هذه المقالة هي الجزء الآخر من الموضوع الذي رأينا بعضه في المقالة السابقة، وهي عن الذين يبصرون بعد أن وُلدوا عمياناً، خاصة حالة اسمها إعتام عدسة العين والتي صار الطب يعالجها بالجراحة، وطريقة تفكيرهم وتعاملهم مع مفهوم المساحة.

مشكلتهم مع المسافة هي التي تعلمنا طريقة تفكيرهم، ولننظر إلى ضرير صار بصيراً بعد العملية وأخذ يحاول فهم التعامل مع مفهوم المساحة، من طرقه أن يرمي حذاءه ثم يمشي نحو الفردة ويحاول الاستيعاب، لكن حتى بعد 3 أسابيع من ذلك عجز عن فهم المسافة، فالمفهوم يتوقف عند المساحة البصرية، تلك الرقاع العريضة من الألوان التي تعبئ آفاق رؤيته، لا يفهم كيف يمكن لجسم (كرسي مثلاً) أن يخفي أسفله جسماً أصغر (قطة)، وأن القطة يمكن أن توجد بدون أن يراها. بعد فترة من هذه التجارب تتضح حقيقة ضاغطة مزعجة، العالم أضخم بكثير جداً مما كانوا يعرفون، وقد ظنوا (أي العميان الذين صاروا يبصرون) ببراءة أنه ومساحاته يمكن التعامل معهما وتخيلهما بشكل بسيط.

يزعجهم اكتشاف أنهم كانوا فترة عماهم مكشوفين للجميع، أحياناً بشكل غير جذاب، بدون علمهم أو موافقتهم. هذه الحقائق موتّرة لدرجة أن عدداً منهم يتراجع عن استخدام الحاسة الجديدة ويعود للمس باللسان، ويدخل دوامة من اليأس وفقدان الاهتمام.

أب دفع للعملية وامتلأ بالأمل أن ابنته ذات الـ21 عاماً ستبدأ حياة جديدة حافلة بالفرص والآمال، تفاجأ أنها صارت تغمض عينيها كلما أرادت استكشاف طريقها في البيت، خاصة عند الدرج، وتصبح في أسعد حالاتها عندما تسدل جفنيها وتعود لعالم الظلام الذي أراد إخراجها منه.

صبي عمره 15 سنة لم يتحمل العالم الجديد، وكان يعيش في ملجأ للعميان وقد عشق فتاة في الملجأ، وقال: لا أتحمل أكثر من ذلك، أرجعوني للملجأ، إذا لم تفعلوا فسأقلع عينيّ بنفسي.

حتى عندما يتعلم الإبصار فإن هذا يغير حياته، يعلق طبيب على فقدان المبصر الجديد لتلك السكينة التي ترافق إنساناً لم يبصر قط، الرجل الذي يرى الآن يبدأ يشعر بالخزي من نفسه السابقة ومن عاداته، يصير يهتم بمظهره، يلبس الأنيق، يركز على العناية الشخصية، ويحاول ترك انطباع حسن لدى الآخرين. حتى الأخلاقيات تتأثر: المولود أعمى لا يكترث بالأجسام والأشياء إلا لو كانت قابلة للأكل، لكن الآن تظهر قيم جديدة، مشاعره وأفكاره تتغيران، بعضهم يبدأ يشعر بالحسد، يغش، يسرق، يحتال.

ليست كلها سلبية، هناك من ينغمسون في اكتشاف العالم الجديد، بدءًا بأنفسهم، فتاة بعد أن أزالوا الضمادات عن عينيها رفعت يدها أمامها بتعجب، حدقت فيها، قربتها وأبعدتها عن وجهها، عكفت وفردت أصابعها، وظلت مدهوشة من ذلك. فتاة أخرى حادثت صديقتها بحماسة قائلة: الرجال ليسوا كالأشجار كما كنت أظن! واندهشت أن كل زائر له وجه مختلف. شابة ابنة 22 سنة اجتاحها شعور غامر لم تتحمله لما استعادت الإبصار، فأغمضت عينيها أسبوعين، ثم فتحتهما وقالت: يا الله! ما أجمل كل شيء!