في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم.. تذكير بمجالسه النبوية الشريفة


مقدمة

في ذكرى مولده الشريف، التي تذكرنا بمعاني محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيم شخصه الكريم، وبمعاني اتباع سنته واقتفاء أثره، وبمعاني السلوك على منهاجه ونصرة دينه. نعرض في هذه الذكرى المباركة التي تحلّ بنا في هذا الربيع النبوي لجانب مهم من جوانب حياته صلى الله عليه وسلم، ألا وهو مجالسه التي كان صلى الله عليه وسلم يعقدها في يومه مع أصحابه خاصة ومع الناس عامة ممن يزوره أو يفد عليه من الوفود. لنرى كيف كانت صورةُ هذه المجالس النبوية الشريفة، وماذا كان يدور فيها، وما هي أجواؤها الإيمانية والعلمية، الداخلية والقبلية والبعدية.

في الغالب باستقراء السيرة النبوية والأحاديث النبوية كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةُ مجالس رئيسية: مجلس بعد صلاة الفجر، ومجلس معهود في وقت الضحى، ومجالس حسب الغرض والمستجدات في المساء، بعد صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب.

مجلس الصباح

عندما يسطعُ نورُ الفجر، ويصدَع سيدنا بلال رضي الله عنه بآذانه، يوافي ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم نائمًا؛ وقد استراح بدنُه الشريف ساعة السَّحَر بعد سَبْح طويل من قيام الليل. فإذا أَذَّنَ بلالٌ رضي الله عنه استيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتوضأ وصلّى ركعتي الفجر في بيته، ثم أقبل على الناس فصلى بهم الصبح. فإذا أتمَّ صلاته وسلَّم انصرف عن يمينه، وربما انصرف عن يساره، فأول ما يسمعُ منه أصحابُه إذا أقبل عليهم بوجهه قوله: “ربِّ قِني عذابَكَ يومَ تبعثُ عبادَك” . ثم يقول من أدعية الصباح المأثورة عنه ما شاء. وفي أثناء ذلك وبينما هو يفرغ من الصلاة يأتي خَدم المدينة، بأيديهم الأقداح فيها الماء؛ يتبرَّكون بوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده المباركة في آنيتهم، فما يُؤتى بإناء إلا غمس فيه يده، وربما أتوا إليه في اليوم الشديد البرد، فيضع يده في آنيتهم .

بداية المجلس: تتقارب أطراف الصفوف، فيحيط أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به وهو جالس في مصلَّاه، مقبلٌ بوجهه إليهم، فيُسْفِرُ لهم ضوءُ الصباح عن ضياء وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فربما بدأهم بموعظة، ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يكثر عليهم هذه المواعِظ، وإنما كان يتخوَّلهم بها ويتعاهدهم من غير إملال . وقد يتحدَّث إليهم بقصص، فقال يوما وقد أقبل عليهم بعد صلاة الصبح: “بينما رجلٌ يسوقُ بقرةً له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أُخْلق لهذا، ولكني إنما خُلقت للحرث؟!”. فقال الناسُ: سبحان الله -تعجُّبًا وفزعًا-: أبقرةٌ تكلَّم؟! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: “فإني أُومِنُ به وأبو بكر وعمر”. وربما أقبل عليهم إذا اجتمعوا حوله فقال لهم: “هل فيكم مريضٌ نعودُه؟”. فإن قالوا: لا. قال: “هل فيكم جنازة نشهدها؟”. فإن قالوا: لا. قال: “مَن رأى منكم رؤيا، فليَقُصَّها علَّي أَعْبُرها؟”. فيقصُّون عليه رُؤاهم، فيَعْبُرُها لهم، أو يقول لهم ما شاء الله أن يقول. وربما حدَّثهم صلى الله عليه وآله وسلم برؤيا رآها هو، فيقصّها عليهم ويَعْبُرها لهم. وفي هذا المجلس يتحدث الصحابةُ رضي الله عنهم بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيشاركهم الحديثَ والاستماع، فربما تحدَّثوا عن حياتهم في الجاهلية (التعارف المعمّق)، وما كانوا يقعون فيه من أُحمُوقات الجهل التي تَبَدَّى لهم عَوَارُها بعد أَنْ مَنَّ اللهُ عليهم بالإسلام، فإذا ذكروها ضحكوا من جهلهم في الجاهلية، ويتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي كان ضحكه تبسُّمًا، ولا يزال صلى الله عليه وآله وسلم في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء .

بعد المجلس: ثم يقوم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حُجر نسائه، فإذا دخل البيتَ قال: “اللهمَّ إني أسألُكَ خيرَ المَوْلَجِ، وخيرَ المَخْرَجِ، بسم الله وَلَجْنا، وبسم الله خَرَجْنا، وعلى الله ربِّنا توكَّلنا”. وأول شيء يبدأ به إذا دخل بيته السِّواك، يطيِّب به فمه المطيَّب، ويسلِّم على أهله قائلًا: “السلامُ عليكم، كيف أنتم يا أهلَ البيت؟”. ويطوف على نسائه، يدخل على كل واحدة في حُجرتها، يسلِّم عليهنَّ ويدعو لهنَّ، ولا يطيل المكث . فربما دخل على إحداهن وهي في مصلَّاها وخرج وهي على حالها، كما دخل على جُوَيْرِيةَ رضي الله عنها وهي في مصلَّاها تذكر الله، وخرج وهي على حالها من الذكر . وربما سألَ عن الطعام، فقال: “هل عندكم شيء؟”. فإن كان ثمةَ طعام قُرِّب إليه، وغالبًا ما يكون طعامًا خفيفًا، كالتمر والحَيْس والأقِط، أو شرابًا، كاللبن أو النبيذ، ونحو ذلك، وربما سأل، فيقولون: يا رسولَ الله، ما عندنا شيء. فيقول: “إني صائم”.

مجلس الضحى

فإذا أتمّ صلى الله عليه وآله وسلم طوافَه على نسائه عاد إلى المسجد، فإذا دخله صلَّى تحية المسجد عند سارية تسمَّى: سارية المهاجرين، وهي متوسطة في الروضة الشريفة، وكان يتحرَّى الصلاة عندها. ثم يجلس شرقي المسجد في الروضة الشريفة، مستندًا إلى حُجرة عائشة رضي الله عنها، ويجتمع إليه أصحابه، وكان هذا اللقاء معهودًا، بحيث إن مَن أراد النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الوقت، فإنه يأتي إليه في المسجد، وقد يقلُّ الصحابةُ حولَه أو يكثرون، بحسب فراغهم وظروف حيواتهم، فإن كانوا قليلًا تحلَّقوا حوله، وإن كانوا كثيرًا جلسوا سِمَاطَيْن (صفين) عن جَنبَتَيْهِ، حتى يصل إليه الوافد، ويدنو منه السائل . فإذا جلس إلى أصحابه تحدَّث إليهم، وكان أفصحَ خلق الله كلامًا، وأعذبَهم حديثًا، وأبينَهم أداءً، ليس كلامُه هذًّا مسرعًا، ولا بطيئًا متقطِّعًا، وإنما هو فَصْلٌ بَيِّنٌ، لو شاء العادُّ أن يَعُدَّه لأحصاه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: “ما كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَسْرِدُ الحديثَ كسردكم هذا، ولكن كان يتكلَّم بكلام بَيِّنٍ فَصْلٍ، يحفظه مَن جلس إليه” . وغالبًا ما يأخذ حديثُه طابع الحوار المبدوء بالتساؤل: فربما ابتدأهم بالسؤال ليسألوه، كقوله: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟”. قالوا: بلى يا رسولَ الله. قال: “الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، وشهادةُ الزور” .

وربما سألهم ليلفت أبصارهم إلى معنى أعظم من المتبادر لهم، كقوله: “أتدرون مَنِ المُفْلس؟”. قالوا: المُفلسُ فينا مَن لا درهم له ولا متاع. فقال: “إنَّ المُفْلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتمَ هذا، وقذف هذا، وأكلَ مال هذا، وسفكَ دم هذا، وضَرب هذا؛ فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيت حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار” .

وربما استثار أذهانهم بالسؤال ليُجيبوه، كما بدأهم مرة بالسؤال، وقد أُتي إليه بجُمَّار نَخْل، فقال: “أخبروني بشجرة تشبه الرجل المسلم، لا يَتَحَاتُّ ورقُها، تُؤْتِي أُكُلها كل حين؟”. فوقعوا في شجر البَوادي، يَعُدُّونها عليه، وهو يقول في كلٍّ:” لا.. لا”. ووقع في نفس عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وكان عاشر عشرة هو أصغرهم سناًّ- أنها النخلة، فنظر، فإذا في المجلس أبو بكر وعمر، فاستحيى أن يقولها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: “هي النخلة” .

وكان يكرِّر بعض كلامه ثلاثًا؛ ليُعْقَل عنه أو ليبيِّن أهميته، وربما زاد مبالغة في الاهتمام، كقوله وهو يذكر الكبائرَ: “ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور”. فما زال يكرِّرها، حتى قالوا: ليته سكت .

وربما بدأهم بسؤال مفاجئ لينتهي بهم إلى نتيجة مفاجئة، كما بدأهم، قائلًا: “مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟”. ففاجأهم السؤال؛ إذ لم يستعدوا له، ولو عرفوا أنه سيسألهم لصاموا كلهم، فسكتوا جميعًا، وأجاب أبو بكر قائلًا: أنا يا رسولَ الله. فقال: “مَن عاد منكم اليوم مريضًا؟”. فسكتوا، وأجاب أبو بكر قائلًا: أنا يا رسولَ الله. فقال: “مَن تَبعِ منكم اليوم جنازةً؟”. فسكتوا، وقال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله. فقال: “مَن أطعمَ منكم اليوم مسكينًا؟”. فسكتوا، وقال أبو بكر: أنا يا رسولَ الله. فقال: “ما اجتمعت هذه الأربع في امرئ في يوم إلا دخل الجنة” .

وربما استخدم وسيلة الإيضاح وهو يتحدَّث، كما حدَّث مرة عن رفع الأمانة، فقال: “ينام الرجلُ النومةَ، فتُقبضُ الأمانةُ من قلبه، فيبقى أَثَرُها مثل الوَكْتِ (سواد في اللون)، ثم ينام النومةَ، فتُقبضُ الأمانةُ من قلبه، فيظل أثرُها مثل المَجْلِ (أثر العمل في الكف)، كجَمْرٍ دَحْرَجتَه على رِجْلكِ فنَفِطَ، فتَراه مُنْتَبِرًا (ورم مملوء ماء) وليس فيه شيء”، ثم أخذ حصاة فدَحْرَجها على قدمه .

 وربما استعان بالرسم التوضيحي، كما خطَّ على الأرض خطًّا مربعًا، وخطَّ خطًّا في الوَسَط خارجًا منه، وخط خُطَطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوَسَط من جانبه الذي في الوَسَط، ثم قال: “هذا الإنسانُ، وهذا أجلُه مُحيطٌ به، وهذا الذي هو خارجٌ أملُه، يَتَعَاطَى الأملَ، والأجلُ يتلجه دون ذلك، وهذه الخُطَطُ الصِّغارُ الأعراضُ، فإن أخطأَهُ هذا نهَشَهُ هذا، وإن أخطأَهُ هذا نهَشَهُ هذا” .

لقد كان هذا المجلس مجلس علم ووعظ، ولكن لم تكن المواعظ ولا التعليم تتم بأسلوب إلقائي أحادي الاتجاه، وإنما بأسلوب حِواري يعتمد إشراك المتعلِّم في عملية التعليم، ويعتمد الحوار الذي يتيح النمو العقلي والفكري للمتعلِّم. ومما كان يُعمِّر به هذا المجلس الاستغفار الكثير؛ فقد كان الصحابة يلحظون عدم فتور النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستغفار والتوبة، وربما عدُّوا له في المجلس الواحد مائة مرة قبل أن يقوم: “ربِّ اغفرْ لي وتُبْ عليّ، إنك أنت التوّاب الغفور”.

وفي مجلسه هذا يُؤْتَى بصبيان المدينة، فيدعو لهم، ويحنّكهم، ويُبرّك عليهم. ومن ذلك: أن أبا أُسيد رضي الله عنه أَتَى بابنه المُنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين وُلد، فوضعه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على فَخِذه، وأبو أُسيد جالس، فلَهِي النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بشيء بين يديه، فأَمَرَ أبو أُسيد بابنه فاحتُمل من على فَخِذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأَقْلَبوه، فاستفاقَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “أين الصبيُّ؟”. فقال أبو أُسيد: أقْلبناه يا رسولَ الله. فقال: “ما اسمه؟”. قال: فلانٌ يا رسولَ الله. قال: “لا، ولكن أَسْمِهِ: المنذرَ”. فسمَّاه يومئذ: المنذر .

ويُؤتى في مجلسه ببَواكير ثمار النخِّيل؛ حيث كان التمر فاكهة أهل المدينة وقوتهم وغذاءهم، فكانوا يفرحون إذا رَأَوْا أول الثمرة، ويأتون به إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أخذه قال: “اللهمَّ بارك لنا في ثَمَرِنا، وبارك لنا في مَدِينتنا، وبارك لنا في صاعِنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ عبدُك وخليلُك ونبيُّك، وإني عبدُك ونبيُّك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه”. ثم يدعو أصغرَ مَن يحضره من الولدان، فيعطيه ذلك الثمر.

وكان في هذا المجلس فسحة للطُّرْفَة والمُزاح الجميل، ولم يكن وَقار المجلس النبوي ولا مَهابة محيَّاه صلى الله عليه وآله وسلم مما يحجز أصحابه عن عفوية الحياة، فها هو صلى الله عليه وآله وسلم يحدِّث أصحابه، وعنده رجلٌ من أهل البادية فيقول: «إن رجلًا من أهل الجنة استأذن ربَّه في الزَّرْع، فقال الله له: ألستَ فيما شئتَ؟! فقال: بَلَى يا ربِّ، ولكني أُحِبُّ أن أَزْرَعَ. قال: فبَذَرَ، فبَادَرَ الطَّارْفَ نَباتُه واستوِاؤُهُ واسْتحصَادُهُ، فكان أمثالَ الجبال، فيقول الله: دُونَك يا ابن آدمَ؛ فإنه لا يُشْبعكَ شيءٌ!». فلما فرغ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من حديثه قال الأعرابي: يا رسولَ الله، والله لا تجده إلا مهاجريًّا أو أنصاريًّا؛ فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع. فضحك مَن في المجلس، وضحك النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم .

ويبدو أن هذا المجلس هو مجلس استقبال القادمين من الوفود؛ فإن المسافرين عادة يبيتون خارج المدينة، ثم يدخلونها ضحًى، فيَلْقَون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجلس. ومن ذلك: وفد المضريّين، وقد أتوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صَدْر النهار، فرأى ما بهم من الفقر والفاقة، فَتَمَعَّر وجهُه ألما لحالهم، ثم خطبَ الناسَ، وحثَّ على الصدقة، حتى اجتمع عنده كَوْمان من طعام وثياب .

ويغلب على الظن أنه المجلس الذي أتى فيه جبرائيلُ عليه السلام في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشَّعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحدٌ، فسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة.

وكان الصحابة رضي الله عنهم يتناوبون الحضور في هذا المجلس النبوي، كما في حديث عمر رضي الله عنه قال: كنتُ أنا وجارٌ لي من الأنصار في عوالي المدينة، وكنا نتناوبُ النـزولَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ينزلُ يومًا وأنزلُ يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك .

وكان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس في هذا المجلس مع أصحابه كأحدهم، ليس له شَارة تميِّزه عنهم، فيجيء الغريبُ فلا يعرفه من بينهم، وربما سأل: أيكم ابـنُ عبد المطلب؟ فلا يجدون ما يميِّزون به رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا بهاؤه، فيقولون: هو هذا الأبيض المتكئ. فلما رأى الصحابة ذلك، أشاروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعملوا له دَكَّةً من الطين؛ حتى يعرفه القادم، فأذن لهم، وكان ذلك في آخر حياته، عام الوفود، سنة تسع. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُقَسِّم بشره وإقباله في مجلسه بين أصحابه، حتى يتفرَّقوا عنه، وكلٌّ يظن أنه أكثرهم حُظْوَة عنده.

وربما أُهدي للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم طعامٌ وهو مع أصحابه، فيأكلون جميعًا، قال سَمرة بن جُندب رضي الله عنه: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أُتي بقصعة فيها ثَرِيدٌ، قال: فأكل، وأكل القومُ، فلم يزل القومُ يتداولونها إلى قريب من الظهر؛ يأكل كل قوم ثم يقومون، ويجيء قوم فيتعاقبونه. فقال له رجل: هل كانت تُمَدُّ بطعام؟ قال: أما من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تُمَدُّ من السماء . وأُهدي له صلى الله عليه وآله وسلم شاةٌ، والطعام يومئذ قليل، فقال لأهله: “أَصْلحِوا هذه الشاة، وانظروا إلى هذا الخبز، فاثْرِدوا واغرفوا عليه”. وكانت له صلى الله عليه وآله وسلم قَصْعَةٌ يقال لها: الغَرَّاءُ يحملها أربعة رجال، فلما أصبحوا وسجدوا الضحى، أُتي بتلك القصعة، فالتفُّوا عليها، فلما كثروا جَثَا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أعرابي: ما هذه الجِلْسَة؟ قال: “إنَّ الله عزَّ وجلَّ جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا، كلُوا من جوانبها، ودَعُوا ذِرْوَتَها، يُبَارَكْ فيها”. ثم قال: “خذوا وكلوا، فوالذي نفسُ محمدٍ بيده، لتُفْتَحَنَّ عليكم فارسُ والرومُ، حتى يكثرَ الطعامُ، فلا يُذكرَ عليه اسم الله عز وجل” .

ويطول هذا المجلس النبوي ويقصُر، بحسب الحال، وما يكون فيه من شأن، حتى إذا تعالَى النهارُ قام صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن يقوم من مجلسه إلا قال: “سبحانك اللهمَّ ربي وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرُك وأتوبُ إليك” . وقلَّما يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات لأصحابه: “اللهم اقْسِمْ لنا من خشيتك ما تحولُ به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغُنا به جنَّاتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائبَ الدنيا، اللهمَّ متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارثَ منا، واجعل ثَأْرَنا على مَن ظلمنا، وانصرنا على مَن عادانا، ولا تجعلْ مصيبَتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا مَن لا يرحمنا” . ثم يتفرَّق الصحابةُ إلى أعمالهم أو إلى بيوتهم؛ للقيلولة قبل الظهر.

مجالس حسب الغرض

بعد صلاة الظهر: كان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من صلاة الظهر أقبل على أصحابه، فإن كان قد نزل أمرٌ أو عَرَضَ عارضٌ خطبَ الناسَ بعد صلاة الظهر؛ لأنها وقت اجتماع الناس؛ إذ هم قد نهضوا من قيلولتهم، فالاجتماع فيها أكثر، والنفوس جامَّة مستريحة واعية لما يقال. ومن ذلك: خطبته عندما قدم عليه وفد المضرَيِّين، فرأى ما بهم من الجوع والفاقة، فخطب بعد صلاة الظهر، فحمدَ اللهَ، وأثنى عليه، فحثَّ الناسَ على الصدقة ورغَّبهم فيها.

وصلَّى الظهر مرَّةً، فلما سلَّم قام على المنبر، فذكر الساعةَ، وذكر أن قبلها أمورًا عظامًا، ثم قال: “مَن أحبَّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه، فو الله، لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمتُ في مقامي هذا”. فأكثر الناسُ البكاءَ، وأكثر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: “سَلُوني”. فقام عبد الله بن حُذَافة رضي الله عنه، فقال: يا رسولَ الله، مَن أبي؟ قال: “أبوك حذافة”. فلما أكثرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: “سَلُوني”. بَرَكَ عمرُ، فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولًا. فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال: “أَوْلَى (كلمة تهديد ووعيد)، والذي نفسُ محمد بيده، لقد عُرِضت عليّ الجنةُ والنارُ آنفًا في عُرْضِ هذا الحائط، فلم أَرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمونَ ما أعلمُ؛ لضَحِكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا”. فما أَتَى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومٌ أَشَدُّ منه، غَطَّوْا رؤوسَهُم ولهم خَنيِن .

وخطب بعد الظهر في اليوم الذي رُجِم فيه ماعز رضي الله عنه، فقال: “أَوَ كلَّما نَفَرْنَا غزاةً في سبيل الله، تخلف رجلٌ في عيالنا له نَبيِبٌ (صوت التيس عند الجماع) كنَبيب التَّيْسِ، يمنحُ إحداهن الكُثْبَةَ (أي القليل) من اللبن، والله والله، لا أُوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به”، ولم يستغفر له ولم يسبه . وكأنَّ هذه الخُطب تكون في الأمر العارض والشأن العاجل الذي لا يحتمل التأخير إلى يوم الجمعة. ثم يعود صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته، فيصلِّي ركعتين هي راتبة الظهر.

بعد صلاة العصر: كان إذا أُذِّنَ لصلاتها، انتظر حتى يجتمع الناسُ لها، وكان يُرغِّب في صلاة أربع ركعات قبل العصر، ويقول: “رحمَ اللهُ امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا” . فإذا اجتمعوا خرج فصلَّى العصرَ، فإذا فرغ من صلاته أقبل على أصحابه، فإن كان ثمَّ حديثٌ يريد أن يحدِّثهم حدَّثهم، فقد أقبل عليهم مرة بعد انصرافه من صلاة العصر، فقال: “ما أدري، أحدِّثكم بشيء أو أسكت!”. فقالوا يا رسولَ الله، إن كان خيرًا فحدِّثنا، وإن كان غير ذلك، فاللهُ ورسولُه أعلم. قال: “ما من مسلم يتطهَّر، فيُتم الطَّهورَ الذي كُتب عليه، فيصلِّ هذه الصلوات الخمس، إلا كانت كفارات لما بينهن” .

وصلَّى مَرَّةً العصرَ، ثم قام يحدِّثهم، فكان مما قال: “ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوُضوءَ، ثم يقولُ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ إلا فُتحت له أبوابُ الجنة الثمانية، يدخلُ من أَيِّها شاء، وما من مسلم يتوضأ، فيُحسنُ وُضوءَه، ثم يقوم فيصلِّ ركعتين، مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه، إلا وَجَبَتْ له الجنة” . وكان حديثُه إلى أصحابه بعد صلاة العصر قليلًا بالنسبة لصلاة الظهر؛ وذلك لكَلَالِ الناس، وحاجتهم إلى الانصراف لإكمال أعمالهم، وإعداد عَشائهم.

بعد صلاة المغرب: ولم يكن يتحدَّث بعدها كما يتحدَّث في أعقاب الصلوات؛ وذلك لحاجة الناس إلى الانصراف إلى عَشائهم وراحتهم. فإذا صلَّى المغرب عاد إلى بيته فصلَّى فيه ركعتين، سنةَ المغرب، ثم تعشَّى، وهذا هو وقت العَشاء غالبًا، وربما قدَّموه قبل صلاة المغرب إذا كانوا صيامًا.

بعد صلاة العشاء: فإذا قضى صلاة العشاء تحدَّث إلى أصحابه، إن كان ثَمَّةَ عارض يريد أن يحدِّثهم به. ومن ذلك: أنه صلَّى ذات ليلة العشاء في آخر حياته، فلما سلَّم قام فقال: “أَرَأَيْتَكُمْ ليلتَكم هذه، فإنَّ على رأس مائة سنة منها لا يَبْقَى من هو على ظهر الأرض أحد” . وكان حديثُه بعد صلاة العشاء نادرًا وقصيرًا؛ لتعب الناس وحاجتهم للنوم؛ لذا كان يكره صلى الله عليه وسلم الحديث بعدها .


[1] رواه الإمام أحمد في مسنده.
[2] رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.
[3] رواه أحمد والبخاري ومسلم.
[4] رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي.
[5] رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود.
[6] رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي.
[7] رواه أبو داود في سننه.
[8] رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه وغيرهم.
[9] رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه وغيرهم.
[10] رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي.
[11] رواه الإمام أحمد والبخاري والدارمي.
[12] تقدم ذكره.
[13] رواه الإمام أحمد (فضائل الصحابة)، ومسلم والبزار.
[14] رواه الطيالسي وأحمد والبخاري وغيرهم.
[15] رواه ابن أبي شيبة، وأحمد والدارمي وغيرهم.
[16] رواه الإمام البخاري ومسلم.
[17] رواه الإمام أحمد والبخاري.
[18] رواه الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد.
[19] رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
[20] رواه ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي.
[21] رواه أبو دود وابن ماجة والبيهقي.
[22] رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود.
[23] رواه الترمذي النسائي.
[24] رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
[25] رواه الإمام أحمد والدارمي وصحيح مسلم.
[26] رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
[27] رواه مسلم في صحيحه.
[28] رواه أحمد والبخاري ومسلم.
[29] رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم.
[30] المرجع المعتمد في انتقاء هذه المجالس: كتاب اليوم النبوي، لمؤلفه: عبد الوهاب بن ناصر الطريري.
تاريخ الخبر: 2022-10-18 12:20:17
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

تبسة: اتفاقية للتقليل من تأثيرات منجم الفوسفـات ببئر العاتـر

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 03:24:18
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 53%

قالمة: 45 رخصـة استغـلال واستكشـاف للثـروة المنجميـة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 03:24:16
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية