مديـــح الصفحـــة البيضـاء


وقد اعتبرت الفئات المنتمية للسلطات الحاكمة أنه تم تغذية الاحتجاجات من قبل من لهم مصلحة في الانقلاب على السلطة، وذهب بعض المفكرين خاصة من ذوي التوجه اليساري إلى اعتبارها نتيجة مخطط امبريالي أمريكي جديد للاستحواذ على الحكم وبالتالي على الثروات الطبيعية للمنطقة، وذهب البعض الآخر إلى أكثر من ذلك فاعتبروا أن الربيع العربي ليس إلا مخططا أمريكيا صهيونيا لتأمين مسار التطبيع. ومع اكتساح التيارات الشعبوية للمجال، أصبحت نظرية المؤامرة رافدا أساسيًا في الخطاب السياسي.
إن التأمل في نظرية المؤامرة من الجانب النفسي وتكوين الشخصية المجتمعية التي تميل نحو التفكير التأمري أفضى بالباحثين إلى القول إن العقول التي تنجذب إلى نظرية المؤامرة تملك استعدادا لتقبل أي نوع منها و تكون قادرة كذلك على تقبل الربط بين مختلف النظريات، فيؤدي ذلك إلى وضعيات ذهنية معينة تشكك في المعتقدات السائدة والمؤسسات التي تدعمها والسلطة التي تجسدها. لا يعتبر الباحثون في علوم النفس أن الاعتقاد في نظرية المؤامرة ضرب من ضروب ذاهان الارتياب بل يعتبرونه نوعا من الفصام (Darwin, Neave et Holmes 2011, Barron et al. 2015) أو نتاج خصائص نفسية هشة أو تالفة، مثل انخفاض مستويات الثقة أو انعدامها، والهوس بالمكائد الخفية، وفرط الحساسية للتهديد ومشاعر الاغتراب والسخرية وعدم اليقين والعجز والقلق وفقدان السيطرة (انظر Abalakina-Paap et al. 1999، Goertzel 1994، Swami، Chamorro-Pemuzic and Furnham 2010، Grzesiak-Feldman 2013، Jolley 2013). (Swami وChamorro-Pemuzic و Furnham 2010).
ومن جهة أخرى حاول بعض الباحثين تفسير هذه الوضعيات الذهنية من جانب التفكير الاستكشافي (heuristique) فأرجعوها إلى إلى أخطاء تفكير (biais cognitifs) عميقة مثل الارتباط الوهمي والانحياز التاكيدي ( Brotherton et French 2014 et 2015).
كل هذه الخاصيات جعلت من نظرية المؤامرة رافدا أساسيا لبنية تفكير التيارات الشعبوية التي تنبني على الاختصارات نتاج كسل فكري وقصور على استيعاب وتحليل الوضعيات المعقدة. إن الشخصية الشعبوية تعتمد على أسهل السبل لتغيير الوضعيات التي تعتبرها غير ملائمة وهو ما يؤدي بها إلى إلى اعتماد طريقة هدم الأنظمة القائمة كوسيلة لتحقيق البديل. الهدم هو تمظهر للكسل الفكري غير القادر على استيعاب الواقع المركب وهو الطريقة الأسهل للفكر الشعبوي غير القادر على بناء بدائل متكاملة وواضحة المعالم.
تعتمد طريقة الهدم في كثير من الأحيان على نظرية الصفحة البيضاء (La théorie de la table rase)، هذا منهج مختلف التيارات السياسية التي تدخلت في مسار الدولة التونسية بعد الثورة عند اختيار القطع مع الماضي والتأسيس لمرحلة جديدة بداية من سنة 2011. كان هذا اختيار النخبة التونسية التي لم تأخذ من «التجربة الدستورية الرائدة، واعتبرت أن إنجاز الدستور يجب أن ينطلق من صفحة بيضاء، فتم إهدار وقت كثير في مسائل كانت سابقا من باب البديهيات» (عادل اللطيفي، في التجربة الدستورية التونسية، 2014).
إن عدم استكمال التقييم العلمي لهذه التجربة التونسية في التحول الديمقراطي لا يمكن من الحسم بضرورة/إمكانية/نفعية إعادته في ظرف عشر سنوات. وإن ما يستدعي الدراسة والتقييم أيضا هو علاقة النفس الشعبوي الذي غلب على أساليب الحكم طيلة العشرية الماضية بنظرية الصفحة البيضاء. حيث أنه لا يمكن تطبيق مفهوم الصفحة البيضاء في الجانب القانوني والدستوري بمنأى عن الصفحة البيضاء في الجوانب الهيكلية والاقتصادية. تأييدا لذلك، نلاحظ أن السياسات التي اتبعها تيار الإسلام السياسي والتيارات السياسية الأخرى الحليفة شملت، لا فقط إعادة البنية الدستورية والقانونية للبلاد بل شملت تقويض مقومات الدولة الوطنية وأدت السياسة الاقتصادية السلبية وغير الواضحة إلى تفكيك المنوال الاقتصادي التونسي دون تعويضه بمنوال تنموي بديل مما أدى إلى تدهور كل المؤشرات الاقتصادية الوطنية مثل تنامي عجز المالية العمومية وعجز الميزان التجاري وتعميق التبعية الاقتصادية للمؤسسات المالية العالمية وللدول المانحة.
تحيل هذه الوضعية إلى ما يشبه تمشي «التحطيم البناء» لشومبيتار. إلا أن نظرية شومبيتار الاقتصادية، التي استمدها بدوره من أفكار ماركس، تتعلق بمبدأ التحول الاقتصادي اعتمادا على تحطيم مقومات الاقتصاد القديم، حيث يعتقد شومبيتار أن تحطيم القيمة وتحطيم دعامات الاقتصاد تمكن من الدفع نحو دورة اقتصادية جديدة تؤدي إلى رفع الحواجز وخلق فرص جديدة للابتكار وبالتالي التطور. عجز التيارات الشعبوية التونسية على استنباط منظومات جديدة مقابل قدرتها الكبيرة على التحطيم أدى إلى تنفيذ الجزء الأول من نظرية شومبيتار فكان تحطيما بدون بناء (Anis WAHABI, Chroniques des années de cendre, 2021).
وباعتبار أن الشعبوية دال من دون مدلول يمكن أن يستوعب أي منطق وأن يتغير بتغير الأشخاص التي تستعملها وبتغير أغراضها وأهدافها فإننا نعيش اليوم عملية تحطيم جديدة لمقومات الاقتصاد التونسي ومن ذلك معاداة رجال الأعمال وإعلان الحرب على الأثرياء، لا فقط على الثراء غير المشروع، واعتماد اجراءات جبائية تضرب التصدير ومحاولة ضرب مسالك التوزيع دون خطة علمية واضحة والتمادي في سياسات الدعم من أجل حسابات شعبوية وعلى حساب توازن المالية العمومية. من وجهة نظر اقتصادية، كل هذا يحيل إلى عملية اسقاط لنظرية الصفحة البيضاء بصفة مقصودة أو غير مقصودة.
الصفحة البيضاء منهج ليبيرالي بحت، نظرت له لمدة ثلاثة عقود مدرسة شيكاغو وعلى رأسها ميلتون فريدمان ووجد له مسرحا ملائما في أورليون الجديدة ثم في العراق بعد اجتياح الناتو في 2013 بعد دراسة ما حدث في الشيلي غداة وصول بينوشيه للحكم سنة 1973 وبعض التجارب المماثلة في العالم (La stratégie de choc, Naomi Klein).
ونظرية الصفحة البيضاء في المجال الاقتصادي، كما نظر لها مريدوها، تعتمد على الصدمة لمرافقة الكوارث بعمليات تغيير جذري في المنظومة الاقتصادية المحلية، يتم خلالها التخلي عن النموذج الشامل القائم على سيطرة الدولة وأولوية الطبقات الفقيرة لتفضي إلى منظومات أكثر توحشا اقتصاديا وطبقة رأسمالية جديدة تسيطر على مقدرات البلدان.
والسؤال الذي يطرح اليوم هو إن كان هذا التمشي يتم بصفة واعية أم لا؟ هل أن هذا التمشي الاقتصادي الحالي في تونس وما نراه من تصحر الاقتصادي وتدهور في كل المؤشرات (أنظر الهاشمي علية، الانتحار التونسي، موقع البورصة، فيفري 2022) هو من قبيل السذاجة الاقتصادية أو هو بسبب العجز على إصلاح الأمور؟ أمام الموقف الحالي المبني على مبدأ «دع الفاكهة تفسد» كأني بأصحاب القرار يدفعون بتونس دفعا نحو الصدمة وقبول أي ثمن لدعم صندوق النقد الدولي تلميذ فريدمان بدون منازع؟
دون الانخراط في نظرية المؤامرة الذي دفع بمنظومات الحكم في تونس طيلة أحد عشر سنة إلى الصفحة البيضاء، يمكن القول إن التهديم الذي يحدث حاليا لما بقي من مقومات الاقتصاد التونسي لا يمكن أن يؤدي، في ظل الظروف الجيوستراتيجية الراهنة وفي غياب رأس مال وطني قوي، إلا إلى مزيد من التبعية إلى الخارج سوف تفضي بطريقة أو بأخرى إلى استحواذ رؤوس الأموال العالمية على مفاتيح الاقتصاد التونسي.
هل أن هذا التمشي نابع من ذكاء خارق وقدرة كبيرة على التخطيط أم أنه ناتج عن حمق وضعف إدراك بمقتضيات الاقتصاد؟

تاريخ الخبر: 2022-03-03 12:18:50
المصدر: جريدة المغرب - تونس
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 52%

آخر الأخبار حول العالم

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:18
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

دورة مدريد لكرة المضرب: الروسي روبليف ي قصي ألكاراس حامل اللقب

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:24:39
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 51%

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:24
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 66%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية