الشاعر شوقي بزيع لـ «التغيير»: كل الأجناس الأدبية تريد أن تقتل الشعر لتقتات من لحمه


 

أقر الشاعر اللبناني الكبير شوقي بزيع في حوار مع «التغيير»، بأن الشعر شهد تراجعاً نسيباً في مقابل الرواية، ورثى بزيع صديقه الراحل الشاعر محمد علي شمس الدين، ونبّه إلى أن المشهد الثقافي العربي فقد رمزاً كبيراً برحيله، وتحدّث شوقي عن زيارته السابقة للخرطوم وعن المشهد الثقافي والفكري العربي في حوار مطول سكب فيه الرجل لغته العالية وعصارة فكره المتقّد.التغيير- حوار: عبد الله برير

* ماذا وراء «الغبار» الذي رثيته وهل ثمة ناجٍ كي يخبر بما وراء الثلوج؟

قصيدة «الغبار» التي كتبتها في مطالع التسعينيات من القرن الماضي كانت مفصلية بكل المعايير فهي من جهة موضوعها تقوم على حوار مترع بالشجن وبالأسى بيني وبين الطفل الذي كنته قبل أن تندلع الحرب اللبنانية وسائر الحروب والهزائم العربية، ذلك الطفل الذي كان يُمني النفس بعوالم وردية وبأكوان متخيلة وأوطان سعيدة، ثم لم يجد بعد ذلك إلا الغبار الذي يلف كل شئ والذي لم يتمخض عن أي أوطان بديلة ولا عن الأحلام التي كانت تدور في رؤوسنا جميعاً ولكن كانت الحرب تقف في الوسط بيني وبين كل خندق واسع، بيني والطفل وكل واحد يلوح للآخر بيد تعبى ويقول له بصوتٍ واهن أين أنت وما الذي فعلته بي.

لا أعتقد بأن الأمور تغيرت كثيراً بعد ذلك، لم يرث ذلك الغبار الذي أعقب حرب الخليج الثانية كما أعتقد سوى المزيد من الغبار الذي تراكم على هذه الأمة والذي سد عليها المنافذ وحجب الرؤية، ونحن للأسف ننتقل من مربعٍ خاسر إلى مربع آخر، وأنا صرت أميل للاعتقاد بأنه إذا لم تتغير العقلية العربية بحد ذاتها والقواعد التي يقوم عليها العقل العربي وسلوكياته وعلاقته بالدين والعصر والنفس والتراث والأنا والآخر ويحدث زلزال فكري حقيقي بشروط ورؤى مختلفة للواقع والمستقبل فسنظل ندور في دوامة قاتمة، أما إذا كان هناك من ناجٍ فطبعاً نجاتنا غير مقصود بها المعنى الجسدي أو البيولوجي لأنها ليست ذات قيمة لكن أعتقد أن الناجين الوحيدون هم الرائين الذين يقيمون عالمهم بعيداً عن هذا المستنقع السائد في عالمنا العربي والذين يقبضون على مبادئهم وعلاقاتهم وهي لا تتعلّق فقط بالمسألة الشعرية والأدبية وبالحداثة وما سواها بل بتحديث الحياة العربية والقوانين التي تحمي هذه الحياة وعلاقة السلطة بالبشر وكل ذلك يحتاج إلى تغييرات كبيرة وهنا أتذكر مقولة أحد المفكرين: (حتى أولئك الذين نجوا لن يذهبوا بعيداً).

* في أي درج يقف الشعر اليوم وسط غيره من الأجناس الأدبية؟

هنالك من يروجون عقدين من الزمن بأن الرواية هي فن العصر بامتياز وأن الزمن هو زمن الرواية كما قال الناقد المصري الراحل جابر عصفور وهذه الآراء تتردّد بشكل يومي كأنها أصبحت أمراً بديهياً وأنا لست ضد هذا الرأي بالمطلق لأنه في الواقع الرواية تتقدّم اليوم في العالم كله وليس في العالم العربي وحده لأن البشرية تعبت من الترميز ولغة التجريد وتغريب القصيدة تحت شعارات الحداثة وما بعد الحداثة وتريد أن تأنس إلى فن بسيط وسهل، ونحن نعلم بأن الرواية لغة اليومي والمعيش والبسيط وتسمح لقارئها بأن يستقيل من حياته الفعلية والحقيقية ليعيش في حيوات أخرى متخيلة يتماهى مع هذه الحيوات في لحظات صعودها وحيويتها وينسحب منها في حالات ضيقها وهلاكها تماماً كما يحدث في الأحلام، هذه الميزة في الرواية بها تسلية وتشويق وحبكة تقرّب الرواية من أذهان الناس وعقولهم ومشاعرهم في الوقت الراهن لكن هذا لا يعني أبداً أن يتراجع الشعر كفنٍ مستقل وهذا أمر يجب أن نعترف به وهذا الأمر ليس انقراضاً ولا اضمحلالاً بل هو تراجع ربما نسبي ولكنه لا ينعكس أبداً كتراجع ملاحظ على حضور الشعر بالنسبة للفنون الأخرى، بمعنى أن كل الأجناس الأدبية تُريد أن تقتل الشعر لتقتات من لحمه وإذا سحبت الشعر من الرواية تصبح مفكّكة ويابسة وجافة وكذلك الحال مع اللوحة ومع المسرح ومع القصة القصيرة وسائر الفنون، فالشعرية ما تزال في أحلى حالاتها وهي ضرورة للفنون كما للعيش أيضاً وهي موجودة في السلوك اليومي وقصص الحب وعلاقتنا بالعالم والوجود والأشياء ومن دونها نحن كائنات جوفاء ويابسة وعاقر ولا نفضي إلى أي شئ إلا الموت بمعناه الرمزي.

* هل للغربة تأثير على درجة حرارة القصيدة سلباً أو إيجاباً؟

علاقة الغربة بالشعر أو بالقصيدة، الأول يعبّر عن غربة الإنسان في العالم لأن الإنسان العادي الذي لا يعيش أي أزمات ولا تعقيدات في حياته ولا يعاني من الفقدان ومن الاستلاب لا يحتاج إلى الشعر ولا يعني له شيئ فالأخير يدخل دائماً لكي يردم المسافة بين الإنسان وبين وأحلامه وواقعه المأزوم وبين ما يريد لنفسه أن يكون هذه المساحة الشاعرة دائماً يتقدّم الشعر لكي يحتلها أيضاً مسافات العشق والمعشوق في حالات الحب هي التي تتيح للإنسان أن يتنفّس وهنا يمكن أن نفهم تطور الشعر في العصر الأموي بشقيه العذري والصريح، الإنسان في هذا العصر إنسان غريب وهو ما رمز إليه البرت كامو في رواية الغريب أو كافكا في رائعته المحاكمة أو القضية، الغربة تقع في قلب الشعر وهي تحرّضه على أن يعيد التوازن للنفس البشرية

.
* هل سيندمل جرح وفاة الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين قريباً؟

لو كان شمس الدين شخصاً عادياً كان أقرباؤه يرثونه لفترة من الزمن ثم يختم الجرح ويتحوّل إلى ذاكرة بعيدة، ولكن أن تتحدّث هنا عن شاعر والجرح الذي لا يتركه الشاعر لا يندمل أبداً كما قال أدونيس (لو لم تكن الأرض جداً لكانت جرحاً)، جرح شمس الدين مفتوح دائماً ولا يسدّه إلا نتاج الشاعر وبخاصةً حين يتم تناوله ولا يجري إغفاله من قبل النقاد والمتابعين.

* ما الذي ميّز شمس الدين رحمه الله؟

هو شاعرٌ جدير بالاهتمام والتناول النقدي وقد رأينا بأم العين الصدى الواسع الذي تركه غيابه ولعل قيمته تتجلّى بشكل أساسي في لغته العالية وفي أشكاله الشعرية الباذخة التي تقوم على الاحتفاء باللفظ والأنافة التعبيرية والجرس الإيقاعي والتقفية البارعة، ومن جهة ثانية أيضاً الغوص وراء المعنى الذي يأخذ أشكالاً متعدّدة تارة يذهب باتجاه العودة إلى مسقط الرأس وإلى الحياة المفقودة والطفولة في الجنوب وتارة يأخذ شكل أبعاد تراثية ومنحى كربلائي وهو كان أكثر شعراء الجنوب اهتماماً بها الجانب وعودة لكربلاء كينبوع روحي ووجداني وهذا ليس سببه فقط نشأة شمس الدين بل اكتسبه من جده الذي كان رجل دين وكان يرفده دائماً بكم وافر من المعارف التراثية الدينية وكان يصغي إليه باهتمام وهنالك مساءلة للتاريخ عن شمس الدين وعن أصوات شعرية وتشكيليين عرب وعالميين، هناك ذهاب إلى تخوم التصوف من خلال إعادة إنتاجه لقصائد الشيرازي، هذه التجربة لا أستطيع أن أتناولها بالتفصيل ولكن بالتأكيد سيكون للنقاد الوقت الكافي لمتابعتها وتحليلها والاحتفاء بها..

* كيف قرأت الإنسان السوداني بعد زيارتك الشهيرة للخرطوم؟

في الحقيقة لم أكن محتاجاً لزيارة السودان لكي أقف على طبيعة هذا الشعب المُفعم بالطيبة وحب الآخرين والإيثار والإنسانية العارمة، كنت قد التقيت العديد من الإخوة السودانيين في الخارج ولفتني أنهم جميعاً كانوا يتمتعون بهذه الخصال إضافة إلى الثراء المعرفي الذي يمتلكونه وشغفهم بالأدب والشعر والثقافة ومعرفتهم بمعظم الشعراء العرب، وعندما ذهبت إلى السودان كنت مهيأً للقاء بهذا البلد وبأهله وأحطت برعاية واهتمام واحتضان كبير وشعرت أنني بين أهلي ووسط عائلتي، كانت زيارة يتيمة ولكن صداها يتردد في داخلي حتى الأن.

* أخيراً إلى أين أخذك الشعر؟

لم يأخذني الشعر إلى مكان أبعد من اللغة نفسها، باللغة وحدها استطعنا أن نهزم اليأس والموت والمرض والكراهية وننتصر للحياة من خلال بحثنا الدائم عمّا لم يتحقّق بعد وعمّا هو طي المستقبل، لذلك لو كان الحاضر عادلاً والحياة عادلة بما يكفي لما ذهبنا باتجاه الشعر ووجدنا فيه عزاءنا الأمثل، وحتى لو كان الشعر وهماً فهو وهم جميل تماماً كالحب لذلك نحن بحاجة إلى الاثنين معاً لكي تصبح هذه الحياة ممكنة، الحب يهزم الموت بالمعنى الرمزي للكلمة لأننا عندما نحب ننسى كل شئ عدا الشئ الذي نعيشه متناسين فكرة الموت التي تأتي غالباً من الضجر والرتابة والوقت المستقطع من الحياة ونشعر بأن ما فينا من الصلابة والاشتعال ما يكفي لكي نعانق الأبدية وهذا الشئ ينطبق على الشعر الذي يتغذى من الأبدية ومن المواد نفسها التي يقتات عليها الحب، ولذلك عندما نكتب الشعر نشعر بأننا أقوياء ومأخوذون بسحر اللغة وجماليتها وبهذا العالم الذي اختلقناه لكي يكون للحياة معنىًّ ولكيلا يهزمنا الموت عند أول موقف.

تاريخ الخبر: 2022-10-20 06:22:51
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

العربية للطيران ترفع عدد رحلاتها بين مدينتي أكادير والرباط

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 03:25:12
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية