نظام الحكم في عهد إسماعيل

عودة للموسوعة

نظام الحكم في عهد إسماعيل

النظام السياسي

كان إسماعيل يحكم البلاد حكماً مطلقاً ، ويتولاه بنفسه ، وقد ظلت جميع صغيرة وكبيرة من شؤون الحكومة رهن إشارته ، بحيث كان يحق له ان يحاكي لويس الرابع عشر في قوله " إنما الدولة أنا " ، إلى حتى وقع التدخل الأوروبي بواسطة صندوق الدين والرقابة الثنائية ثم الوزارة المختلطة ، فغلت سلطته بمقدار ما كسبه من الأجانب من التدخل في شؤون الحكومة المالية ثم السياسية . ولم يكن الوزراء ( أوالنظار كما كان إسمهم ) إلى سنة 1878 ، أي إلي السنة التي انشىء فيها مجلس النظار سوى موظفين لدى الخديوي ، يعينهم لرئاسة النظارات المعروفة في ذلك العصر ، وكانت تسمى " الدواوين " ، وهي الداخلية ، والمالية ، والمعارف ، والحقانية ، والحربية ، والبحرية ، والأشغال ، والخارجية ، والأوقاف وأنشئت أيضاً وزارة للزراعة ، وأخرى للتجارة ، ثم ألغيتا في عهد وزارة نوبار باشا سنة 1878 ، ولم يكن للنظار من السلطة إلا ما يتلقونه عن ولي الأمر ، وتضاءلت سلطتهم حتى أمام المفتشين العموميين ، وهما مفتش الوجة البحري ، ومفتش الوجة القبلي اللذين استحوذا على السلطة الإدارية في الحكومة بامر الخديوي . وليس معروفاً على وجه التحقيق ما هي الحكمة في ايجاد هذا النظام الذي يضع سلطة المفتشين بجانب سلطة النظار ، ويجعلهم أعظم شأناً من هؤلاء ، ولكن يظهر حتى السبب في ذلك هورغبة إسماعيل في حتى تتعارض السلطتان حتى تكون جميع منهما رقيبة على الأخرى فيطمئن على سلوك كلتيهما ، وهى قاعدة مألوفة في حكومات الاستبداد .


المجلس الخصوصى ثم مجلس النظار

لم يكن للوزاراء مجلس قائم بذاته ، ولا هيئة لها أعضاء منظميون ، بل كانوا كما قلنا موظفين يعينهم الخديوي ويعزلهم كسائر موظفي الحكومة.

ولم يكن بمصر قبل سنة 1878 مجلس وزراء ، بل كان بها مجلس يدعى (المجلس الخصوصي العالى ) ، يضم عادة الوزراء ( النظار ) ، ولكنه ليس قاصراً عليهم ، بل كان يضم أيضاً جماعة من الباشوات الذين يصطفيهم الخديوي ، ومن هؤلاء ، وأولئك يتألف المجلس الخصوصي.

وهذا المجلس ينظر في شؤون الحكومة العامة ، ويضع القوانين واللوائح والقرارات الهامة ، ويعمل برئاسة الخديوي ، ولكنه لم يكن مسئولاً عن سلطة الحكم ، بل كان أعضاؤه كأمناء أوموظفين في معية الخديوي ، ليس لهم سلطة ، ولا تربطهم رابطة اللهم إلا اختيار ولي الأمر لكل منهم.

وكانت مسئولية الحكم يتولاها الخديوي بنفسه ، إلى حتى انشىء (مجلس النظار) بالأمر العالي الذى أصدره إسماعيل في 28 أغسطس سنة 1878 ، ومنذ ذلك الحين صار الخديوي يتولى الحكم بواسطة مجلس النظار بالاشتراك معه.

فمجلس النظار قد خلف ( المجلس الخصوصى ) وصار مسئولاً عن الحكم ، وله كيان قائم بذاته ، واعضاؤه يختارهم رئيس مجلس النظار ويتضامنون وإياه في المسئولية ، وقد صار هذا المجلس اساس نظام الحكم في مصر إلى عصرنا الحاضر.

مجلس شورى النواب

وانشأ إسماعيل هيئة نيابية تمثل الشعب وهي مجلس شورى النواب ، وقد تحدثنا في الفصل السابق عن هذا المجلس والأدوار التي تعاقبت عليه.

التقسيم الاداري

صارت مصر مقسمة في عهد إسماعيل إلي ثلاث عشرة مديرية وهي :

  1. البحيرة
  2. الغربية
  3. الشرقية
  4. الدقهلية
  5. المنوفية
  6. القليوبية
  7. الجيزة
  8. بني سويف والفيوم
  9. المنيا وبني مزار
  10. أسيوط
  11. جرجا
  12. قنا
  13. اسنا

وكان بمصر من المحافظات تسعاً ، وهي:

  1. القاهرة ،
  2. الإسكندرية
  3. رشيد
  4. دمياط
  5. بورسعيد
  6. العريش
  7. السويس ( وتمتد سلطتها إلي سواحل البحر الأحمر حتى " الوجه " )
  8. القصير ( وكانت تتبع مديرية قنا ).

وبقيت المديريات برأسها المديرون ، والمحافظات يتولاها المحافظون ، واستمرت المديريات مقسمة إلي مراكز ، والمراكز إلي إلي اقسام ( أخطاط ) ، والأقسام إلي نواح وبلاد ، وتغير إسم مشايخ البلاد فصاروا يعهدون بالعمد وتحت أيديهم المشايخ ، وجعل تعيين هؤلاء وأولئك بانتخاب الأهالي ورغبتهم.

النظام القضائي

بقيت المحاكم الشرعية كما كانت في عهد سعيد باشا ، ولما تولى إسماعيل الحكم اصدر امره إلي مجلس الأحكام في 27 رجب سنة 1279 هـ ( 1863 م ) بإعادة تأليف مجالس أومحاكم الأنطقيم ( المجالس الملغاة ) ، إذ لم يكن بقي منها في آخر عهد سعيد سوى مجلسين ، فعمم هذه المجالس في أمهات المدن مع توزيع إختصاصها كما يأتي :

  • مجلس مصر : واختصاصه محافظة مصر والسويس وقسم أول جيزة.
  • مجلس بنها : واختصاصه القليوبية والمنوفية.
  • مجلس المنصورة : واختصاصه الشرقية والدقهلية.
  • مجلس طنطا : واختصاصه الغربية والبحيرة .
  • مجلس الإسكندرية : واختصاصه محافظة الإسكندرية.
  • مجلس بني سويف : واختصاصه بني سويف وقسم ثاني جيزة والفيوم وبني مزار.
  • مجلس اسيوط : واختصاصه إسنا ومدينة القصير.
  • مجلس دمياط : واختصاصه محافظة دمياط.

ثم زيد عدد مجالس الأنطقيم ، فصار لكل مديرية مجلس إبتدائي ، وزيد عدد ( المجالس الاستئنافية ) التي كانت تستانف أمامها أحكام المجالس الإبتدائية التي في دائرتها.

وأنشيء ديوان الحقانية ، وأحيلت عليه إدارة المحاكم ومجالس الانطقيم ، وإرشادها إلي طريق الصواب ، وسن القوانين واللوائح لها ، واشتملت الائحة العمومية التي سنها سنة 1288 على قواعد اختصاص المجالس وأصول المرافعات فيها.

وفي سنة 1871 بناء على إقتراح مجلس شورى النواب انشئت مجالس أومحاكم بالقرى والأخطاط لنظر القضايا الصغيرة سميت ( مجالس النادىوي المركزية ) تمييزاً لها من ( المجالس المحلية ) المنشأة في عواصم المديريات.

المحكمة التجارية المختلطة

وبقيت المحكمة التجارية المختلطة المسماة ( مجلس التجار ) في جميع من الإسكندرية والقاهرة تفصل في المنازعات التجارية بين الوطنيين والأجانب ، ولها محكمة إستئنافية تسمى ( مجلس الاستئناف ) بالإسكندرية ، وكانت المحكمة التجارية بالقاهرة سنة 1872 تتألف من رئيس وهوعلى باشا شريف ( الذي صار فيما بعد رئيساً لمجلس شورى القوانين ) ثم خلفه على بك إبراهيم ( باشا ) وصار وزيراً للمعارف ، ومن وكيل وهوأحمد بك عبيد ومن عدد متساومن القضاة الوطنيين والأجانب فكانت الغالبية للوطنيين ، وهذه المحاكم التجارية هي التي حلت محلها المحاكم المختلطة سنة 1876.


مجلس الأحكام

وقد بقي ( مجلس الأحكام ) هيئة إستئنافية عليا ، واستمر قائماً إلى تشكيل المحاكم الأهلية الجديدة ، وأقتصر على نظر قضايا الوجه القبلي الذي لم يعمه نظام المحاكم الأهلية إلا سنة 1889 ، فلما انشئت المحاكم الجديدة بالوجه القبلي ألغي مجلس الأحكام نهائياً كما ألغيت مجالس الأنطقيم ، ولذلك عهدت بالمجالس الملغاة.

ومما لا مندوحة عن ذكره حتى النظام القضائي في الجملة كان على حالة من التأخر لا تغبط عليها البلاد ، فالقضاة لم يكن لهم دراية بالقوانين ولا بالروح القانونية ، وكانت مناصب القضاء تستند إلي جماعة معظمهم من الأعيان ، أومن الموظفين الذين لم تتوفر فيهم شروط الفهم والكفاءة ، ولم تكن العدالة مرعية ، وليس ثمة ضمانات للحقوق ، والرشوة منتشرة والنظام في ذاته فاسد ، ولا يزال الناس يتناقلون روايات وأحاديث تدل على مبلغ انتشار الرشوة في ذلك العهد بين موظفي المحاكم من قضاة وكتاب وغيرهم ، ولم تكن هناك محاكمات سليمة ، وكان النفي إلى السودان كثيراً ما يصيب من يغضب عليهم ولي الأمر ، دون ان تحدث لذلك محاكمات أوتحقيقات.

وظل النظام القضائي مختلاً إلي حتى أنشئت المحاكم الجديدة سنة 1883 على عهد توفيق باشا ، وقد كان الشروع في إنشائها على عهد إسماعيل ، إذ مهد إلي ذلك بتعريب قوانين نابليون المعروفة ( بالكود ) ، واضطلع العلامة رفاعة بك رافع وتلاميذه بهذه المهمة ، فعرب هووعبد الله بك السيد القانون المدني واشهجر معهما عبد السلام أفندي أحمد ، وأحمد أفندي حلمي ، وعرب قانون المرافعات عبد الله أبوالسعود أفندي ، وحسن أفندي فهمي ، وعرب العلامة قدري باشا قانون العقوبات والسيد بك صالح مجدي قانون تحقيق الجنايات ، ومن هذه القوانين استمد الشارع المصري معظم قوانين المعاملات المدنية والمرافعات والعقوبات ، وصدرت بها المراسيم سنة 1883 في عهد وزارة شريف باشا الرابعة.

إنشاء المحاكم المختلطة

إن ولاية القضاء ركن من أركان السيادة الأهلية لكل بلد مستقل ، فمن قواعد الاستقلال سريان سلطة القضاء الأهلي على جميع سكان المملكة ، لا فرق بين وطنيين وأجانب ، ونفاذ أحكامه ، على أشخاصهم ، وعلى أموالهم ، في منازعاتهم المدنية والتجارية وفيما يقع من اي منهم من الجرائم والمخالفات.

هذه القاعدة هي من اوليات نظام الحكم في جميع البلدان المستقلة ، ولكنها في الشرق قد اعترض تطبيقها ما منحه الملوك والسلاطين لرعايا الدول الأوروبية من الإمتيازات الاجنبية.

كانت هذه الأمتيازات في مبدأ أمرها منحة ، أعطتها هجريا لبعض الدول ورعاياها ، ولقد ظلت ردحاً من الزمن مصبغة بهذه الصبغة ، حتى سرى الضعف إلي السلطنة العثمانية ، فاستحالت تلك المنحة حقاً مكتسباًً ، ثم صارت في مصر عدواناً على السيادة الأهلية ، ومشاركة للحكومة في سلطتها.

ومع حتى سريان الإمتيازات في بلادنا يرجع إلى كونها في الأصل جزءاً من السلطنة العثمانية ، إلا أنها تطورت واستفحل خطرها ، وكسب الأوروبيون من المزايا أكثر مما لهم في هجريا ، وصار للإمتيازات الأجنبية في مصر مظاهر ومميزات ليست لها في بلد مستقل ، ولا في اية ولاية من ولايات هجريا القديمة.

ومما يؤسف له حتى الدول الأجنبية كسبت هذه المميزات في الوقت الذي تحررت فيه مصر من التبعية الهجرية ونالت استقلالها الذي ضم السيادة الداخلية وبعض مظاهر السيادة الخارجية ، وعلى ما يقتضيه المنطق من تضاؤل سلطة الأمتيازات الأجنبية في عهد الاستقلال ، فقد جرى العمل على عكس ذلك ، إذ أنها اشتدت وطأتها في هذا العهد.

ومن الواجب تفسيراً لهذا التناقض حتى نقول حتى الأوروبيين لم يكسبوا مزايا جديدة في الوقت الذي كانت فيه الحكومة المصرية قوية البأس ، مهيبة الجانب ، أي في عهد محمد على وإبراهيم وعباس ، ولكنهم انتهزوا فرصة الضعف الذي انتابها في عهد خلفائهم ، فنالوا مزايا وحقوقاً ما كانت لهم من قبل ، وفي هذا الصدد يقول المسيوجابرييل شارم ما خلاصته : " لم يكن للجاليات الأوربية في عهد محمد على وعباس أهمية ما ، ولكنهم نالوا الشأن العظيم في عهد سعيد وإسماعيل ، حتى صاروا خطراً على الأهليين ، وقد ساعد فتح قناة السويس ومد السكك الحديدية على ازدياد نشاطهم ، وبلغ عددهم سنة 1879 مائة الف نسمة ، وطغوا أمام ضعف الحكومة الوطنية، فقد كان سعيد باشا كثير التسامح والسخاء معهم ، ولم يكن يرفض أي منحة يطلبونها منه ، وكان ينساق من غير تبصر إلى أي مشروع يعرضونه عليه ، فإذا لم ينالوا من تلك المشاريع ما يبغونه من الربح ، عوضهم سعيد باشا ما فاتهم من الأرباح ، وكان القناصل يتدخلون لتأييد مطالبهم ويُكرهون سعيد باشا على إجابتها.

" وكانوا يتحرجون في عهد عباس من هذا التدخل ، ولما كان لديه من الوسائل لوقفهم عند حدهم ، وقيل إنه كان لديه نمر يألفه ويضعه بالقرب منه محجوباً عن الأنظار ، فإذا إشتد الجدل بينه وبين أحد القناصل استدعى النمر في رفق وهدوء ، إلى حيث يراه القنصل ، فكان لهذه الوسيلة " الدبلوماسية " أثرها في حسم النزاع.

" أما سعيد فكان ضعيف الإرادة ، يخضع دائماً لمطالب القناصل ، وقد طغى سيل الأجانب في عهد إسماعيل واحتموا بنظام الأمتيازات الأجنبية وانتفعوا من تبذير الحكومة وسفهها ".

هذا ما يقرره محرر أوروبي استوعب عصر إسماعيل ووصف حالة البلاد كما شاهدها ، وليس فيه مظنة التحامل أوالمبالغة والإسراف في القول.

حدود الامتيازات الأجنبية في هجريا

كانت الأمتيازات الأجنبية في هجريا تتبع القواعد الآتية : أولاً : لم يكن للأجانب حق امتلاك العقارات في بلاد السلطنة العثمانية ، ثم خولتهم الحكومة الهجرية هذا الحق بمقتضى القانون الصادر في يونية سنة 1867 ، (7 صفر سنة 1284 هـ) ، وفي نظير تخويلهم إياه قبلت الدول الأوربية خضوع رعاياها للوائح الضرائب العقارية والقوانين المالية التي تضعها الحكومة العثمانية من غير حاجة إلي موافقة الدول ، وخضوعهم للمحاكم الهجرية في المنازعات العقارية سواء كانوا فيها مدعين أومدعى عليهم.

ثانياً : يرجع رعايا الدول الأجنبية في شؤونهم التجارية والمدنية والشخصية إلى قناصلهم.

ثالثاً : تختص المحاكم العثمانية بنظر قضايا الأجانب مدنية كانت أوتجارية إذا كان في الخصومة صالح أهلي ، وتفصل في هذه المنازعات طبقاً للقوانين الأهلية دون حاجة إلى حضور القنصل أومندوبه أثناء المحاكمة.

ولم تكن المحاكم الهجرية مختصة بنظر المنازعات المدنية ( غير العقارية ) إذا كان الطرفان ممن يتمتعون بالامتيازات الأجنبية ولا يمس النزاع صالحاً أهلياً.

رابعاً : تسري أحكام القوانين العثمانية الخاصة بالعقوبات على الرعايا الأجانب كما تسري على الاهليين سواء بسواء ، وكذلك تسري عليهم قوانين الضبط والربط واللوائح الإدارية والتنظيم والصحة ، وتطبق عليهم القوانين الجنائية ويحاكمون أمام المحاكم العثمانية فيما عدا الجرائم التي تقع منهم على أجنبي.

ولم تتعد الامتيازات في هجريا الدائرة التي رسمتها المعاهدات على مافيها من غضاضة وافتيات على السيادة الأهلية.


اتساع حدود الامتيازات في مصر

ظلت الامتيازات في مصر تتبع أوضاعها الأصلية على عهد محمد على وإبراهيم وعباس ، وكان بالإسكندرية والقاهرة محكمتان تسمى جميع منهما المحكمة التجارية أو( مجلس التجار ) ، تفصل في المنازعات التجارية بين الأوروبيين والمصريين ، وقضاتها من الوطنيين والأجانب ، والغالبية فيها للوطنيين كما تقدم بيانه.

ولكن لما ضعف شأن الحكومة في عهد خلفاء محمد على طغت سلطة الأجانب على سيادة الحكومة ، وبدأ طغيانهم في عهد سعيد ، ثم إزداد في عهد إسماعيل ، وفي خلال هذه الأطوار نالوا المزايا الآتية التي اغتصبوها بالعهد والعادة :

1 – إنتزع القناصل سلطة الحكم فيما يقترف رعاياهم من الجرائم التي تقع على الرعايا الوطنيين.

2 – إلتزم الأهالي عندما يقاضون الأجانب حتى يحملوا نادىواهم أمام محاكمهم القنصلية ، وذلك حتى التطبيق في منازل المحكوم عليهم كان يقتضي حضور القنصل ، ولكن القناصل كانوا يمتنعون عن حضور التطبيق فتحجم السلطات الأهلية عن إقتحام منازل الأجانب ، فيضطر الأهالي إلي الإلتاتى للقناصل عساهم يرسلون مندوبيهم لحضور التطبيق ، ولكن القناصل بدلاً من ذلك أخذوا يفصلون في النزاع بين الفريقين ، فيضطر المدعي مرغماً إلى قبول هذه الوساطة بدلاً من الحصول على أحكام يتعطل تطبيقها إلى ما شاء الله.

3 – اغتصبت المحاكم القنصلية سلطة الفصل حتى في القضايا التي يحملها رعاياها على الأهالي.

4 – اغتصبت سلطة الحكم على الحكومة المصرية في القضايا التي يحملها الرعايا الأجانب ، وهذا من أغرب ما يذكر في ضعف هيبة الحكومة ، وقد حكمت المحاكم القنصلية عملاً على الحكومة في قضايا تعويضات والتزمت الحكومة بدفع مبالغ باهظة بطريق التهديد خشية إغضاب القناصل وحكوماتهم.

وقد أحصيت هذه المبالغ في مدى أربع سنوات ( من سنة 1864 إلي سنة 1868 ) فبلغت 2.800.000 جنيه ، وهذا يعطيك فكرة جلية عن مبلغ استخذاء الحكومة أمام طغيان الأجانب ، ولقد كان من مسببات هذا الطغيان مجاملة الخديوي إسماعيل لقناصل الدول لكي ينال رضا حكوماتهم ويكسب تأييدهم إياه في خلافه مع هجريا ، ولعمري حتى الخطر الذي يتهدد كيان مصر لم يكن آتياً من هجريا الضعيفة ، بل كان مصدره الاستعمار الأوروبي السياسي والمالي ، وقد دلت الحوادث على هذه الحقيقة ، ولكن نزعة إسماعيل الأوروبية كانت تحجب عنه كثيراً من الحقائق ، وأفضت إلي هذا العدوان المستمر على سلطة الحكومة.

وهذه السلسلة من الاغتصابات هي التي يسميها رجال القانون " العهد " أو" العادات المرعية " ، وقد صدق القاضي الهولندي فان يملن Van Bemmelen الذي تولى قضاء المحاكم المختلطة في عهد إسماعيل في قوله عنها :

" إذا الأوروبيين يعبرون عن الأختصاص المختلط للقنصليات بأنه نشأ عن " العهد " ، وفي الحقيقة أنه وليد الاغتصاب الواقع من الاقوياء على حقوق الضعفاء ".

اضطراب المعاملات

ساءت الحالة من جراء انتحال المحاكم القنصلية تلك الأختصاصات الباطلة ، فإن جميع محكمة من هذه المحاكم كانت تحابي رعاياها وتتحيف حقوق خصومهم ، هذا فضلاً عن حتى جميع قضاء قنصلي يحكم طبقاً لقانون بلاده ، فلم يكن التعامل بين الناس قائماً على قواعد معلومة ، وضوابط مرسومة ، بل صارت المعاملات عرضة لأهواء المحاكم القنصلية وقوانينها ، وإذا فهمت حتى القنصليات العامة بالدول المتمتعة بالامتيازات الأجنبية كانت سبع عشرة قنصلية أدركت أنه كانت بمصر 17 محكمة قنصلية تحكم جميع منها طبقاً لقوانين بلادها.

ولم تكن تلك المحاكم تقضي في المنازعات التي تحمل أمامها إلا قضاء أبتدائياً ، وأحكامها تستأنف أمام محاكم استئناف البلاد التابعة لها ، فإذا كان المدعى عليه فرنسياً يحمل الأستئناف أمام محكمة ( اكس ) بفرنسا ، وإذا كان إيطالياً أمام محكمة ( انكونا ) وإذا كان يونانياً فأمام محكمة ( اتينا ) وإذا كان إنجليزياً فأمام محكمة ( لندن ) وإذا كان نمساوياً فأمام محكمة ( تريستا ) وإذا كان ألمانياً فأمام محكمة ( برلين ) وإذا كان أمريكياً فإلى محكمة ( نيويورك ) !! فتأمل في ما تقتضية هذه الفوضى من المتاعب والعقبات ، والنفقات الجسيمة ، وإضاعة الوقت ، مما يؤدي في الغالب إلى التنازل عن الخصومة بدلاً من المقاضاة التي لا يعهد لها نتيجة ولا يؤمن فيها عدل.

إصلاح هذا الفساد

فكر إسماعيل في إصلاح هذا الفساد ، ولكن بدلاً من حتى يعالجة بالقواعد المتفق عليها بين الدول ، وهي حتى القضاء الأهلي هوصاحب الولاية على المتقاضين والقاطنين في البلد ، اختلفت أجناسهم ، فإن المشروع الذي انتهي إليه الاتفاق بين الخديوي والدول يقضي بأنشاء محاكم مختلطةقد يكون العنصر الغالب فيها للقضاة الأوروبيين ، وتفصل فيما يقوم من المنازعات بين المواطنين والأجانب.

ولا مراء حتى نظرة بسيطة في أساس هذا النظام يتبين منها فساده ، وبُعدِه عن القواعد النظامية في البلاد المستقلة ، ولقد كان إسماعيل في غنى عنه بالرجوع إلى النظام القضائي المتبع في هجريا ، فإن اختصاص المحاكم الأهلية في بلاد السلطنة العثمانية يتناول الحكم في المنازعات المدنية والتجارية بين الرعايا الوطنيين والأجانب ، وفي القضايا الجنائية التي يتهم فيها هؤلاء ، ولما كان مصدر الاختصاص القضائي القنصلي هوالامتياز الأجنبي في هجريا ، فان الإصلاح المعقول هوالرجوع بهذا الاختصاص إلى حدود تلك الامتيازات ، هي معاهدات ابرمتها هجريا وأنها تسري على مصر كما كانت تسري على سائر أجزاء السلطنة العثمانية.

وقد نصت معاهدة لندن التي حددت مركز مصر الدولي سنة 1840 على حتى معاهدات السلطنة العثمانية تسري أحكامها في مصر ، فمن الوجهة القانونية الدولية ، ما كان يجوز أقرار مزايا لرعايا الدول الأجنبية تزيد عما كان في هجريا بمقتضى معاهدات الامتيازات.

ولكن إسماعيل ونوبار ، لنزعتهما الأوروبية ، لم يجدا غضاضة من التدخل الاوروبي في ولاية القضاء ، ما دام هذا التدخل منظماً ، فارتكبا شططاً كبيراً ، وإذ لم يجعلا أساس الإصلاح اتباع النظام الخاص بقضايا الأجانب في هجريا ، وارتضيا نقل سلطة المحاكم القنصلية المتعددة إلي محكمة مختلطة غالبية قضاتها من الأجانب ، فاتى الإصلاح معكوساً مشوهاً ، وحمل في طياته هدم ولاية القضاء في مصر ، ومهد لتغلغل النفوذ الأجنبي في سلطة القضاء والتشريع ، وفي كيان البلاد المالي والاقتصادي.

مذكرة نوبار باشا

( سنة 1867 )

شرع نوبار باشا في مفاوضة الدول الاجنبية في إنفاذ مشروعه ، وبدأ عمله بتقديم مذكرة تفصيليه إلى الخديوي أبان فيها عيوب النظام القضائي القنصلي وامتدح إنشاء قضاء مختلط يوافق روح الامتيازات الممنوحة للأجانب.

المفاوضات بشأن النظام القضائي المختلط

تولى نوبار مفاوضة الدول بشأن نظام المحاكم المختلطة ، وطالت هذه المفاوضات لأن الجاليات الأجنبية لم تكن تميل إلى إنشائها بل أرادت بقاء سلطة المحاكم القنصلية ، وكانت فرنسا من أشد الدول أعتراضاً على إنشائها ، وأعترضت هجريا أيضاً على التفاوض في شأنها بين مصر والدول الأجنبية.

إقرار نظام المحاكم المختلطة

واستمرت المفاوضات بين مصر والدول عدة سنوات ، ثم انتهت باتفاقهن سنة 1875 على إنشاء المحاكم المختلطة التي سميت ( محاكم الإصلاح ) ، وإليك بيان الدول التي ابرمت هذا الاتفاق : الولايات المتحدة ، النمسا والمجر ، بلجيكا ، الدنمرك ، فرنسا ، ألمانيا ، إنجلترا ، اليونان ، هولندا ، إيطاليا ، البرتغال ، الروسيا ، السويد والنرويج ، ووضعت الحكومة المصرية باتفاقها مع الدول لائحة ترتيب المحاكم المختلطة وقوانينها المدنية والتجارية وقانون المرافعات ، ووافقت الحكومات الأوربية على هذه القوانين ، وبقيت فرنسا متردده في موقفها ، فكانت أخر من وافق عليها.

وهاك خلاصة القواعد التي قام عليها نظام هذه المحاكم :

أولاً : تختص بالفصل في المنازعات المدنية بين المصريين والأجانب ، وبين الأجانب الذين ليسوا من جنسية واحدة.

ثانياً : تفصل في المنازعات العقارية إذا كان أحد الطرفين من الأجانب ولوكان الطرفان من جنسية خارجية واحدة.

ثالثاً : تفصل في المسائل الجنائية بالحكم على المتهمين الأجانب في بعض المخالفات البسيطة.

رابعاً : أما الجنح والجنايات التي تقع من الأجانب فلا تختص للحكم فيها ، بل بقيت من أختصاص المحاكم القنصلية ، مع استثناء الجرائم التي تقع على قضاة المحاكم المختلطة ، أوماموريها القضائيين أثناء قيامهم بعملهم ، فتختص بالحكم فيها.

وقضت لائحة ترتيب تلك المحاكم بإنشاء ثلاث محاكم إبتدائية ، الأولى في الإسكندرية والثانية في مصر ، والثالثة بالإسماعيلية ، ثم انتقلت إلي المنصورة ، ومحكمة استئناف في الإسكندرية.

وللقضاة الأجانب الأغلبية ، ولهم رآسة الجلسات ، وبما حتى المحاكم الجزئية تتألف من قاض وأحد ، فقد جرى العمل على ألاقد يكون هذا القاضي إلا أجنبياً ، على الرغم من حتى لائحة ترتيب المحاكم لا تنص على ذلك ، ولكنهم ساروعلى هذه القاعدة بطريق الاستنتاج والتغلب ، ونطقوا حتى رآسة الجلسات التي تتألف من عدة قضاة تكون للأجنبي ، فإذا كانت الجلسة مؤلفة من قاضي وأحد ، وجب حتىقد يكون أجنبياً.

ولا يسمح للقضاة الوطنيين حتىقد يكون منهم قاضي الأمور المستعجلة ، الذي له سلطة واسعة المدى في الأحكام ، أوقاضي الأمور الوقتية ، أوقاضي البيوع ونزع المـلكية العقارية.

وفي ذلك يقول القاضي الهولندي فان بملن في لهجة من التهكم : " ما دامت القاعدة حتى الأغلبية في الأحكام مكفولة للأجانب فلم يبقى إذا جلس قاض وأحد إلا حتىقد يكون أجنبياً ولم ترد أصلاً فكرة إسناد هذه المهمة إلي قاض من القضاة الوطنيين ، وكل ما جاز لهم به حتىقد يكون منهم قضاة تحقيق ، أوقضاة منتدبون في التفاليس " ، ولعل هذا النظام هوالذي جعل القاضي فان بملن يصف المحاكم المختلطة بقوله ( ص 205 ) : " إنها ركن قوي من أركان السيطرة الأوروبية على مصر ".

وهناك رآسة واحدة هجرت للوطنيين في النظام المختلط ، وهي الرئاسة " الفخرية " لمحكمة الاستئناف وللمحاكم الابتدائية الثلاث ، على حتى هذه الرآسات الغيت مع الزمن ، ففيما يتعلق بمحكمة المنصورة الابتدائية لم يعين لها سوى رئيس فخري واحد ، وهوعبد القادر باشا فهمي الذي كان مستشاراً بمحكمة الاستئناف المختلطة ، ولمناسبة إحالته على المعاش سنة 1894 عين رئيساً فخرياً لمحكمة المنصورة ، وظل يشغل هذا المنصب " الفخري " حتى وفاته سنة 1898 ، ولم يعين أحداً خلفاً له ، وكذلك ألغيت الرئاسة الفخرية لمحكمة الإسكندرية سنة 1896 ، أما محكمة مصر فكان آخر رئيس فخري لها حنا نصر الله باشا سنة 1908 ولم يخلفه احد ، وآخر رئيس فخري لمحكمة الاستئناف المختلطة هوأحمد عفيفي باشا وقد شغل هذا المنصب من سنة 1907 إلي سنة 1914 ولم يعين أحد خلفاً له ، والغيت هذه الوظيفة من ميزانية المحاكم المختلطة ، ويجدر بنا حتى نتساءل ماذا كان عمل الرئيس الفخري لمحكمة الاستئناف المختلطة ،يا ترى؟ إذا جميع ما كان له من الحقوق حتى يرأس الجمعية العمومية السنوية لقضاة محكمة الاستئناف لإنتخاب نائب الرئيس الأجنبي الذي هوالرئيس العملي للمحكمة ، وليس له في الجمعية سوى الرآسة فقط ، إذا شاء حتى يتولاها ، وليس له حتى يعطي صوته في هذا الانتخاب ، أي حتى رآسته شكلية ، لا عمل لها ، فهي أجدر حتى تكون منادىة للسخرية والازدراء.

افتتاح المحاكم المختلطة

(سنة 1876 )

في خلال سنة 1875 تم تعيين قضاة المحاكم المختلطة ، واستقبلهم الخديوي في حفلة حافلة بسراي رأس التين بالإسكندرية يوم 28 يونية سنة 1875 ، وخطب الخديوي مرحباً بهم وبمحاكم " الإصلاح " ، راجياً حتىقد يكون إفتتاح هذه المحاكم فاتحة عصر حديث للمدنية ، فرد عليه شريف باشا ، وكان وقتئذ وزيراً للحقانية ، مهنئاً الخديوي بالعمل المنطوي على الرقي العظيم الذي تم على يديه ، شاكراً إليه باسم القضاة على الثقة التي وضعها فيهم ، ولم تكن فرنسا قد أقرت بعد النظام القضائي المختلط إقراراً نهائياً ، وبذلك خلت الحفلة من القضاة الفرنسيين ، إذ لمقد يكونوا عينوا بعد ، واستمرت فرنسا في ترددها ورفضها ، إلي حتى رأت حتى النظام سينفذ رغم إرادتها ، فانتهت بالتصديق عليه في ديسمبر سنة 1875.

وفي أول يناير سنة 1876 افتتح رياض باشا وزير الحقانية في ذلك الحين المحاكم المختلطة في حفلة اقيمت بسراي محكمة الإسكندرية ، أعرب فيها رسمياً إفتتاح تلك المحاكم ، وأقيمت في اليوم نفسه حفلة افتتاح محكمة مصر ومحكمة الإسماعيلية الابتدائيتين ، وبدأ انعقاد جلسات تلك المحاكم في فبراير من تلك السنة ، وألغيت من ذلك العهد المحكمتان التجاريتان في القاهرة والإسكندرية إذ حلت محاهما المحاكم المختلطة.


نظرة عامة في القضاء المختلط

قام النظام القضائي المختلط على أساس تخويل هذه المحاكم سلطة الفصل في جميع المنازعات التي تمس أي صالح أجنبي ، وجعل غالبية القضاة ورآسة الجلسات للأجانب ، فإذا نظرنا إلي حقائق الأمور ، وهجرنا الظواهر والمجاملات جانباً ، رأينا في هذا النظام قضاء أجنبياً ، يفصل في المنازعات والمعاملات القائمة بين الأجانب والوطنيين ، فبينما الأجانب في جميع بلد متمتع بالنزر اليسير من الاستقلال ، يخضعون للقضاء القومي ، نجد الأمر في مصر على عكس ذلك ، فالوطنيون هم الذين يخضعون للقضاء الأجنبي ، فكأنهم غرباء ، والأجانب هم أصحاب البلاد ، ولا يوجد في العالم أمة تحترم نفسها وتشعر بالكرامة ترضى بمثل هذا النظام ، لأنه فضلاً عن منافاته لركن هام من أركان الاستقلال ، وهوولاية القضاء ، فإنه نظام جارح للعزة القومية ، باعث على الذل والهوان ، إذ كيف من الممكن أن يستشعر الكرامة قوم يخضعون في معاملاتهم مع الأجانب إلي قضاء أجنبي قائم في عقر دارهم ؟! قلنا ونكرر القول إذا القضاء المختلط هوفي الواقع قضاء أجنبي بكل معاني الحدثة ، وما العنصر المصري فيه إلا أقلية لا تحمل عنه الصبغة الأجنبية ، وإذا دخلت يوماً أية محكمة من المحاكم المختلطة ، إبتدائية كانت أوإستئنافية ، جزئية اوكلية ، بل إذا دخلت أقلام الكتاب في تلك المحاكم ، أوأقلام التطبيق ، رأيت في نفسك محكمة خارجية ، ليس فيها للصبغة المصرية وجود ولا مظاهر ، فالقضاء غالبهم من الأجانب ، ولا يسمح لقاض مصري حتى يرأس جلسة ما ، واللغة الأجنبية هي لغة المرافعات والأحكام ، لغة التخاطب والتفاهم ، لغة الإعلانات والتطبيقات ، لغة القضاة والخطة ، والموظفين والمحضرين ، بل والحجاب والفراشين.

أما اللغة العربية ، لغة البلاد وأهلها وحكومتها ، فلا وجود لها في تلك المحاكم ، ولا يلتفت إليها أحد ، ومن أراد حتى يتحدث بها لا يجد من يسمع له إلا أذا شاء المترجم حتى يترجمها للغة الأجنبية ، فرنسية كانت أوإيطالية ، والمتقاضون من الأهالي يدخلون هذه المحاكم فيشعرون أنهم غرباء ، ولا يفهمون شيئاً مما يجري حولهم ، ويقضي في مصيرهم ومصير أموالهم وأملاكهم وشرفهم ووجودهم ، دون حتى يدروا ماذا يعمل بهم.

فالقضاء المختلط هوإذن قضاء أجنبي ، فيه افتيات على ولاية القضاء ، أي على ركن مهم من أركان السيادة القومية ، وفيه أيضاً افتيات على السلطة التشريعية ، لأن الدول المتمتعة بالامتيازات الأجنبية ، قد نالت بغنشاء هذا النظام حقاً جديداً ذلك حتى التشريع الذي يسري على الأجانب لاقد يكون نافذاً فيهم إلا بموافقة الدول صاحبة الامتيازات ، فالنظام المختلط لم يقتصر على إنشاء قضاء أجنبي نافذ الأحكام على الرعايا الوطنيين وعلى حكومة البلاد ، بل خول الدول الأجنبية حق التدخل في التشريع الذي سيسري على رعاياها ، وهذا حق لم يكن لها من قبل إنشاء المحاكم المختلطة.

وقد تجلى تمسك الدول بهذا الحق حين سقط الخلاف بين الخديوي إسماعيل والدائنين في أواخر حكمه ، فإنه لما صدر مرسوم 22 أبريل سنة 1879 بتسوية الديون ، وعلى حتى هذا المرسوم لم ينتقص شيئاً من حقوق الدائنين ، فإن الدول احتجت على صدوره واستمسكت بلائحة ترتيب المحاكم المختلطة ، واعتبرت حتى لا حق للحكومة المصرية في حتى تصدر أي قانون يتعلق بحقوق الاجانب بأي طريقة ما من غير موافقة الدول ، وهذا ما جعل المحرر الفرنسي المسيو" جابرييل شارم " يقول في بحثه المنشور بمجلة العالمين الفرنسية :

" إذا القضاء المختلط الذي كان في نظر انصار القضاء القنصلي ينتقص حقوق الأجانب حيال الوطنيين قد اكسبهم على العكس سلطة أقوى وأكبر مما كانوا يستمدونه من الامتيازات الأجنبية ، ، فإنه بمقتضى الإصلاح القضائي ( المختلط ) لا يمكن وضع أي نظام مالي يمس الأجانب سواء من الحكومة المصرية أومن الباب العالي من غير موافقة الدول ".

فهذا القول الذي يقوله محرر سياسي أوربي قوي الدلالة على حتى مصر خسرت بإنشاء القضاء المختلط استقلالها التشريعي ، والواقع حتى المحاكم المختلطة شاركت الحكومة في سلطة التشريع ، وسلبت منها هذه السلطة بالنسبة للأجانب ، ولم يعد في مقدور الحكومة حتى تصدر قانوناً نافذاً عليهم إلا إذا صدقت عليه الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة ، أي حتى هذه الجمعية صارت سلطة قائمة تغل السلطة القومية المتمثلة في هيئاتها التشريعية ، وهذا سلب لأخص أركان الاستقلال ، وقد خسرت مصر هذا الخسران بمعاهدة أبرمتها ، لأن إنشاء القضاء المختلط هونتيجة اتفاق بينها وبين الدول ن فلا سبيل إلي التحلل من قيود هذا الاتفاق أوالمعاهدة إلا بمعاهدة أخرى ، وذلك بعد حتى كانت حرة من هذه القيود ، ولم تكن مقيدة من الوجة القانونية والدولية إلا بمعاهدات الامتيازات كما أبرمتها هجريا ، وكما كانت تطبق فيها ، وقد رأيت حتى أحكام هذه الامتيازات أخف وطاة من القيود الواردة في نظام القضاء المختلط ، بل لا تكاد تذكر بجانبها شيئاً.

فمن الناحيتين القضائية والتشريعية ، يتمثل في وجود المحاكم المختلطة الاعتداء البالغ على السيادة الأهلية وعلى الاستقلال القومي ، كما أنه يعارض النظام الدستوري والبرلماني في البلاد ، لأن البرلمان لا يستقل بالتشريع فيما يمس حقوق الأجانب ومصالحهم.

ويزداد هذا الاعتداء ظهوراً وجسامة باتساع المعاملات بين الوطنيين والأجانب ، إذ لا ريب أنه يسبب تكاثر النازحين إلي مصر من الأجانب ، قد ازداد تبادل المعاملت بينهم وبين الوطنيين ، وأصبحت الصالح بين الفريقين مشتبكة ، وحيثما وجدت هذه المصالح صار الفصل في المنازعات التى تنشأ عنها من اختصاص القضاء الختلط ، أوبعبارة أوضح القضاء الأجنبى ، وكل تشريع يمس الأجانب عن قرب أوبعد ل يسرب عليهم الإ إذا وافقت عليه الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة.

ومهما يكن لهذا النظام من انصار فهم لا يكتمون أنه مظهر من مظاهر التدخل الأجنبي ، وأنه ضرب من ضروب الوصايه الأجنبية التي تنتقص السيادة القومية في أخص أركانها ، في ولاية القضاء ، وفي سلطة التشريع ، وفى النظام الدستورى والبرلماني.

ويجب حتى لا ننسى حتى هذا النظام لا يمثل العدالة في قدسها ، بل يمثل أولاً وقبل جميع شيىء رعاية المصالح الأجنبية وإهدار حقوق الأهليين في سبيل تلك الرعاية.

فمن يوم حتى أنشئت المحاكم المختلطة توطدت مصالح الدائنين الأجانب من الشركات والأفراد ، واستقرار الرهن العقاري ونزع الملكية على قواعد مضيعة لأملاك المدنيين من الأهلين وحقوقهم ، ولا يوجد في العالم محاكم تشبه المحاكم المختلطة في قسوة اجراءتها حيال المدنيين ، وتعريض أملاكهم وأموالهم للبيوع الجبرية بأنجس الأثمان ، وبأسرع من لمح البصر ، وتحميلهم فادح النفقات المصاريف الرسمية وغير الرسمية.

وقد كانت حرباً على مصر معلى الخديوي إسماعيل الذي أنشأها ، فانه لما ارتكت أحواله المالية أصدرت ضده الأحكام جزافاً للدائنين الأجانب ، وتشددت في تطبيقها ، وأسرفت أقلام محضريها في اقتضاء ما كان يحكم به على الخديوي ، حتى اسقطت الحجز على منقولات القصور الخديوية ، واعلنت بيعها بالمزاد ، وأظهرت من التحيز للأجانب في نادىواهم على الحكومة ما جعلها مضرب الأمثال في امتهان العدالة فكانت من الكوارث التي أثقلت كاهل الخزانة والبلاد بالمفارم الباهظة ، ورأى إسماعيل من تحيزها للأجانب ما جعله ينقم من نوبار باشا الذى كان السبب في إنشائها ، وفى ذلك يقول القاضى الهولندي فان بلمن : " إذا المحاكم الأجنبية (كذا يسميها ) صارت سلتطة أقوى من الحكومة المصرية ، وقد ادرك الخديوي إسماعيل في الوقت الأخير وبعد وقوع المحظور أنة بإبرامه الأتفاقات المنشئة لهذة المحاكم قد خلق لنفسة اسيادأً جددأً ، ولجانب سيادة القنصليات " ونطق في خضوع تلك المحاكم للمؤثرات الأجنبيه : " ان هذه المحاكم التى يرتعد لها الخديوي والباشوات لم تكن مستقله تمام الأستقلال عن العنصر الأجنبي في مصر، فبينما حكومة البلاد عزل امامها ، كلن الأجانب يعدزنها محاكمهم ، ويرون انها انشأت خصيصأً لمناصرتهم في جميع الأحوال ، والقضاء لمصلحتهم ضد العرب والهجر والخديوي ، فكانوا منها في موقف حصين ، اذ يحميهم الرأي العام الأوروبي ، والمحامون ، ورجال الأعمال والصحف، فضلاً عن المال الذي هوعدة الكفاح ، وتشد ازرهم قوات القنصليات والدول ، والجاليات الأوروبية ، التي تتحفز لمهاجمة جميع قاض وكل محكمة لتنحاز إلي جانبهم ، وكان التأثير الأجنبي الواقع من الجاليات الأجنيبة والفرنسية والإيطالية ، وحتى اليونانية ، والرعايه المتمتعين بالحمايات ، يظهر اكثر ماقد يكون في الإسكندرية ، حيث تبذل دار البورصة جهودها للسيطرة على سرايا الحقانية ( المحاكم المختلطة ) المجاورة لها ".

ونطق في موضع آخر ( ج 1 ص 255 ) : " إذا المحاكم المختلطة تحت تاثير الضغط الأجنبي ، قد أشرفت في إصدار الأحكام ضد الحكومة والخديوي لصالح الأجانب من المقاوليمن والموردين أومن الأفاقين من مختلف النحل ممن كانوا يطالبون بما ليس لهم حق فيه ، أوبأضعاف ما يستحقون ، ولقد أدى الإسراف في هذه الأحكام إلي تضخم الديون الثائرة التي أثقلت كاهل الحكومة وتفاقم النكبة التي تولدت منها ".

ونطق أيضاً : " حتى المحاكم المختلطة هي أداة للسيطرة الأوروبية والاستغلال الأجنبي في مصر ، فهي محاكم خارجية ، تقضي بين الناس بلغة خارجية ، وتطبق قانوناً أجنبياً ، ونفعها للبلاد ضئيل ، أما ضررها فكبير على الشعب المصري ولاسيما الفلاحين ، ولقد اعتدت على سلطة الحكومة المصرية والخديوي ، وخدمت بأحكامها التحالف الأجنبي الذي يستغل البلاد ، وبعد عملها على الأخص في البيوع الجبرية والرهون العقارية كارثة على مصر ".

ومما يذكره أنصار هذا النظام في معرض دفاعهم عنه أنهم يعدون افتتاح المحاكم المختلطة إحدى الحوادث الثلاثة البارزة في عصر إسماعيل ، فيضعونها بجانب افتتاح قناة السويس سنة 1869 ، وإنشاء صندوق الدين سنة 1867 ، فهذا السياق يدلك على حقيقة هذا النظام ، فلا نزاع في حتى قناة السويس وصندوق الدين هما من المنشأت التي نقصت استقلال مصر المالي والسياسي ، طبيعي من وجهة النظر الأوروبية حتى يوضع بجانبهما إنشاء المحاكم المختلطة ، لأن وجود هذه المحاكم هونقض لستقلال البلاد القضائي والتشريعي.

ومن أبعد الأراء عن الصواب ما يذكرونه من حتى وجود هذه المحاكم ضروري لنهضة البلاد وتقدمها ، وأن رؤوس الأموال الأجنبية ما كانت لتستغل مرافق البلاد إذ لم يكن يحميها هذا النظام ، ولعمري ليس يسع العقل حتى يسغ مثل هذا المنطق الذي يقتضي إلا تكون نهضة ولاقد يكون تقدم إلا بهدم استقلال البلاد.

فليت شعري ألم يكن للبلاد نهضة وتقدم في عصر محمد على ، أي قبل حتى تنشاء المحاكم المختلطة ،يا ترى؟ أوليس في البلاد المستقلة نهضة إقتصادية دون حتىقد يكون بها مثل تلك المحاكم ،يا ترى؟ ليس المسائلة مسألة نهضة وتقدم ، بل هي إستغلال الاقوياء للضعفاء فوجود هذه السلطة القضائية والتشريعية الأجنبية في البلاد لا يعدوحتىقد يكون مظهراً من مظاهر تدخل الدول الأجنبية في شؤون مصر ، وإهدارها استقلالها ، فليس ثمة شك في حتى هذه المحاكم إنما وجدت لحماية المصالح الأوروبية ، فهي مظهر من مظاهر الحماية أوالوصاية الأجنبية التي تعددت أشكالها ومن الخطاء حتى يستشهد به أنصار هذا النظام من التاتى طائفة من المصريين إلي المحاكم المختلطة في منازعاتهم ، ويتخذون هذا زريعة لتسويغها ويقولون حتى هذه الظاهرة هي شهادة من المصريين بصلاح هذا النظام.

فليس مجهولاً حتى المصريين الذين يتحايلون على القانون بحمل نادىواهم أمام المحاكم المختلطة لا يقصدون إلا ارهاق مدينيهم بجرهم أمام محاكم لا يعهدون لغتها ويضلون في إجرأتها ، ويحتملون من المصاريف والنفقات الباهظة ما تنوء به كواهلهم ، وليس مجهولاً حتى قضايا المطالبة بالديون في المحاكم المختلطة تنتهي في الغالب بما يتخللها من فداحة المصاريف القضائية وغيرها إلي إقتضاء الدين أضعاف مضاعفة وتؤدي إلي خراب المدينين وتجريدهم من أملاكهم وأموالهم.

فهذه الوسيلة التي يلاتى إليها فريق من الدائنين المصريين هي زريعة للتنكيل بمدينيهم ، وهي لا تنهض دليلاً للدفاع عن هذا النظام ، بل هي من اظهر عيوبه.

وصفوة القول حتى نظام القضاء المختلط قد نقض سيادة مصر واستقلالها في ولاية القضاء والتشريع ، وقد كان هذا النظام ولم يزل أداة لستغلال مصر واستعبادها إقتصادياً ومالياً ،ان المصري الذي يستطيع الغاء المحاكم المختلطة وإحالة أختصاصها إلي المحاكم الأهلية يسدي إلي مصر حقاً أعظم خدمة ، وينال تقدير الوطن عن جدارة واستحقاق ، ويخلد أسمة إلي الأبد في سجل الحركة القومية "

تاريخ النشر: 2020-06-08 03:58:58
التصنيفات: مصر في عهد إسماعيل

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

عمر كمال: والدتى قالت لى «روح وخلى الغنا يصرف عليك»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:24
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 68%

في الدقائق الأخيرة من 2022.. روسيا تهاجم أوكرانيا بمسيرات انتحارية

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:25:21
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 64%

محمد رمضان يرد على منتقدى إلقائه الأموال بحمام السباحة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:46
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 64%

طفل يقضى رأس السنة فى بيع هدايا الكريسماس: «حلمى أستر أخواتى»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:20
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 70%

محمد رمضان يرد على انتقاد صورته مع إسرائيلى ويوضح سبب مشاكله الدائمة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:45
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 59%

السيطرة على محاولة للتحرش بفتيات «تيك توك» أمام مسرح الزمالك

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:15
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 53%

محمد رمضان يعترف: لم أحسن التعامل فى أزمة الطيار أبو اليسر

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:24
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 66%

سالكو طريق الهدا: أين حلول الصخور المتساقطة ؟ - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:24:12
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 52%

برج القاهرة يطلق الألعاب النارية مع بدء العام الجديد 2023 (صور)

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:20
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 54%

عام / الصحف السعودية

المصدر: وكالة الأنباء السعودية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:36:37
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 50%

عام / كوريا الجنوبية تسجل 57,527 إصابة جديدة بفيروس كورونا

المصدر: وكالة الأنباء السعودية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:36:36
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 61%

الرئيس الجزائرى: نأمل فى زيادة الاستثمارات خلال العام الجديد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:32
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 66%

محمد رمضان يعلق على أزمة كابتن أبو اليسر: ندمان وأتعلم من أزماتى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:21:47
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 64%

"العلمين الجديدة" طفرة فى البناء والتعمير بمحافظات مصر.. التفاصيل

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-01 03:22:25
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 39%

تحميل تطبيق المنصة العربية