تعبنا من الأخبار


فى وقت اشتداد أزمة «كورونا»، ساد حديث بين زملاء كثيرين -يعملون فى وسائل إعلام محلية وإقليمية ودولية مختلفة- مفاده أنهم باتوا يعملون صحفيين فى «نشرات (كورونا)»، فى محاولة للتدليل على التزامهم بتقديم كم هائل من المحتوى الذى يتعلق بالجائحة، واضطرارهم إلى تغييب كثير من الأولويات الإخبارية الأخرى، لإفساح المجال للتركيز على القضية التى ملأت الدنيا وشغلت الناس.

وفى الأسابيع الأخيرة، تلقيت شكاوى كثيرة من زملاء يعملون فى قطاعات الترفيه والمنوعات، لأن حجم أعمالهم قلّ بشدة، واضطر بعضهم إلى تغيير مجال اختصاصه، فى محاولة للحاق بركب التغطية السائدة والمُهيمنة لوقائع الحرب الروسية - الأوكرانية وتداعياتها، التى تؤثر فى المصالح المحلية والدولية تأثيراً كبيراً ومتصاعداً.

وحينما دققت النظر فى الخرائط البرامجية لكثير من المحطات وبعض وسائل الإعلام المقروءة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، أمكننى، عبر الملاحظة المجردة، أن أرصد ميلاً إلى التوسّع فى مساحات التغطيات الإخبارية الجادة على حساب غيرها من الاهتمامات.

سيمكن القول إن هذا الاعتبار خاص بالعاملين فى المهنة، وإنه لا يمثل مشكلة عامة، وإن التوسّع فى تغطية جائحة كونية تؤثر فى حياة الناس وصحتهم ومصالحهم الحيوية أمر ضرورى ومطلوب. واستناداً إلى ذلك فإنه لا يصح أن نشكو من قلة الاهتمام بالأولويات الترفيهية والثقافية والمتنوعة، لأن الجمهور يريد فى هذه الآونة أن يركز على معرفة التطورات الخاصة بالجائحة.

وعندما اندلعت الحرب الروسية - الأوكرانية كان العالم منتبهاً تماماً لخطورتها وتأثيراتها الحادة التى لن تقتصر على البلدين المتحاربين وإنما ستمتد لتشمل بلداناً فى قلب العالم وأطرافه وعلى بُعد عشرات آلاف الأميال من موقع الحدث.

وبالفعل، فقد تغيرت الخرائط البرامجية، وأُعيد تخصيص الصفحات، وتم تركيز جهود فرق التحرير على جمع الأخبار وإنتاج التحليلات والآراء المعنية بمعالجة شئون الحرب، وما نجم عنها لاحقاً من أخبار تتعلق بأزمات الغذاء، والعطب فى سلاسل التوريد، والصعوبات المالية الخانقة التى ضربت دولاً كثيرة، فضلاً عن الارتفاع المطرد بمعدلات التضخم فى معظم مناطق العالم.

لكن فى غمرة هذا الاندفاع المحموم نحو مواكبة الأحداث السلبية الضخمة المتمثلة فى الجائحة، والحرب، والأزمة الاقتصادية العالمية، فات كثيرين النظر إلى الجانب الآخر من المسألة؛ أى الجانب المتعلق بمتلقى هذا المحتوى السلبى المكثف والمُغرق فى السوداوية والتشاؤم فى كثير من الأحيان.. الجمهور.

من بين أهم الانحيازات البنيوية فى العمل الإعلامى انحياز «الأخبار السيئة»؛ فرغم أن آليات انتقاء الأخبار التى يتم تقديمها للجمهور تحظى باهتمام أكاديمى كبير، وأن معظم الأدلة الإرشادية للمؤسسات الإخبارية تنطوى على نصائح تخص الاختيار المتنوع والمتوازن للأخبار لمقابلة اهتمامات الجمهور المتنوعة بدورها، فإن الانحياز للأخبار السلبية يظل دوماً عاملاً يصعب تجنّبه فى بيئات العمل الإعلامى.

ومن ذلك أن وصول طائرة إلى أرض المطار فى موعدها المقرر بأمان لا يمثل قيمة إخبارية عادة، بينما تتصاعد تلك القيمة فى حال تأخرت تلك الطائرة، أو خُطفت، أو انفجرت فى السماء، لتصل إلى أقصى درجة أهمية ممكنة.

لكن التعرّض المستمر والمكثف للأخبار السيئة من جهة أخرى له أضرار كثيرة، وعلى رأس تلك الأضرار ما يتعلق بإصابة قطاعات من الجمهور بخلل تم تشخيصه بوصفه «تعب الأخبار» News Fatigue، حيث يُصاب الجمهور بالإحباط واليأس، وتهيمن نزعة سوداوية على مزاجه، فينصرف عن متابعة الأخبار عموماً، أو يلجأ فقط للتزود بالأخبار المُسلية والخفيفة.

وببساطة شديدة، فإن «تعب الأخبار» هو حالة تصيب الفرد والجماعة جراء التعرّض المتكرر لسيل من الأخبار والمعالجات الإعلامية لظاهرة سلبية، بما يؤثر تأثيراً ضاراً فى الصحة النفسية، وفى الاتجاهات الوجدانية، ويعزّز حالة التوتر وعدم اليقين، ويُفقد الجمهور القدرة على اتخاذ القرارات السليمة.

ويبدو أن العالم يمر الآن بحالة «تعب أخبار» عامة، حيث لا يجد الناس بين السيل المنهمر من المعالجات الإخبارية التى تصلهم غير الأنباء عن الموت، أو الإجراءات الاحترازية، أو التحذيرات الصحية، أو الحرب المشتعلة، أو غلاء الأسعار، أو شح الغذاء، أو الأزمات المعيشية، أو تعطل الإمدادات السلعية.

وفى الأسبوع الماضى، صدر تقرير عن معهد «رويترز» للأخبار يفيد بأن نحو 38% من إجمالى عينة تبلغ أكثر من 93 ألف شخص فى 46 دولة، أفادوا بأنهم باتوا يتجنّبون التزود بالأخبار، رغم أنهم يطالعون وسائل الإعلام بانتظام.

يعنى هذا أن أربعة من كل عشرة أشخاص على المستوى العالمى باتوا عازفين عن مطالعة الأخبار المتعلقة بالأحداث الجادة، لأنهم أضحوا فى حالة نفسية سيئة جراء كثافة ما يتعرّضون له من أنباء سلبية.

لم يكن «تعب الأخبار» ظاهرة مفاجئة على العالم؛ إذ ظلت نسبة من الجمهور العالمى تتجنّب الأخبار السلبية طوال الوقت، لكن هذا التعب زاد بصورة حادة فى السنة الأخيرة، حيث لم يكن يتجاوز نسبة 29% على الأكثر قبل خمس سنوات.

وقد فسر لى تقرير معهد «رويترز» الأخير ما أمسيت أسمعه بانتظام من بعض أفراد الجمهور والنخب أخيراً من أنهم «غير متابعين» للتطورات السياسية المتلاحقة، فى مقابل انصرافهم لمتابعة شئون ترفيهية أو ثانوية.

من المهم أن تعالج وسائل الإعلام اهتمامات الناس، وأن تبلغهم بالتطورات السلبية والخطيرة، لكن الإفراط فى ذلك سيقود إلى «تعب الأخبار»، الذى يمكن أن يؤدى إلى الانصراف عنها.

نقلاً عن "الوطن"

تاريخ الخبر: 2022-06-20 18:18:46
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 93%
الأهمية: 86%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية