمدهش حتى المعركة اتخذت المسار الذي رسمه تحريض مجلة المسرح، واختصرت القصف الموجه إلى يوسف وهبي على افتراض محرر الخبر بأنه يعتمد تقديم النبي محمد على هيئة راسبوتين.


دور القارىء في المسرحية

خط القارئ عبد الباقي سرور في الأهرام بعد خمسة أيام فقط من خبر مجلة المسرح (أي في 21 مايو1926) منطقاً عنيفًا تحت عنوان كيف من الممكن أن يصورون النبي محمد، يبدأ من النقطة نفسها، ويطالب الحكومة حتى تبادر فتمنع يوسف وهبي من السفر لتمثيل تلك الرواية في بلاد يرى أهلها في الإسلام وفي النبي عليه الصلاة والسلام آراء ومعتقدات تخالف العقيدة الإسلامية، فتمثيل رواية النبي في باريس بلاد اللهووالخلاعة والاستهزاء بالأديان، مما يثير مطاعن جديدة في نفوس أداء الملة ويستدعي التشهير بالنبي، وخصوصًا إذا صور بصورة (راسبوتين) ذلك الجاسوس الشهواني، وصاحب الحيل النسائية والفتن الشيطانية، فإن مثل هذا التصوير يعد تشهيرًا بالنبي وتحقيرًا لشأنه، واستهزاءً بدينه، وإساءة لمعتنقي دعوته وحطًّا من كرامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإساءة لسمعة الديانة الإسلامية. وهويعيد تحريض الحكومة المصرية “وإن كان لا سلطان لها على مكان التمثيل ولا على الشركة فإن لها حتى تمنع يوسف وهبي من السفر، وأن تحاسبه على تصويره النبي بتلك الصورة البشعة، المنافية لكل احترام وإجلال، فإنها لوتساهلت مع يوسف وهبي في تمثيل تلك الرواية فسيتلوها لا محالة تمثيل روايات أبشع وأفظع”، وقد نشر الأهرام مع الموضوع تعقيبًا نطق فيه “يحق للأستاذ حتى يحتاط للأمر قبل وقوعه، ولكنه لا يجوز الشك والارتياب بوطني مسلم شرقي، فيوسف وهبي بك وأمثاله لا يقدمون على عمل يمس كرامة نبيهم وكرامتهم، بل هم إذا عملوا شيئًا إنما يعملون لحمل هذه الكرامة”. وكما نقرأ في الوثائق المنشورة في كتاب سمير فريد، ففي اليوم التالي رد يوسف وهبي في الأهرام بتوضيح نطق فيه “اطلعت في عدد الأمس على منطق خطه مسلم غيور، وبه يشكولولاة الأمور ما قرأه في مجلة المسرح عن عزمي على تمثيل رواية النبي محمد بشكل وهيئة لا تليق بكرامة النبوة، ولا تتفق مع عظمة الدين، وقد ذكر حضرته أنني صورت شخصية النبي كشخصية الراهب الدنيء راسبوتين، وهذا الخبر كاذب وحقيقة لا أصل لها إلا التشويه والطعن من مجلة أخذت على عاتقها تقبيح جميع حسن والنيل من كرامة جميع عامل على خدمة وطنه”. نلاحظ هنا الخلط بين مفهوم الدين والوطن، ونلاحظ أيضاً حتى يوسف وهبي رد على هجوم المجلة بهجوم مضاد، معتمدًا على سمعتها في الوسط الفني. المهم أنه في بقية التوضيح يقدم يوسف وهبي مبرر موافقته على مشروع الفيلم، قائلاً “إنني إذا كنت قد رضيت حتى ألعب هذا الدور في (السينما) فليس إلا لحملة شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وتصويره أمام العالم الغربي بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة، وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة والإرشاد للدين الإسلامي، أما الصورة التي وضعتها لهذا الدور فهي صورة أعتقد أنها على الأقل تنبئ عن جلال محمد وطهارته وحسن صفاته، وليثق سيدي الغيور أنني أول من يعمل على حملة شأن ديننا الحنيف، ولكن رجائي إليه ألا يصغي لأقوال الإفك وترهات قوم عهدوا بالخديعة والملق”. يوسف وهبي في هذا التوضيح يشير إلى وجهة نظره في الصورة التي نشرتها الصحف للمكياج الذي اختاره لتأدية دور النبي محمد، وهويراه على عكس المجلة يعبر عن نظرة جليلة للنبي، هنا بدأت المعركة تتخذ شكلاً مختلفًا، خصوصًا بعد رسالة مفتوحة وجهها يوسف وهبي عبر الأهرام في 24 مايوإلى حضرات السادة الفهماء وجميع الشعب الإسلامي، يحكي فيها حكاية الفيلم، ويطالب برأي أصحاب الفضيلة الفهماء وأولي الأمر في البلاد “هل أقوم بهذا الدور أم أرفضه؟! مع إحاطتكم فهمًا أنني إذا رفضت فسيقوم بهذا الدور ممثل أجنبي وشركة خارجية لا يهمها من أمر ديننا شيئًا، وإذا تذرعتم بالقول إذا أمثال هذه الشرائط ممكن منعها من الدخول إلى البلاد الإسلامية فلا أظنكم تستطيعون منعها في البلاد الأجنبية، وهذه تكون الطامة، حتى ندع القوم يعبثون بنا ويمسخون حقيقتنا أم نكون نحن أول من يمثل عظمة ديننا الحنيف ونبرهن للعالم الأوروبي أنا أرقى دين، وأن محمدًا زعيم المرسلين” ويؤكد يوسف وهبي في نهاية الرسالة “أما كوني رسمت صورة لهذا الدور تشبه الراهب راسبوتين فهذا كذب مشين من قوم يكرهونني، ويحقدون عليَّ دون سبب ولا داع غير كوني شابًا قد نجحت في عملي، وأكبر مرشد على سقوطهم أنهم ادعوا رؤية هذه الصور وشبهوها براسبوتين، وها أنا على أتم عدة حتى أُري الصورة لمن يريد حتى يراها، كما أنني أرفض لعب الدور عن طيب خاطر حتى لوكنت سأجني من ورائه الأرباح الطائلة، إذا رأى السادة الفهماء هذا الرأي، وليفهم إخواني المصريون حتى شعاري ديني قبل جميع شيء”. وهنا كان لا بد للسلطة حتى تتدخل.


وهبي يدافع عن نفسه

يوسف وهبي في فيلم سفير جهنم.

أول حركة من السلطة ضد الفيلم قامت بها مشيخة الأزهر؛ التي نشرت بيانًا في الأهرام يوم 27 مايونطقت فيه “اتى بجريدة المسرح حتى حضرة يوسف وهبي بك صاحب مسرح رمسيس اتفق مع شركة خارجية على تمثيل رواية في باريس مشخصًا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بصورة الراهب راسبوتين الروسي، فاهتمت المشيخة بالأمر، وخاطبت وزارة الداخلية في الحيلولة بين حضرة يوسف بك وبين ما يريد، ولواقتضى الحال منعه من السفر حفظًا لكرامة النبي ومقامه الجليل الشأن، وقد لقينا من أولى الشأن الذين تحادثنا معهم في هذا الموضوع الاهتمام العظيم المناسب لأهمية الموضوع المتحدث بشأنه كما طالبنا حتى نخاطب حكومة باريس بواسطة ممثل مصر هناك في منع تمثيل هذه الرواية، ونعهد من الوثائق حتى أجهزة البوليس استدعت يوسف وهبي وحققت معه بناء على طلب الأزهر الذي لم يكن له سلطة عملية بل معنوية، واتى في رد الداخلية الذي وصل المشيخة بتاريخ 24 مايوويحمل رقم 1010 جوابًا على كتاب فضيلتكم المؤرخ 18 مايو(أي في اليوم التالي لخبر مجلة المسرح) الحاضر بخصوص تمثيل رواية سيدنا محمد تفيد بأنه قد استحضرنا يوسف وهبي بك وطلبنا العدول عن تمثيل هذه الرواية فقبل، وسيعلن عن عدوله هذا في الجرائد، وستتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة لمنع إخراج الرواية نفسها”.

هذه هي الحركة المعلنة من السلطة، لكن هناك حركات أخرى أعرب عنها يوسف وهبي في المذكرات “بعث إليَّ الملك فؤاد تحذيرًا قاسيًا، مهددًا إياي بالنفي، وحرماني من الجنسية المصرية”. وكانت النتيجة بيانًا من الرجل الغامض وداد عهدي في الأهرام يوم 28 مايويعلن فيه “لا شك حتى وضع رواية كهذه داخل برنامج أعمالنا، ولكنه حتى الآن مجرد مشروع، ومن الجلي قبل وضع رواية كهذه أني بصفتي مؤلفًا ومسلمًا أطلب رأي حضرات فهماء الدين، وهذه الاستشارة تعد من طبيعة الحال واجبًا محتمًا عليَّ، لذلك أرجوحتى تعلنوا باسمي بأنه لا يوجد حتى الآن قرار بات في هذا الصدد، وكونوا على ثقة تامة بأن أعمال شركة ماركوس التي تتناول مشروعات تمثيلية كثيرة في بلاد مصر الجميلة لنقد يكون فيها أي عمل يمس دين الأمة”. بعد هذا البيان بيومين بيومين نشر يوسف وهبي بيانًا آخر في الأهرام يقول فيه “بناء على قرار أصحاب الفضيلة الفهماء، واحترامًا لرأيهم السديد، أعرب أنني عدلت عن تمثيل الدور وسأخطر الشركة بعزمي هذا” (في مذكراته نطق يوسف وهبي إذا الشركة أنتجت الفيلم “وقام بالدور ممثل يهودي”). وبدا حتى العاصفة التي فجرتها طريقة صياغة الخبر قلبت الدنيا على رأس يوسف وهبي الذي حوصر بتهديدات السلطة، وبشتائم المتعصبين، الذين لم يتوقفوا عند فكرة تمثيل النبي على الشاشة فقط، بل تجاوزوا هذا إلى فن التمثيل، حتى إنه بعد اعتذار يوسف وهبي لم تتوقف الموضوعات، ومن بينها منطق خطه مدرس بالقسم العالي في الأزهر تحت عنوان “الحضرة النبوية والتمثيل” احتقر فيه فن التمثيل باعتبار هدفه الوحيد هوالمال، وطالب بإصدار مرسوم ملكي يمنع تصوير الأنبياء –كل الأنبياء– على الشاشة، بالإضافة إلى منع الخط التي تتعلق بالدين إلا بعد عرضها على اللجنة الفهمية التي تكونت في الأزهر. كانت هذه الرغبة العارمة في الرقابة رد عمل من المؤسسة التقليدية على تحجيم دورها العملي في تشكيل ثقافة المجتمع. المدهش حتى يوسف وهبي، في رده على الرسالة القاسية للمدرس الأزهري، أعطاه درسًا في النظرة الجديدة للممثل ومكانته السامية في المجتمعات المتحضرة، قبل حتى يفجعه من معلومة نراها اليوم جديدة تمامًا، إذ نطق له “أما تحذيرك من تفشي فكرة تمثيل الأنبياء فقد اتىت متأخرة بكل أسف، فقد مثلوا عيسى وموسى ويوسف ودانيال، بل ومثَّلوا الخالق تعالى تمثيلاً ما في مصر نفسها على مسرح الأستاذ الشيخ سلامة حجازي في رواية تليماك”.


السيطرة الدينية على الفن

حكاية فيلم النبي محمد لم تكن سوى واحدة من حكايات التعثر في الحداثة ، السلطة الدينية القديمة تدافع عن مواقعها، تداعب الجرح النرجسي، الذي تتراكم حوله البكتيريا والقيح، لكنه يغذى مشاعر المظلومية، ويوقظ عصاب “الخصوصية” و” الهوية ” ، فيبدوالدفاع عن سلطة الماضي كأنه ” مقاومة ذاتية”، أو” جهاد ثقافي”، كما تقدمه سلطات تدافع عن سيطرتها المطلقة وهيمنتها على عقول الرعايا، الأزهر كان رأس الحربة، والملك الحالم بوراثة الخلافة المنهارة، يدعم صورته كراعي الدين الذي يعيش غربيته، لكنه في نفس الوقت مدعوم من سلطة ” التحديث”، فينتظر دائما خطاباً أوشكوى من قاريء/رجل عادي/مواطن صغير ليبدوتدخله تطبيقا لمطالب الشعب.الرجل الصغير يظهر في جميع المعارك المفصلية برسالة إلي الصحيفة كما رأينا في سيرة الفيلم، أوبرقية من طالب أزهري كما وقع مع الشعر الجاهلي، وبعدها بسنوات تتكرر هذه الدائرة التي تمنح للسلطة مبررات الدفاع عن ” سلطة الماضي ”، وغربة الأخلاق والدين، فالهجوم بدأ علي نجيب محفوظ وأولاد حارتنا من رسالة قاريء وحبس الأديب أحمد ناجي في 2016 كان بعد شكوى من قاريء عادي إرتفعت ضربات قلبه بعد زن قرأ عبارات خادشة للحياء في رواية ” إستخدام الحياة”.

الحكايات مستمرة، ومنهكة، بل إنها تثبت حتى التاريخ لا يتحرك إلى الأمام، لكنه يغرق في المستنقع ،حتى أننا ونحن نروى حكاية فيلم النبي محمد مضطرون للنظر بعين الرضا إلى الماضي الذي لم يقتل فيه يوسف وهبي لأنه فكر في تمثيل شخصية النبي محمد على الشاشة، بل وقع محادثة حاول التوفيق بين المثال الغربي الذي قبل على مضض فكرة تقديم المسيح في الأفلام، وبين العقلية الشرقية الرافضة لتجسيد الشخصيات ذات الطبيعة المقدسة في الإسلام (وهومحادثة اشهجر فيه متعصبون من الأزهر وكتاب مسرح مثل بديع خيري الذي رفض الفيلم لأننا لسنا الغرب، ولا يمكن تقديم الحوار بين فاوست والشيطان كما تخيله الشاعر الألماني جوته).


دور مجلس النواب

يوسف وهبي في إحدى أدواره على المسرح.

شهد عام 1926 وحده مناقشات مجلس النواب المصري حول الطابع الديني لنظام الأوقاف، ومطالبة عدة نواب بإلغائه نهائيًّا، كما تقدم النواب باقتراح بإلغاء منصب المفتي، كما أدى القرار الجريء الذي اتخذه مجلسا النواب والشيوخ بجعل مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة المفهمين الأولية ودار العلوم تابعة لوزارة المعارف العمومية بدلاً عن تبعيتها السابقة لشيخ الأزهر، إلى خروج الأزاهرة في تظاهرات صاخبة تنادي بسقوط البرلمان، كما تخلى طلاب دار العلوم عن زيهم التقليدي وعن العمامة ليرتدوا بدلاً عنها الزي الأوربي و”الطربوش” .

هذا غير المعركتين الكبيرتين (الإسلام وأصول الحكم) و(الشعر الجاهلي) وكلاهما دار حول (كتاب)؛ أي في منطقة التصادم في ثقافتنا التي تمنح قدسية للكتابة ولا تعطي شرعية سوي للخط التي تعيد إنتاج القيم المتوارثة. بداية من العنوان فقط يتصادم الكتابان مع سور عظيم من المحرمات؛ الأول مع الغطاء الديني الذي يحمي به السلطان نفسه ليحول معارضته إلى خروج عن الدين – كانت فكرة الخلافة تتهاوى تحت الضربات القوية لثورة أتاتورك في هجريا (1924). والزعيم الهجري نفسه أصبح بطلاً مثاليًّا لشباب رأى فيه تجسيدًا لحلم إفاقة العثماني المريض هذا قبل حتى نكتشف بعد ربع قرن حتى رجل الأحلام لم يكن سوي ديكتاتور بديل!

الكتاب الثاني يرتكب خطأ التفكير وتطبيق منهج الشك في أفكار مستقرة إلى حد الإيمان؛ فهوعن الشعر، معجزة العرب وكتابهم “المقدس” والكتاب يعتبر الإعلان القوي عن تأثير الجامعة الوطنية بأفكارها الحديثة، ودورها في منافسة المؤسسات التقليدية للتعليم والتفكير وأشهرها الأزهر. وتبدوالتفاصيل الدقيقة للمعركتين دالة في رسم صورة المناخ الثقافي والسياسي في ذاك العام الساخن.


ضغوط من الملك فؤاد

الملك فؤاد الأول.

كما هومعروف أثارها كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” (1925) والثانية كانت في “الشعر الجاهلي” (1926)، وهما معركتان أصبحتا قضيتي “رأي عام” بعد ضجة من الأزاهرة ممثلي الثقافة التقليدية، خصوصًا وأن كلا من طه حسين وعلي عبد الرازق يصح وصفه بـ “أزهري سابق”، وهوما يعلن من البداية عن تمرد على الحدود التي ضاقت برمز المؤسسات القديمة! لكن الضجة كان يحركها من الأساس نظام حكم الملك فؤاد؛ الذي جعله الاحتلال الإنجليزي يحلم بالخلافة الإسلامية التي شهدت فراغًا لأول مرة بعد 1000 عام؛ حين ألغت ثورة كمال أتاتورك “الخلافة العثمانية” في عام 1924.

أثار كتاب علي عبد الرازق الملك فؤاد لأنه ينفي مبدأ وجود الخلافة في تاريخ الإسلام، بينما الملك يقيم مؤتمرًا إسلاميًّا عالميًّا للخلافة، ويصدر مجلة، ويكوِّن خلايا شعبية في الريف المصري لتنظيم هذه الدعوة، بل ويلغي دستور 1923 الذي أنتجته ثورة 1919، وينقض على أغلبية الوفد في برلمان 1925 ليشكل حكومة ائتلافية (من حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين) برئاسة زيور باشا.

أما كتاب طه حسين فكان الهجوم عليه طريق النظام الملكي، من أجل إثبات أنه (متدين) وأنه (حامي الإسلام)، خصوصًا بعد إرسال عدد كبير من رجال الأزهر برقيات إلى الملك فؤاد تطالبه بإبعاد طه حسين عن الجامعة ومصادرة الكتاب، بل إذا شيخ الجامع الأزهر نفسه تقدم وفدًا من الأزاهرة إلى قصر عابدين للاحتجاج على الكتاب..

أفرزت المعركة حول جميع كتاب انقسامًا داخل النخبة السياسية (ما يزال مستمرًا حتى اليوم). الشيخ علي عبد الرازق يختم كتابة قائلاً “وتلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين وأضلوهم عن الهدى، وعملوا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم وأدلوهم وحرموا عليهم النظر في علوم السياسية، وباسم الدين أيضًا خدعوهم وضيقوا عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعًا!”.

الشيخ الشاب، الذي لم يكتف بأداء الوظيفة المدرجة في المحكمة الشرعية بالمنصورة، كان يشير إلى استخدام الدين غطاءً لمنع العقول من التفكير وهوينفي وجود سند شرعي للخلافة في النصوص الإسلامية.

” اجتهاد مشروع” كما كان علي عبد الرازق يظن، ولكنة أقلق الملك وأذنابه “لأن الكتاب فيه حملة هائلة على الملوك” وفيه تحطيم تام “لحلم الخلافة البراق” وقد أقلق رجال الدين الذين رأوا في هذا المنطق ما يزعزع سلطاتهم، ويعطل منافعهم في الاتجار بالدين، ويكشف عن حقيقة هذه العمائم الضخمة التي لا ترتفع إلا لتستر وراءها الظلم والاستبداد. وهناك أيضًا الرجعيون بتفكيرهم والذين يتملكون مشاعر الجماهير ولوبمجاراة الجهل والظلم! هؤلاء هم خصوم عبد الرازق كما وصفهم أحمد بهاء الدين في “أيام لها تاريخ” الذين حاولوا الرد بقوة على اجتهادات الشيخ ليس على أنها رأي يضاف إلى حصيلة (الفكر الإسلامي) بل باعتبارها شطحات تحيد عما استقروا على معهدته.

أشهر هذه الردود كانت للشيخ أحمد الخضر حسين؛ شيخ الأزهر السابق، والذي أصدر كتابًا عنونه “نقض الإسلام وأصول الحكم”، وصدَّره بإهداء إلى “خزانة حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر الأعظم” ورجاه بأن “يتفضل عليه بالقبول، والله يحرص على ملكة المجيد، ويثبت دولته على العز والتأييد”. وهوإهداء له دلالة إذا ما وضعناه في لقاءة مع تصدير الشيخ علي عبد الرازق لكتابة بقوله “أشهد ألا إله إلا الله، لا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدًا سواه “.

إلى غير ذلك كان لا بد حتى تبدأ وقائع محاكمة علي عبد الرازق بإيحاء ملكي إلى هيئة كبار الفهماء بالأزهر بأن تستدعي الشيخ علي عبد الرازق لتحاكمه وفقَا للمادة 101 – من القانون رقمعشرة لسنه 1911 والذي وضعة الخديوعباس حلمي الثاني، ضمن قوانين أخرى تكميمية إثر النشاطات الفكرية والوطنية التي لوحظ تناميها في زمنه.

تلا ذلك اجتماع هيئة كبار الفهماء في 12 أغسطس 1925 برئاسة الإمام الأكبر محمد أبوالفضل، شيخ الجامع الأزهر، وحضور 24 عضوًا أخر، وكذلك (المتهم) الشيخ علي عبد الرازق؛ الذي دفع شكليًّا أول الأمر بعدم اختصاص الهيئة الموقرة بالنظر في قضيته، ولكن الهيئة رفضت هذا الدفع الفرعي وحكمت عليه بما نصه (حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع 24 عضوًا من هيئة كبار الفهماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق، أحد فهماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعية ومؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم”.

فور إقرار الحكم والحيثيات أبرق شيخ الأزهر إلى القصر الملكي ما نصه “صاحب السعادة كبير الأمناء بالنيابة بالإسكندرية، أرجوحتى تحملوا إلى السدة العلية الملكية عني وعن هيئة كبار الفهماء فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء على حتى حفظ الدين في عقد جلالة مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين، وحفظ كرامة الفهم والفهماء، وأننا جميعًا نبتهل إلى الله، ونضرع إليه حتى يديم جلالة مولانا الملك مؤيدًا للدين ورافعًا لشأن الإسلام والمسلمين، وأن يحرس بعينه عناية حضرة صاحب السموالملكي الأمير فاروق ولي عهد الدولة المصرية؛ إنه سميع مجيب..”

أم كلثوم وحدها على القمة

من اليمين: يوسف وهبي، رياض القصبجي وأم كلثوم.

في كتابه “الفن في حياتنا” يقول فتحي غانم “كان المغني في مصر يثير الناس ويطربهم بشيء اسمه “الهنك والرنك”؛ وهي الميوعة والطراوة في الغناء التي ابتكرها محمد عثمان من أيام الخديوإسماعيل وحفلاته الباذخة؛ إذ كان المغني يقضي عشر ساعات متتالية وهويتلاعب بصوته مرددًا جملة أوشطرًا من قصيدة، وكانت منيرة المهدية تثير حواس المستمعين ببحة في صوتها فيها طابع جنسي يشبه بحة الأغاني التي يغنيها الأمريكيون اليوم في أغانيهم الراسيرة”. أما أم كلثوم فقد “غنت للفلاحين على طبيعتها وسجيتها، غنت بلا قواعد، وبلا هنك أورنك، وبلا بحة أوتلاعب.. أطلقت صوتها وكأنها تغني لنفسها. وإذا بالفلاحين يطربون لسماعها ويجدون فيها تعبيرًا عن الانطلاق الذي يتمنونه في حياتهم”.

وهنا يجب حتى نسجل لأم كلثوم أنها “استحقت منذ ذلك الوقت، التفضيل الذي حباها به الفلاحون على غيرها من الأصوات التي كان يسمعونها، وهذا التفضيل راجع لأمر شخصي في أم كلثوم، وحتى لوهيئت الظروف لأصوات جميلة أخرى حتى تبرز، لما كان جمال الصوت وحده كافيًا، إذ خضع هذا الصوت الجميل لقواعد المحترفين في الغناء وتنطقيدهم، بل كان لا بد حتى ينطلق الصوت الجميل ثائرًا من جميع قيد حتى يتجاوب مع حالة المستمعين النفسية، وهذا ما عملته أم كلثوم وحدها..”

كانت أم كلثوم مغنية موال الفلاحين لها “صوت طبيعي، ينطق الحدثات السليمة بلا عوج ولا التواء، وبعيدًا تمامًا عن الأصوات الجنسية، فضلاً عن خلوه من صنعه التكلف في التلاعب بالصوت وترديد الحدثات بصرف النظر عن معناها”.

ومن الغريب حتى تتخذ هذه الفلاحة المغنية هذه الطريقة في الغناء وتتمسك بها بتأييد من جماهير المستمعين الفقراء، ولا تحاول حتى تتفهم طرق الغناء الأخرى السائدة في ذلك العصر، متفقة في ذلك مع الشيخ سيد درويش، وفي الوقت نفسه دون حتى تلقاه أوتتفهم على يديه، وهوالموسيقي الذي كفر أيضًا بفن المحترفين، وبدأ ينادي بأن طبيعة المصريين في الغناء أقوى من فنهم.

ولا أريد حتى أُتهم بالمبالغة إذا قلت إذا ألحان سيد درويش الثائرة على الصنعة القديمة والمتأثرة بالطبيعة والسجية المصرية وكذلك صوت أم كلثوم وطريقتها في الأداء الطبيعي كانا يرمزان إلى رغبة حقيقية كامنة في النفوس للانطلاق والتجرد من القيود السياسية والاقتصادية التي تضغط عليهم.

كان الجمهور الذي يتكون في 1926 هوجمهور حديث لأم كلثوم، وهوغير الجمهور الذي اعتادت بين قرى الفلاحين، وغير الجمهور الذي اعتاد حتى يسمع الطرب والغناء في القاهرة، إنه جمهور السوريين والإفرنج، والشباب المثقف من أولاد العيان وأثرياء الزراعيين في الريف؛ وهوفي حقيقته جمهور الطبقة الوسطى في المدينة، وهي الطبقة التي بدأت تنمووتتسع مصالحها في مصر، ونحن نفهم اليوم حتى الطبقة الوسطى هي التي زاملت أم كلثوم في صعودها الفني، وهي جمهورها المخلص حتى الآن؛ فمنذ اتىت أم كلثوم إلى القاهرة ابتعدت نهائيًّا عن طبقة الفلاحين الأُجراء إلا في أغانيها ذات المعاني القومية أوالاشتراكية التي تمس مصالح هؤلاء.


المصادر

  1. ^ "محاولات تجسيد شخصية «الرسول» سينمائيا.. وتهديد يوسف وهبي بسحب الجنسية". جريدة التحرير. 2015-12-23. Retrieved 2018-09-03.
  2. ^ من هنا ولدت الرقابة: معركة يوسف وهبي حول فيلم النبي محمد، بوابة مدينة
تاريخ النشر: 2020-06-04 20:57:10
التصنيفات: أفلام مصرية في 1926, أفلام عن النبي محمد, أفلام يوسف وهبي

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

اليوم: إتحاد الشغل ينظّم مسيرة احتجاجية في العاصمة

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:28
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 66%

مواعيد مباريات الجولة الحادية والعشرين لمسابقة الدورى الممتاز

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:48
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 46%

اليعقوبي: خطاب سعيد تضمن تهديد واتهامات غير مقبولة

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:30
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

5 معلومات عن مباراة الأهلى والقطن اليوم السبت 4 / 3 / 2023 بدورى الأبطال

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:54
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 50%

مصادر إعلامية مصرية :"الاهلي لم يحسم بعد موقفه من التجديد لعلي معلول"

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:31
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 62%

تعبيرات متمردة بالمركز الثقافي نابل

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:24
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

رئيسة البرلمان الأوروبي تصل أوكرانيا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:23:02
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 67%

النيابة العامة تحدد مواعيد صرف ملفات تعيين دفعة 2022 من الإناث

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:46
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 47%

88 % من القراء يطالبون بتغليظ عقوبة مافيا تجارة أدوات التجميل المغشوشة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:52
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 38%

هزة أرضية بقوة 4.1 درجة تضرب المناطق الحدودية التركية- السور

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:23:10
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 63%

النشرة المرورية.. انتظام حركة السير على طرق القاهرة والجيزة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:47
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 46%

فضل ليلة النصف من شعبان.. تعرف على موعدها وكيفية إحياؤها

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:28
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 63%

صاحب محلات سمين «الممبار من الحمار وسندوتش الكبدة لحم كلاب»

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:35
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 64%

تصريح مثير من عمرو أديب بشأن الأسعار في رمضان

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:32
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 56%

الأرصاد: طقس اليوم مائل للحرارة.. والعظمى بالقاهرة 29 درجة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:49
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 47%

كرة اليد لقاء واعد بين النجم وساقية الزيت

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:26
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 60%

"حموشي" يمنح ترقية استثنائية للشرطي ضحية اعتداء إجرامي بالرحمة

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:23:39
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 85%

الحكومة: تطوير شامل لـ52 مستشفى تكامل وتحويلها لمراكز تنمية الأسرة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:51
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 48%

خبراء يوضحون السبب الرئيسي وراء محادثة بلينكن مع لافروف

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-04 09:22:30
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 68%

تحميل تطبيق المنصة العربية