كعب عالى
كعب عالى
خمسة عشر عامًا منذ كنا صغارًا نلعب سويًا، واليوم ألقاه، ابتسمت حين تذكرت حبه الذى صرح به فى آخر لقاء لطفولتنا والذى هربت منه لصغرنا، لكننى لم أعد تلك الطفلة التى كان لزامًا عليها الهروب من الحب احترامًا للحرام والعيب. اخترت ثيابى بعناية، وتحيرت فى اختيار الحذاء المناسب، تتأرجح رغبتى بين حذاءين يشبهان بعضهما إلى حد ما لكن لونيهما أكسبا كل زوج منهما شخصية مختلفة عن الآخرين، قلبى يجذبنى للزوج الأحمر الذى يكمل فتنة أنوثتى، ويشجع صديق طفولتى الذى أصبح شابًا مفتول العضلات أن يطلب يدى، وعقلى يقنعنى بارتداء الزوج الأسود الذى يتخلله بعض الفتحات فتجعله أكثر أريحية، كما أنه يوحى بالتحكم فى عنان الأمور، والتريث، وشىء من الغموض الذى يحفز الصياد بداخل الرجل. حرب بين الرغبة فى الجموح خلف الحب الذى حرمته على نفسى منذ صغرى، وبين الثبات والانتظار والتعقل، وقد أغرتنى صديقتى المقربة وحُسم الأمر لصالح الزوج الأحمر. يؤلم قليلًا، ليس مريحًا كالأسود لكننا سنجلس ولن نسير كثيرًا. أكسبنى مظهرى الأنيق الكثير من الثقة التى أفتقدها فى بعض الأحيان. تنبض قدمى وتنزلق لمقدمة الحذاء الضيقة فأعاتب نفسى على اختيارى، ثم ما ألبث أن أتنفس بعمق وأنسى ألمى البسيط، ولكنه صار لا يحتمل حين دهسه فارس بقدمه العملاقة وحذائه الشتوى اليابس، منعت نفسى بصعوبة من التأوه أو إظهار الألم لئلا أحرجه أكثر لكن قدمى ظلت تنبض من الألم إلى أن وصلنا للمطعم الذى لم أنتبه من قبل إلى أن أرضيته ملساء لهذا الحد تحت حذائى، وحمدت الله أن الموسيقى قللت من صوت طرقات الكعب على الرخام الناعم. فنحن النساء ترهقنا التفاصيل، نظن أن الرجال حين ينظرون لنا يلمحون هذا الفارق الدقيق بين درجات الألوان، وهذا الظافر الذى انكسر أعلاه فبدا أقل طولًا من الآخرين، مجرد ضغوط وتشابكات لعشرات التفاصيل، نظن أن الرجال ينظرون بتلك العيون المتفحصة التى نملكها. لكن أكبر إرهاق لنا فى المناسبات الخاصة والحفلات هى مشكلة الأحذية ذات الكعب العالى، وألم الأصابع المحشورة رغمًا عنها فى مقدمتها التى تكون غالبًا مثلثة الشكل فيسحق الإصبع الصغير تمامًا، ولن تجد واحدة منا ليست لديها علامات أغمق لونًا من باقى قدمها على جانب هذا الأصبع خاصة، ولكننا نرى أن لكل شىء ثمنًا، وثمن أناقة الأحذية ألم القدم، وتناثر الفقاقيع المحرقة عليها.
