الحرب في أوروبا تفرز خطابا مقيتا كريها


العيون والعقول منصبة على مسار الحرب المدمرة التي تدور رحاها في أوروبا منذ شهرين ونيف، قلما يخطر ببال الكتاب والصحافيين التركيز على ما قد يكون أخطر من وقع القنابل والمدافع والمذابح والتدمير والقتل بالجملة والفظائع التي صارت تحتل وسائل الإعلام والتواصل ليل نهار. يقض الإعلام الغربي وخطابه مضاجعنا من خلال اهتمامه البارز بشؤون التسليح والخسائر والضحايا، بيد أنه يغض الطرف عما أراه أكثر وقعا وخطرا من الدمار المادي والبشري المخيف الذي تحدثه هذه الحرب. أغلب ما نسمعه ونقرأه خارج نطاق العمليات الحربية يعرج على شؤون الاقتصاد، ويأتي النفط والغاز والأسعار والفواتير في مقدمتها.

صحيح أن الغرب، خصوصا قارة أوروبا، تشهد حربا قد يفلت زمام الأمور فيها وتتحول الى كرة لهب تحرق الأخضر واليابس، إلا أن هناك ما هو - في نظري - أكثر هولا وبشاعة.

مخطئ من يظن أن في إمكانه شن حرب وتحديد نتيجتها مسبقا من حيث الوقت الذي ستستغرقه ومسارها ومآلها.

والحروب إن حصرناها في العمليات العسكرية، وأنها تضع أوزراها حال وقف استخدام السلاح، فهذه الحرب لا بد لها من نهاية، رغم أننا قد لا نجافي الصواب إن قلنا إن نهايتها لن تكون سهلة وحميدة أبدا. وإن انتهت الحرب عسكريا، فإن إفرازاتها تبقى طويلا وتأثيرها لا يندثر مع مرور الزمن. وهنا أنا أشير الى السرديات والأطر الخطابية التي ترافق العمليات العسكرية.

خذ الحرب العالمية الثانية مثالا. هذه الحرب التي قتلت عشرات الملايين من البشر في الغرب وأحرقت الملايين وهم أحياء أطفالا ونساء وشيوخا وشيبا وشبابا، قد وضعت أوزارها منذ ما يزيد على 70 عاما.

لكنها لم تنته إن أخذنا السرديات والأطر الخطابية التي رافقتها. والسردية تمثل اللغة أو القصة التي ترافق حدثا أو مفهوما ما. الأطر الخطابية هي الأشكال اللغوية من مفردات وجمل ترافق السردية. هذا بطبيعة الحال تعريف مبسط جدا للمصطلحين الرائجين في علوم اللغة والخطاب والعلوم الاجتماعية والإنسانية عموما.

إن رجعنا إلى الأطر الخطابية والسرديات التي كانت سائدة إبان الحرب العالمية الثانية، لرأينا الأطر والسرديات ذاتها شاخصة وبقوة في الخطاب الذي يرافق الحرب الحالية في أوروبا. اختلاف الأشخاص والاصطفاف والجغرافيا والزمن والواقع والوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي لم يغير في الأمر شيئا.

ومن ثم، لم تغب تلك الأطر والسرديات عن أذهان الناس والإعلام وما يجتره السياسيون في العقود السبعة ونيف الماضية رغم انتهاء العمليات العسكرية التي رافقت الحرب العالمية الثانية وصمت الأسلحة التي استخدمت فيها. وكما أن الحرب ثنائية، بمعنى فيها طرفان، كذلك الأطر الخطابية والسرديات، حيث تعكس الثنائية التي ترافق الحروب. وكما أن كل طرف في الحرب يرى أنه يمثل الخير والحق في صراعه مع الطرف الآخر، كذلك الأطر الخطابية والسرديات التي تعكس ما يراه كل طرف أنه الخير والحق وما يراه أنه الشر والضلال.

وقد لا أجانب الحقيقة إن قلت إن التجييش من خلال الأطر الخطابية والسرديات في الحرب الأوروبية الحالية وصل مبلغا لم تقترب منه أي حرب ولم يشاهده أي صراع آخر.

ليست الأسلحة الفتاكة والمدمرة التي نصنعها ونستخدمها وكأن لا عقل لنا أو كأن صناعتها لم تكن نتيجة العقل الذي نملكه ما يخيف البشرية، حسب ظني أن السرديات والأطر الخطابية التي ترافق الحرب الحالية هي التي ستكون لها آثار مدمرة وذات تبعات كبيرة.

المبارزة في ساحة المعركة على أشدها، وهي في الواقع حرب عالمية ثالثة في إطار الأسلحة التقليدية الحديثة التي هي أشد فتكا من التي استخدمها الغربيون في الحرب العالمية الثانية.

في الطرف المقابل الذي قلما يكترث له الإعلام تأتي السرديات والأطر الخطابية التي ما هي الا اجترار وبعث للكراهية والبغضاء وحمم الشر الكامنة في هذه القارة التي لم تكن تحتاج إلا شرارة واحدة لتوقظها، كما يستيقظ البركان الخامد وينفث حممه.

الأطر الخطابية والسرديات التي رافقت الحرب العالمية الثانية كانت مصفوفة على الرف في وزارات خارجية هذه الدول وأرشيفها، وما إن انطلقت شرارة الحرب الحالية حتى هرع إليها الناس يعلكونها كأنها العسل رغم السم الزعاف الذي في باطنها.

سرديات وأطر خطابية مخيفة ومرعبة ترافق هذه الحرب ويلجأ إليها من كنا ننظر إليهم كأنهم حكماء وعقلاء عصرنا هذا، ونأخذهم نموذجا للعدالة والأخلاق الإنسانية، ونضرب بهم الأمثال لما يجب أن تكون عليه إنسانيتنا.

وهكذا صار هتلر والنازية والمحرقة وكل ما كان يمثل الشر في الحرب العالمية الثانية على لسان، ليس الصحافة والإعلام ومواقع التواصل، بل على شفاه الساسة والزعماء والقيادات في الغرب، يسردونها ويكررونها دون وجل كأن كل هذه الشرور لم يكن منبتها الساحة ذاتها التي تدور رحى الحرب المدمرة هذه فيها.

أوروبا والغرب ومعهما العالم على "كف عفريت"، هذا ما أراه، ليس استنادا إلى العمليات العسكرية الجارية، بل من خلال قراءتي السرديات والأطر الخطابية التي من خلالها تعبر الحكومات والساسة والقيادات في هذه الدول المتطورة والمدنية والديمقراطية عن المواقف وسير الأحداث.

*نقلا عن صحيفة "الاقتصادية".

تاريخ الخبر: 2022-05-06 12:16:48
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 83%
الأهمية: 96%

آخر الأخبار حول العالم

البرهان: لا مفاوضات ولا سلام إلا بعد دحر “تمرد” الدعم السريع

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-09 12:25:22
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 57%

البرلمان المغربي يشارك في الدورة ال 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-09 12:25:19
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية