ما تعيشه جدة منذ بدء الهدد يعتبر تاريخيا بكل المقاييس، وسوف يستخدم الناس عبارة «ما قبل الهدد وما بعده» في التأريخ لحياتهم. إنها لحظة مفصلية في تاريخ المدينة وفي حياة كل من يعيش الحدث لأسباب تختلف باختلاف الناس، وقربهم، أو بعدهم عن الحدث وعلاقتهم به.
هدد جدة حدث تاريخي وهو ينطوي في ثناياه على تاريخ سوسيولوجي عميق بعمق زرقة بحرها. نحن هنا أمام ظاهرة سوسيولوجية لا تتكرر كثيرا في حياة المجتمعات. لعقود خلت يبدو وكأن أصحاب هذه الأحياء العشوائية قد بنوا بيوتهم وسكنوها ومتاجرهم وتاجروا فيها بمعزل تام عن الجهات المعنية المسؤولة عن تنظيم هذه الأحياء المكية، وبناء، واشتراطات، وخدمات، باختلاف أنواعها، وكل ما يتطلبه العيش الكريم. هنا يجد الفرد نفسه أمام تساؤل يبدو بديهيا بحجم المساحة الهائلة التي طالها الهدد وما زال. هل وصلت الحال بهذه الأحياء (العشوائية) إلى الحد الذي تعذر معه اتباع بدائل أخرى؟. وبدون الخوض في تلك البدائل والتفاصيل يبدو أن هذا هو واقع الحال، فكانت إزالة هذه الأحياء هي الحل الوحيد لبناء أحياء جديدة بمواصفات جديدة على أنقاض تلك العشوائيات. غير أن عدد أحياء الهدد وهي بالعشرات يحتم على الجهات المعنية التوقف مليا أمام الآليات المتبعة في انتشار هذه العشوائيات ومراجعة منظومة تملك العقار وبنائه وتأجيره وسن آليات جديدة كلية لإصدار تراخيص البناء وتوصيل الخدمات ومتابعة أحوال الأحياء لكل ما من شأنه عدم تكرار هذه الظاهرة مستقبلا. ويبدو جليا أن جدة قد استمرت لعقود تنمو وفق أنظمة حضرية بعيدة كل البعد عن المواصفات التي كان من المفترض أن تتبعها. ليس هنا موضع التفصيل في الآليات والقوى التي أنتجت هذه العشوائيات، وكما يقول المثل «أهل مكة أدرى بشعابها». غير أنها لحظة زمنية فارقة تستوجب من كافة المعنيين بها الوقوف مليا مع الذات.
هدد جدة فرصة سانحة للأكاديميين وعلماء الاجتماع والباحثين وهي مليئة بالكثير من العبر والنتائج التي من شأنها أن تساعد على فهم آليات التنمية العمرانية وفق أصول ومعارف سوسيولوجية صلبة لتكون عونا ومعينا للجهات المعنية في صنع القرار التنموي مستقبلا. إنها مناسبة للعمل الأكاديمي الميداني الذي من شأنه إيجاد حلقات تواصل بين كافة المستفيدين والمعنيين بالتنمية بدءا من المستخدم الساكن وأفراد عائلته مرورا بكافة الجهات الحكومية التي تشرف وتنظم آليات البناء والتملك، وصولا إلى الواجهة الحضارية لأحياء المدينة المراد بناؤها على أنقاض وأكوام الحجارة والطين.
يبدو كئيبا غبار الأتربة من المباني المنهارة وأنقاض الركام، ومخلفات الأمتعة، في مشهد لم يعهد سكان عروس البحر الأحمر رؤيته في مدينتهم الجميلة. غير أن الهدد يجب ما قبله. ولعل جدة موعودة بنهضة عمرانية شاملة تعيدها إلى البحر وتعيد البحر لها. جدة ميناء. جدة ثغر من ثغور الوطن، البحر رئتها، وموردها الاقتصادي وبوابتها إلى العالم. البحر تاريخها ويجب أن يرسم مستقبلها. هذا ما تقوله الجغرافيا وهذا ما يفرضه أي تصميم عمراني معاصر ومستقبلي. هذا ما يتطلع إليه الناس.
يلوح في الأفق أن جدة ليست سوى البداية فها هو الهدد بدأ يطال الأحياء الجبلية في مكة المكرمة في مشهد يبدو أنه قد تأخر كثيرا. ويتكرر المشهد ذاته وتتكرر الأسئلة ذاتها وتكاد تكون الإجابات متشابهة باختلاف المكان والزمان والمعطيات الخاصة بكل مدينة وكل حي بل وكل مستفيد أو متضرر.
البناء والهدم سنة من سنن الكون، وهي صفة ملازمة للبشر وبالأخص في بيئتهم العمرانية، في أماكن مسكنهم ومشربهم. وحسبنا في كل عملية هدم أن تعقبها مرحلة بناء تعيد إصلاح ما أفسده الدهر وما عاثت به أيدي البشر.
نقلاً عن "اليوم"
