محمد كرد علي

محمد كرد علي (أواخر صفر 1293هـ/1876 - 17 رجب 1372هـ/2 أبريل 1953) أحد رواد النهضة الفكرية العربية في مطلع القرن العشرين.

لم تستأثر مصر وحدها بريادة بواكير النهضة الفكرية في مطلع القرن العشرين، بل شاركتها بعض أخواتها من البلدان العربية، بروادها النابهين من رجال الفكر والأدب والإصلاح.

وكانت بلاد الشام موطنا لنهضة فكرية وليدة تعمل على إصلاح المجتمع وتخليصه مما ران عليه من جهل وتخلف، وتسعى إلى حملة الأدب العربي، واستعادة ما كان عليه من قوة وازدهار في عصوره الزاهية. وحمل لواء هذه النهضة نفر كرام من زعماء الإصلاح في الشام، يتقدمهم الشيخ طاهر الجزائري، وتلميذه النابه محمد كرد علي الذي تابع مسيرة شيخه بخطا واسعة، يدعوإلى الإصلاح والتجديد، ويحارب أهل الزيغ والأهواء، وينافح عن العروبة والإسلام، ويقود الحركة الفكرية في سوريا في ثقة وثبات. وظل حتى وفاته في حركة دائبة وعمل متصل، لا يعهد الهدوء ولا الراحة، ولا ينبتر عن الكتابة والتأليف.

النشاط والتكوين

وُلِد محمد كرد علي في مدينة دمشق في (أواخر صفر 1293هـ/1876)، ونشأ في أسرة كريمة، لأب كردي وأم شركسية، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة "كافل سيباي" حيث تفهم القراءة والكتابة ومبادئ العلوم الإسلامية والحساب والطبيعيات، ثم انتقل إلى المدرسة الرشدية (الثانوية)، ودرس بها الهجرية والفرنسية، وفي هذه الفترة مالت نفسه إلى القراءة ومطالعة الصحف، ووجد والده عونا له في إشباع هذه الرغبة، حيث كان يساعده على اقتناء الخط.

وإلى جانب همته في المطالعة اتصل بعدد من فهماء دمشق المعروفين، من أمثال الشيخ طاهر الجزائري والشيخ سليم البخاري والشيخ محمد المبارك، وقرأ عليهم خط الأدب واللغة والبلاغة والفقه والتفسير والفلسفة، فوقف بذلك على التراث العربي وتمثله خير تمثيل.

ولم يغفل في أثناء ذلك عن مطالعة خير ما خطه أدباء فرنسا من أمثال: فولتير، وروسو، ومونتسكيو، وبنتام، وسبنسر، وغيرهم، فضلا عن قراءة ما تخطه الدرويات الفرنسية التي تصل إلى دمشق.

وبعد الانتهاء من الدراسة الثانوية ولج الوظيفة محررا في قلم الأمور الأجنبية سنة (1310هـ= 1892م) وهوفي السابعة عشرة، وكان يعهد الفرنسية والهجرية؛ وهوما أعانه على حتى يظل في هذه الوظيفة ست سنوات، كان خلالها يرسل بمنطقاته إلى الصحف المحلية.

في رحاب الصحافة

واصل محمد كرد علي الكتابة في الصحف حتى بلغ الثانية والعشرين من عمره، وازدادت خبراته، وتمرس بالكتابة، وأصبح قادرا على التعبير المحكم والتحليل الدقيق، وعهد إليه بتحرير مجلة الشام الأسبوعية، وهي أول مجلة تظهر في دمشق، ومكث يعمل في هذه المجلة ثلاث سنوات، اتصل في أثنائها بمجلة المقتطف المصرية، وكان صاحبها قد شكا لـ"شكيب أوفدان" انفراده بالتحرير، واحتياجه إلى كفاءة تعاونه؛ فدله على محمد كرد علي، وكان ذلك سببا في شهرته في العالم العربي، وخرج من نطاق ضيق بالشام إلى إقليم واسع كان موطن الصحافة والثقافة العريضة.

الرحلة إلى مصر

غلاف كتاب القديم والحديث لكرد علي

رغب محمد كرد علي في استكمال ثقافته في فرنسا؛ فقصد مصر سنة (1319هـ/1901) لزيارتها ورؤية معالمها ولقاءة أدبائها ومفكريها والتواصل معهم، غير حتى بعض صحبه أقنعه بالاستقرار في مصر، وعرض عليه تحرير جريدة "الرائد المصري" فوافق على ذلك، وقد أفاد الشاب النابه من مُقامه بمصر؛ فاتصل بالكتاب والأدباء، وتردد على حلقة الشيخ محمد عبده التي كان يعقدها لتفسير القرآن مرتين جميع أسبوع بالرواق العباسي بالجامع الأزهر، كما كان يغشى مجالسه الخاصة، فتعهد على أعلام مصر واتصل بهم، غير حتى فترة إقامته لم تطل بمصر أكثر منعشرة أشهر، عاد بعدها إلى دمشق فرارا من وباء الطاعون الذي انتشر في مصر بتلك الفترة.

وبعد حتى قضى فترة في دمشق ضاق خلالها بعنت الحكام ومؤامرات الأعداء عاد إلى القاهرة مرة ثانية للاستقرار بها سنة (1323هـ= 1905م)، وأصدر بها مجلة المقتبس الشهرية، تحمل إلى القراء أطيب صفحات الأدب والشعر في القديم والحديث، وتولى إلى جانب ذلك تحرير جريدة "الظاهر" اليومية، ولما أُغلقت نادىه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد -وهي يومئذ كبرى الجرائد في العالم الإسلامي- إلى التحرير فيها؛ فعمل بها إلى سنة (1326هـ= 1908م) حيث غادر القاهرة إلى دمشق.

العودة إلى دمشق

بعد عودته إلى وطنه أنشأ مطبعة وجريدة يومية باسم "المقتبس" كما أعاد إصدار مجلة المقتبس الشهرية التي كان قد أصدرها بالقاهرة؛ لتكون لسان حال الثقافة الرفيعة، وكانت الجريدة اليومية (المقتبس) صوت حرية وسوط عذاب على الظلم والاستبداد، وكانت منطقاته الساخنة فيها تحارب الجهل والجهلاء، وتدعوإلى التحرر من الخرافات، وتنادي بالإصلاح والتجديد، والأخذ بوسائل المدنية الحديثة، وإحياء التراث النافع، وفهم التاريخ المجيد للأمة؛ حتى تستلهم منه روح البعث والنهوض.

وكان من أثر ذلك حتى احتلت جريدة المقتبس مكانة عالية، وأقبل الناس عليها، وقوي تأثيرها بينهم، فهابها كبار الموظفين وأصحاب الجاه، وصاروا يعملون لها ألف حساب، وقد تعرض محمد كرد علي إلى مخاطر عديدة بسبب جرأة المقتبس، وحملت ضده نادىوى في المحاكم، غير حتى البراءة كانت تنتظره في جميع مرة؛ لأن القضاء كان لا يرى في كتاباته ونقده إلا النية الحسنة وطلب الإصلاح، ولما اشتدت عليه حملات المغرضين واتهامات أصحاب النفوذ والسلطات غادر دمشق سرا إلى فرنسا، وأقام بها فترة، فوقف على حركتها الفهمية، والتقى بساستها ومفكريها، وقد خط عن هذه الرحلة التي أقامها بباريس 35 منطقة نُشرت في كتابه "غرائب الغرب".

وبعد رجوعه إلى دمشق سنة (1328هـ= 1910م) تكررت المضايقات، ورُفعت ضده نادىوى كثيرة، فاضطر لمغادرة دمشق إلى أوروبا، وكانت نفسه قد ضاقت بالعمل السياسي والصحفي الذي استغرق من عمره 20 سنة، قضاها بين الخط والتقييد والحرمان والخوف والقلق، وعزم على خوض ميادين البحث الفهمي والأدبي، فطاف بمخطات أوروبا الشهيرة في إيطاليا وسويسرا والمجر؛ طلبا لجمع مادة كتابه "خطط الشام" الذي يؤرخ فيه للشام ويدون جغرافيتها وحضارتها.

تأسيس المجمع الفهمي

وبعد قيام الحكومة العربية بدمشق برئاسة الملك فيصل بن الحسين عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تكونت إدارات مدنية في سوريا، كان من بينها ديوان المعارف الذي كان يقوم بوضع المصطلحات اللغوية وإبدال المفردات العربية بالألفاظ الهجرية، وتعريب لغة الدواوين التي فشت فيها الهجرية وتقرير الخط اللازمة للمدارس، وعُهد برئاسة هذا الديوان إلى محمد كرد علي، يعاونه عدد من كبار فهماء سوريا.

تحول ذلك الديوان بجهد من رئيسه إلى "المجمع الفهمي العربي"، أوما اشتهر بعد ذلك باسم "مجمع اللغة العربية" للنهوض باللغة العربية وآدابها، وهوأول المجامع اللغوية ظهورا، وقد بذل محمد كرد علي جهدا كبيرا في تكوين هذا الصرح الفهمي، ونجح في إبعاده عن التيارات السياسية والحزبية، وأنشأ له مجلة رصينة، صدر العدد الأول منها في (21 من ربيع الآخر سنة 1339هـ= 2 من يناير 1921م)، ونشر له على صفحاتها 41 منطقة أدبية وتاريخية، وفتح قاعة المجمع للجمهور لسماع المحاضرات العامة التي كان يلقيها رجال الأدب والفكر، وكان من نصيب محمد كرد علي منها 62 محاضرة.

وقد ظل محمد كرد علي رئيسا للمجمع الفهمي طوال حياته، لم يشغله عنه منصب تولاه، وصار شغله الشاغل، لا يبخل عليه بوقت أوجهد، يمضي فيه معظم وقته ويعده بيته وملاذه.

في الوزارة

وإلى جانب رئاسة المجمع الفهمي العربي، اختير كرد علي لتولي وزارة المعارف سنة (1338هـ= 1920م) بعد استيلاء القوات الفرنسية على البلاد، وأثناء وزارته بعث عشرة من الطلاب لاستكمال دراستهم العالية في الجامعات الفرنسية، وطاف بأوروبا في زيارة فهمية اتصل خلالها بالمستشرقين والفهماء، وسجل هذه السياحة الفهمية في منطقات طريفة، جمعها مع غيرها في كتابه الذي ذكرناه آنفا "غرائب الغرب"، ثم هجر الوزارة بعد خلاف مع الحكومة، واكتفى برئاسته للمجمع، وأُسند إليه تدريس الآداب العربية في معهد الحقوق بدمشق سنة (1343هـ=1924م)، وكان له الفضل الأكبر في تعليم الخطابة والإنشاء بهذا المعهد.

عاد كرد علي إلى الوزارة مرة أخرى سنة (1347هـ= 1928م) في حكومة الشيخ تاج الدين الحسيني، واغتنم فرصة وجوده في هذه الوزارة؛ فأنشأ مدرسة الآداب العليا، وجعلها تابعة للجامعة السورية، كما هيأ جميع مسببات افتتاح كلية الإلهيات، وأضيفت إلى الجامعة.

ولما أُنشئ مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة (1352هـ= 1933م) كان محمد كرد علي واحدا من مؤسسيه الأُوَل.

وبعد خروجه من الوزارة ظل منصرفا إلى القراءة والكتابة، لا ينبتر عنهما، ولا يحول بينه وبينهما إلا السقم، وشغل وقته بإدارة المجمع الفهمي العربي، وفي أواخر حياته أصدر مذكراته في أربعة أجزاء، وقد أثارت دويا هائلا، وأوجدت له خصومات وعداوات.

آثاره الفكرية

خط محمد كرد علي عشرات الخط ومئات الموضوعات في التاريخ والاجتماع والأدب والدين والسياسة والإصلاح، ولازمه قلمه طوال حياته التي امتدت لأكثر من 75 عاما، ومن آثاره الفهمية:

خطط الشام، وطُبع سنة (1344هـ= 1925م) في ثلاثة أجزاء، وهومن أبرز خطه.

الإسلام والحضارة العربية، وطُبع في القاهرة في مجلدين سنة (1353هـ= 1934م).

أمراء البيان، وطبع بالقاهرة سنة 1937م.

أقوالنا وأفعالنا، ويضم عددا من منطقاته الإصلاحية، وطبع بالقاهرة سنة 1946م.

كما حقق خطا من عيون من عيون التراث العربي، منها:

سيرة أحمد بن طولون للبلوي، وطُبع في دمشق سنة (1358هـ=1939م)

المستجاد من عملات الأجواد للتنوخي، وطبع بدمشق سنة (1366هـ= 1946م)

تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، وطبع بدمشق سنة (1366هـ= 1946م).

كتاب الأشربة لابن قتيبة وطبع بدمشق سنة (1367هـ= 1947م).

عن تحول الهجرية إلى الأبجدية اللاتينية

«ومن جميل ما اتى من أخبار الإصلاح الجديد ما روته جريدة "الأيام" من حتى معظم الأتراك ولا سيما أبناء الأناضول يعتقدون بأن الحروف اللاتينية التي أدخلت إلى بلادهم ما هي إلا غشاء رقيق لا يستطيع حتى يصد اندفاع الأتراك عن الثقافة العربية أوالحروف العربية. نطقت وقد قبضت شرطة الآستانة على بضعة أشخاص من الأتراك اتهموا بتهريب الخط العربية والخط الهجرية المطبوعة بالحروف العربية من مصر وسورية والعراق وبيعها في المدن الهجرية، وإن الأندية السياسية والفهمية في أنقرة دهشت من ضخامة عدد الأسفار المهربة وتقدر بالملايين.

ويرجى بعد هذه الرجعة حتى تعود العربية إلى هجريا أحمل مقامًا مما كانت عليه في زمن العثمانيين، وأن تقضي الحروف العربية على الحروف اللاتينية في كتابة اللغة الهجرية؛ لأن السواد الأعظم من الأتراك لا يرضون بغير الرجوع إلى القديم».

— محمد كرد علي
المذكرات - الجزء الخامس

وفاته

ظل محمد كردي علي موفور النشاط، دائب السعي، لا يكف عن الكتابة والتأليف، حتى لقي الله في (17 رجب 1372هـ/2 أبريل 1953) بعد حياة ملأها بجلائل الأعمال والذكرى الطيبة.