مع بدء سحب روسيا بعض جنودها من الحدود الأوكرانية، يبقى الاحتفال بوقف التصعيد وتلاشي شبح الغزو المحتمل مؤجلاً، طالما لم تُنتزع جذور الخلاف بين البلدين الجارين. والجذور في هذه الحالة هي الاقتتال الدائر بين انفصاليي الدونباس المدعومين روسيّاً والقوات الأوكرانية، حيث احتمال التدخل الروسي لمنع أي حسم عسكري أوكراني قائم جداً.

بالمقابل، ليست هي المرة الأولى التي يدعم فيها الكرملين انفصال مناطق بكاملها عن دول جواره الإقليمي، فقبل ذلك تدخل عسكرياً ليمنع حسم الحكومة الجورجية عسكرياً نزاعها مع انفصاليي أوسيتيا الجنوبية، كما تعترف روسيا بإقليم أبخازيا الجورجي كجمهورية مستقلة. إضافة إلى هذا تحشد روسيا قواتها داخل إقليم ترانسنيستريا، وتدعم حكومته المطالبة بالانفصال عن مولدوفا. كما تدعم موسكو أيضاً الطموحات الانفصالية للأقلية الروسية من سكان أقاليم شمال كازاخستان.

فيما يرى محللون بأن أهداف الكرملين من هذا التوجه السياسي هو إضعاف محيطها الإقليمي، من أجل بسط نفوذها داخله. وجيواستراتيجياً، من أجل خلق مناطق عازلة وموالية لها في الوقت نفسه، لكبح تقدم حلف الناتو نحوها.

دعم روسيا الانفصاليين

ومع تصاعد التوتر حول احتمال غزوها الأراضي الأوكرانية، صادق مجلس الدوما الروسي على قرار يقضي بتقديم مقترح لرئيس البلاد، فلاديمير بوتين، للاعتراف باستقلال "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك" الانفصاليتين بإقليم الدونباس، واللتان تحاربان بدعم روسي الجيش الأوكراني منذ 2014. فيما ندَّدت كييف وحلفاؤها الغربيون بالقرار الروسي، دون أن تبدي موسكو لحد اللحظة أية نية للتراجع عنه.

وفي ظل هذا التصعيد طالب الزعيم الانفصالي بالدونباس، ألكسندر خودروفسكي، الأسبوع الماضي روسيا بإرسال 30 ألف جندي لتعزيز قوات المتمردين التي تقاتل في منطقة دونيتسك الانفصالية، إضافة إلى أنظمة أسلحة جديدة يأمل أن تزودها بها. ما يعزز احتمال تدخل روسي في المنطقة إذا ما سعت أوكرانيا لحسم النزاع عسكرياً، على غرار ما حصل سنة 2008 في إقليم أوسيتيا الجنوبية شمالي جورجيا.

في سنة 2008، كانت جورجيا تستعد للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، في خطوة لقيت وقتها دعماً كبيراً من الغرب. حتى نشب مجدداً النزاع العسكري الخامل شمال البلاد، واندلع الاقتتال بين القوات تبليسي ومليشيات انفصاليي أوسيتيا الجنوبية. دخلت حينها روسيا على الخط، بقيادة هجمة خاطفة من الشمال ومن الغرب عبر أراضي جمهورية أبخازيا غير المعترف بها، دفعت بها القوات الجورجية خارج أراضي أوسيتيا الجنوبية واحتلت مجمعة مواقع داخل التراب الجورجي.

عقب ذاك أُبرمَ اتفاق سلام برعاية أوروبية، أدَّى أخيراً إلى انسحاب القوات الروسية من جورجيا، لكن موسكو اعترفت باستقلال منطقتَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، واحتفظت منذ ذلك الحين بوجود عسكري كبير فيهما. بالمقابل تبخرت الطموح الجورجي في الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على وجه الخصوص.

في سياق التوتر الأوكراني ذاته، يتمركز جزء من القوات الروسية المحاصرة لأراضي كييف بإقليم ترانسنيستريا غير المعترف باستقلاله عن مولدوفا. وتعارض الحكومة المولدوفية ذلك الوجود العسكري، كما طالبت رئيسة البلاد مايا ساندو بجلاء تلك القوات في أكثر من مرة منذ توليها مقاليد الحكم سنة 2020. وعلَّق الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، على ذلك الوجود العسكري قائلاً بأن: "روسيا تنتهك وحدة أراضي مولدوفا بوجود قواتها في ترانسنيستريا".

وتدعم روسيا الحكومة الانفصالية بترانسنيستريا بشكل غير رسمي، حيث حظر السفير الروسي في ديسمبر/كانون الثاني الماضي حفل تنصيب رئيس الجمهورية غير المعترف بها دولياً. خطوة ردت عليها الخارجية المولدوفية في بيان قالت فيه: "تعد الانتخابات الرئاسية المزعومة في منطقة ترانسنيستريا غير شرعية ومنافية لأسس مولدوفا الدستورية. وزارة الخارجية والتكامل الأوروبي تنظر إلى مشاركة رئيس البعثة الدبلوماسية الروسية في مثل هذه الأعمال على أنها خطوة غير ودية".

إضافة إلى دعم موسكو كل هذه الحركات الانفصالية بمحيطها الإقليمي، فقد شجعت كذلك الانفصاليين الروس في شمال كازاخستان. ويبرز ذلك من حضور شمال كازاخستان على لسان السياسيين الروس، مهددين بضمه إلى أراضي بلادهم. كما نجد الرئيس فلاديمير بوتين يردّ على سؤال أحد الصحفيين عما إذا ما كانت كازاخستان ستشهد السيناريو الأوكراني ذاته، قائلاً: "لم يكن للكازاخيين دولة خاصة بهم"، بالمنطق نفسه الذي وصف به أوكرانيا قبل بتره أراضيها على أنها "دولة ملفَّقة".

لماذا تدعم روسيا الانفصاليين في محيطها الإقليمي؟

تستعمل روسيا ورقة الانفصاليين بالدونباس للضغط على حكومة كييف، ومنعها من التقارب أكثر مع الغرب والانضمام إلى الناتو الذي تأمله حكومة كييف. لكن التلويح الآن بالاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين يأتي، حسب مقال تحليلي "مركز الأبحاث الاستراتيجية والعلاقات الدولية"، تدفع به روسيا إلى إجهاض اتفاقية مينسك ومحاولة منها لفك القيد الذي وضعته الاتفاقية على تحركاتها في القضية. بمعنى آخر التدخل أكثر، وبشكل أكثر صراحة في الشأن الداخلي الأوكراني.

فيما يمكن لأي متابع للشؤن أوروبا الشرقية وأوراسيا بأنها السياسة نفسها التي تتعامل بها موسكو مع دول الجوار التي تحاول الخروج من عباءتها، وبناء علاقات متوازنة معها، أي بدعم الحركات الانفصالية داخلها. حيث ينطبق ارتباط موسكو بانفصاليي الدونباس وتمويلها لهم بما يفوق 12 مليار دولار، على الحالة الجورجية وجمهوريات أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، كما على مولدوفا في ترانسنيستريا.

فيما على المستوى الجيوستراتيجي، يورد محللون، بأن مكاسب روسيا من دعم تلك الجماعات تتمثل في حصولها على أراض عازلة عن النفوذ الغربي، وموالية لها، تمتد لخلق مساحة دون اقتراب الناتو من حدودها. كما يؤكد ذلك سعي بوتين أيضاً لتثبيت وجوده العسكري ببيلاروسيا، وتعزيزه بأسلحة نووية، يعمل رئيس البلاد ألكسندر لوكاشينكو بتأمين الإطار القانوني والغطاء السياسي لنشرها.

TRT عربي