في معنى الفقد


الفقد والفقدان من سنن الحياة، وليس هناك حقيقة نخشاها مثل “الفقد”، ليس فقط لأنها تصدمنا، ولكن لأننا ندرك تماما أننا لن نستطيع الإفلات منها. و”الموت” هو المعنى الأكبر للفقد، لأنه الغياب الكامل والكلب، إنه الأقسى لأنه يعنى العدم، ولا يخفف من وطأة هذا الغياب إلا الإيمان بفكرة أن العدم الذي يصيب الجسد لا يطال الروح. ومع ذلك فإن الإحسان بالفقد لا يعنى فقط الموت بمعناه الجسدي، فكثيرة هي الأشياء التي نفقدها أو نفتقدها فى الحياة، بداية من الأشياء المادية إلى اللحظات والمشاعر مرورا بموارد الرزق والعيش، فكل ما نحب ويغيب مفقود، وكل ما هو ضرورى ونخسره مفقود. ولعل من أسوأ أشكال الفقد فقدان الصحة، والأسواء فقدان الذاكرة عندما نخسر الذكريات التي هي عالمنا الخاص وقدرتنا على استعادة ما هو مفقود.

وإذا كانت مشاعر الفقد ماثلة أمامنا، نعيشها مع أنفسنا حزنا ومع الآخرين تعاطفا، فإن الأعمال الأدبية زاخرة بمظاهر الفقد، فالغياب والرحيل والحنين والذكريات كلها مرادفات تأخذنا إلى عالم الفقد. وفى هذا السياق أقدم قراءة سريعة لأحد الأعمال الأدبية التى تدور قصصها حول الفقد كإحساس ذاتي، إنها المجموعة القصصية “لا عزاء” للكاتبة ياسمين إمام والصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (2017)، وقد اختارت الكاتبة، عنوان أحد القصص “لا عزاء” ، لتكون عنوانا لمجموعتها، وعلى ما يبدو أنها أحسنت الاختيار، ليس لأن قصة لا عزاء تتميز عن غيرها من القصص، لكن لأن هذه التسمية هى أفضل تعبير عن محتوى العمل فى مجمله، فهذه المجموعة عبارة عن تنويعات قصصية للفقد والافتقاد والرحيل. وأتصور أن هذا العمل من الأعمال التى يسهل على القارئ أن يمسك بالخيط الناظم لمسار السرد، فالقارئ يبدأ من لحظات قد تكون مُتخيلة أو واقعية ثم يتحرك سريعا نحو نهايات قد يتوقعها أو يتفاجئ بها، ولكنها بالفعل نهايات لعلاقات لا تكتمل، لأن هناك دائما شئ مفقود أو ولأنها مسارات متسارعة نحو الفقد والافتقاد والرحيل؟ كما عملية السرد تأتي سريعة وقصيرة وكأنها أنفاس متقطعة أو نبض متسارع.

ففي قصتها الأولى “أين ذهب الليل؟”، حيث أن العنوان ذاته دال على الغياب، تأتينا إشارة من الزمن الماضي بأغنية “ياليل ياعين” قبل أن نعلم أن الأغنية سوف تتحول إلى بكائية فى زمن الحدث والذى سيأتي كلحن متقطع فيه الولادة والفرح ثم الفقد. ولكن الفقد ليس مجرد حدث عابر بل قدر، ففى كل بيت “ليلٌ ضاع، وعينٌ فقدت”. وفي قصة أخرى “بنت صغيرة” تأتى سردية الفقد كصراع نفسى موضوعه من تحب، ولكنه صراع ذاتي داخل نفس الفتاة المقسمة بين البنت الكبيرة (الأنا العليا)، والبنت الصغيرة (الأنا)، وفي خضم الصراع تظهر ذات ثالثة “هى” ترفض خارجها وداخلها، فى محاولة للتصالح مع ذاتها في عزلتها : “البنت الصغيرة عيطت، رمت صورته من الشباك، وخاصمت البنت الكبيرة، وبقت كل يوم تطبطب على نفسها، وتحكليها حدوتة عن حبيبها الحقيقي اللى لسه ما جاش”.

وقد يكون الفقد متأصلا في وعي مرتبك تتنازعه القيم فتحيط الشخص بأسلاك شائكة، فيصبح كالغيم الذي يغلف العلاقة فيكبتها، ولا يتبقى سوى الرحيل الباكى. وقد يكون الفقد رؤيا تستبق الأحداث كهذا الذي يستشرف الفقد في مرآة غده في قصة “سطوة عكسية”، حيث يبلغه مصيره بأنه لن يحقق أهدافه ولن يصل إلى بر الأمان، حيث لا يوجد للآمان بر. وفي العالم الافتراضي في قصة “هل مازلت هناك؟” يكشف الفقد عن ذاته في التواصل المكبوت، حيث تظل المشاعر الحقيقة حبيسة صندوق الرسائل Offline. وفى قصة “فركة كعب” تأتي سريدة الفقد لعلاقة لا تكون إلا في الخيال، خيال يسرع ليتوقف بعبارة: أكيد هتحضري خطوبتي مش كده؟”. والفقد هو السراب الذي نقرأه في قصة “ووعدت الشمس بالماء”، عندما تكون الحميمية بلا حميمية، فتسقط فى حيرة السؤال: “أن أشعر بك دونما دلائل واضحة، أفهم ربما ما لم تقله … ثم أتساءل داخلى في جدية: “هل أعرفه حقا”؟ إنه الفقد عندما تكون الحيرة في العلاقات غربة واغتراب، فلا يكون أمام الشخص إلا التحرر من تهديدات الفقد والانغلاق على ذاته والرحيل.

وهكذا نلحظ أن الرحيل هو مآل قسرى أو طوعى، فهو الحدث الذي تأخذنا الكاتبة إليه في عجالة في نهاية العديد من قصص المجموعة، لا شئ يستحق البقاء، والمسافات تفرض ذاتها، وقد يكون الرحيل صامتا وبلا وداع، إنه قرار يتم التعبير عنه بكلمات بسيطة وعادية لا تشى بأى قرار: “لازم أمشى… قوام كده… ما أنا خلاص خفيت”. وتأتى رهافة الرحيل فى قصة “يقين”، عندما يسيران إلى جوار بعضهما فتكتشف أن طيفا، طيف فتاة أخرى، يسير معهما إلى جواره، لترحل في هدوء متساءلة إذا كان هو الآخر قد لمح طيفا يسير إلى جوارها؟. وفى “صانع العرائس”، يأتى الرحيل في رسالة مباشرة لأنها رفضت أن تكون تكراراً لعرائسه المسحورة.

إن مجموعة “لا عزاء” القصصية للكاتبة ياسمين إمام المكتوبة كأنفاس متقطعة، هي سرد لعلاقات متقطعة فيها الكثير من الفقد والقليل من الافتقاد، وهي مسارات سردية تفضى إلى الرحيل الطوعي، والهروب في أو إلى ذات تجد حريتها في الرحيل أو البكاء. وربما يطال الفقد الكاتبة ذاتها وهذا ما نستشفه فى إهدائها الذى تستهل به مجموعتها، حيث تهديها لذاتها التي لم تعد: “إلى فتاة كنتُها، ولم يعد لدى منها سوى بعض من ملامحها”.

تاريخ الخبر: 2022-02-28 09:21:10
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية