مشاهدات فى بلاد العم سام 3| «كولورادو».. أرض الآلهة والسكان الأصليين و«حفرة الأرنب»

«مرحبًا بكم فى دنفر عاصمة كولورادو».. عبارة معلقة أمام المطار مثل أى مدينة فى العالم ترحب بالزائرين. لكنها لم تكن وجهتنا فى هذه الولاية، ولكن نظرًا لعدم وجود رحلات مباشرة من أتلانتا إلى مدينة كولورادو سبرينجس كان علينا أولًا المرور من هنا، ثم استقلال الحافلة التى تلقينا فيها أول الإرشادات بشأن المدينة الجديدة: عليكم تناول الماء بكثرة لأننا على ارتفاع ٢٠٠٠ متر من سطح البحر، وهذا مهم للتوازن والصحة.

بدا الطريق طويلًا جدًا مع المدينة التى تتأخر ساعتين فى التوقيت عن أتلانتا وواشنطن، و٨ ساعات عن القاهرة، وبدت الطرقات والمنازل المنتشرة على جانبيها مألوفة للعين، لأنها تشبه إلى حد كبير أجواء ومناظر عالم «بريكينج باد» الشهير، وهايزنبرج الذى تحول من مدرس كيمياء فقير، إلى أكبر مصنع وتاجر مخدرات فى الغرب والجنوب الأمريكى.

تنام مدينة كولورادو سبرينجس، أرض الآلهة، والسكان الأصليين الذين لم يسمح الوقت بلقائهم، فى حضن جبل أخضر وغابات كثيفة، وطبيعة صحراوية زادتها الأمطار المتواصلة جمالًا أثر على سكانها الذين يبتسمون طوال الوقت، ويرحبون بالضيوف، عكس ما يقال إن أهلها يتسمون بالعنصرية.. بل الأغرب من ذلك أننى وجدت لأول مرة، على الأراضى الأمريكية فى الشوارع الجميلة، من يلقون تحية الصباح ويتمنون لك يومًا سعيدًا، وهو ما فسرته لى عجوز يابانية تعمل فى مركز تجارى كبير بقولها، إن الناس هنا سعداء، ولهذا تجدهم يتعاملون بلطف مع الجميع.

كانت المدينة تبتسم وترحب بالناس، الألوان الزاهية، والمنازل المزينة بالجرافيتى، والورود المنتشرة فى كل مكان تشعرك أنك فى الجنة، حتى فى أيام الحر الشديد الذى غيّر لون جلدى، سرعان ما تبتسم لك كولورادو فتتجمع السحب التى تحجب حرارة الشمس، ثم تتنزل عليك زخات المطر الرشيقة، ويعود الجو إلى الصفاء، وتبدأ نسمات الهواء البارد فى معانقة لحيتك أسفل الكمامة الطبية الواقية من كورونا.

كالعادة كانت أزمتى مع الطعام، حتى فى مطاعم الأسماك، لم يكن هناك طعم ولا رائحة لما يأكله الناس، وتضاعفت معاناتى مع الجوع، غير أننى فى كولورادو سبرينجس، عثرت أخيرًا على مطعم يتفهم حاجة شخص قادم من بلاد تُقدس الطعام وتتفنن فيه.. طلبت شريحة من السمك المشوى، على أن يتم تقليبها على النار لنصف ساعة، وكانت النتيجة مذهلة، فلأول مرة يعجبنى طعام الأمريكان، لكن وبسبب عدم اعتيادى تناول الأسماك بكثرة مللت سريعًا هذا المطعم.

البيتزا هى الحل

كنت أستقل سيارة الأجرة لعشرين دقيقة للوصول إلى مركز تجارى على أطراف المدينة لتناول البيتزا من المطعم المكسيكى الذى ظن صاحبه فى البداية أننى قادم من مدريد، وظل يتحدث باللغة الإسبانية وأنا أبتسم إلى أن أنهى حديثه، فقلت له: «no Spanish».. ودخلنا فى وصلة من الضحك، تخللتها إشارته إلى الشبه الشديد بينى وبين بطل المسلسل الإسبانى الشهير لا كاسا دى بابل، البروفيسور سيرخيو ماركينا، وطلب من العاملين فى المطعم أن يأتوا ليسلموا على البروفيسور ويقدموا له أشهى بيتزا فى المكان.

بدأت الجولات الرسمية بزيارة مركز حكومى متخصص فى العلاج الترفيهى، كانت الجملة غريبة، لكن بعد شرح القائمين على المركز عرفت أنهم ينظمون الأنشطة للأشخاص الذين يعانون من إعاقات وكبار السن، يقدمون خلالها الدعم النفسى لهؤلاء عبر دمجهم فى أنشطة رياضية وترفيهية، وكذلك عبر فصول التعليم الدامج بين الأطفال المعاقين وغير المعاقين، وبعد التقديم الطويل، والجولة التفقدية بالمركز، مارسنا نشاطًا غاية فى الصعوبة، وهو ارتداء قفاز طبى بعد حشو أطراف الأصابع بالقطن، والإمساك بخيط وإدخاله فى الخرز، لمعرفة كيف يعانى الأشخاص المصابون بمشاكل عصبية فى الأطراف، وهى من الإعاقات غير الظاهرة.

كل شىء جميل فى كولورادو، كان منظر الشمس وهى تطل من خلف الجبل فى الصباح لتعلن عن بدء يوم جديد خلابًا. من شرفتى بالطابق التاسع فى الفندق المطل على كنيسة سانت فاتيما والجبل، جلست أراقبها على مدار أيام.. تشبه شمس كولورادو فى تصرفاتها الأم الحنون، تطلع ساخنة، تعذبنا، تلفحنا بلهيبها، وحين ينتصف النهار تختبئ خلف الغيوم المتراكمة، تمنحنا فرصة للتسكع فى النهار دون أن نضطر للركض إلى مكان ظليل، ثم تودعنا فى آخر اليوم لتضىء مكانًا آخر على الكوكب.

حفرة الأرنب

هنا اضطررت لتناول الطعام فى «حفرة الأرنب»، كانت الساعة ١٠ مساءً، وكل المتاجر والمطاعم مغلقة.. أرشدنى جوجل إلى هذه الحفرة، مشيت وراء تطبيق الخرائط رفقة صديقى الجزائرى، بعد أن صار تواصلنا بالعربية الفصحى، كما لو أننا خرجنا للتو من فيلم رسوم متحركة قديم، صرنا نلف وندور لنجد الحفرة دون جدوى، فاستعنا برواد إحدى الحانات، وقد جلسوا فى الخارج يدخنون، فأرشدونا إلى باب يشبه كابينة التليفونات القديمة.

خلف ذلك الباب العجيب الذى يحتل منتصف رصيف المشاة نزلنا الدرج كأننا نختبئ من غارة نازية تضرب المدينة، واكتشفنا عالمًا آخر تحت الأرض، أكثر ما يميزه، صخب الحضور، وجمال النادلة المنحدرة من أصل لاتينى، وصور الأرانب التى تغطى جميع حوائط المطعم الذى يقدم المشروبات الروحية أيضًا.. كان الاكتشاف عظيمًا والطعام لذيذًا، والتواصل كأننا فى فيلم كارتون مضحك، وظللنا نحكى طوال الرحلة عن مغامرتنا، وكيف استطعنا إيجاد الطعام فى حفرة الأرنب!

وفى طريق العودة كانت المنشورات المزينة بألوان الطيف تغزو شوارع المدينة؛ للإعلان عن وقفة ينظمها أفراد مجتمع الميم احتفالًا بيوم الفخر الذى يحيونه كل عام فى المدينة.. لم أكترث، لكن صبيحة اليوم التالى رأينا المحال التجارية ترفع الأعلام، وألوان الطيف تخطف الأبصار فى كل جنبات البلدة الهادئة الجميلة، حتى إننى رأيت أحد رواد المطعم الكبير يُلبس كلبه طوقًا يحمل الألوان.

لفتت المبالغة نظرى، وتساءلت، هل المدينة كلها هكذا؟ ولكننى عرفت أن سكان كولورادو يتمتعون بثقافة المناصرة، إذا كان الفلاحون أو العمال أو الطلبة ينظمون حدثًا فإن المدينة تناصرهم، وإذا كان أصحاب الميول الجنسية المغايرة يفعلون ذلك، فالمدينة أيضًا تفعل نفس الشىء، حتى إنهم يهنئون بعضهم بعضًا بهذا اليوم، كأنه عيد أو مناسبة وطنية.

فى مطعم الدجاج المقلى استقبلنا شاب يشبه إحدى شخصيات سلسلة الأفلام الشهيرة «هارى بوتر»، ولأن الجميع هنا يمزحون تبادلنا إطلاق التعويذات، وأبرزها «إكسبكتو باترونام». سألنى كريس عن اسمى فقلت «Solomon»، مثل الملك سليمان من الكتاب المقدس، وليس سمكة السلامون، تبادلنا الضحكات وأحضر أطيب ما لديه من دبابيس الدجاج مع كثير من الجزر الذى أحبه، ما دفعنى لتناول الطعام عنده لـ٣ أيام متتالية.

كان التقاط الصور والاستمتاع بيومى السبت والأحد الخاليين من الالتزامات الرسمية سمة جميلة فى كولورادو، ولم يكن البرنامج اليومى مزدحمًا باللقاءات والاجتماعات، ما منحنى وقتًا أكبر للاستكشاف والتسكع مع الرفاق أو منفردًا.. هنا قابلت ضابطًا عائدًا من أفغانستان مبتهجًا بوجوده فى وطنه أخيرًا، وشابًا جاء من تكساس لا يعرف من لهجات العرب إلا كلمة «لاباس»، أجريت تحقيقى واستجوبته إلى أن قدم الاعتراف بأنه يحب فتاة من تونس، وموعد زفافهما فى سبتمبر المقبل.

أخبرت جميع العرب، وقدمنا له التهنئة، باعتباره صهرنا، واندمجت معه، حتى إننى اخترت له اسمًا عربيًا، هو «الحبيب» تيمنًا بالزعيم التونسى الراحل الحبيب بورقيبة، وهو ما حاز إعجاب خطيبته، نظرًا لتاريخ بورقيبة فى دعم حقوق المرأة التونسية، فى التعليم والعمل وأن تكون مؤثرة فى مجتمعها وخارجه، وتتعلم الفنون والآداب واللغات التى تمكنها من التواصل مع شخص فى أقصى العالم وتتزوجه!

العيش المستقل

هنا يعلمون الأشخاص ذوى الإعاقة العيش المستقل، وهى مهمة يضطلع بها مركز يحمل اسم الاستقلالية، كامتداد لمسيرة قادة حركة حقوق المعاقين فى الولايات المتحدة التى ازدهرت فى ستينيات القرن الماضى، والذى شهد أغلب الحركات السياسية فى كل القارات.. ففيه من قادوا نضالًا ضد التمييز أو الاستعمار أو التبعية، وتركزت حركة استقلال المعاقين على العيش المستقل دون الحاجة إلى الأهل أو مؤسسات الرعاية.

يقدم مركز الاستقلالية خدماته لكل من يعانى إعاقة، بغض النظر عن نوعها، بدءًا من مساعدته على الحصول على تعليم جيد، والاستفادة من الخدمات التى تقدمها الحكومة للأشخاص ذوى الإعاقة، وحتى الحصول على فرص وظيفية، ثم تعليم الشخص المعاق الاعتماد على نفسه، والعيش بعيدًا عن الأسرة، فضلًا عن المشاركة السياسية والمشاركة فى الحياة العامة، والتصويت فى الانتخابات، وضمان أفضل السبل الميسرة لقيام الشخص بالتصويت فى المواسم الانتخابية.

دار حوار كبير بيننا وبين العاملين فى المركز خلال العرض التقديمى لتاريخه وإنجازاته ومجالات عمله، وانفتاحه على الشراكة معنا بعد العودة إلى مجتمعاتنا المحلية، فيما عجز الجميع عن إجابة سؤالى البسيط والمعقد فى آنٍ واحد: كيف يمكننا ضمان عدم استغلال الأشخاص المعاقين ذهنيًا، وخداعهم، ودفعهم للتصويت فى اتجاهات معينة؟ وكيف نعلم إذا ما كان الشخص يتمتع بالإدراك الكافى للعملية الانتخابية؟

كان الصمت هو جواب السؤال، وكانت المكافأة مليون دولار إذا استطعت أنا تقديم إجابة واضحة وكافية وشافية عن هذا السؤال شديد البساطة والتعقيد، حتى إن تأثيره ظل متواصلًا بعد انتهاء النقاش، وجاءنى مدير المركز ليقول إنه أمر معقد جدًا، ويمكن أن يقوم شخص من المقربين للمعاق ذهنيًا بمساعدته فى التصويت، فكانت إجابتى أنه فى هذه الحالة، سيكون التصويت تعبيرًا عن إرادة هذا الشخص المقرب، وليس المعاق نفسه.

حديقة شايان

فى حديقة حيوان شايان تلبستنى البهجة، وأصابنى الحزن فى نفس الوقت، الحيوانات هنا جميلة، وتفرح القلب، والناس يتعاملون معها بلطف شديد، ويحرصون على راحتها بدل إزعاجها، وبعودة قصيرة إلى حديقة حيوان الجيزة التى تخلو من الفيلة وكثير من الحيوانات، مع انتشار الباعة والأغانى الشعبية المزعجة ضربتنى الكآبة على الطريقة التى يتعامل بها رواد حديقتنا مع القردة مثلًا، وإزعاجها والدخول فى شجارات معها.

هنا حصلت على أكبر جرعة من المتعة، وللمرة الأولى أحب مدينة غير القاهرة، أسَرتنى كولورادو بجمالها وهدوئها وروحها المبهجة، تحركنا فى صبيحة أحد الأيام باتجاه حديقة الآلهة فى قلب المناطق الجبلية المكسوة بالخضرة، ظننت فى البداية أننى سأجد آمون وزيوس وعشتار وهُبل، لكننى لم أجد هناك إلا واحدًا فقط، غير مرئى، لكن كل شىء يدل على وجوده وإبداعه، فهذه اللوحة المتناسقة من الألوان البديعة لا يمكن أن تكون قد نشأت على مزاجها، أو هكذا قلت لنفسى.

الجبال حمراء، متعددة الأشكال والألوان، والنباتات خضراء إلى ما لا نهاية، والأشجار جميلة، والأمطار زادت اللوحة بهاءً وجمالًا، والناس جاءوا من كل فج عميق للاستمتاع بالأجواء والمناظر الخلابة، جاء النداء من مسئول التنظيم: هيا إلى مركز الحديقة لشراء الهدايا التذكارية، لكننى كررت الزيارة فى اليوم التالى دون تردد، للتأكد من أن كل هذا الجمال حقيقى، فيوم واحد لم يكن كافيًا.

هنا عرفت أن لـ«الصرصار» أسماءً وألقابًا عديدة، ففيما نتفق على تسميته صرصارًا، أو صرصورًا، يفضل الأشقاء فى المغرب تسميته «سراق الزيت»، وهى عبارة لم نتوقف عن ترديدها طوال الرحلة، حتى إننى ولطفى الجزائرى، أصبحنا نطارد الصراصير فى ليالى كولورادو المزينة بالورود والأشجار المضيئة، وتمكنا فى إحدى الأمسيات الصيفية الرائعة، من القبض على «سراق زيت» يخرج من حانة قريبة منتشيًا!

مع اقتراب مدة البرنامج فى كولورادو من نهايتها، تمنيت لو أنه بدأ وانتهى فى هذه البلدة، حتى إننى حين وصفتها فى أحد اللقاءات الرسمية، قلت: إذا كان متنزه البحيرتين التوأم فى جورجيا قطعة من الجنة، فإن كولورادو هى الجنة التى بشر بها المبشرون، وتحدثت عنها الأديان والكتب المقدسة.

وكما تبدأ الأشياء وتنتهى، كنا على موعد مع مدينة الزحام والضجيج، والتايم سكوير والوول ستريت ونهر هودسون وتمثال الحرية والتاكسى الأصفر والقمامة الملقاة أمام البنايات العالية فى انتظار أن تحملها السيارات فى الصباح.. فى وقت مبكر جدًا، وقبل بزوغ الشمس، حانت لحظة وداع مدينة الآلهة وحفرة الأرنب، إلى نيويورك، المدينة التى لا تنام، لعقد الاجتماع الختامى والعودة إلى القاهرة التى تعذبنى وأحن إليها كلما غبت عنها لأيام، حتى وإن كان سفرى إلى قريتى البعيدة فى صعيد مصر.

تاريخ الخبر: 2022-08-24 21:21:01
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه “البيرييه” من الاسواق

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-30 00:25:39
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 62%

سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-30 00:25:27
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية