يهوذا الخائن في التراث الشعبي


يحتفل المسيحيون كل عام بعيد القيامة (قيامة السيد المسيح من الأموات) بعد أن طالب اليهود بصلبه وخيانة يهوذا للسيد المسيح وتسليمه لهم.

ويسمى الأسبوع السابق لعيد القيامة- والذي يبدأ (بأحد السعف) وينتهى (بأحد القيامة) – بأسبوع الآلام ، ويوجد طقس داخل الكنيسة فى هذا الأسبوع حيث يتذكر المسيحيون الآلام التى لاقاها السيد المسيح، بل ويتعايشون مع الأحداث يوماً بيوم وقد سمى هذا الأسبوع بأسبوع الآلام منذ حوالى 1600 سنة، وقبل هذا التاريخ كان يسمى الأسبوع العظيم .

لمحة تاريخية عن الحدث :

ترجع احتفالية يهوذا إلى حادثة خيانة يهوذا للسيد المسيح وتسليمه لليهود ليصلبوه ، ويهوذا هو أحد تلاميذ المسيح الأثنى عشر.

وهذا الحدث الإنجيلي التاريخي قد عاش وما زال فى وجدان الجماعة الشعبية القبطية، حتى أن اسم يهوذا ارتبط فى ذهنها بالخيانة ، فصارت تقول (يهوذا الخائن) وعاش الاسم فى الذاكرة الشعبية حتى الآن حيث يمكن أن يصفوا به بعض الأشخاص الخائنين.

وكما يوجد طقس داخل الكنيسة فى أسبوع الآلام لتذكر خيانة يهوذا كذلك يوجد احتفال شعبى خارج الكنيسة، حيث كانوا يختارون شخصاً من أفراد الجماعة الشعبية ليقوم بدور يهوذا أو صنع دمية تمثله ويتم زفه ، وسبه ، وضربه ، ويطوفون به القرية كلها لتجريسه.

طقس يهوذا داخل لكنيسة :

تبدأ الكنيسة استعدادها للاحتفال بعيد القيامة وتسبقه بأسبوع يسمى أسبوع الآلام، حيث تتذكر أحداث صلب المسيح يوماً بيوم وفى يوم الخميس والذى يسمى خميس العهد والذى يتم فيه قراءة فصول من الكتاب المقدس الخاصة بهذا اليوم ، يقوم الكاهن والشمامسة بعمل زفه يهوذا، حيث يطوفون الكنيسة من اليسار إلى اليمين على عكس ما هو متبع فى الأيام العادية وهم يرددون لحن يهوذا (لحن حزايني) .

(يا يهوذا يا مخالف الناموس ، بالفضة بعت سيدك المسيح لليهود مخالفي الناموس … يوادس . يا يهوذا)

وصف الاحتفالية الشعبية فى عدة قرى (محافظة سوهاج):

وبعد أن يتم هذا الطقس داخل الكنيسة أو أثناءه، يأتي دور الجماعة الشعبية والوجدان الشعبى الذى يعايش هذا الحدث بل ويستدعيه من ذاكراته ويجدد صراعه مع هذه الشخصية في صورة احتفاليه شعبية يغمرها كثير من مشاعر السخرية والغضب والسخط على يهوذا الخائن الذى أسلم سيده المسيح لليهود .

فى خمسينات القرن الماضى نرى البعض فى “أخميم” يأتون برجل فقير الحال أو مهمل غالباً من قبل الجماعة الشعبية، ليقوم بدور يهوذا ويلبسونه ملابس قديمة ممزقة تليق به ، حيث يزفونه بداية من فناء الكنيسة ويخرجونه إلى الحارة المجاورة حيث يقوم الشباب والأطفال والرجال بسبه ، ولعنه ، وقد يصل الأمر إلى حد ضربه فى صورة تمثيلية ، ويمسكون قطع الشقف (الجرار المحطمة) ويطرقونها ببعضها أو يطرقونها فوق قطع من الصفيح وهم يصيحون على يهوذا الذى ارتضى بهذا الدور أو لم يرض .

(يوادس ….. يوادس (يهوذا)

متعوس موكوس من دون الناس

باع سيده بتلاتين من الفضة

صاروا نحاس)

فى قرية ” أولاد على ” يرفض أفراد الشعب القيام بدور يهوذا لأن اسم يهوذا سوف يلصق بهم حتى بعد انتهاء التمثيلية، لذا يقوم بهذا الدور شخص ما ، يعيش بصفه دائمة فى الكنيسة، مرغماً وهو القرابنى الذى يصنع قربان الكنيسة حيث يأتون به، ويلفه الأفراد بستر من أستار الكنيسة ويجعلونه يحمل فوق كتفه أو على ظهره صرة من القماش، والتى تمثل الثلاثين من الفضة (وهو المبلغ الذى أستلمه يهوذا مقابل تسليمه للسيد المسيح) ويسيرون به فى فناء الكنيسة وهم يزفونه على أنه خائن للمسيح.

(يا يهوذا يا يهوذا ……. يا خائن المسيح

يا يهوذا يا يهوذا …….. يا خائن الناموس)

ويضربه الأطفال بالحصى الصغيرة ،ويستهزئ به ، ويلعنه الكبير والصغير ويستمر زفه حتى نهاية اليوم ، وتلحقه اللعنات وخيانة يهوذا .

فى قرية ” إدفا” كانوا يأتون بأحد الأفراد ، غالباً ما يكون شخصاً طيباً ليقوم بدور يهوذا حيث يلبسونه ملابس تليق بيهوذا ويتم اختياره من ليلة الأربعاء ليكون معداً ليوم الخميس الذى تجرى فيه تمثيلية يهوذا فى فناء الكنيسة وكانوا أيضا يزفونه ، ويضربونه بصورة تمثيلية وهم يصيحون.

(يا ما خاين يا يهوذا ……. يا ما خاين يا يهوذا

بعت سيدك بالمال …….. والمال ده كله فان)

ثم جاء الوقت الذى رفضت فيه الجماعة الشعبية فى القرية القيام بدور يهوذا لخوفهم من أن تلحقهم اللعنات ووصمة الخيانة ، ولكن لحب الجماعة الشعبية لأداء هذه الدراما جعلها تستعيض عن الشخص، بدمية تصنعها من الجريد وتلبسها جلباباً أشبه (بخيال المآته) ، ويلقون به فى فناء الكنيسة وهم يلعنون ويسبونه كما كانوا يفعلون من قبل .

فى قرية “الكشح”

يتبرع أحد أفراد الشعب ، بأن يقوم بدور يهوذا هذا العام، حيث تعد له الجماعة الشعبية عقداً من أغطية زجاجات (الكوكاكولا) ويكون عددها ثلاثين غطاء (دلالة على الثلاثين من الفضة وهو الثمن الذى تقاضه يهوذا مقابل تسليم السيد المسيح لليهود ليصلبوه) وتعلقه له فوق صدره، وكأنه وشاح العار والخزى ، وحينما يمشى وسط الناس (تشخلل) ترن هذه الأغطية أشبه بجرسة هذا الشخص (يهوذا)، ويزفونه الصغار والكبار ويضربونه بصورة تمثيلية ويهتفون عليه بأنه خائن المسيح ويتم هذا فى فناء الكنيسة أو فى حارتها.

أما فى قرية “فرشوط” (قنا)

يحكى أحد الإخباريين: فى الثلاثينيات من القرن الماضى حيث كانوا يأتون بـ (بلاص) جرة ويرسمون عليها وجه إنسان ويكتبون أسفله يهوذا، ويقصدون بذلك الإشارة إلى وجه يهوذا، ويطوفون القرية كلها بزفة التجريس للجرة أى ليهوذا، وبعد ذلك يأتون أمام باب الكنيسة ويكسرونها وكأنها بذلك كسروا يهوذا وأماتوه انتقاما منه .

وفى قرية “كفر عبده” (المنوفية)

تقوم الجماعة الشعبية بعمل دمية على هيئة إنسان، تمثل شخص يهوذا ويتم ذلك بإحضار (أفرول) وهو الزى الخاص لعمال المصانع ، يتم حشوه بقش السعف المتبقى من احتفال أحد السعف، لعمل دمية يهوذا وبعد إتمام حشو الدمية يتم حياكة (البنطلون) من أسفل الأرجل وكذلك أذرع (الأفرول)، وعند الرقبة يأتون برأس من خشب يتم تشكيلها لتمثل وجه يهوذا، ثم يغرسونها فى رقبة الدمية وبعد ذلك يأتون بحمار ويركبون الدمية فوقه ويسيرون فى القرية كلها وهم يزفون الدمية (يهوذا) بالصياح والسب والضرب بالعصى، وتعلو الهتافات التى تندد بيهوذا وبخيانته ، وما أشبه ذلك بمواكب الجرسة فى العصر المملوكى ، حيث كان يتم التشهير بالمتهمين وتجريسهم فى مواكب مثل هذه ويعلق أحد الإخباريين بما رآه قديماً فى الأربعينيات من القرن الماضى: أن المسيحيين والمسلمين كانوا يشتركون معاً فى زفه يهوذا الخائن ، وبعد ذلك يعودون إلى فناء الكنيسة ويحرقون الدمية .

ونجد أن هذه الدراما تعبر عن الوجدان الشعبى لدى الأقباط ونبذهم ليهوذا ونبذهم لكل رموز الخيانة فى المجتمع ، والأقباط جزء من المجتمع المصرى الذى ينبذ الخيانة ورموزها لذا فهى تعبير عن الوجدان الشعبى المصرى ككل ، مجهولة المبدع غير مدونة وانما محفوظة فى الصدور متوارثة جيلاً بعد جيل عبر المشافهة .

وهذه الدراما مستوحاة من الاحداث الحقيقية لخيانة يهوذا والقراءات التي تتلي بصفه دائمة فى الكنيسة، وتعبر الطبقة الشعبية عن هذه الدراما بصورة فطرية ، مرتجلة مستخدمة الكلمات وصور الغضب اليومية من سب وسخرية وضرب بالحصى فنجد أن هذا الاحتفال الشعبى يوازى الاحتفال الكنسى وإن كانت الكنيسة لا ترعاه بل سنجد فيما بعد أنها تمنعه ولكن الطبقة الشعبية تسعى بإبداعها أن تخلق لنفسها دراما خاصة تستمتع بها ، وتعبر عن وجدانها بأدواتها الخاصة تنفيساً عن الكبت الذى تعانيه مثل هذه الطبقات .

وظائف الاحتفالية :

تسعى هذه الاحتفالية فى تحقيق عدة وظائف منها :

أ‌- وظيفة نفسية

· إن تجمهر الطبقة الشعبية وتجمعها لضرب وسب يهوذا- حتى لو كان بصورة تمثيلية – هى محاولة للتنفيس عن الكبت الذى تعانيه هذه الجماعة والذى له أسباب عديدة من ظلم وقهر وتهميش ..ألخ

ويكون هذا التنفيس فى إطار شبه مشروع وارتباطه بالعقيدة من ناحية أخرى ، وهذا التنفيس يخفف من التوترات النفسية لدى الجماعة الشعبية، وهى أيضاً محاولة لإجراء بروفات لقياس قدرتها على الغضب والثورة فى مواجهة ما تعانيه بصورة مباشرة ، وربما هذا يكمن لديها فى اللاشعور.

· الإسقاط وهو حيلة لا شعورية تتلخص فى أن ينسب الشخص عيوبه ونقائصه ورغباته المكروهة ومخاوفه المكبوتة إلى غيره من الناس والأشياء، وذلك تنزيها لنفسه وتخففاً عما يشعر به من القلق والخجل أو النقص أو الذنب ، ويأخذ الإسقاط هنا فى هذه الدراما صورتين .

1- كره الطبقة الشعبية لبعض الرموز ودلالاتها كالقهر والظلم والتهميش والفقر. وفى كرهها هذا تحاول أن تسقطها فى صورة يهوذا والنيل منه .

2- أن تنسب الطبقة الشعبية عيوبها ورغباتها ومخاوفها بل وخياناتها إلى شخصية يهوذا ، ويؤدى الإسقاط إلى أن تخفف الطبقة الشعبية من مشاعرها ودوافعها البغيضة وتعمى رؤية نفسها كما هى عليه فى الواقع ويجعلها فى حل من نقد الناس والمبادرة إلى لوم يهوذا قبل أن يلومهم .

ب‌- وظيفة الإمتاع :

تحقق الاحتفالية وظيفة الإمتاع والتسلية من خلال صنع (خيال المأته) والدمية والرسم على الجرة والأغانى التى تردد ،والموسيقى المصاحبة، وإلباس يهوذا ملابس متعددة وسبه بصورة تمثيلية, كمؤدين ومتفرجين وهى الصورة التى من خلالها تتحقق المتعة كأحد وظائف الفنون الشعبية .

وهناك ملاحظة ينبغى أن توضع فى الاعتبار أنه بالرغم من أن الاحتفال مستمد من العقيدة المسيحية ويحتفل به المسيحيون إلى أننا نرى فى بعض القرى زفة يهوذا كان يتجمع المسيحيون والمسلمون معاً ويطوفون بيهوذا ويجرسونه ويقومون بإعداد الدمية وحرقها ليوضح ذلك مدى ترابط فئات الطبقة الشعبية فى احتفالاتها وكذلك أفراحها وأحزانها .

تاريخ الخبر: 2022-04-21 15:21:32
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

يورغن كلوب يؤكد انتهاء أزمته مع صلاح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:23
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 58%

بطولة ألمانيا.. رويس يعلن رحيله عن دورتموند بعد 12 عاما

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:49
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 70%

يورغن كلوب يؤكد انتهاء أزمته مع صلاح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:27
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 62%

اختطاف مغاربة بالتايلاند يسائل بوريطة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:36
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

الاتحاد الفرنسي يصدر قرارا مثيرا للجدل تجاه اللاعبين المسلمين

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:42
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 57%

اختطاف مغاربة بالتايلاند يسائل بوريطة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:30
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 52%

بطولة ألمانيا.. رويس يعلن رحيله عن دورتموند بعد 12 عاما

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:45
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 65%

الاتحاد الفرنسي يصدر قرارا مثيرا للجدل تجاه اللاعبين المسلمين

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 18:26:37
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية