افتتاحية الدار: اتفاق 28 رمضان يضع الحوار الاجتماعي على سكة المَأْسسة


الدار/ افتتاحية

لن يكون اتفاق 28 رمضان 1443 هجرية الذي تم توقيعه اليوم بين النقابات والحكومة وأرباب العمل مجرد وثيقة اجتماعية كغيرها من الوثائق العديدة التي تم توقيعها في الماضي. إن ما يمثله هذا الاتفاق أكبر من تحقيق المطالب النقابية أو الاقتناع برؤية الحكومة أو الحفاظ على مصالح الباطرونا، فهو يعتبر بمثابة مرحلة جديدة في سياق المفاوضات الاجتماعية تعلن عن مأسسة حقيقية للحوار الاجتماعي وتحويله إلى تمرين ديمقراطي قار وثابت وناجع. ويعود هذا الاستنتاج إلى عدة اعتبارات وسمت أداء الحكومة في تدبير مفاوضاتها مع النقابات وأخرى مرتبطة بالسياق السياسي والاجتماعي والدولي الخاص الذي وُلد فيه اتفاق 28 رمضان.

إن أول ما يعبر عن تحوّل الحوار الاجتماعي مع الحكومة الحالية إلى ممارسة مُمَأسسة هو التشبث بأجندة الحوار مع النقابات في ظل ظرفية استثنائية عنوانها الرئيسي هو الأزمة متعددة الأبعاد التي ميزت السياق الزمني لتنصيب هذه الحكومة. أزمة عالمية انعكست على الاقتصاد الوطني وأثرت على مداخيل الخزينة وعلى معدلات النمو وبلغت أوجها مع تزايد معدلات التضخم وارتفاع أسعار المواد الأساسية وعلى رأسها المحروقات الناجم عن ارتفاع أسعار البترول في الأسواق الدولية. إن حرص الحكومة على استمرار الحوار الاجتماعي في ظل هذه الظرفية الاقتصادية الصعبة يمثل أبلغ رسالة سياسية على أن هناك إرادة سياسية واضحة للحفاظ على الحوار والنقاش الداخلي كوسيلة لتدبير المشكلات التي تعصف بالمجتمع وتؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين وعلى تماسك واستقرار الطبقة العاملة. في تجارب سابقة كانت الأزمة بمثابة فرصة رسمية لوقف كل أشكال التفاوض الاجتماعي حتى إشعار آخر.

إننا نتحدث عن حوار اجتماعي انطلق في 24 فبراير الماضي فقط، بمعنى أن الأمر لم يتطلب سوى شهرين فقط للوصول إلى اتفاق 28 رمضان بمختلف المكتسبات الاجتماعية الجوهرية التي جاء بها، والتي على رأسها الرفع من الحد الأدنى للأجر بقطاعات الصناعة والتجارة والخدمات بنسبة 10% على سنتين، والتوحيد التدريجي للحد الأدنى القانوني للأجر بين قطاعات الصناعة والتجارة والمهن الحرة والقطاع الفلاحي، ورفع الأجر الأدنى بالقطاع العام إلى 3500 درهم صافية، بالإضافة إلى حذف السلم السابع بالنسبة للموظفين المنتمين لهيئتي المساعدين الإداريين والمساعدين التقنيين ورفع حصيص الترقي في الدرجة من %33 إلى %36، والرفع من قيمة التعويضات العائلية للأبناء الرابع والخامس والسادس في القطاعين العام والخاص.

يتعلّق الأمر إذن بمكتسبات ملموسة سيكون له الأثر البالغ على القدرة الشرائية للطبقة العاملة والموظفين كما أنها ستمثل ثورة وظيفية بالنسبة لفئات من الموظفين الذين كانوا يعيشون نوعا من التهميش والعزلة على مدى عقود، كما هو الحال بالنسبة للمصنفين في السلم السابع الذي سيتم حذفه. الاعتبار الثاني الذي يجب إذن التنويه به في هذا السياق هو أن الاتفاق يعتبر منجزا تفاوضيا نوعيا، بالنظر إلى أنه لمس بعض الثوابت التي كان التفاوض حولها في الماضي يمثل خطا أحمر، كما هو الحال بالنسبة للحد الأدنى من الأجور في قطاعات الصناعة والخدمات والذي سيتم الرفع منه بنسبة 10 في المائة على مدى سنتين فقط. قبول أرباب العمل للرفع من الحد الأدنى للأجور يؤكد أن الحكومة بذلت كل ما تملك من جهود في سياق تكريس وبناء مفهوم الدولة الاجتماعية الذي ينخرط المغرب في تأسيسه منذ أن عصفت به جائحة فيروس كورونا المستجد بكل تداعياتها الخطيرة والمؤلمة.

أما الاعتبار الثالث الذي يمكن الاستناد إليه في تحليل اتفاق 28 رمضان باعتباره مأسسة للحوار الاجتماعي فهو توقيع على الميثاق الوطني للحوار الاجتماعي، استجابة للمطلب الجماعي الملح بمأسسة الحوار الاجتماعي، من أجل تعزيز مكتسبات التجربة المغربية وإيجاد الآليات الكفيلة بتفادي نقط ضعفها لاسيما على مستوى تنفيذ الاتفاقات، وتأمين الاستدامة والانتظام. إن حرص حكومة عزيز أخنوش على إخراج هذا الميثاق لحيز الوجود على الرغم من كل الإكراهات الظرفية التي سبقت الإشارة إليها دليل واضح على أن الغاية من هذا الاتفاق ليست مجرد استجابة لمطالب فئوية أو نقابية خاصة بل هو تحقيق ما يمكن تسميته بالانتقال الاجتماعي الشبيه نوعا ما بالتجربة الألمانية، التي تجنّب الحوار الاجتماعي تأثيرات الحسابات السياسية والمزايدات الحزبية وتحوله إلى آلية منتظمة وشفافة تعالج بانتظام المطالب التي يقدمها الفرقاء الاجتماعيون والاقتصاديون.

إن أهمية الميثاق الوطني للحوار الاجتماعي وانعكاسه على مأسسة الحوار تكمن في كونه إطارا مرجعيا واضحا يحدد لكل الأطراف أدوارها ومسؤولياتها ويضع أمامها مختلف الأدوات الشرعية المناسبة للتعبير عن مواقفها في ظل احترام القانون والحفاظ على الاستقرار. كما أن هذا الميثاق يحدد على وجه الدقة تمثيلية الأطراف الثلاثة في اللجان المعنية بمناقشة التشريعات والقوانين والنصوص التي تخدم القطاعات الاجتماعية خصوصا في مجال الشغل والممارسات المهنية. إن اتفاق 28 رمضان يمثل أحد أهم منجزات الحكومة الحالية التي لم يمض على تنصيبها إلا أقل من سبعة أشهر استطاعت خلالها بفعل الإرادة والجدية أن تضع الحوار الاجتماعي على سكته الصحيحة بفضل التوجيهات الملكية السامية.

تاريخ الخبر: 2022-05-01 00:23:57
المصدر: موقع الدار - المغرب
التصنيف: مجتمع
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 59%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية