«قارئة القطار».. قراءة في رواية إبراهيم فرغلي

الإنسان عبارة عن حكاية متمثلة في مجموعة من المشاهد والصور والمواقف المحفوظة في الذاكرة، فإذا تم تجريد الإنسان من هذه الذاكرة، وهو على قيد الحياة، ربما يكون في ذلك ضياعًا له، لأنه سيلمس التيه والفراغ والعدم، وستكون حياته وواقعه مجرد وهم، وإذا مات هذا الإنسان ربما تكون حكايته هي شكل آخر من أشكال البقاء.

رواية "قارئة القطار" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية لمؤلفها إبراهيم فرغلي، يعيد الكاتب توجيه رسائله إلى إنسان ليس فقط في خيال المؤلف ولكن قد لا يكون له وجود أساسًا، ولكنها أسئلة تحيط وتخص صميم الواقع.

بطل الرواية يركب قطار، قطار لا يتوقف ولا يعرف أحد ما هي وجهته، ربما قطار الحياة، يركب البطل هذا القطار مضطربًا ومشوش، كأنه مولود جديد إلى العالم أو الحياة، ومن ثم يبدأ في إدراك ما حوله، ولكنه يبتسم لفكرة أنه أضاع نفسه في قطار لا يعرف وجهته.

يتعرف بطل الرواية على قارئة القطار، تلك الفتاة التي ستبعث كل الأسئلة والمتناقضات التي تنبعث ليس فقط من حكاية البطل أو منها هي بل من القطر والحياة، فهي كفيفة ولكنها تقرأ بالبصيرة، تقرأ ترى ما خلف السطور والحياة والكون، وكل ما لا يستطيع هو أن يقرأه، وترى ما لا يراه هو، في هذا التناقض إعادة لتعريف المعاني، تأمل الفوارق بين ما نظنه أصيل وما نظنه مضاد ومغاير، العري والستر، النور والظلام، العجز والقدرة، تبقى قارئة القطار بالنسبة للبطل، مبددة للمخاوف، من العزلة التي ساوره الإحساس بها، وربما تمثل قارئة القطار حقيقة وسط عالم الرواية المليء بالشك والحيرة، ولذلك كان يجب أن تكون الحقيقة عارية واضحة، تستهزئ بزيف البشر وتناقضهم وسترهم للحقيقة خلف الأغطية الممثلة في الملابس.

"الحقائق دائمًا لها أثر مغاير للوهم، كن واقعيًا أو تشبث بالوهم، هذا شأنك في كل الأحوال". 

قارئة القطار هنا تحاول عرض الحقيقة التي يخشاها البطل، تحاول دفع الوهم والزيف عنه، ولكن ما يريد البطل أن يعرفه وما يبحث عنه هو أداة النجاة التي ستخرجه من هذه الملهاة التي دخلها، يريد لمس الحقيقة لا لينجو بل ربما ليتأكد من إنه ميت، فتنبهه قارئة القطار أن القطر سيظل يطرق القضبان للأبد، وإنها لا تملك سوى القراءة، فهي الكفيلة بأن تجعل القطار يواصل المسير.

"لقد غدت صناعة الأوهام، واحدة من أكثر الأعمال ربحًا في عالمنا المقيد بحواسه المحدودة، وتحميها ما تربته العقول، الفارغة لأصحابها بسبب إمكاناتها المحدودة. الوهم قوة يستمد بها البشر قدراتهم على تدمير حياتهم باستمرار".

ربما هذا المقطع من الرواية يمكن أن يلخص لنا جوهر السردية وما خلف النص الذي يقدمه الروائي، هو البحث عن الحقيقة والمعرفة وسط جبال الوهم الموجودة في الحياة أو في القطار الذي يسير نحو الأزل، البحث عن إجابات لا وجود لها لأسئلة مفترضة، إجابات يطرحها شخص سلبي خامل، لا يملك من أمره شيء، مكبل بالوهم، أمام أنثى ظاهرها العجز وباطنها القدرة.

نعود إلى نقطة الذاكرة التي فقدها البطل، لدرجة جعلته لا يستطيع تذكر اسمه، ولكن قارئة القطار ترى أن هناك كثير من البشر "يتمنون أن تمسح ذاكرتهم تمامًا لكي ينسوا ما ارتكبوه من حماقات، أو ما مورس ضدهم من دناءات البشر وخستهم".

ولكنها ستخبره بكل شيء، ستحكي له قصته الحقيقية التي فقدها والتي فيها ذاته، بالرغم من عدم وجود شيء يؤكد حقيقة هذه الحكاية التي ترويها فتاة القطار إلا أن القارئ الذي هو بدوره بطل الرواية لا يستطيع سوى الإنصات للحكاية، التي ربما يكون الهدف منها استبدال الحقيقة الخيالية المصطنعة بالحقيقة الواقعية، في عملية إفناء وربما إعادة إحياء لذاكرة مفقودة.

هناك محمود الوهم اسم البطل، وهناك أحداث تموج على الساحة الاجتماعية والسياسية عاشها البطل الذي لا وجود لأي إثبات على حياته، أحداث أغلبها يلقي بظلاله على واقعنا المعاصر، ربما يكون صاحبها ميت، لأنه معاصر لفترة الثورة العرابية، وفي هذا غياب للزمن داخل الحكاية، التي تتحرر من الجغرافيا والزمان، فأنت هنا أمام رواية بطلها ربما يكون الوهم ذاته، رواية لا تنطلق من التصور الماركسي للأدب، ولكنها تحاول خلق طبقة اجتماعية وخلفية سياسية للنص، وفي هذا التجريب بُعد عن الأشكال الأجناسية المتداولة في واقع الرواية العربية، ولكن ربما لو كانت الجمل داخل الرواية والسرد أقل مما هي عليه تحديدًا في الأقسام التي يتعرف فيها البطل على حقيقته ويلمس حكايته، ربما ستكون الرواية في شكل أفضل ويعطيها رونق وإبداع إضافي للإبداع الموجود بداخلها من خيال جامح وإسقاط إنساني عام.

هي رواية للإنسان وأسئلته، رواية عن الحقيقي والمتخيل، الزيف والواقع وكل الثنائيات والمتناقضات التي يحتويها قطر الحياة..

"في الحلم، يعيش الوهم حراً، يتشبه بالحقائق. أما الحلم نفسه فيمضي في مسارات خفية في مدينة العقل الشاسعة، يتلمس دروبه بين آلاتها الجبارة".

56487117._SY475_
تاريخ الخبر: 2022-07-01 00:21:18
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال الـ 24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 00:26:34
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 61%

مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال الـ 24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 00:26:28
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 53%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية