لا تزال تداعيات أزمة الغواصات تُلقي بظلالها على العلاقات الديبلوماسية بين فرنسا وحلفائها. فبعد الولايات المتحدة، يبدو أن الخلاف يتصاعد هذه المرة مع بريطانيا، لتزيد في حدته مؤخراً أزمة المياه.

منذ إعلان كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، التحالف الاستراتيجي والأمني الجديد "أوكوس" في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والذي أُلغيت بموجبه صفقة الغواصات المبرمة بين كانبيرا وباريس عام 2016، بدأت فرنسا تصعّد لهجتها الديبلوماسية مع كافة الأطراف، حيث اعتبرت في ذلك ضربة موجعة لها ومحاولة استبعاد لها كحليف استراتيجي.

وبينما كان الخلاف والتوتر يحتدّ في بدايته مع واشنطن، قُطب "أوكوس" الأول، بدأ يتصاعد في الوقت ذاته مع بريطانيا، والتي بالرغم من تأكيد الطرفين على ودية العلاقة بينهما ومدى عمق الشراكة والتعاون الذي يجمعهما، إلا أنها شهدت تاريخياً، وإلى اليوم، محطات كثيرة اشتعل فيها الخلاف بشدة بينهما.

ولم تكن أزمة المياه بين البلدين إلا واحدة من هذه الملفات التي أدت إلى تصدّع العلاقة، بالرغم من أنه خلاف قديم، إلا أنه في هذه المرة تصادف تطوراته أزمة ديبلوماسية أشعلتها "صفعة الغواصات".

أزمة المياه.. منافسة قديمة

بعد أن استمرت حالة التردد ودامت جولة المفاوضات فترة طويلة، اختارت المملكة المتحدة في النهاية الخروج من الاتحاد الأوروبي، وذلك بعدما بدأ جدار العلاقات مع دوله يتصدّع، وخاصة مع الجانب الفرنسي.

وأُبرمت عقب ذلك عدة اتفاقيات تنظّم الشراكة والتعاون الثنائي بين بريطانيا وبقية البلدان الأوروبية. وكان من بين أهم النقاط التي اتفقت عليها لندن وبروكسل، ودخلت حيّز التنفيذ يناير/كانون الثاني الماضي، السّماح للصيادين الأوروبيين من مواصلة العمل في بعض مناطق المياه البريطانية، وذلك بشرط الحصول على رخصة، تُمنح لهم في حال كانوا يصطادون في هذه المياه سابقاً.

ولكنّ الاتفاقية المُبرمة بين الجانبين لم تُساعد على تخفيض حدة التوتر بين باريس ولندن. ففي الربيع الماضي، أي بعد البريكست ودخول الاتفاق حيّز التنفيذ، اندلع نزاع بين فرنسا والمملكة المتحدة، حول الوصول إلى المياه الغنية بالأسماك في محيط جزيرة جيرسي، التابعة للمملكة المتحدة والقريبة من السواحل الفرنسية بنحو 14 ميلاً فقط.

وتتهم في ذلك فرنسا، المملكة المتحدة بعدم السماح للصيادين بالاصطياد وعدم منحهم تراخيص في ذلك. وفي هذا السياق دعت حينها وزيرة البحار الفرنسية أنيك جيراردان، السلطات البريطانية إلى إلغاء القيود الجديدة التي فُرضت على حصول الصيادين الفرنسيين على تراخيص للصيد في مياه جيرسي.

ورغم أن النزاع الذي كاد يؤدّي إلى حرب حقيقية بين البلدين، قد سُوّي حينها وعادت السّفن الفرنسية آنذاك إلى مرافئها، وسحبت بريطانيا زوارقها الدورية التابعة للبحرية البريطانية، إلا أنّ الخلاف عاد ليشتعل مرة أخرى.

ففي 29 سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت جزيرة جيرسي البريطانية مجدداً، منح نحو 64 ترخيصاً نهائياً لقوارب فرنسية للصيد في مياهها، وذلك من أصل 169 طلب ترخيص قدمته باريس، ثم قررت لندن بعد أيام قليلة منح 12 تصريحاً إضافياً للسفن الفرنسية. وأثار ذلك غضب الفرنسيين وجدلاً محموماً في الأوساط الأوروبية.

وتعليقاً على ذلك هدد رئيس الوزراء الفرنسي، جان كاستكس، بإعادة النظر في التعاون الثنائي مع بريطانيا، وطلب في الوقت ذاته من الاتحاد الأوروبي والجمعية الوطنية اتخاذ موقف حازم من بريطانيا، وإجبارها على الالتزام باتفاق بريكست. حيث أنه بموجب المادة 16 من الاتفاق يمكن للاتحاد الأوروبي اتخاذ تدابير أحادية الجانب في ذلك.

ومن جانبه، أكد وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي، كليمنت بيون، أنّ بلاده مستعدة لقطع إمداد جيرسي بالطاقة، إنْ واصلت المملكة المتحدة رفض طلبات الترخيص لسفن الصيد الفرنسية، معتبراً أنّ الوضع أصبح لا يُطاق في تلك المياه.

وتُعتبر المملكة المتحدة من بين أهم مستوردي الطاقة من محطات الطاقة النووية الفرنسية، وبموجب عقد تجاري سابق بين شركة EDF الفرنسية وشركة جيرسي للكهرباء، فإن الطاقة تُمدّ إلى جيرسي من خلال الأسلاك البحرية. ولن يكون بإمكان فرنسا تنفيذ تهديدها إلا بموافقة دول الاتحاد الأوروبي على ذلك.

وبينما تصعّد فرنسا في لهجتها الديبلوماسية مع جارتها، تسعى لجنة التقليل من الخلاف في الاتحاد الأوروبي، إلى إيجاد صيغة تفاهم بين جميع الأطراف.

وفي سياق متصل، أكد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جنسون، عقب سلسلة التوترات الأخيرة مع باريس، أن علاقة بلاده مع فرنسا "صلبة وجيدة للغاية"، مقللاً من شأن أي خلاف بينهما.

علاقة ودية.. ولكن؟

بينما تطفو النزاعات بين بريطانيا وفرنسا على السطح، ينكشف عمق الأزمة بين البلدين، التي حاولت العديد من الأطراف الديبلوماسية إخفاءه والتأكيد على التعاون والتحالف. ولعل آخر تصريح لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي قال فيه إن "حب بريطانيا لفرنسا لا ينضب"، وتناقلته الوسائل الإعلامية من باب السخرية السوداء، قد أعاد بذاكرة الكثير إلى حقبات من الصراع والتنافس المحموم بين البلدين.

فمن رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، والرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول، اللذين تنافسا طويلا على قيادة أوروبا، بعد هزيمة النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وحرصت حينها بريطانيا على بناء علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة، وذلك خارج الاتحاد الأوروبي، ليعتبر ذلك ديغول، إدارة للظهر أمام الأوروبيين.

وصولاً إلى الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، اللذين يملكان توجهات عالمية متضادة، ويملكان مواقف متعارضة تماما تجاه الاتحاد الأوروبي، استمرت قرونا من المشاحنات بين الجارتين.

وفي الوقت الذي يتفق فيه الطرفان على عدم تماسك العلاقة وضعفها أمام أي أزمة أو تحد، فقد اختار الجانبان عدم التصعيد والرضوخ للابتزاز خلال الأزمات الأخيرة بينهما ومن بينها أزمة قوارب الهجرة غير النظامية، والقيود التي فرضتها بريطانيا على الفرنسيين المسافرين إليها خلال فترة انتشار جائحة كورونا ومنعها وصول اللقاحات الأوروبية إليها، وكان آخرها صفقة الغواصات واتفاقية الصيد في المياه البريطانية.

ورغم أن باريس استثنت لندن من غضبها خلال أزمة الغواصات، استثناء غريباً، كما وصفه مسؤولون ومحللون، ولم تستدعِ سفيرها في بريطانيا، إلا أن العديد من الأطراف اعتبروا ذلك ازدراء لها. وخاصة بعد تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي قال: "نحن نعرف انتهازيتهم الدائمة"، مُشبهاً دور بريطانيا في حلف "أوكوس" بـ"العجلة الخامسة في العربة".

ونقلت عدة مصادر عقب ذلك، إلغاء اجتماع كان من المفترض أن ينعقد خلال سبتمبر/أيلول المنقضي، بين وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي ونظيرها البريطاني بن والاس، وذلك بناء على طلب باريس.

ولا تكاد الأمور تستقر قليلاً بين لندن وباريس، حتى تحتدم مجدداً مشكلة الصيد في المياه البريطانية، والتي بالرغم من التصعيد الفرنسي تحاول بريطانيا على لسان جونسون التهدئة من الأزمة.

TRT عربي