مسيرها تروق وتحلى.. كيف تغلب المصريون على أزماتهم الاقتصادية؟

تمر دول العالم أجمع بأزمة اقتصادية غير مسبوقة، وصل فيها التضخم إلى أعلى مستوى له، ما أدى إلى ارتفاع أسعار غالبية السلع والخدمات، الأمر الذى دفع مختلف الشعوب للبحث عن حلول تخفف عنهم الضغوطات النفسية والاقتصادية التى تؤرق حياتهم.

ويأتى المصريون على رأس هذه الشعوب، التى «تتحايل» على أوضاعها الاقتصادية بالعديد من البدائل والحلول، للتخفيف من تأثير ما تعرضوا له من أزمات على مدار تاريخهم، بداية من الغناء والسينما، مرورًا بالأمثال الشعبية. 

غنوا للسكر والفول واللحمة.. وتعجبوا من سعر الوقود «لتر الجاز بروبية» 

عبَّر المصريون عن ارتفاع الأسعار وموجات الغلاء بأكثر من أغنية تصف أحوالهم، من بينها أغنية «استعجبوا يا فندية.. لتر الجاز بروبية»، التى غناها فنان الشعب سيد درويش.

وذكرت «المجلة الموسيقية» فى أحد أعدادها الصادرة عام ١٩٧٤، أن سيد درويش قدم هذه الأغنية بسبب ارتفاع أسعار «الكيروسين» فى ذلك الوقت، مرجعة ذكره العملة الهندية «الروبية» إلى استخدامها داخل مصر فى بداية الحرب العالمية الأولى وسط خضوع كل من مصر والهند للاحتلال الإنجليزى آنذاك. وعندما ارتفعت أسعار السكر فى فترة الأربعينيات، خرجت أغنية «السكر غلى هنحلى بإيه؟»، وهى أغنية من التراث الشعبى فى الأصل، وتم غناؤها فى «كازينو بديعة».

وأعادت الفنانة سهير المرشدى تقديم الأغنية ذاتها فى الجزء الأول من مسلسل «ليالى الحلمية»، لكنها أصبحت «السكر غِلى.. وأنا أحايله بإيه؟»، من كلمات سيد حجاب وألحان ميشيل المصرى، وصولًا إلى الفنان على الحجار، الذى قدمها فى ثوب جديد عام ٢٠١٧، من خلال أغنية حملت نفس الاسم، كلمات رضا أمين وألحان أحمد الحجار.

كما قدم الشيخ إمام أغنيته الشهيرة «الفول واللحمة»، التى سخر فيها من ارتفاع سعر اللحوم، وجاء فيها: «عن موضوع الفول واللحمة صرح مصدر قال مسئول.. إن الطب اتقدم جدًا والدكتور محسن بيقول.. إن الشعب المصرى خصوصًا من مصلحته يقرقش فول.. حيث الفول المصرى عمومًا يجعل من بنى آدم غول».

الجمعيات الاستهلاكية مثلت حلاً مهمًا.. وباعت الملابس بالتقسيط

قال عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، إن المصرى يرضى بالقليل، ولا يدخل فى صراعات، ويؤمن بأن المقسوم مقسوم، ويتملكه صدق نفسى فى الداخل.

وتذكر ما قاله بيرم التونسى، ويعكس حالة الرضا هذه:

قال: إيه مراد ابن آدم؟ قلت له: طقه

قال: إيه يكفى منامه؟ قلت له: شقّه

قال: إيه يعجّل بموته؟ قلت له: زقه

قال: حـد فيها مخلّد؟ قلت له: لأه

قال لى: ما دام ابن آدم بالصفات دى نويت أحفظ صفات ابن آدم كل ما اترقى.

وتطرق إلى عدد من المراحل التاريخية التى مر بها المصريون، بداية من محمد على باشا، الذى افتتح عدة مدارس، كان من بينها مدرسة «الصناعات الزخرفية»، التى لا تزال موجودة إلى الآن فى بولاق، حيث جمّع الصبية من الحوارى والورش، ليتعلموا أصول الصنعة، مشددًا على أن «الشعب المصرى عندما يتعلم الصنعة يعمل على كفاية نفسه، ويتغلب على الظروف الاقتصادية ويخلق البدائل، ولا يريد إلا أن تكون الأمور البسيطة متاحة».

وأضاف، لـ«الدستور»: «كان الاقتصاد المصرى فى سيادة الدولة، منذ تأميم الشركات الأجنبية عام ١٩٥٧، ثم تأميم رأس المال المصرى عام ١٩٦١، ليبدأ دور الدولة فى القطاع العام، وتتحول إلى تعيين خريجى الجامعات وحملة الدبلومات المتوسطة فى ١٩٦٢، لأن وقتها كان هناك ١٠ آلاف من خريجى الجامعات لا يعملون، بسبب وجود الاقتصاد فى يد أصحاب رءوس الأموال الذين يسعون لتعيين أعداد أقل.. صاحب رأس المال بدل ما يشغل اتنين، يشغل واحد يهرى بدنه، ومفيش مواعيد عمل».

وواصل: «لذلك قرر الرئيس جمال عبدالناصر تعيين خريجى الجامعات، ولم يكونوا من خريجى كليات الآداب فقط- كما يشاع بين الناس- بل كانوا من خريجى الطب والهندسة أيضًا».

وواصل الحديث عن البدائل التى لجأ إليها المصريون للتغلب على الأحوال الاقتصادية الصعبة، بداية من الأكلات الشعبية، بالإضافة إلى الخضروات التى تغنى الناس حتى زوال الأزمة، وهذا موروث ثقافى لدى المواطن «اللى دايمًا راضى بقليله ورافع شعار: القناعة كنز لا يفنى».

وأضاف أستاذ التاريخ الحديث: «الشعب المصرى لديه دائمًا أمل فى زوال الأزمات الاقتصادية وتحسن الأحوال والظروف، وهو ما كان يحدث بالفعل، خاصة مع تدخلات سليمة من الدولة».

وأوضح أنه مثلًا فى أزمة اللحوم خلال فترة الستينيات، أصدرت الدولة قرارًا بإغلاق الجمعيات الاستهلاكية ومحال الجزارة لمدة ٣ أيام، مضيفًا: «عبدالناصر كان بيقول للناس مش لازم تاكلوا لحمة كل يوم، علشان كده أصدر قرارًا بإغلاق الجمعيات ومحلات الجزارة لمدة ٣ أيام».

وأكمل: «هذه الجمعيات الاستهلاكية التى دشنها الرئيس جمال عبدالناصر مع نشأة القطاع العام بداية من ١٩٦١، كانت توفر السلع الأساسية بأسعار أقل من المنافذ أو المحلات التجارية، وساعدت فى حل الأزمة الاقتصادية والضغوطات التى كان يواجهها المصريون، كما أن بطاقة التموين وفرت سلعًا كالأرز والدقيق».

واستمرت الجمعيات فى مساندة المواطنين وتخفيف وطأة المعاناة الاقتصادية عليهم، وكانت تفتح أبوابها فى المناسبات والأعياد لطرح الملابس الجاهزة بالتقسيط، دون مقدم أو فوائد، بالإضافة إلى توزيع الإعانات المالية والعينية على نزلاء دور الأيتام والمسنين، وتنظيم رحلات لطلاب الجامعات.

ونشرت جريدة «الأهرام» عام ١٩٨٨ أن الجمعيات الاستهلاكية فى جميع المحافظات وفرت كل الملابس بالتقسيط، وجاء فى التقرير أن «محافظ سوهاج منح أربعين جنيهًا للعاملين بديوان المحافظة، ووضع خمسين جنيهًا فى دفتر توفير كل يتيم فى مؤسسة البنين وجمعية تحسين الصحة».

ونوه «الدسوقى» إلى أن رواتب المواطن وقتها كانت فى حدود كفاية معيشته، لافتًا إلى أنه شخصيًا تخرج عام ١٩٦١، وعُين بعدها بعام واحد، وكان يحصل على راتب ٢٢ جنيهًا، مثَّلوا وقتها «ثروة» مكنته من تكوين أسرة.

وأضاف: «سعر تذكرة الأتوبيس كانت بقرش صاغ، وكان الكمسرى عندما يسأل عن فكة جنيه، ينظر الركاب لبعضهم بعضًا، إيه ده مين ده اللى معاه جنيه، راكب معانا ليه؟.. كنت قاعد فى المكتب شاى وقهوة بقرشين صاغ، أى كيلو فاكهة بتلاتة صاغ، ما عدا المانجة كانت بخمسة عشر قرشًا».

الأمثال تهوِّن الوضع: «حبة فول حراتى تخلى الأكلة ذواتى»

لم يقتصر الأمر على الغناء والسينما، ولجأ المصريون إلى العديد من «الابتكارات» للتحايل على الأزمات الاقتصادية التى يمرون بها، وفقًا للدكتورة سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس.

وقالت أستاذة علم الاجتماع: «المصرى دائمًا ما يتحايل على الأزمات الاقتصادية الصعبة.. مفيش بصل مثلًا، الناس تجيب بصل أخضر ويحطوه مع الخضار.. مفيش عيش، الناس تقسم على نفسهم لقمة العيش، وهكذا».

وأضافت: «خلال الفترة من نكسة ١٩٦٧ حتى انتصار أكتوبر ١٩٧٣، لم يكن هناك ارتفاع فى نسب الجريمة إطلاقًا، رغم الظروف الصعبة آنذاك»، مستشهدة بصحيفة «أخبار اليوم»، التى ذكرت أن «جرائم النشل اليومية خلال الحرب سجلت انخفاضًا مذهلًا يزيد على ٤٥٪»، إلى جانب «تراجع أرقام جنايات السرقة الكبرى».

كما أن سائقى المواصلات فى بورسعيد، وقت قصف المحافظة، كانوا ينقلون الناس بدون مقابل، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة وحاجتهم للمال.

وأرجعت ذلك إلى الروح الوطنية التى كان يعليها الجميع ويقدمها على كل شىء آنذاك، بجانب دور الإعلام الذى كان يحرض على الوطنية، سواء فى البرامج الدينية أو المخصصة للأطفال والعائلات، وصولًا إلى الأعمال الدرامية.

وتذكرت أستاذة علم الاجتماع الأمثال الشعبية التى استند إليها المصريون فى مواجهتهم للأزمات، مثل: «حتة جبنة قديمة تخلى الأكلة عظيمة»، و«حبة فول حراتى تخلى الأكلة ذواتى»، و«الأكلة الهنية تكفى مية».

اهتمام سينمائى خاص بالفقراء.. والموظفون حاضرون دائمًا

مثل الغناء، تعرضت السينما المصرية للأزمات الاقتصادية التى واجهها المواطن، عبر العديد من الأفلام الخالدة فى الذاكرة، من بينها فيلم: «الموظفون فى الأرض»، من بطولة وحش الشاشة فريد شوقى.

وجسد الفنان فريد شوقى فى هذا الفيلم شخصية «كامل عبدالشكور»، المدير الذى تُعرض عليه رشوة فيرفضها رغم حاجته للمال، ويلجأ للعمل فى التسول لاستكمال الإنفاق على أسرته.

وفى عدة ندوات، ناقشت مجلة «الكواكب» ما بين عامى ١٩٣٥ و١٩٧٠، ما يعرف بـ«سينما الفقر والفقراء»، وكانت ترى أن «السينما المصرية تغرق فى قصص الفقراء وتحاول جلب التعاطف، لكنها لا تقدم حلولًا أو أفكارًا مبتكرة اقتصاديًا للخروج من الأزمات المالية».

وقالت الناقدة الفنية خيرية البشلاوى إن الأفلام السينمائية التى تعرضت للأزمات الاقتصادية ومجابهة المصريين للفقر عديدة ومهمة، مثل: «بداية ونهاية» و«الحرام» و«لا تشرق الشمس» و«دعاء الكروان»، وغيرها، مشيرة إلى أن غالبية أفلام صلاح أبوسيف وبركات ويوسف شاهين دارت حول هذه النقطة.

وأبدت إعجابها الكبير بالأعمال الدرامية التى كتبها فى هذا السياق السيناريست الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة، لفهمه ووعيه بتضاريس الشخصية المصرية وتطور المجتمع، بجانب الأدباء الذين تم نقل أعمالهم إلى السينما، مثل يوسف إدريس ويوسف السباعى، مضيفة: «أفلامهم جميعًا أثرت فى الناس، ولعبت دورًا مهمًا للغاية».

ورأت أن الأعمال السينمائية التى تتعرض للأزمات الاقتصادية مطلوبة، لأنها تؤدى دورًا مهمًا للغاية فى تزكية الوعى وإثرائه، وفهم المواطن لسياق المجتمع الذى يعيش فيه، لكن الأهم من كل ذلك، لا بد أن تكون هذه الأعمال صادقة.

وشددت «البشلاوى» على أن «المصداقية هى التى توصل الرسالة للمتلقى وتؤثر فيه، والأعمال الصادقة تحتاج لكاتب منتمٍ ومهموم بمشكلات وقضايا الشعب، وهؤلاء الكتاب الذين يتوجهون بهذه الأفكار للسينما أو الدراما ليسوا كثيرين، بالإضافة إلى المنتج الذى يستعد للإنفاق على مشكلات الفقر والأزمات الاقتصادية، وهو الآخر ليس متوفرًا بكثرة». ونبهت إلى ضرورة أن يكون المؤلف الذى يتناول هذه القضايا لديه المعرفة والإدراك الكافى لتضاريس الأسرة المصرية وتطورها وهمومها، معتبرة أن الكاتب المهم هو الذى يدرك الأبعاد النفسية والاجتماعية للفرد المصرى.

 

 

تاريخ الخبر: 2022-05-09 21:21:17
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 55%

آخر الأخبار حول العالم

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:11
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 68%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:25:52
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 52%

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:17
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:00
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 69%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية