من وحي ذكرى الإسراء والمعراج (2).. من يرفع الهمة ويبعث الأمل؟


من وحي ذكرى الإسراء والمعراج (2) .. من يرفع الهمة ويبعث الأمل؟

أصلي صلاةً تملأ الأرض والسّما.. على من له أعلى العُلا مُتَبوّأ

أُقيمَ مقاماً لم يُقَم فيه مرسلٌ.. وأمست له حُجُبُ الجلالة تُوطأ

إلى العَرْشِ والكرسيِّ أحمد قَدْ دَنَا.. ونُورُهُمَا من نُوْرِهِ يَتَلألأ

أرَاه مِنَ الآيَاتِ أكْبَرَ آيةٍ.. ومَا زَاغَ حَاشَى أنْ يَزيغَ مُبرّأ

   أفتتح مقالتي بهذا القطف الجميل في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن يبدد نورها سجف الظلام وقتامة المشهد، ويلطف عطر ذكراه واقع الكآبة التي تعيشها الإنسانية اليوم، في عالم مضطرب موار، تقاسمت فيه الذئاب والدببة الأدوار، بين مسعر النيران ومصطاد الحملان ومفترس الجوعان.

  في الضفة الأخرى، تقف خارج الحلبة وعلى هامش مسرح الأحداث وخارج غرفة العمليات، شعوب مقهورة، متفرجة حائرة، قد تترنح أحيانا بحثا عن عيش كريم وخير عميم وانعتاق من قبضة المستبدين، لكن صوتها يكتم إلى حين، ولا حديث عن الأقصى وفلسطين.

   في خضم هذه الأحداث الكونية الأرضية، تهب نسمات عزاء، وتلوح بارقة أمل تحملها نفحات ربانية تحتفي بتكريم خير البرية في ذكرى الإسراء والمعراج الخالدة. ومن حسن فالها ما من الله به من غيث السماء، بعدما جف الضرع وهلك الزرع.

   كنت كتبت، منذ سنتين، مقالا بعنوان: من وحي ذكرى الإسراء والمعراج، بث الأمل وانتظار الفرج، وأجدني اليوم  مدفوعا للكتابة في نفس الموضوع، لأركز من زاوية أخرى على أهمية العامل الذاتي في بث الأمل. من أين يُستمد؟ وكيف يُبَث في الناس؟ مكتفيا في هذه العجالة بالإشارة إلى ثلاثة وسائل للتزود والاستمداد.

أولا: الصلاة معين لا ينضب وطاقة تتجدد

   بعد تكذيب قريش ومن حولهم من أهل ثقيف وغيرها نبي الله صلى الله عليه وسلم، وما قبلهم به من حلم وصفح، رجاء هداية الله لهم ولذريتهم من بعدهم، راح الحبيب يبث شكواه إلى مولاه، فقربه ربه وأدناه، وفي معرجه أكرمه وواساه، ومن خلفه أمته بشعيرة الصلاة، لنعلم أنه لا مناص لمن انبرى لنشر خلق الرحمة والمحبة بين الناس، وفتح باب الأمل في غد أفضل عنوانه الأبرز عدل وكرامة وحرية، وغايته الأسمى نيل سعادة الدارين وفوز برضى الله عز وجل؛ لا مناص له من معين لا ينضب وزاد لا ينفد وهمة لا تفتر، يستقيها أولا من صلته بربه واستمداده من نوره واسترشاده بهدايته وإلهامه وتوفيقه.

   تُعَلّمنا ذكرى الإسراء والمعراج أن أُولى وسائل الإمداد وأسرع سلم الارتقاء، وأنجع وسيلة الصلة الدائمة بالله، منحة الله لعباده التي أهداها لنبيه وحبيبه في معراجه، في سدرة المنتهى، حين كان قاب قوسين أو أدنى. إنها الصلاة، منها يستمد العبد قواه، وبها تتوطد صلته بمولاه. كيف لا وقد َجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاةِ، وكانت آخر وصاياه؟

عن أم سلمة قالت: “كان من آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم. حتى جعل نبي الله يلجلجها  في صدره، وما يفيض بها لسانه”.

يقول ابن القيم رحمه الله: وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا هذا، (أي مواجيد العارفين في الصلاة) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “حُبِّبَ إلَيَّ من دنياكم: النساء، والطيب وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة”.

   ومما يدل على عظمة الصلاة وأسبقيتها، أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: “جاء رجل فقال: يا رسول الله أي شيء أحب عند الله في الإسلام؟” قال: “الصلاة لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين” .

   وعلى نفس الدرب سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عُمّاله: “إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع…”. ضيعت الصلاة ونقضت عروتها بعد انتقاض عروة الحكم العادل الضامن للحقوق وحامي الحرمات والمقدسات. من تجلياتها تشتيت الهم وصرف الاهتمام عن معالي الأمور ومنها السعي إلى تحرير المسجد الأقصى، إلى سفسافها ومنها تسليط الضوء على كل تافه وترميز كل ناعق يقتات بتلميع صورة المنبطحين والمطبعين.   

   يستمد الدعاة الهداة قوتهم من الصلاة، شريطة إتقانها والمحافظة عليها والخشوع فيها وتعظيمها وتلمس أثرها فيهم وفي من حولهم.

ثانيا: محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مغناطيس دائم لا يتبدد

   تُعَلمنا ذكرى الإسراء والمعراج أن الله أحب نبيه واصطفاه، فأحبه سيدنا جبريل والملائكة أجمعون وألقى الله محبته في القلوب، فأحبّه الصحابة حبّا فاق الوصف وتجاوز حدود الخيال، فصدقوه في القول والفعال. إمامهم في ذلك سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه. عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لقد صدق، إني لأصدقه بأبعد من ذلك؟ بخبر السماء غدوة وروحة .

كما أن الصديق رضي الله عنه بلغ من تعظيم ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم درجة الكمال، لذلك قال بكر بن عبد الله المزني: “ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه”. من صور محبته للنبي صلى الله عليه وسلم ما رواه عنه الإمام مسلم رحمه الله: “لَمَّا خَرَجْنَا مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ مَرَرْنَا برَاعٍ، وَقَدْ عَطِشَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: فَحَلَبْتُ له كُثْبَةً مِن لَبَنٍ، فأتَيْتُهُ بهَا فَشَرِبَ حتَّى رَضِيتُ” . ومرض النبي صلى الله عليه وسلم فزاره الصديق فمرض حزنا عليه، ولما شفي النبي صلى الله عليه وسلم من مرضه زاره، فانبسطت أساريره فرحا بشفاء النبي صلى الله عليه وسلم فشفى لرؤيته فقال رضي الله عنه:

مرض الحبيب فعدته.. فمرضت من أسفي عليه

شفي الحبيب فزارني.. فشفيت من نظري إليه

هذا نموذج فقط وقد كان في ذلك القمة والقدوة، لكن لسائر الصاحبة أمثلة في التصديق والمحبة تتفاوت. من أئمتهم ساداتنا عمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين.

   كما أن للصحابيات رضي الله عنهن أمثلة رائعة في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه. فمن قائلة: “أما إذ رأيتُك سالما فقد أشوت (هانت) المصيبة” أو “كل مصيبة بعدك جَلل”، بعد رؤيتهن رسول الله صلى الله عليه وسلم سالما رغم استشهاد أقاربهن.

 وتضرب الخنساء أروع الأمثلة في تحول بوصلة عاطفتها من جاذبية أرض الجاهلية إلى عنان سماء الإسلام وهي التي بكت أخاها صخرا حتى جفت دموعها وفارق النوم أجفانها:

يؤرقني التذكر حين أمسي.. ويردعني مع الأحزان نكسي
على صخر، وأي فتى كصخر.. ليوم كريه وطعان خلس

ولولا كثرة الباكين حولي.. على إخوانهم لقتلت نفسي

لكنها ابتليت في القادسية باستشهاد أبنائها الأربع فصبرت واحتسبت.

   كان هم الصحابة والصحابيات، رضي الله عنهم، أن تنهض الأمة من سبات وتحيى من موات مهما كان الثمن. رفع همتهم لذلك مغناطيس محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

   ولكي يرتفع منسوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يثمر اتباعا واقتفاء أثر، لابد لمن انبري لبعث الأمل في الأمة أن يكثر من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وأن يكون له منها ورد راتب دائم، عسى أن تجذب روحانيته روحانيته فتخلص نيته ويصفو قلبه ويستقيم سره ويسدد سلوكه ويتسنى له التأثير في مجتمعه وكل من خالطه.

ثالثا: المحبة والرفقة الصالحة والتعاون حوافز إرادة لا تنهد

   الرفيق قبل الطريق، وضرورة الدليل، درس صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا جبريل في رحلة الإسراء والمعراج، واتخاذ البراق دابة تركب تطوي المسافات، والمعراج وسيلة لاختراق السموات، درس في أهمية إعداد الوسائل والأخذ بالأسباب. بقي درس العمل الجماعي المنظم والتعاون على البر في كل مناحي الحياة. أنصع صوره وأجملها، أداء صلاة الفريضة جماعة في المسجد، في صفوف متراصة منتظمة. كما نستفيد ذلك ونستشفه من مخاطبة الله عز وجل عباده بصيغة الجمع إن هم أرادوا الفلاح، ومن ذلك كيفية أدائهم للصلاة “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون”، وما يترتب عن إقامتها من واجبات “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”، أو سياق ركوعها وسجودها ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلْعَٰبِدُونَ ٱلْحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلْآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ .

    إن من أهم مظاهر بث الأمل، بعد أداء الصلاة، عربونا على قبولها، هو ما يترتب عنها من محبة وتراحم وتعاون على اقتحام العقبة والتقرب إلى الله، بإطعام المسغب  ونصرة المظلوم ورحمة اليتيم ومواساة الأرملة وإغاثة المصاب، وحمل الكل وإكساب المعدوم والإعانة على نوائب الحق اقتداء بمن بشرته أمنا خديجة رضي الله عنها بتحليه بهذه الخصال صلى الله عليه وسلم.

   ألا وإن إحياء ذكرى الإسراء والمعراج ليست مناسبة للتسلية والترف، كما أن محبة صاحب الذكرى ليست عاطفة فضفاضة، لكن برهانها وثمرتها المرجوة، هي سعي المحبين له المتعلقة قلوبهم به المحتفين بذكراه، لبناء مجتمع العمران الأخوي، الذي يسود فيه العدل والأمن ويتحقق فيه الرخاء والعيش الكريم، ويتحرر الناس من كل أثقال الأرض وجاذبيتها، ومن غلبة الدين وقهر الرجال، فيقيموا الصلاة مرتاحي البال: ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ .

ولله الأمر من قبل ومن بعد، وله الملك والحمد، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه ومن ركع لله وسجد.


[1] هذا هو المقال الثاني في نفس المناسبة.
[2] من قصيدة الوترية لأبي عبد الله محمد بن أبى بكر بن رشيد البغدادي الشافعي المتوفى سنة 662 هجرية رحمه الله.
[3] ليلة الثلاثاء 27 رجب سنه 1443 هجرية.
[4] أخرجه الإمام البيهقي رحمه الله في الشعب من طريق عكرمة.
[5] أخرجه الحاكم في المستدرك.
[6] صحيح مسلم.
[7] أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد بن معاوية بن الحارث بن الخزرج (قالتها يوم أحد).
[8] التوبة الآية 112.
[9] الجائع المتعب، “في يوم ذي مسغبة”: أي فيه جوع وتعب.
[10] الحج 41.
تاريخ الخبر: 2022-03-06 12:20:10
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 52%
الأهمية: 56%

آخر الأخبار حول العالم

توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:24:52
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 70%

في سوق الأسهم .. هل عليك بيع أسهمك في مايو وإعادة الشراء في نوفمبر؟

المصدر: أرقام - الإمارات التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:24:00
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 36%

هذه وضعية سوق الشغل خلال الفصل الأول من سنة 2024

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:24:54
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 68%

بين فيتنام وغزة – صحيفة التغيير السودانية , اخبار السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:22:59
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 59%

انهيار طريق سريع جنوب الصين: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48 شخصا

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:25:00
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية