آه فلسطين.. ستنتصرين


"آه فلسطين، يا اسم التراب، ويا اسم السماء.. ستنتصرين". شاعر المقاومة الفلسطينية، محمود درويش

لا أطيق البكاء على اللبن المسكوب حقاً! إلا أن بعض لحظات التاريخ توجب علينا العودة إليها لنستقي منها العبر ولنقتفي أثر الحاضر، ونستشرف المستقبل.

في عام 1993 تم توقيع اتفاقية أوسلو المعروفة رسمياً باسم إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، أول اتفاقية رسمية مباشرة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، برعاية أمريكية وبلا أي ضمانات سواء من هيئة الأمم المتحدة أو من قبل الدول الراعية لعملية السلام وعلى رأسها روسيا والصين. كانت أوسلو، فيما أرى، خطأً كبيراً ولا تستند إلى أساس دولي معتمد أممياً، بل وتخالف قرارات هيئة الأمم المتحدة فيما يخص حدود الدولة الفلسطينية، والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وقتها، علّق المفكر الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، على الاتفاقية بأن: "منظمة التحرير الفلسطينية حوّلت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة".

وعلى الرغم من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، على لسان عرفات، بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات، بما في ذلك قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود وعلاقات التعاون مع دول الجوار، وعلى الرغم من تنازلات الفلسطينيين آنذاك، رغبة منهم في وضع حد لدائرة العنف المفرغة، والعيش بسلام وأمان أملاً في تحقيق تقدم في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المحتدم منذ عقود، إلا أن المرونة التي أظهرتها منظمة التحرير آنذاك لم تلق من الإسرائيليين أو داعميهم في الولايات المتحدة الأمريكية سوى الصلف والعجرفة والتغوّل غير المسبوق والمضي قدماً، لا في التوقف عن بناء المستوطنات، سعياً لحل تلك المشكلة العويصة من خلال مبادرات قابلة للتطبيق مثل مبادرة السلام العربية، التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وإنما في بناء مزيد من المستوطنات، وتعقيد الوضع أكثر فأكثر، والابتعاد شيئاً فشيئاً عن حل الدولتين، مقابل أوهام "صفقة القرن" واتفاقيات التطبيع الأحادية.

كان ذلك يجري، ولا زال يجري وسط مباركة أمريكية، ومراقبة أوروبية ودولية أقرب إلى الرصد السلبي للأحداث، منها إلى العدل والإنصاف والالتزام بمقررات الشرعية الدولية، ظناً من الجميع أن الأمور يمكن أن تمضي هكذا إلى الأبد، وأن تتمكن إسرائيل من تنفيذ مخططاتها الاستيطانية، وسط صمت دولي ودون ردود فعل فلسطينية أو عربية أو دولية مؤثرة.

اليوم، وقد اندلع الصدام، وشرعت الآلة الإسرائيلية الغاشمة في حصد أرواح عشرات الفلسطينيين من المدنيين العزل من الأطفال والنساء والشيوخ، وبينما نرى أمام أعيننا تصفية دموية عرقية أسفرت حتى الآن عن مقتل 218 شخصاً وجرح نحو 6504 آخرين، نتابع تصريحات وبيانات هنا وهناك، تتحدث عن "عنف متبادل"، وعن "استفزاز متكرر"، في الوقت الذي يوعز فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بمواصلة "ضرب الأهداف الإرهابية"!

هكذا إذن تقلب واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الأوروبية المفاهيم والمصطلحات في القاموس الدولي. فتتحول مفاهيم الاحتلال والقمع والاضطهاد والتهجير القسري والتصفية العرقية والعنصرية الفجة التي تنتهجها الدولة الإسرائيلية على مدار عقود إلى مجرد "استفزاز متكرر"، ويتحول قتل المدنيين بدم بارد في وضح النهار وأمام أنظار العالم بأسره إلى "عنف متبادل"، و"ضرب لأهداف إرهابية".

لا بد وأن نعترف بداية بكل إنصاف، وإذا ما أردنا الحل ووقف نزيف الدم المراق، والسعي إلى وضع يمكن البناء عليه، بأن ما ترتكبه إسرائيل هو جرائم حرب مكتملة الأركان، وأن ما افتعلته إسرائيل من احتكاكات بالمصلين من أهل القدس في المسجد الأقصى، بالتوازي مع عمليات التهجير القسري في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، كان الشرارة التي أشعلت تراكمات سنوات طويلة من الحصار والقمع وسلب أبسط الحقوق الإنسانية من شعب أعزل يسعى لتحرير أراضيه من المحتل الغاصب، من خلال حقه الشرعي في مقاومة الاحتلال.

من الغريب والعجيب حقاً أن يصبح جوهر القضية والأحاديث الدائرة الآن بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية هو كيفية عودة الأوضاع والاستقرار والهدوء للمنطقة، ويعنون بذلك عودة الهدوء والاستقرار للمجتمع الإسرائيلي الهادئ والهانئ على الأراضي المحتلة والمغتصبة، دون أن يتفوّه أحد بكلمة عن حقوق الشعب الفلسطيني، أو عن ظروف المعيشة المريعة والمرعبة في قطاع غزة المحاصر منذ سنوات، بل قل لا يتحدث أحد عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وقرارات هيئة الأمم المتحدة واجبة التنفيذ، والتي تقر بدولة فلسطينية مستقلة، ذات حدود رسمية على الخارطة، تحددها قرارات مجلس الأمن التابع للهيئة.

هل يعقل أن يعجز كل السياسيين والدبلوماسيين حول العالم عن فهم جوهر القضية الفلسطينية، وهل من الممكن ألا يستطيع هؤلاء استيعاب أن مفهوم "وقف إطلاق النار" و"التهدئة المؤقتة" وغيرها من المسكّنات لم تعد تجدي نفعاً أمام ملايين المستضعفين في فلسطين والمنطقة، ممن لم يعد لديهم ما يخسرونه أمام آلة الطغيان والظلم والقهر؟!

بالطبع نتمنى ألا يستمر حمام الدم المرعب الذي لن يحقق سوى اتساع دائرة العنف، وإشعال برميل البارود الذي تعيش عليه المنطقة بأسرها. فلا أمن ولا استقرار ولا هدوء ولا حياة للجميع بلا استثناء. ولا يشمل الحديث هنا منطقة الشرق الأوسط فحسب، وإنما العالم أجمع. نتمنى أن تنجح جهود الوساطة في التوصل إلى تهدئة تتيح المجال لإحياء مفاوضات سلام حقيقية وجادة تستهدف الوصول إلى حلول جذرية للقضية، بدلاً من الاستناد إلى الوضع الهش الحالي.

إن تنفيذ القرارات الأممية يعني ببساطة ووضوح أن يمارس الفلسطينيون حقهم السيادي المشروع في وضع نقاط مراقبة على حدود أراضيهم مع الدول المجاورة، والإشراف عليها بكامل السيادة، ويعني كذلك حق الفلسطينيين في الحصول على موانئ ومطارات خاصة بهم، وغيرها من سائر مقومات الدولة المستقلة.

لقد فتحت الأحداث الأخيرة أعين العالم على الصراع الحقيقي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني العظيم، كما فتحت أعينه في ذات الوقت على فظاعة ودموية آلة القمع الإسرائيلية، وحقيقة التهجير القسري المنهجي الذي تقوم به دولة إسرائيل، في ظل دعم الولايات المتحدة الأمريكية للسياسات الإسرائيلية الاستيطانية التوسعية، وأصبحت الحقائق واضحة وضوح الشمس أيضاً للكثير من اليهود حول العالم، ممن كانوا يقعون تحت تأثير الآلة الإعلامية المهولة للغرب، ولا يعرفون حقيقة وجوهر وسبب الصراع العربي الإسرائيلي، وطبيعة الممارسات غير الإنسانية التي تباركها النخب الإسرائيلية الحاكمة.

أصبح واضحاً الآن أكثر من أي وقت مضى، أن الأوضاع لن تعود إلى ما كانت عليه سابقاً، ولا يجوز أن يقبل العالم والمجتمع الدولي في القرن الحادي والعشرين وجود دولة تزعم انتمائها للعالم الديمقراطي الحر، بينما تحتل، بفجاجة وصلف وتحدٍ للقانون الدولي، أراض دولة أخرى، وتحرم شعبها من ممارسة كافة حقوقه الوطنية والسيادية، وهو ما يحتم على الجميع الاضطلاع بمسؤولياته، وتسمية المفاهيم بأسمائها الصحيحة، وإيقاف التصفية الجسدية والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني، وانتهاك حرمة المقدسات، واغتصاب الأراضي، وهو ما يهدد بتفجير المنطقة كلها.

لم يعد هناك مجال للمماطلة والتسويف واختلاق الذرائع، وأصبح من الضروري إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن تقوم هيئة الأمم المتحدة بدور الوسيط للتوصل لحلول بخصوص قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود وعلاقات التعاون مع دول الجوار، على مستوى الرباعية الدولية (روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جانب هيئة الأمم المتحدة)، وكذلك تفعيل دور جامعة الدول العربية كداعم أساسي للقضية الفلسطينية، قضية العرب أجمعين، سعياً لإعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وخلق آلية تضمن أمن واستقرار الدولتين، لا دولة واحدة، وإنهاء الاستناد إلى حجج ومفاهيم "الأمن الإسرائيلي" دون أدنى اعتبار لحقوق وأمن واستقرار وكرامة الإنسان الفلسطيني.

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

تاريخ الخبر: 2021-05-18 11:13:03
المصدر: RT Arabic - روسيا
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 87%
الأهمية: 94%

آخر الأخبار حول العالم

زنيبر يبحث مع غوتيريش سبل تفعيل أولويات مجلس حقوق الإنسان

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 15:10:32
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 69%

طلبة الطب والصيدلة يتفاعلون بشكل إيجابي مع دعوة أخنوش

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 15:09:06
مستوى الصحة: 70% الأهمية: 70%

تخليق الحياة البرلمانية.. مدونة الأخلاقيات تصطدم بكراسي فارغة

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 15:09:10
مستوى الصحة: 63% الأهمية: 82%

جدل القمصان.. ماذا تقول القوانين في واقعة نهضة بركان ودولة الجزائر؟

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 15:09:00
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية