فبُعيد زيارة السفير التركي إلى طرابلس كنان يلماز الأسبوع الماضي لمدينة القبة في الشرق الليبي ولقائه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، يجري السفير التركي في هذه الأيام زيارة إلى بنغازي ولقاء الشخصيات الفاعلة في المدينة. هذا في ظل أحاديث عن العمل على إعادة افتتاح القنصلية التركية في بنغازي المغلقة منذ عام 2014، واستئناف الرحلات الجوية بين إسطنبول وبنغازي.

زيارة السفير التركي للشرق الليبي كان سبقها عدة خطوات للتقارب. إذ كان نائب رئيس الوزراء الليبي حسين القطراني دعا السفير التركي لزيارة الشرق الليبي، بعد أن أجرى وفد من نواب المنطقة الشرقية المحسوبين على حفتر، يترأسهم نائب رئيس مجلس النواب فوزي النويري، زيارة إلى تركيا منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث استقبلهم الرئيس التركي أردوغان بحفاوة واضحة.

كما التقى الوفد الليبي القادم من الشرق وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو ووفداً من البرلمان التركي وتم الاتفاق على تفعيل لجنة الصداقة البرلمانية المشتركة. وكان لافتاً أيضاً لقاء الوفد والأدميرال التركي المتقاعد جهاد يايجي والذي أطلع الوفد على أهمية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا لكل من البلدين وشعبيهما.

عودة المياه إلى مجاريها بين الطرفين جاءت لتتجاوز سنوات من القطيعة بين أنقرة والفاعلين في الشرق الليبي والذي جاءت نتيجة لهيمنة مشروع حفتر على الشرق الليبي وتحريض أطراف أجنبية معادية لتركيا، على الرغم من أن تركيا حاولت قدر المستطاع اتخاذ موقف موحد من كافة الأطراف الليبية بُعيد التوقيع على اتفاق الصخيرات للحل السياسي في ليبيا في نهاية عام 2015، إذ أجرى المبعوث التركي للشأن الليبي وقتها أمرالله إيشلر زيارة إلى بنغازي والتقى عقيلة صالح ودعاه لزيارة تركيا.

وعلى الرغم من نوايا تركيا الإيجابية تجاه الشرق الليبي فإن نوايا حفتر في الاستيلاء على السلطة في ليبيا وتحريض القوى الخارجية الداعمة له، مثل فرنسا، أدوا إلى قطع العلاقات بين الطرفين، بل وحتى استهداف المصالح التركية ومهاجمة سفن تجارية تركية واختطاف مواطنين وعمال أتراك في الشرق الليبي.

تراجع العلاقات بين الطرفين اتخذ منحى أكثر حدة بعد الهجوم الذي شنه حفتر على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، والذي وقفت ضده تركيا بشكل واضح وصولاً إلى دعمها حكومة التوافق الوطني عسكرياً ما أفشل هجوم حفتر وأنهى مشروعه، ووضع تركيا في مواجهة عسكرية مع مشروع حفتر، وحصر نفوذها في الغرب الليبي.

تغير بعض العوامل الذاتية والإقليمية، التي أدت إلى الافتراق في العلاقة سابقاً، هو ما يدفع باتجاه التقارب الجاري بين الطرفين. العامل الأول مرتبط بتراجع مشروع حفتر وانحسار خياراته وخيارات المراهنين عليه. فمع هزيمة مشروع حفتر العسكري في السيطرة على ليبيا إثر التدخل التركي، وخيبة أمله لاحقاً في إمكانية تحقيق نفس الهدف من خلال لعبة الانتخابات، تراجع وزن "المشير" سياسياً وقلت ثقة داعميه فيه.

تراجع الدعم الخارجي المقدم لحفتر بدا واضحاً من خلال سعيه للتفاهم مع حكومة الوفاق الوطني على دفع رواتب مقاتليه. هذا الانكسار الذي يعيشه حفتر ومشروعه يدفع الفاعلين السياسيين في الشرق الليبي للبحث عن بدائل سياسية وإعادة تفعيل العلاقات المنقطعة مع بقية الأطراف وعلى رأسها تركيا. حتى إن حفتر نفسه تواصل مع السلطات التركية لزيارة تركيا ولقاء الرئيس التركي أردوغان، إلا أن طلبه بلقاء أردوغان قوبل بالرفض لكون حفتر لا "يمثل نظيراً للرئيس التركي" كما صرح بذلك وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو.

أما العامل الثاني فهو مرتبط بأجواء المصالحة الإقليمية والتطبيع البيني. تخفيف التوتر الإقليمي المتدرج منذ المصالحة الخليجية-الخليجية، وما تلاها من تفاهمات بينية، ألقت بظلالها على الملف الليبي. وفي هذا الصدد فإن التطبيع التركي-الإماراتي من جهة، والمفاوضات المصرية-التركية المستمرة من جهة ثانية تمثل عاملاً مهماً في إذابة الجليد بين الشرق الليبي وأنقرة وتعطي الضوء الأخضر من الأطراف الداعمة للشرق لتقارب كهذا. وقد ساهم تخفيف التوتر التركي-المصري في عودة مصر للغرب وتركيا للشرق الليبي، ما يساعد على إعادة الربط السياسي والاقتصادي بين شقي ليبيا. ففي الوقت الذي يعيد فيه السفير التركي فتح العلاقات في الشرق، توسع مصر حضورها في الغرب الليبي.

وبالنظر إلى هذيْن العامليْن يبدو واضحاً أن هذا التقارب جاء دون أن تقدم تركيا تنازلاً جدياً فيما يتعلق بوجودها العسكري ودورها السياسي في ليبيا. بل إن النواب الليبيين الذين كانوا يهاجمون علناً الدور التركي في ليبيا مثل بدر النحيب هم من يستقبلون السفير التركي في بنغازي حالياً. وعليه فإن الدور التركي في ليبيا مرشح للتزايد والتوسع في الفترة القادمة، إذ لن يبقي محصوراً في سياق الغرب الليبي وحكومة الوفاق الوطني فحسب، بل سيتمدد تدريجياً للشرق، فضلاً عن الجنوب الليبي.

عودة العلاقات بين الشرق الليبي وتركيا ستلقي بظلالها على العلاقات الليبية الداخلية وكذلك العلاقات الليبية-التركية. فتخفيف التوتر الحاصل وتقارب الأطراف السياسية في الشرق الليبي مع أنقرة سيخفف التوتر بين بنغازي وطرابلس وقد يمهد الطريق تدريجياً لمصالحة ليبية داخلية. أما على صعيد العلاقات التركية-الليبية فإن عودة العلاقات بين أنقرة وبنغازي سيمثل ضماناً سياسياً أكبر لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين كل من تركيا وليبيا والتي تم توقيعها في 29 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

كما أن التقارب سيفتح الأبواب لاستعادة العلاقات الاقتصادية والتجارية وتوسيعها. وكان لافتاً مشاركة مرتضى قرنفيل، رئيس مجلس الأعمال التركي-الليبي، سفير تركيا في ليبيا زيارته إلى بنغازي. وقد تكون عودة الرحلات الجوية بين تركيا وبنغازي الخطوة الأولى لتعزيز العلاقات، إذ توقفت الرحلات بين الجانبين منذ عدة سنوات على الرغم من طلب تركيا المتكرر لإعادة افتتاح الخطوط الجوية بين الطرفين. وفي الأيام الماضية مُنح بعض التسهيلات لرجال الأعمال الأتراك فيما يتعلق بإجراءات الدخول والإقامة في ليبيا.

التقارب التركي مع الشرق الليبي يمثل خطوة جديدة في مسار نزع فتيل التوتر والتهدئة المتدرجة التي دخلتها الساحة الليبية والمنطقة بشكل عام. انكسار مشروع حفتر والتقارب التركي-المصري يمثلان دافعيْن رئيسيّيْن لهذا التقارب الذي سيسهم في تطبيع السياسة الليبية الداخلية والخارجية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي