بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للشعر، قال الشاعر عبد المقصود عبد الكريم، في تصريحات خاصة لــ "الدستور": يقال إن الإنسان غنى قبل أن يتكلم، عرف الغناء قبل أن يعرف الكلام؛ قبل ابتكار الكلام بزمن طويل كان يترنم بأصوات مبهمة، كان يغني بأصوات مبهمة كلما فرح وكلما حزن وكلما وقع في العشق، كلما التقى بالحبيب وكلما افترق عنه. ومن هذه الأصوات المبهمة نشأ الشعر، ويمكن ببساطة أن نتأكد من صحة هذه المقولة إذا تأملنا أي طفل في عامه الأول، قبل أن يتعلم الكلام. الشعر ببساطة أول ابتكارات الإنسان على هذه الأرض.

ويمكن بسهولة أن أضيف إلى هذه المقولة، مقولة أخرى: الشعر آخر ما يتبقى من إنسانية الإنسان. طالما بقيت في الإنسان ذرة إنسانية بقي الشعر. شخصيا لا أتخيل الإنسان إنسانًا بدون الشعر، بدون الغناء، بدون مشاعر يحتاج إلى التعبير عنها، ويمكن التعبير عنها.

وبالتالي يمكن إدماج المقولتين معًا لتصبحا: من الشعر تبدأ إنسانية الإنسان وبالشعر تنتهي إنسانية الإنسان.

واستطرد "عبد المقصود": لكنني أسمع من كل الاتجاهات صوت همهمات اعتراض: عن أي شعر تتحدث يا مولانا، في عالم تراجعت فيه مشاعر الإنسان أمام المادة، في عالم يحكمه الدولار والرصاص؟ ألا ترى تراجع الشعر، في كل لغات العالم؟ ألا ترى البؤس الذي انحدر إليه حال الشعراء؟ يا لك من شاعر حالم، يفزع من الحقيقة ويفر منها، أو يغطي عينيه حتى لا يبصـرها. ألا ترى أن كل شيء يحسب بالدولار ويتراجع مقهورًا أمامه، حتى أسمى مشاعر الإنسان.

ربما أتفق مع بعض هذه الهمهمات، أو حتى معها كلها، بالرغم من أنني أرى مغالطة واضحة فيها، لأنها لا تمثل إلا رؤية من زاوية واحدة، رؤية تتجاهل الرؤى في كل الزوايا الأخرى. حديثي السابق عن ارتباط الشعر بإنسانية الإنسان، ومهما تراجعت إنسانية الإنسان ومهما تراجعت مشاعره، يبقى هناك قدر منها؛ وإذا انتهت تمامًا، وهي محض فرضية نظرية، يكون الإنسان قد انتهى، ولا يكون هناك مجال للحديث عن إنسان، ناهيك عن إنسانيته. تراجع الشعر في السنوات الأخيرة يبدو لي أنه تراجع تجاري، أي أنه لم يعد رائجًا، لكن لا أظن أن عدد الشعراء الحقيقيين نقص شاعرًا. الشعر ليس سلعة استهلاكية يتوقف منتجها عن إنتاجها بمجرد تراجع الطلب أو توقفه. قد لا يكون هناك مستهلك، لكن المنتج إذا توقف عن الإنتاج مات، وتكون إنسانية الإنسان في خبر كان.

يحتفل العالم بيوم للشعر، وأقول إن كل يوم فيه قدر من الإنسانية هو يوم للشعر. كل يوم فيه عشق هو يوم للشعر، كل يوم فيه سعادة هو يوم للشعر، كل يوم فيه حزن هو يوم للشعر. هل كان من الممكن أن تتجلى هذه المشاعر للإنسان قبل أن يعبر عنها شاعر؟ نعم، إنها موجودة قبل أن يعبر عنها الشاعر، لكنها تكون أشبه بالمعادن الثمينة المدفونة في باطن الأرض قبل أن يكتشفها إنسان، قبل أن يعبر عنها شاعر!