سلطان بن فهد وحديث حول الفن وذاكرة الأشياء


في عالم الفنان سلطان بن فهد، الأشياء والقطع المادية لها كيانها الخاص ومعناها ورمزيتها وقصصها، معظمها قطع قديمة جمعها الفنان بدأب وشغف عبر سنوات طويلة. في الحل والترحال يتجه بن فهد للأسواق الشعبية وأسواق الأنتيكات، وما يطلق عليه «فلي ماركت» في الغرب، هناك يجد الفنان ضالته من الأغراض التي تحمل معها ذكريات لأناس مضوا و«أماكن عاصرتها».

عبر معارضه، كانت تلك القطع المقتناة هي أدوات تعبيره. بعض الفنانين قد يلجأون للألوان والأحجار والتراب للتعبير عن أفكارهم، ولكن في عالم سلطان بن فهد؛ الأشياء والقطع القديمة هي ما يسطر به وما يعبر به عن فكرة وحالة تملكته، وأوحت له بعمل فني مختلف عن غيره.




ثريات متكسرة ضمن معرض «القصر الأحمر»  -  الزمزميات الملونة من تذكارات الحج


- «القصر الأحمر» ذكريات ماضٍ وحاضر

مع سلطان بن فهد، كان لي حديث طويل ومتشعب، أخذني معه في رحلة عبر رؤيته للتاريخ والفن والحضارات، وما تتركه من آثار لنا. يتحدث بحماسة وشغف ومعرفة كبيرة جداً بكل قطعة اقتناها واستخدمها لبناء عمل فني. أتذكر معه معرض «القصر الأحمر» الذي زرته بمدينة جدة في شهر يوليو (تموز) من عام 2019. يعود اسم المعرض للقصر الأحمر التاريخي، ويعد أول المباني المشيدة بالإسمنت والحديد المسلح في مدينة الرياض. تم تشييده في عام 1943م ليكون سكناً للأمير سعود بن عبد العزيز. وقد نظمت وزارة الثقافة هذا المعرض الفني لتسليط الضوء على المكانة الوطنية للقصر الأحمر، بهدف توثيق دوره المحوري في تاريخ السعودية منذ إنشائه في الرياض عام 1943م.

وانقسم المعرض إلى 7 فصول تتوّزع على 14 غرفة، تعرض بداخلها مجموعة من الأعمال الفنيّة التي تعكس تاريخ القصر الأحمر وتاريخ السعودية خلال تلك الفترة الزمنية. كان المعرض المحطة الأولى لي ولكثير من الجمهور، مع أعمال سلطان بن فهد الذي بدا كأنه ظهر إلى الساحة الفنية وهو في قمة عطائه الفني.




تاريخ المملكة حاضر بقوة في أعمال بن فهد


- من التايكوندو للفن

أبدأ حواري معه وأسأله: لماذا ظهر متأخراً على الساحة الفنية؟ يقول لي: «لم أبدأ العمل الفني متأخراً، ولكني بدأت في الظهور متأخراً». يعزو التأخر في الظهور لظروف ارتبطت بممارسته رياضة التايكوندو؛ حيث كان ضمن أفراد منتخب السعودية في الرياضة، غير أن توالي الإصابات أخذ به لمنحى آخر أقل ضرراً على الجسد، وأكثر تعلقاً بالإبداع الوجداني، فقد كان مغرماً منذ الصغر بالرسم، واعتاد عرض لوحاته على الأصدقاء بعد ذلك؛ لكنه لم يقتنع بأن ما ينتجه هو فن حقيقي، بسبب عدم دراسته للفن، ولكنه لاقى التشجيع من زوجته وأصدقائه ومعارفه: «الأميرة جواهر بنت ماجد رأت أعمالي، ونصحتني بضرورة عرضها». يرجع تردده في دخول المجال مبكراً إلى الخوف من النقد: «كان عندي تخوف كبير من النقد، كرياضي أنا معتاد على نقد المدرب، وكلاعب كنت أعرف قواعد اللعبة وتمرنت عليها وأعرف الأخطاء. ولكن في الفن الوضع يختلف؛ فقد تولد عندي تخوف من الانتقاد؛ لأنه لم تكن لدي الأسس التي لدى غيري، كان هذا اعتقادي». ولكن التشجيع أتى بالنتيجة المرجوة، وعرض أعماله للمرة الأولى في غاليري فني: «البداية غريبة قليلاً، ولكني تشجعت بعد ذلك».

من الرسم الذي مارسه في البداية تحول إلى الأعمال التركيبية، بسبب إصابات في الكتف منعته من الرسم، ويرى في ذلك اكتشافاً لطريقة جديدة في التعبير. وينصح غيره من الفنانين بتجربة كل الوسائل الفنية، وألا يركن لنوع واحد فقط يألفه: «ممكن الواحد يكتشف في نفسه أشياء لم يكن يعرفها».

نعود لمعرض «القصر الأحمر» الذي قدم من خلاله عدداً من التيمات والمواضيع، قسمها إلى 7 فصول، منها: حرب الخليج، والاقتصاد المقدس، وعشاء القصر، والمصلى، وقد تم تأطير الأعمال في هذه الفصول ضمن الأحداث التاريخية والسياسية التي وقعت خلال فترة استخدام القصر الأحمر بالرياض. لم يكن معرضه الأول كما أكد لي، ولكنه كان معرضاً متكاملاً يضم الأعمال التركيبية والفيديو والتصوير الفوتوغرافي.

معرض «القصر الأحمر» كان مختلفاً من نواحٍ عدة؛ فقد كان يتميز بالوفرة والعدد؛ خصوصاً في عدد القطع المعروضة، من مجموعة من الثريات المتكسرة التي جمعها الفنان في أطر أجهزة تكييف قديمة الصنع، أو من قوارير الماء (الزمزميات) التي تحمل رسومات بسيطة للأماكن المقدسة، أو مائدة الطعام المتخمة بالأطباق وأدوات الطعام، وغيرها من أقسام المعرض.

أشير إلى ذلك الجانب، وأسأله عن عشقه لتجميع القطع القديمة، يجيب: «أحب جمع القطع، وأرى من واجبي أن أخرج ذكريات منها، سواء كانت قطعاً أثرية أو عادية». يشير إلى أن كثيراً من زوار معارضه علقوا على أعماله بالقول: «أنت تطرح تساؤلات فقط». ويضيف: «هو فعلاً ما أفعله، فأنا أطرح التساؤل، وأريد من المتفرج أن يساعدني في العثور على الإجابة عن طريق البحث. على سبيل المثال في قسم (عشاء القصر) لم أجد كثيراً من المعلومات حول أدوات المائدة التي كانت مستخدمة خلال فترة حكم الملك سعود، ولا حتى عن الأكلات قديماً، وكنت أرحب بأي معلومة تصل إليَّ... كنت أحب أن أسمع من الناس معلومات لم أكن أعرفها».

تاريخ السعودية، أو الجزيرة العربية بشكل عام، حاضر بقوة في أعمال بن فهد، ومنها على سبيل المثال عمل بعنوان «كان حاكماً» الذي يصور تماثيل عملاقة من بني لحيان، يتحدث عن العمل ويقول: «من أول الأعمال التي عُرضت لي كانت ضمن مؤتمر حول معرض (روائع آثار المملكة)، وكانت المجسمات الكبيرة لملوك لحيان، وهذه الآثار طويلة بالأمتار، كان هناك قلق من أن يظنها البعض آلهة، ولكنها ليست آلهة، هي تماثيل لحكام، ومن هنا جاءت فكرتي أن أعمل لها (إكس راي)، وأضفت لها الأشعة السينية الخاصة بي، التي تصور كسور الكتف وغيرها من الإصابات التي أصبت بها خلال ممارستي الرياضة»، أعلق قائلة: «كأنك أعطيتَ تلك التماثيل البعد الإنساني؟»، ويجيب: «أردت أن أبين أنها تماثيل لحكام وليست لآلهة. في تلك الفترات التاريخية كان الحكام يتباهون بقوتهم عبر بناء مجسمات ضخمة... كانت تعطيهم هيبة أكبر».




من أعمال الفنان


- حلم المسافر والاقتصاد «المقدس»

من التماثيل العملاقة يأخذنا الحوار لعمل آخر للفنان، وهو بعنوان «شد الرحال» الذي عُرض في بينالي الدرعية للفن المعاصر، والمعتمد على شهادة حج تاريخية. استخدم الفنان الشهادة القديمة ليضعها خارج غرفة مضاءة مبطنة بلوحات قماشية ملونة، تحمل رسومات مستوحاة من تلك الشهادة ومن فنون الحجاج المختلفة. مشاهدة العمل تجربة روحية وبصرية ممتعة جداً، فللوصول إلى تلك الغرفة المضيئة، يمر الزائر عبر ممر خافت الإضاءة، وأمامه على بعد أقدام الغرفة المضيئة تدعوه لداخلها، وتغريه بألوانها ونورها الساطع. أول ما يلحظه الزائر لدى وصوله إلى الحجرة هو أرضيتها المضاءة التي استوحاها الفنان من فيلم «2001: أوديسة الفضاء» للمخرج ستانلي كوبريك. ومن الأرض يدور البصر بين جوانب الحجرة المبطنة بالأقمشة الملونة والمشغولة بالخرز، ليستقر على السقف المغطى بالقماش المطرز بالخرز الملون، ويحس الزائر نفسه في خيمة باهرة تأخذه لأجواء روحانية.

عنوان العمل بالإنجليزية هو «حلم المسافر»، وبالنسبة لبن فهد فذلك يرتبط بشكل كبير بما يعبر عنه في تلك الغرفة المضيئة: «كان توجهي لهذه الرحلة؛ لأن الحجاج حلمهم زيارة الحرمين، كانوا ينقلون معهم ثقافاتهم وتجاراتهم والصناعات الصغيرة في بلادهم». فكرة الحلم واضحة في العنوان العربي، كما يشير: «بالعربي (شد الرحال) ووقعها أجمل، فكأن الرسول الكريم كان يعطينا مجالاً للحلم عندما قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)».

يشرح لنا الفنان فكرة العمل، منطلقاً مما يطلق عليه اسم «الاقتصاد المقدس»، ويسارع في التوضيح بأن ما يعنيه المصطلح هو التجارات التي قامت على الحج والعمرة: «كان هناك اقتصاد قائم على زيارة الحرمين، هناك ناس أقاموا (بزنس) متكامل معتمد على بيع التذكارات المختلفة». اللافت في هذه التجارة هي أنها كانت متبادلة، فكان الحجاج يحضرون معهم أشياء مرتبطة ببلدانهم لبيعها للحجاج والمعتمرين: الآن تغيرت الأوضاع بالكامل، ولكن في فترات سابقة كانت تلك التجارات تشغل أهل البلد أو الحجاج القادمين من الخارج. هناك مثل شائع يعبر عن هذا الوضع، وهو: (حج وبيع سبح) يجمع بين الجانب الروحاني والاقتصادي للحج. فعلى سبيل المثال، كان بعض الحجاج يحضرون معهم قوارير المياه (الزمزميات) ليبيعوها في مكة أو المدينة، فهي بضاعة مصنوعة في الهند ولا يوجد لها مثيل هنا، وكانت تأتينا عن طريق الحجاج».

في معرض «القصر الأحمر» عرض الفنان بعضاً من هذه «الزمزميات»، وهي قوارير للماء مصنوعة من الألمنيوم، ومرسومة عليها بألوان متنوعة مناظر مختلفة مرفقة بكلمات. يقول إن القوارير التي جمعها من الأسواق الشعبية كان الحجاج والمصلون يبتاعونها من أسواق مكة المجاورة للحرم، ويملأونها بماء زمزم، ولكن مع توسعة الحرم وإغلاق عدد كبير من البوابات المطلة على الأسواق، تراجعت مبيعات القوارير وغيرها من التذكارات.




من معرض {القصر الأحمر}


- تلاقح الثقافات والتجارات

الحديث يتشعب بيننا ليدور حول الطرق الكثيرة التي تلاقحت فيها الثقافات؛ خصوصاً في الأراضي المقدسة: «على مر الزمان، تنقلت الثقافات والحضارات من جهة لأخرى، في مكة مثلاً، المأكولات، من المنتو واليغمش والرز الكابلي وغيرها، كلها تعود لثقافات مختلفة عنا، ولكنها ثقافات أثرت في مكة والمدينة». هذا بالنسبة لبلادنا، ولكن ما الذي أخذه الحجاج من هنا؟ في هذه النقطة يستفيض الفنان في الحديث عن شهادة الحج، الإلهام وراء «شد الرحال». «الشهادة توضح لنا الجانب الذي يأخذه الحاج من ماديات معه، ولكننا نعرف أن الحصول على مثل هذه الشهادات كان أمراً مكلفاً، وبالتالي هو مقتصر على من يستطيع الحصول عليها، ولكن لمن لا يملك المال فقد كانت هناك طرق أخرى لنيل شهادة الحج، مثلما نراه في البيوت الريفية بمصر وبلدان شمال أفريقيا؛ حيث كان الحجاج يزينون جدران بيوتهم بالرسومات التي تصور مشاهد من الحج». يستطرد قائلاً: «بالنسبة لجيلي والجيل الأسبق، لم تكن لدينا الفرصة لالتقاط (السيلفي)، أو تصوير المكان والأجواء. كانت في متناول يدنا نظارات بلاستيكية بسيطة جداً، مثبتة في عدساتها صور لمكة والمدينة. هي مشاهد تنقل الشخص للمكان، ولكن فعلياً كيف يمكننا نقل الرحلة وتفاصيلها بشكل فني؟ كانوا يصفونها دائماً عن طريق الرسومات على سجادات الصلاة، وعن طريق الهدايا التي يأخذونها». يعلق على أن تلك الصور كانت معتمدة على الذاكرة بشكل كبير جداً، وهو ما قد يفسر أن بعض الصور الموجودة على سجادات الصلاة القديمة قد تكون بها بعض الأخطاء في تصوير تفاصيل الأماكن المقدسة: «بعض السجادات كانت تحمل صوراً لمساجد أخرى، مثل المسجد الأزرق بتركيا، على اعتبار أنه المسجد النبوي. من صنع السجادة اعتمد على روايات المسافرين وخيالهم».




 «شد الرحال» لسلطان بن فهد الذي عُرض في بينالي الدرعية


في معرض «القصر الأحمر» كان هناك عدد ضخم من القطع التي كانت تباع في المحال المحيطة بالحرمين في السابق، جمع منها الفنان الكثير جداً، وما زال يبحث عن مثيلاتها: «هذه القطع الآن غير موجودة، لم تعد تُصنع. في السابق كان الناس ينظرون لها كتذكارات، هدايا من الأماكن المقدسة كانت متفردة وكانت جزءاً من الرحلة». تلك القطع نقلت للفنان الإحساس بخيال المسافر الذي وجد طريقه، ليصبح رسومات على قطع مثل سجادات الصلاة وقوارير الماء وقطع القماش الملونة: «كل اهتمامي كان: كيف أقدر على نقل تخيلهم، كيف كان شكل الحرم، كيف شكل المسجد، المنبر. كانت ذاكرتهم قوية، تنقل الخيال بتفاصيل جميلة، هذا الوصف الذي كنت أحاول نقله. كان الزوار والحجاج يأتون ويستوعبون المشاهد حولهم كأنهم يخزنون الخيال، في كل الأماكن التي مروا عليها، مثلما نجده في مدينة العلا التي كانت على طريق الحج، كان المسافرون ينقشون على الصخر خلال رحلتهم من مكان لمكان، كانوا يصفون حياتهم وما رأوا، أحس كأنهم أرادوا أن يسجلوا حضورهم في تاريخ وكيان هذا البلد. نقل التخيّل ووصف الرحلة لا شك أنه أخذ منهم وقتاً طويلاً، أعتقد أن خيالهم كان واسعاً، وأنا على قدر مقدرتي أحاول نقل ذلك، أحس أن هذه الأعمال يمكن اعتبارها فناً معاصراً لوقتها».

كان لا بد من سؤال الفنان بعد مشاهدة كل تلك القطع التي جمعها: «كيف تحصل على هذه القطع؟»، يجيب ببساطة: «أنا أحب المشي، وأحب (الفلي ماركت) بأنواعها، أحب أتفرج وأحس أنه تحدٍّ لي أن أرى شيئاً قد لا يراه غيري، وأجمع، حتى الاستوديو عندي تحول لمخزن، وصلت إلى مرحلة قلت إنني لن أشتري شيئاً إلا إذا كان له مكان، وهو ما أدى لنقصان مشترياتي للنصف. وأصبحت الآن إذا عجبني شيء ولسبب من الأسباب لا أنوي شراءه أكتفي بتصويره... أضعف الإيمان».

ينهي حديثه معي على نقطة مهمة؛ وهي أن القطع المقتناة لا تهمه بسبب المكان أو الأشخاص الذين امتلكوها: «ما يهمني منها هو الذكريات التي تحملها من أشخاص أمسكوا بها أو ارتبطت بهم».




عمل تركيب بعنوان {نافذة}

 


تاريخ الخبر: 2022-03-13 03:22:56
المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 92%
الأهمية: 99%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية