الفن البيزنطي

عودة للموسوعة

الفن البيزنطي

هذا الموضوع هوجزء من سلسلة عن:

تاريخ الفن اليوناني

العصر البرونزي اليوناني
Cycladic art - الفن المينوي

Mycenean art

الفن في اليونان القديمة
Archaic Greek art - الفن اليوناني الكلاسيكي

الفن الهلنستي

الفن اليوناني في العصر الروماني


انظر أيضاً: الفن اليوناني البوذي

يونان العصور الوسطى
الفن البيزنطي - الفن المقدوني
اليونان بعد البيزنطيين
الفن في اليونان العثمانية - المدرسة الكريتية

Heptanese School

اليونان المعاصرة
الفن في اليونان الحديثة - مدرسة ميونخ

الفن اليوناني المعاصر

أشهر فسيفساء بيزنطية باقية في هاگيا صوفيا في القسطنطينية - صورة Christ Pantocrator على جدران الممر الجنوبي العلوي. المسيح يحيط به مريم العذراء ويوحنا المعمدان. الفسيفساء صنعت في القرن 12.

الفن البيزنطي هومصطلح يشيع استخدامه لوصف النتاج الفني من الامبراطورية البيزنطية من نحوالقرن الرابع حتى سقوط القسطنطينية في 1453.

الانتنطق من الوثنية

كانت أعظم مآثر الحضارة البيزنطية هي الإدارة الحكومية وفن الزخرفة : فقد أقاموا دولة دامت أحد عشر قرناً من الزمان، وأنشئوا أياصوفيا القائمة في هذه الأيام. وكان الفن الوثني قد لفظ أنفاسه الأخيرة قبيل عهد جستنيان، وكان نصف ما خلفه من الآثار قد شُوَه أوهدم. فقد بدأ تخريب البرابرة، وانتهاء الأباطرة، وتدمير الأتقياء ورجال الدين، بدأ عمل هؤلاء وهؤلاء عهداً من الإتلاف المتعمد والإهمال دام حتى قام بترارك في القرن الرابع عشر يدافع عما بقى منه في أيامه. وكان من العوامل التي زادت أعمال التخريب اعتقاد الجماهير حتى الآلهة الوثنية شياطين، وأن الهياكل مأواها. وأياً كانت عقيدة ذلك الوقت فقد كانوا يشعرون حتى مواد هذه الآثار الفنية يمكن حتى ينتفع بها على خير وجه في تشييد الكنائس المسيحية أوأسوار المنازل، وكثيراً ما كان الوثنيون أنفسهم يشاركون المسيحيين في أعمال التدمير. وقد بذل بعض الأباطرة، وخاصة هونوريوس وثيودوسيوس الثاني، جميع ما في وسعهم لحماية المنشآت القديمة(34)، وأبقى المستنيرون من رجال الدين على البارثنون، وهيكلثسيوس، والبارثينون، وغيرها من الصروح بأن أعادوا تدشينها بوصفها أضرحة مسيحية.

Miniatures of the 6th-century Rabula Gospel display the more abstract and symbolic nature of Byzantine art.

وكانت المسيحية في بادئ الأمر ترتاب في الفن وتراه عماداً للوثنية، وعبادة الأصنام، وفساد الأخلاق، وترى حتى هذه التماثيل العارية لا تتفق مع ما يجب حتى تحاط به البكورة والعزوبة من إجلال. ولما خيل إلى الناس حتى الجسم أداة الشيطان، وأصبح الراهب مثل الرجولة الأعلى بدل الرجل الرياضي،اختفت من الفن دراسة التشريح، ولم يبق في فني النحت والتصوير إلا وجوه كئيبة وثياب لا شكل لها. فلما انتصرت المسيحية على الوثنية واحتاجت إلى صروح ضخمة تأوي عبادها المتزايدين، أخذت تنطقيد الفن المحلية والقومية تثبت وجودها مرة أخرى، وارتفع فن البناء فوق الأنقاض. يضاف إلى هذا حتى تلك الصروح الرحبة كانت تلح في طلب الزخرفة والزينة، وكان العابدون في حاجة إلى تماثيل للمسيح ومريم يقوى بها خيالهم، وإلى صور تحدث السذج الأميين عن سيرة إلههم المصلوب. إلى غير ذلك ولدت فنون النحت والفسيفساء والتصوير من جديد.

ولم يكن الفن الجديد في روما إلا اختلافاً قليلاً عن الفن القديم. فقد انتقلت من الوثني إلى المسيحية متانة البناء، وبساطة الشكل، وطرز الباسيليكا المعمدة. ومثال ذلك حتى مهندسي قسطنطين خططوا كنيسة القديس بطرس الأولى بالقرب من ساحة الألعاب الحيوانية التي أنشأها نيرون على تل الفاتيكان، وجعلوا طولها380 قدماً وعضها 212. وقد ظلت هذه الكنيسة مدى اثني عشر قرناً أعظم كنائس المسيحية اللاتينية حتى هدمها برامنتي ليقيم في مكانها كنيسة أكبر منها هي كنيسة القديس بطرس الحالية. وأعاد فالنتيان الثاني وثيودوسيوس الأول بناء الكنيسة التي أقامها قسطنطين "للقديس بولس خارج الأسوار San Paolo fuori le mura " في المكان الذي قيل إذا الرسول استشهد فيه. وهذه الكنيسة أقل أتساعاً من كنيسة القديس بطرس، فقد كان طولها أربعمائة قدم وعرضها مائتين . ولا تزال كنيسة القديس قنسطنزا Santa Constanza التي أقامها قسطنطين ضريحاً لأخته قنسطنطيا في معظم أجزائها بالصورة التي كانت عليها وقت بنائها في 326-330، وأعيد بناء كنائس سان جيوفاني San Geovanni في لاترانا Latrana وسانتا ماريا في ثرستفيري Trastevre "وسان لورنزوخارج الأسوار" في خلال قرن بعد حتى بدأها قسطنطين، وأعيد بناؤها مراراً كثيرة من ذلك الحين. وأنشئت كنيسة سانتا ماريا مجيوري Santa Maria Maggiore في عام 432 على غرار أحد الهياكل الوثنية. ولا يزال صحنها في جوهره كما كان منذ إنشائها إذا استثنينا ما حلى به من النقوش في أيام النهضة.

جصيات في نرزي بالقرب من سكوپيه (1164)، بمزيجهم الفريد من المأساوية العالية، والإنسانية الرقيقة والواقعية المنزلية، تسقط قدوم جوتووفناني النهضة الأولية الإيطاليين.
Leaf from an ivory diptych of Areobindus Dagalaiphus Areobindus, consul in Constantinople, 506. Areobindus is shown above, presiding over the games in the Hippodrome, depicted beneath.

ولا يزال طراز الباسلقا من ذلك الوقت حيى الآن الطراز المحبب في الكنائس المسيحية؛ ذلك بأن اعتدال نفقاته وجلال بساطته، وتناسق بنائه، وعظيم متانته قد جعلته محبباً إلى الناس في جميع الأجيال. وتناسق لم يتقبل في يسر إدخاله عليه من التطور والتغيير، ولهذا بدأ البناءون الأوربيون يتلفتون حولهم ليبحثوا عن آراء هندسية جديدة حتى وجدوها في بلاد الشرق، بل وجدوها أيضاً في اسبالاتوSpalato المركز الأدرباوي الأمامي لبلاد الشرق. ففي هذا المكان القائم على ساحل دلماشيا أطلق دقلديانوس تام الحرية لفنانيه، وعهد إليهم حتى يجربوا كافة الوسائل التي تمكنهم من حتى يقيموا له قصراً يلجأ إليه إذا أراد الاستجمام من عناء الحكم؛ وفيه أحدث أولئك الفنانون انقلاباً كبيراً في العمارة الأوربية. ففيه كانت الأقواس تحمل مباشرة من تيجان الأعمدة، وليس بينها وبين تلك التيجان عوارض؛ إلى غير ذلك مهدت السبيل بخطوة إلى الطرز البيزنطية، والرومانية، والقوطية. وفي هذا القصر أيضاً استبدلت بالأفاريز ذات الصور والتماثيل زخرفة عجيبة من الخطوط المتعرجة، التي تنفر منها عيون الأقدمين والتي ألفها الشرق من زمن بعيد. وبذلك كانت اسبلاتوهي النذير الأول بأن أوربا لم يغلبها على أمرها دين شرقي فحسب، بل سيغلبها كذلك فن شرقي إذا لم يكن في جميع أنحائها ففي العالم البيزنطي على الأقل.


الفنانون البيزنطيون

نرى من أين اتى إلى القسطنطينية ذلك الفن ذواللون الفذ، البراق المقبض الذي نسميه الفن البيزنطي،يا ترى؟ ذلك السؤال ثار فيه الجدل بين فهماء الآثار بقوة لا تكاد تنقص عن قوة الجنود المسيحيين في حروبهم، وكان النصر النهائي في هذه المعركة الكبرى لبلاد الشرق. وتفصيل ذلك أنه حين قويت سوريا وآسية الصغرى بفضل ما وقع فيهما من تقدم صناعي، وحين ضعفت روما بسبب الغزوالأجنبي، ارتد التيار الهلنستي الذي اندفع نحوالشرق إثر فتوح الإسكندر من آسية إلى أوربا، وتلاقت في بيزنطية مؤثرات الفن الشرقي المنصبة من فارس الساسانية، وسوريا النسطورية، ومصر القبطيةـ ووصلت هذه المؤثرات إلى إيطاليا، بل تعدتها إلى غالة، وتخلى الفن اليوناني الممثل للطبيعة عن مكانه إلى الفن الشرقي ذوالزخارف الرمزية. وكان الشرق يفضل الألوان عن الخطوط والأقواس والقباب عن السقف الخشبي. والزينة الكثيرة عن البساطة الصارمة، والأثواب الحريرية الفخمة عن الجبة التي لا شكل لها. وكما حتى دقلديانوس وقسطنطين قد اتخذا في نظم الحكم أشكال الملكية الفارسية، فكذلك شرع فن القسطنطينية يغض النظر شيئاً فشيئاً عن الغرب الذي ألقى الآن بنفسه في أحضان البربرية، وأخذ يرنوببصره إلى آسية الصغرى وأرمينية، وفارس، وسوريا، ومصر. ولعل فوز جيوش الفرس في عهد شابور الثاني وكسرى أنوشروان قد عجل خطوات البواعث والأساليب الشرقية. وكانت الرها ونصيبين في ذلك الوقت مركزين مزدهرين من مراكز ثقافة ما بين النهرين، وهي الثقافة التي مزجت العناصر الإيرانية، والأرمنية، والكبدوكية والسورية(35)، ونقلها التجار، والرهبان، والفنانون إلى إنطاكية، والإسكندرية، وإفسوس، والقسطنطينية، ثم نقلوها أخيراً إلى رافنا وروما، فكادت النظم اليونانية والرومانية القديمة تفقد قيمتها في هذا العالم المعماري الجديد، عالم العقود والأقواس، والقباب.

ولما اتخذ الفن البيزنطي هذه الصورة الجديدة عمل على نشر العقائد المسيحية وإظهار مجد الدولة. فأخذ يقص على الثياب والقماش المزركش، وفي نقوش الفسيفساء ورسوم الجدران، حياة المسيح وأحزان مريم، وأعمال الرسل والشهداء الذين تضم الكنائس عظامهم؛ أوولج بلاط الأباطرة، وزين قصر الإمبراطور، وغطى ملابس الموظفين بصورة رمزية أورسوم تاريخية وخطف أبصار رعاياه بالملابس الزاهية الكثيرة الألوان، وانتهى أمره بأن صورة المسيح ومريم في صورتي إمبراطور وملكة. ذلك حتى الفن البيزنطي لم يكن له كثير من المؤيدين يختار من بينهم من يناصره، ولهذا لم يكن له مجال واسع يختار منه موضوعاته وطرازه، فكان الإمبراطور أوالبطرق هوالذي يحدد له ما يعمل ويبين له طريق العمل، وكان الفنانون يعملون جماعات، ولهذا قلما يذكر التاريخ أسماء فنانين أفراداً، ولكنهم أتوا بالمعجزات في بهاء الألوان؛ وكان الفنان يحمل من شأن الناس أويحط من قدرهم بمستحدثاته الرائعة؛ ولكن هذه المنزلة اقتضته استمساكاً بالأشكال والأنماط المتبعة، وضيقاً في المجال، وجموداً في خدمة ملك مطلق التصرف ودين لا يقبل التغيير.

وكان تحت تصرفه مواد كثيرة يستخدمها في عمله، كانت لديه محاجر الرخام في بروكنسوس Procnnesus، وأتكا، وإيطاليا؛ وكانت لديه عمد وتيجان ينتهبها من جميع هيكل وثني قائم، وكان لديه الآجر يكاد ينموكالنبات في الأرض التي تجففها الشمس. وكان أكثر ما يعمل فيه الآجر المثبت بالملاط؛ ذلك أنه كان يسهل استخدامه في الأشكال المنحنية التي فرضتها عليه الأنماط الشرقية. وكثيراً ما كان يقنع بالشكل الصليبي - شكل الباسلقا ذات الجناحين التي تستطيع حتى تنتهي بقباء. وكان في بعض الأحيان يبتر الباسلقا فيجعلها مثمنة الجوانب كما عمل في كنيستي القديسين سرجيوس وباخوس في القسطنطينية، أوفي كنيسة فينالي في رافانا. ولكن الطراز الذي برع فيه وبز فيه جميع الفنانين الذين سبقوه أواتىوا بعده هوالقبة المستديرة المقامة على هيكل كثير الأضلاع. وكانت الكيفية التي اتبعها للوصول إلى هذه الغاية هي إنشاء قوس أونصف دائرة من الآجر فوق جميع ضلع من أضلاع السطح المتعدد الزوايا والأضلاع، ثم إقامة مثلث دائري من الآجر متجه إلى أعلى وإلى الداخل بين جميع نصف دائرة، ثم بناء قبة فوق الحلقة المستديرة الناشئة من هذا كله. وكانت المثلثات الدائرية تبدومتدلية من حافة القبة إلى قمة المضلع، وبهذا ربعت الدائرة من الوجهة المعمارية، وبعد هذا كاد طراز الباسلقا حتى يختفي من الشرق.

وقد أفاء البَنّاء البيزنطي على هذا البناء من الداخل ما أسعفته به عشرات الفنون المتنوعة. وقلما كان يستخدم التماثيل لهذا الغرض، ذلك أنه لم يكن يريد حتى يصور رجالاً ونساء،بل كان يعمل لخلق جمال مجرد من الصور الرمزية. ولكن المثالين البيزنطيين كانوا رغم هذا القيد عمالاً يمتازون بالكفاية والصبر وسعة الحيلة. وقد نحتوا التاج "الثيودوسي" للعمد بأن جمعوا بين "آذان" النمط الأيوني، وأوراق النمط الكورنثي؛ وكأنهم أرادوا حتى يجعلوا هذه الوفرة من الطرز أضم وأعم، فحفروا على هذا التاج المركب أجمة من النبات والحيوان. وإذ كانت نتيجة هذا لا تتناسب مع الجدران أوالأقواس فقد وضعوا بينها وبين التاج عصابة مربعة وعريضة من أعلاها، ومستطيلة وضيقة نوعاً عند قاعدتها، ثم حفروا على توالي الأيام أزهاراً على هذه العصابات نفسها. وهنا أيضاً كانت الغلبة للفرس غلى اليونان، كما للأولين في مربع القمة. ثم طلب إلى المصورين حتى يزينوا الجدران بصور نثبت عقيدة الناس أوترهبهم؛ ووضع عمال الفسيفساء مكعباتهم المتخذة من الحجر أوالزجاج الملون البراق فوق أرضية زرقاء أومضىية، وزينت الأرض والجدران، أومذابح الكنائس، أوما بين العقود، أوأي جزء من البناء لا تطيق عين الشرقي حتى تراه خالياً من الزخرف. وكان الصناع يزينون الملابس، والمذابح، والعمد، والجدران بالجواهر والأحجار الكريمة؛ وصناع المعادن يضعون فيها صفائح المضى والفضة؛ وصناع الخشب ينقشون المنابر وأسوار المحاريب، والنساجون يعلقون الأنسجة المزخرفة على الجدران ويفرشون الأرض بالطنافس، ويغطون المذابح والمنابر بالأقمشة المطرزة وبالحرير. ولم يذكر التاريخ قبل ذلك العهد فناً أوتي ما أوتيه الفن البيزنطي من وفرة الألوان، ودقة الرموز، وغزاة الزينة؛ وقدرة على تهدئة الذهن وتنبيه الروح.


أيا صوفيا

ولم تكن العناصر اليونانية والرومانية، والشرقية، والمسيحية قد أتمت امتزاجها ليكون منها الفن البيزنطي قبل عهد جستنيان. فلقد أتاحت له فتنة نيقا Nika، كما أعطى حريق روما لنيرون من قبل، فرصة بناء عاصمته من جديد. ذلك حتى الغوغاء في لحظة من لحظات نشوة الحرية أحرقوا دار مجلس الشيوخ، وحمامات زيوكسبوس Zeuxippus وأروقة الأوغسطيوم، وجناحا من أجنحة القصر الإمبراطوري، وأياصوفيا كنيسة البطريق الكبرى، وكان في وسع جستنيان حتى يعي بناء هذه كلها حسب تخطيطها القديم فلا يحتاج هذا منه أكثر من عام أوعامين. لكنه لم يعمل هذا وصمم على حتى في بنائها مزيداً من الوقت والمال وأن يستخدم في هذا البناء عدداً كبيراً من الرجال، وأن يجعل عاصمة ملكه أجمل من روما، وأن يقيم فيها كنيسة لا يدانيها صرح آخر في العالم كله. وكانت بداية عمله حتى وضع في ذلك الوقت منهجاً للأبنية أوسع وأعظم من أي منهج آخر وضع لها في التاريخ: وكان هذا المنهج يَضم حصوناً، وقصوراً وأديرة، وكنائس، وأروقة معمدة، وأبواباً أقيمت في جميع أنحاء الإمبراطورية. ففي القسطنطينية أعاد بناء مجلس الشيوخ من الرخام الأبيض، وشاد حمامات زيوكسبوس من الرخام المتعدد الألوان، وبنى رواقاً معمداً من الرخام، ومتنزهاً في الأوغسطيوم، ونقل الماء العذب إلى المدينة في قناة مبنية جديدة تضارع أحسن ما عثر من القنوات في إيطاليا. أما قصره فلم يكن يعلوعليه قصر آخر في البهاء والترف. فقد كانت أرضه وجدرانه من الرخام، وسُقُفه تقض بالفسيفساء البراقة ما ناله من النصر في أيام حكمه، وتصور الشيوخ في حفلاتهم يقدمون للإمبراطور مظاهر الإجلال والتعظيم التي "لا تكاد تقل عما يقدم منه لله"(36)، وبني على الجانب الآخر من البسفور، بالقرب من خلقيدون مسكناً صيفياً لثيودورا وحاشيتها هوقصر هريون الذي كان له مرفؤه، وسوقه، وكنيسته وحماماته الخاصة به.

وبعد أربعين يوماً من خمود نار الفتنة نيقا بدأ يبني كنيسة أياصوفيا الجديدة. ولم يقمها إلى قديسة تحمل ذلك الاسم، بل أقامها إلى المقدسة صوفيا Hagia Sophia أوالحكمة المقدسة، أوالعقل الخلاق، أوإلى الله نفسه. وأستدعى لهذا الغرض من ترالبس في آسية الصغرى، ومن ميليتس الأيونية، أنثميوس وأزدور أعظم المهندسين الأحياء، ليضعا رسوم البناء ويشرفا على تشييده. ولم يتبع المهندسان شكل الباسلقا التي جرت عليه التنطقيد، بل وضعا للبناء تصميماً تكون صرته قبة واسعة لا ترتكز على جدران بل على أكتاف ضخمة، وتسندها نصفا قبتين من كلا الجانبين. واستخدم في العمل عشرة آلاف عامل، وأنفق عليه 320.000 رطل من المضى (134.000.000 دولار أمريكي) وهوجميع ما كان في خزانة الدولة، وأمر حكام الولايات بأن يبعثوا إلى الكنيسة المخلفات القديمة، وجئ بعشرات الأنواع والألوان من الرخام من مختلف الأقطار وصبت في النقوش والزينات مقادير هائلة من المضى، والفضة، والعاج، والأحجار الكريمة. واشهجر جستنيان نفسه اشتراكاً عملياً في تخطيط البناء وإقامته، وكان له نصيب غير قليل (كما يقول المؤرخ المداهن الساخر) في حل ما يعترض العمل من المشاكل الفنية. فكان يتردد عليه في جميع يوم وعليه ثياب بيض، وفي يده عصا طويلة، وعلى رأسه منديل، يشجع العمال ويحثهم على العمل ويتموه في موعده المقرر. وتم بناء الصرح العظيم في خمس سنين وعشرة أشهر؛ وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر من عام 537 أقبل الإمبراطور والبطريق ميناس يتقدمان موكباً مهيباً لافتتاح الكنيسة المتلألئة الفخمة. وسار جستنيان بمفرده إلى المنبر وحمل يديه إلى السماء ونادى قائلاً: "المجد لله الذي رآني خليقاً بأن أتم هذا العمل! الجليل! أي سليمان! لقد انتصرت عليك!".

وقد خط البناء على شكل صليب يوناني طوله 250 قدماً وعرضه 225، وغطى جميع طرف من أطرافه بقبة صغرى، وقامت القبة الوسطى على المربع (البالغ 100 قدم × 100) والمكون من الضلعين المتقاطعين، وكانت ذروة القبة تعلوعن الأرض مائة قدم وثمانين قدماً. وقطرها مائة قدم -أي أقل من قطر قبة البنثيون في روما باثنتين وثلاثين قدماً. وكانت هذه القبة الثانية قد صبت من الأسمنت المسلح بترة واحدة مصمتة، أما قبة أياصوفيا فقد بنيت من الآجر في ثلاثين سطحاً تلتقي كلها في نقطة واحدة- وهوطراز أضعف من الطراز الأول . وليست ميزة هذه القبة في حجمها بل في نادىئمها: فهي لا تقوم على بناء دائري كما تقوم قبة البنثيون بل على أربطة من أعلاها، وعلى عقود بين حافاتها المستديرة وقاعدتها المربعة. ولم تحلّ هذه المشكلة المعمارية قبل ذلك الوقت حلاً أكثر توفيقاً من هذا. وقد وصف بروكبيوس القبة بأنها "عمل مجيد يبعث الروعة في النفوس... وهي لا تبدوقائمة على ما تحتها من البناء بل تبدوكأنها معلقة بسلسة من المضى في أبراج السماء"(37).

وأما من الداخل فكانت الكنيسة صورة رائعة من الزخرف البراق. فقد كانت أرضها وجدرانها من المرمر المتعدد الألوان: أبيض، وأخضر، وأحمر، وأصفر، وأرجواني، ومضىي. وأقيم منه كذلك طابقان من العميد يخيل إلى إليها أنها حديقة من الأزهار. وكانت تيجان العمد، والعقود وما بينهما، والأفاريز، والطنف مغطاة بنقوش على الحجارة مكونة من أوراق الأكنثوس والكرم. وكان يطل من الجدران والقباب فسيفساء لا مثيل لها في روعتها وسعتها. وكانت تضيئها أربعون ماثلة من الفضة معلقة من حافة القبة تضاف إلى ما فيها من النوافذ الكثيرة. وإن ما يحس به الناظر إلى هذه الكنيسة من سعة تبعثها في نفسه أجنحتها الطويلة، وبنائها الرئيسي، والفضاء الخالي من العمد تحت القبة الوسطى، وما في حظارها الفضي اللقاء للقباء من زخارف معدنية، والحظار المعدني الجميل الذي في الإيوان الأعلى، والمنبر المرصع بالعاج والفضة والحجارة الكريمة، وعرش البطريق المصنوع من الفضة المصمتة، والسجف المنسوجة من خيوط الحرير والفضة، والتي ترتفع فوق المذبح وعليها صورتا الإمبراطور والإمبراطورة تتلقيان بركات المسيح ومريم؛ والمذبح المضىي اللون المصنوع من الرخام النادر الوجود وعليه الأواني المقدسة من الفضة والمضى -وهوبعض ما في الكنيسة من زخرف وزينة- ليجل عن الوصف، ولوحتى جستنيان قد تباهى به أباطرة المغول من بعده، وهوأنهم كانوا يبنون كما يبني الجبابرة، ويزينون مبانيهم كما يزينها الصباغ، لكان على حق في مباهاته.

وكانت أياصوفيا بداية الطراز المعماري البيزنطي وخاتمته في آن واحد. وكان الناس في جميع مكان يسمونها "الكنيسة الكبرى" وحتى بروكبيوس المتشكك نفسه تحدّث عنها حديث الرجل المرتاع فنطق: "إذا ولج الإنسان هذه الكنيسة للصلاة، أحس بأنها ليست من أعمال القوى البشرية... ذلك حتى الروح ترقى إلى السماء تدرك حتى الله هنا قريب منها؛ وأنه يبتهج بهذا اليوم، بيته المختار" .


من القسطنطينية إلى رافنا

كانت أياصوفيا أجلّ ما قام به جستنيان من الأعمال، وكانت أبقى على الدهر من فتوحه أوقوانينه، ولكن بروكبيوس يصف أربعاً وعشرين كنيسة أخرى بناها جستنيان أوأعاد بناءها في عاصمة ملكه. ويقول: "لورأيت كنيسة منها بمفردها لحسبت حتى الإمبراطور لم يبْن كنيسة سواها بل قضى سني حكمه جميعها في بنائها وحده"(3). وظلت حمى البناء منتشرة في جميع أنحاء الإمبراطورية طوال حياة جستنيان، حتى كان القرن السادس وهوبداية العصور المظلمة في الغرب من أكثر العصور ازدهاراً في تاريخ العمارة في الشرق. فكانت ألف كنيسة في إفسوس، وإنطاكية، وغزة، وبيت المقدس، والإسكندرية، وسلانيك، ورافنا، ورمة، واللاد الممتدة من كرش في بلاد القرم إلى الصفاقس في شمالي أفريقية، تحتفل بفوز المسيحية على الوثنية، وبالطراز الشرقي-البيزنطي على الطراز اليوناني-الروماني. وحلّت العقود والقباب محل الأعمدة الخارجية، والعوارض، والقواصر، والطنف. وازدهرت في سوريا نهضة حقه في القرن الرابع، والخامس، والسادس؛ فكانت مدارسها القائمة في إنطاكية، وبيروت، ونصيبين، تخرج العدد الجم من الخطباء، والمحامين، والمؤرخين، والخارجين على الدين. وبرع صنّاعها في أعمال الفسيفساء، والنسيج، وجميع الفنون الزخرفية، وشاد مهندسوها مائة كنيسة زينها مثّالوها بما لا حصر له من النقوش البارزة.

وكانت الإسكندرية المدينة الوحيدة في الإمبراطورية التي كان ازدهارها متصلاً لم ينبتر أبداً. ذلك حتى مؤسسها قد اختار لها مكاناً يكاد يرغم عالم البحر المتوسط على استعمال مرافئها وزيادة تجارتها. ولم تبق الأيام على شيء مما أقيم فيها من عمائر في تاريخها القديم أوفي أوائل العصور الوسطى، ولكن ما بقى من أعمالها في المعادن، والعاج، والخشب، والتصوير، متفرقاً في أماكن مختلفة يوحي بأن أهلها قد بزوا غيرهم في الشهوانية، والحمية الدينية. وكان الطراز الشرقي في عهد جستنيان هوالطراز الغالب في فن العمارة القبطي الذي بدأ بالباسلقا الرومانية.

وبدأ مجد رافنا المعماري بعد حتى اتخذها هونريوس عاصمة الإمبراطورية الغربية في عام 404 بزمن قليل. وعم الرخاء المدينة في الفترة الطويلة التي كانت فيها جلا بلاسيديا Galla Placidia نائبة عن الإمبراطور، وكانت صلتها الوثيقة بالقسطنطينية سبباً في قدوم الصنّاع الشرقيين، واختلاطهم بالمهندسين الإيطاليين: وفي دخول الأنماط الشرقية وامتزاجها بالأشكال الإيطالية. وظهر فيها الطراز الهندسي الشرقي المؤلف من قبة مقامة على قاعدة ذات شكل صليبي منذ عام 450 في الضريح الذي لقيت فيه بلاسيديا ربها؛ ولا يزال في وسعنا حتى نرى فيه النقش الفسيفسائي الذائع الصيت الذي يمثل المسيح في صورة الراعي الصالح. وفي عام 458 أضاف الأسقف نيون Neon إلى مكان التعميد المقبب في باسلقا أرسيانا Basilica Ursiana سلسلة من بتر الفسيفساء من بينها صورة مفردة للرسل. وساد ثيودريك حوالي عام 500 كنيسة كبرى سماها باسم القديس ابلينارس الذي ينطق إنه مؤسس العشيرة المسيحية في رافنا. وهنا يظهر على الفسيفساء التي طبقت شهرتها آفاق العالم للقديسون ذووالثياب البيض في وقارهم الشديد الذي ينبئ ببداية الطراز البيزنطي.

وكان استيلاء بليساريوس على ارفنا من الأسباب التي عجلت بفوز الفن البيزنطي في إيطاليا. وسرعان ما تمت كنيسة سان فينالي San Vitale (547) في عهد جستنيان وثيودورا، اللذين وهباها المال اللازم لتزيينها، كما وهباها أيضاً وجهيهما غير الجذابين لينقشا على جدرانها. وما من شك في حتى الإمبراطور قد أوتي حظاً كبيراً من الشجاعة إذ أجازا حتى تنقل صورتهما إلى الخلف. ومواقف أولئك الحكام، والقساوسة، والخصيان تنبئ كلها عن صلابة وحدة في الطباع، وفي مظهرهما الأمامي الجامد ليعد انقلاباً في الصور التي كنا نشهدها قبل عصور اليونان والرومان الأقدمين. وأثواب النساء كثيرة الزركشة تعلن فوز نقوش الفسيفساء، ولكننا لا نجد هنا رشاقة مواكب البارثنون للمرحة والسعادة، أونصب السلام لأغسطس أوما نشاهده في الصور المنقوشة على أبواب شارترز وريمز من نبل ورقة.

وبعد عامين من افتتاح كنيسة سان فيتال افتتح أسقف رافنا كنيسة سانت ابلناري في كلاس Class وهي ثاني كنيسة أقيمت لهذا القديس راعي المدينة؛ وكان موضعها في ضاحيتها التي على شاطئ البحر، والتي كانت في وقت ما قاعدة الأسطول الروماني على البحر الأدرياوي. ونشاهد فيها التصميم الباسلقي الروماني القديم، ولكن تيجان الأعمدة المختلطة الأشكال تظهر عليها مسحة بيزنطية تنم عنها أوراق الأقنتا الملفوفة الملتوية على خلاف ما كان يظهر في الأنماط اليونانية والرومانية القديمة، كأنما هبت عليها ريح شرقية. وإن ما في هذه الكنيسة من صفوف الأعمدة الكاملة الطويلة، وفي حليات العقود والمثلثات المحصورة بينها من فسيفساء زاهية (من القرن السابع)، وما في موضع المرنمين من لوحات جميلة من المصيص، وما في الصليب القائم في القبا من الجواهر مرصعة بها أرضية من النجوم في الفسيفساء، إذا في هذا كله ما يجعل هذه الكنيسة من أشهر كنائس شبه الجزيرة التي تكون كلها معرضاً عظيماً الفنون الجميلة.


Ivory caskets of the Macedonian-era (Gallery)

العصر الپاليولوگي

The Annunciation from Ohrid, one of the most admired icons of the Paleologan mannerism, bears comparison with the finest contemporary works by Italian artists


الفنون الأخرى

Mosaic from the church of Hagios Demetrios in Thessaloniki, late 7th or early 8th century, showing St. Demetrios with donors.

لقد كان فن العمارة أروع ما خلفه الفنان البيزنطي، ولكنه كان في ثناياه أومن حوله فنون أخرى كثيرة نبغ فيها نبوغاً خليقاً بالتنويه. نعم إنه لم يكن يعنى بالنحت المجسم، وأن مزاج العصر كان يفضل الألوان على الخطوط، ولكن بروكبيوس يثني على المثالين في ذلك العصر، وأكبر الظن أنه يعني بهم أصحاب النقش البارز، ويقول إنهم لا يقولون مهارة عن فدياس وبركستليز، وإنا لنجد على بعض التوابيت الحجرية المصنوعة في القرن الرابع والخامس والسادس صوراً آدمية منحوتة تكاد تضارع الرشاقة الهلينية، مختلطة بها كثير من نقوش الزينة الآسيوية. وكان النقش على العاج من الفنون المحببة إلى البيزنطيين، وكانوا يصنعون منه ألواحاً ذات طيتين أوثلاث طيات، ويجلدون به الخط، ويصنعون منه العلب، وصناديق العطور، والتماثيل الصغيرة، ويطعمون به التحف ويزينون به ما لا يحصى من الأمور. وقد بقيت الفنون الهلنستية في هذه الصناعة لم يمسها سوء، وكل ما وقع فيها أنها استبدلت المسيح والقديسين بالآلهة والأبطال. وإن الكرسي العاجي الذي كان يجلس عليه الأسقف مكسميان في باسيليكا أورسيانا Basilica Ursiana (حوالي 550) ليعد تحفة عظيمة في فن من الفنون الصغرى.

Helios in his chariot, surrounded by symbols of the months and of the zodiac. From Vat. Gr. 1291, the "Handy Tables" of Ptolemy, produced during the reign of Constantine V.

وبينا كان الشرق يجري التجارب على الرسم بألوان الزيت(40)، كان التصوير البيزنطي لا يزال مستمسكاً بالأساليب اليونانية التقليدية كتثبيت ألوان الرسوم بالحرارة -بحرق الألوان في سطوح الخشب، والخيش ونسيج التل؛ وكالمظلمات يصنعونها بخلط الألوان بالجير ووضعها على سطوح من الجبس المبلل، ومزج اللون بمحلول الماء والصمغ أوالغراء وبزلال البيض ثم وضعها على المربعات الخشبية أوعلى الجبس بعد حتى يجف. وقد عهد الرسام البيزنطي كيف من الممكن أن يمثل البعد والعمق، ولكنه كان يهرب عادة من صعاب النظور بأن يملأ خلفية الصورة بالمباني والسجف. وقد أخرج عدداً كبيراً من اللوحات المصورة، ولكنها لم يبق منها إلا القليل. وكانت جدران الكنائس تزدان بالرسوم، وتدل البتر الباقية منها على الواقعية غير المتقنة كالأيدي العديمة الشكل، والأجسام الصغيرة، والوجوه الشاحبة. والشعر المصفف تصفيفاً غير معقول.

An example of Macedonian ivorywork: the Forty Martyrs of Sebaste, now in the Bode Museum, Berlin.

وقد برع الفنان البيزنطي في الأمور الدقيقة وأظهر فيها مرحه وظرفه. وليست روائع التصوير الباقية إلى هذا اليوم من أعماله هي رسوم الجدران أواللوحات الكثيرة، بل هي الرسوم الصغرى ذات الألوان البراقة التي كان يزين بها ما ينشر من الخط في عصره. ذلك حتى الخط كانت كثيرة النفقات في ذلك العصر، ولهذا كانت تحلى كما تحلى غيرها من الأمور النفيسة. وكان الفنان يبدأ عمله هذا برسم ما يريده من الحليات على البردي أوالرق أوالجلد بفرشاة دقيقة أوقلم، ثم يضع أرضية تكون عادة ذات لون مضىي أوأزرق، ثم يضع ما يريده من الألوان، ثم يزين الأرضية والحواشي بأشكال رشيقة دقيقة. وكان في بادئ الأمر يقتصر على تحسين الحرف الأول من جميع فصل أوصفحة؛ وكان يحاول في بعض الأحيان حتى يرسم صورة للمؤلف، ثم انتقل بعدئذ إلى توضيح النصوص بالصور؛ فلما تقدم فنه آخر الأمر كاد ينسى النص ويملأ الكتاب بالزخارف ويبينها على أساس هندسي أورمزي ديني يكرر بأشكال مختلفة بخطئها الحصر، حتى تصبح الصفحة كلها وكأنها صورة واحدة بديعة من الألوان والخطوط كأن النص دخيل عليها من عالم أكثر منها خشونة.

وكانت زخرفة المخطوطات مألوفة في مصر أيام الفراعنة والبطالمة، ثم انتقلت منها إلى بلاد اليونان الهلنستية وروما. وتحتفظ الفاتيكان بإنياذة، والمخطة الأمبروزية في ميلان بإلياذة؛ تعزى كلتاهما إلى القرن الرابع؛ وهما مزدانتان زينة يونانية ورومانية قديمة، ويبدوالانتنطق من الزخرفة الوثنية إلى المسيحية واضحاً في الطبوغرافية المسيحية لصاحبها كزماس انديكبلوستيز Cosmas Indicoplenstes (حوالي 547). وقد نال لقبه هذا "إنديكلبوستير" لأنه سافر إلى الهند بحراً، كما نال شهرته لأنه حاول حتى يثبت حتى الأرض مستوية. وأقدم كتاب ديني مزخرف باق إلى هذا اليوم هوسفر التكوين المكتوب في القرن الخامس والمحفوظ الآن في مخطة فينا. والنص مكتوب بحروف من الفضة والمضى على أربع وعشرين "ورقة" من الجلد الأرجواني الرقيق. ويحتوي على أربعة وعشرين زخرفاً بيضاء وخضراء، وبنفسجية، وحمراء، وسوداء، تصور سيرة الإنسان من سقوط آدم حتى موت يعقوب. ولا يقل عنه جمالاً الملف الصغير لكتاب يوشع المحفوظ في الفاتيكان وكتاب الأناجيل الذي زخرفه الراهب رابولا Rabula في أرض الجزيرة في عام 586. ومن أرض الجزيرة وسوريا اتىت الصور والرموز التي كانت لها الغلبة في الكتابة التصويرية التي ذاعت في العالم البيزنطي. وقد تكررت هذه الكتابة في الفنون الصغرى واتخذت لها ألف شكل وشكل حتى ثبتت وأصبحت تقليداّ وعهداً متبعاً، وكان لها نصيب موفور في جمود الفن البيزنطي.

وإذا كان المصور البيزنطي مولعاً بالتصوير البراق الدائم فقد اتخذ الفسيفساء وسيلته إلى هذين الفرضين. ومن أجل هذا اختار الأرض حجراته مربعات من الرخام الملون كما يعمل المصريون واليونان والرومان من قبله أما السطوح الأخرى فكان يستخدم فيها مكعبات من الزجاج أوالميناء من جميع الألوان ومختلف الحجوم، ولكن سطحها في العادة كان يبلغ 1/8 بوصة مربعة. وكانت الحجارة الثمينة تختلط أحياناً بالمكعبات، وكثيراً ما كانت الفسيفساء تستخدم في خلق الصور الصغيرة والنصمات التي توضع في الكنائس أوالبيوت. أوتحمل في الأسفار عوناً لأصحابها على الزمن ودليلاً على التقي والخشوع. غير حتى صانع الفسيفساء كان يفضل على هذه الصور الصغرى مجالاً أوسع هوجدران الكنائس والقصور. فكان في مرسمه يجرب وضع المكعبات على بترة من الخيش عليها رسم ملون. وهنا كان يجهد عبقريته الفنية ليضع تحت يده الألوان المدرجة الذائبة بعضها في بعض كما يجب حتى يراها الناظر من بعيد. وفي هذه الأثناء كانت طبقة من الأسمنت الغليظ، ثم طبقة أخرى من الأسمنت الرقيق توضعان على السطح المراد تغطيته. ثم يأتي صانع الفسيفساء ويضغط مكعباته في هذا النطقب على غرار النموذج الذي وضعه لنفسه فوق الخيش، وقد جرت عادته على حتى يضع حافاتها المقطوعة إلى الأمام لكي يقع عليها الضوء. وكان يفضل السطوح المنحنية كسطوح القباب، وأنصاف القباب الشبيهة بالأصداف لأنها تمتص في أوقات مختلفة بزواياها المتنوعة أنواعاً عدة من الأضواء المطلة. ومن هذا الفن الشاق الذي يحتاج المهارة والجلد ألهم الفن القوطي في مستقبل الأيام غير قليل من فن تلوين الزجاج.

وقد ورد ذكر هذا الزجاج الملون في النصوص الباقية من لقرن الخامس ولكن شيئاً منه لم يبق حتى الآن، ويبدوحتى صبغته كانت من خارجه لم تمزج فيه مزجاً(41). وكان خلق الزجاج بالنفخ وتقطيعه قد مضى عليهما الآن ألف عام وكانت سوريا، أقدم مواطن الصناعيين، لا تزال مركزاً من مراكزهما. وكان فن الحفر على المعادن الثمينة والحجارة الكريمة قد انحط بعد أيام أورليوس؛ ولهذا نرى الجواهر، والنقود، والأختام البيزنطية غير دقيقة الشكل والصناعة. لكن الصناع مع هذا كانوا يبيعون منتجاتهم لكل طبقة من الطبقات تقريباً، لأن البيزنطيين كانوا مولعين أشد الولع بالحلي. وكانت محال خلق التحف المضىية والفضية كثيرة العدد في العاصمة؛ كما كانت الحقائق والأقداح، وعلب المخلفات المصنوعة كلها من المضى تزدان بها كثير من مذابح الكنائس؛ وكانت الصاف الفضية تغطي موائد ذوي اليسار.

وكان في جميع بيت، بل يكادقد يكون لدى جميع شخص، شيء من النسيج الرقيق. وكانت لمصر الزعامة في هذا الميدان بما كان فيها من منسوجات رقيقة، متعددة الألوان، مزدانة بالصور، تصنع منها الثياب، والستر، وأغطية الفراش، وكان قبط مصر سادة هذه الميادين. وتكاد بعض الأقمشة المصرية التي كانت تزدان بها الجدران في تلك الأيام تضارع من الناحية الفنية أقمشة الجوبلين Goblins(42) كان النساجون البيزنطيون ينسجون الحرير المطرز، والثياب المطرزة، بل والأكفان المطرزة أيضاً -فقد كانت المنسوجات التيلية تصور عليها بالعمل ملامح الموتى. وكان الناس في القسطنطينية يعهدون ما يلبسون من الثياب، ذلك حتى جميع طبقة من أهلها كانت تعتز بنوع خاص من الثياب يميزها من غيرها وتدافع عنه أقوى دفاع، وما من شك في حتى أية جماعة بيزنطية كانت تبدوبرَّاقة كذيل الطاووس.

وكانت الموسيقى محببة لجميع الطبقات منتشرة بينها، وكان ذا شأن متزايد في طقوس الكنيسة، وقد أعانت على مزج العاطفة بالعقيدة. وقد خط ألبيوس Alypius في القرن الرابع مقدمة موسيقية بقيت منها حتى الآن أجزاء هي أبرز ما نسترشد به في قراءة العلامات الموسيقية اليونانية. وقد استبدلت في ذلك القرن بالحروف الهجائية التي كانت بها الأنغام علامات رمزية؛ ويبدوحتى أمبروز هوالذي اتى بهذه العلامات إلى ميلان، وأن هيلاري Hilary هوالذي أدخلها في غالة، وجيروم في روما. وألف رومانس Romanus، الراهب اليوناني في أواخر القرن الخامس ألفاظ الترانيم التي لا تزال حتى الآن جزءاً من الطقوس الدينية اليونانية ولحنها؛ وليس ثمة ما يضارع هذه الترانيم في عمق الشعور وقوة التعبير. وخط بؤيتيوس منطقاً في الموسيقى لخص فيه نظريات فيثاغورس وارستكسنوس Aristoxenus وبطليموس. وقد ظلت هذه الرسالة تدرس في جامعتي أكسفورد، وكمبردج يوم كنا نحن طلاباً(43).

وبعد، فإن من واجب الإنسان حتىقد يكون شرقياً إذا شاء حتى يفهم الفن الشرقي على حقيقته. وإن المعنى الجوهري الذي يدركه العقل الغربي من النزعة البيزنطية هوحتى الشرق قد سرى في قلوب اليونان وتغلغل في أفئدتهم: في الحكومة الأتوقراطية، وفي الطبقات المتدرجة الثابتة، وفي ركود الفهم والفلسفة، وفي الكنيسة الخاضعة لسلطان الدولة، والشعب الخاضع لسلطان الدين، وفي الثياب الفخمة والحفلات العظيمة، والطقوس الدينية ذات الألفاظ الطنانة الرنانة والمناظر الرائعة، والنغمات الموسيقية الساحرة المتكررة التي تستحوذ على نفوس؛ وتغمر الحواس بفيض من الألوان البراقة؛ وأخضع الطبيعة للخيال، والفن التمثيلي للفن الزخرفي. ولقد كان من شأن الروح اليوناني القديم حتى يجد هذا كله غريباً عنه لا يطيقه، ولكن بلاد اليونان نفسها وقتئذ جزءاً من الشرق. وغلبت على العالم اليوناني كلالة أسيوية فيه في الوقت الذي كانت بلاد الفرس المتجددة الحيوية، وكانت قوة الإسلام العظيمة التي لا يكاد العقل يدرك مداها، نقول في الوقت الذي كانت هذه وتلك تنازعانها حياتها نفسها.

انظر أيضاً

  • Icon
  • فن مقدس
  • Book of Job in illuminated manuscripts

المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

الهامش

للاستزادة

  • J. Beckwith, Early Christian and Byzantine art (New Haven, 1993).
  • R. Cormack, Byzantine art (Oxford, 2000).
  • H.C. Evans, ed., Byzantium: faith and power (1261-1557) (New York, 2004).
  • H.C. Evans, ed., The glory of Byzantium (New York, 1997).
  • Sharon E. J. Gerstel and Julie A. Lauffenburger, ed., A Lost Art Rediscovered (Penn State, 2001) ISBN 0-271-02139-X
  • C. Mango, ed., The art of the Byzantine Empire, 312-1453: sources and documents (Englewood Cliffs, 1972).
  • K. Weitzmann, ed., Age of spirituality (New York, 1979).
  • James, Elizabeth. Art and Text in Byzantine Culture (1 ed.). Cambridge University Press. ISBN .
  • Papadaki-Oekland, Stella. Byzantine Illuminated Manuscripts of the Book of Job. ISBN 2503532322 & ISBN 9782503532325

وصلات خارجية

  • . Exhibition at the Metropolitan Museum of Art (2004).
  • . Exhibition at the Metropolitan Museum of Art (1997).
  • "Byzantine art", from Encyclopædia Britannica Online.
  • "Byzantine art", from the 1911 Encyclopædia Britannica.
  • Anthony Cutler on the economic history of Byzantine mosaics, wall-paintings and icons; at Dumbarton Oaks.
  • BYZANTINE ICONS AND MOSAICS
  • Byzantine Churches in Constantinople
تاريخ النشر: 2020-06-07 11:49:39
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, فن بيزنطي, فن مسيحي, Byzantine culture, Classical art, Late Roman Empire art, فن العصور الوسطى, Christian art, الثقافة اليونانية, Art by period of creation

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

بايدن يقلل من أهمية الضجة التي أثارتها الوثائق السرية

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:17:03
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 93%

جنوب إفريقيا تجري مناورات بحرية مشتركة مع الصين وروسيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:17:14
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 88%

نزع حزام الأمان لتصوير فيديو.. سوناك يثير غضب البريطانيين

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:18:44
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 99%

بايدن يقلل من أهمية الوثائق السرية: ليست مهمة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:18:19
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 93%

الاحتلال الإسرائيلى يعتقل 8 فلسطينيين من القدس والخليل

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:21:05
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 64%

ظل مفقوداً في البحر 24 يوماً.. شاهد الرجل الذي أنقذه "الكاتشاب"

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:18:51
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 95%

البنتاغون يقدم حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 2.5 مليار دولار لكييف

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:17:16
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 97%

القوات الأوكرانية تستهدف دونيتسك بنحو 219 مقذوفا خلال 24 ساعة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:17:18
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 92%

"موزاييك إف إم": أمير مغربي يمنع من دخول تونس

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:17:17
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 88%

رونالدو: سعيد بإحراز الأهداف ومواجهة أصدقائى القدامى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:21:03
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 66%

بلينكن وبوريل يبحثان تنسيق الجهود لدعم أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:17:12
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 91%

رئيس الوزراء البريطاني يعتذر عن سوء تصرفه بسيارة متحركة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:17:11
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 94%

إحباط تهريب 20 كيلو من المشغولات الثمينة بمطار برج العرب| صور

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:19:49
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 68%

الصيف 21 يونيو.. تعرف على مواعيد بدايات فصول السنة خلال 2023

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:21:04
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

بالأسماء.. كشوف بـ  112 مصريا حاصلا على تأشيرة خروج نظامي من السعودية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-20 03:19:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 51%

تحميل تطبيق المنصة العربية