القاطرة الفرنسية الألمانية معطلة وتفاقم الملفات الخلافية بين شريكين رئيسيين


يلتقي، ظهر اليوم، في قصر الأليزيه الرئيس الفرنسي، والمستشار الألماني؛ في محاولة منهما لخفض التوتر القائم بين باريس وبرلين بعد تأجيل الاجتماع الوزاري المشترك الذي كان من المفترض أن يحصل في قصر فونتنيبلو برئاسة إيمانويل ماكرون وأولاف شولتز. وأصدر الأليزيه، ليلة أمس، بياناً جاء فيه أن الطرفين «سيناقشان مسائل الدفاع والاقتصاد والطاقة من أجل تعزيز التعاون الفرنسي الألماني، كما سيتناولان بشكل خاص التحديات المشتركة التي يواجهها البلدان وأفضل وسيلة للتعامل معها متحدّين ومتضامنين». كذلك أشار البيان إلى أن المسؤوليْن سيتناولان آخر تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، وينتظر أن يعرض شولتز على مُضيفه ماكرون نتائج مؤتمر برلين الذي عُقد، أمس، من أجل إعادة إعمار أوكرانيا.
بيْد أن الغرض الحقيقي لهذا الاجتماع الذي اقترحه شولتز محاولة رأب الصدع الذي لحق العلاقات الفرنسية الألمانية في الأشهر الأخيرة والخوف من تباعد الرؤى والسياسات بين باريس وبرلين، بما سينعكس على أداء الاتحاد الأوروبي، ذلك أنه منذ انطلاق فكرة الاتحاد الأوروبي كانت باريس وبرلين تمثلان قاطرته الرئيسية. ففكرة إقامة تجمُّع للدول الأوروبية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وما شهدته من فظائع، وغرضه تحقيق المصالحة الأوروبية خصوصاً بين ألمانيا وفرنسا اللتين شهدتا 3 حروب رئيسية في أقل من 70 عاماً. وكان الثنائي الفرنسي - الألماني منذ رئاسة الجنرال شارل ديغول، والمستشار أديناور، قد حرصا باستمرار على العمل معاً بحيث شكّلا نقطة الثقل داخل النادي الأوروبي، حتى كانت موافقتهما تُعدّ إشارة المرور لأي مشروع أو قانون. وكانت هذه الصورة صالحة لاحقاً: مع جيسكار ديستان هلموت شميت، وفرنسوا ميتران، وهلموت كول، وجاك شيراك، وشرودر. ومنذ مجيء أنغيلا ميركل بدأت تبرز أحياناً بعض الصعوبات، وقد تواصلت مع نيكولا ساركوزي، وفرنسوا هولند. وسعى الرئيس إيمانويل ماكرون لإعادة الحرارة إلى العلاقات الفرنسية - الألمانية وحصد نجاحاً نسبياً، وكان أبرزه إقناع ميركل بالحاجة إلى خطة أوروبية لمواجهة تبِعات تحدي «كوفيد- 19» المالية والاجتماعية من خلال استدانة مشتركة لـ750 مليار يورو عبر المفوضية الأوروبية. لكن مع وصول المستشار الاشتراكي أولاف شولتز إلى الحكم وتحالفه الحكومي مع حزب «الخضر»، واعتباره أنه يتعين على برلين «تعديل» سياستها داخل الاتحاد والدفع باتجاه ضم دول غرب البلقان، وفتوره إزاء سياسة باريس توسيع الاعتماد على الطاقة النووية التي تريد ألمانيا الخروج منها، أوجد حالة من البرودة في علاقات البلدين. لذا فإن مجيء المستشار الألماني إلى باريس يُراد منه أن يكون باباً لإعادة المياه إلى مجاريها بين الطرفين ومحاولة التوصل إلى تفاهمات بشأن الملفات الخلافية التي تُباعد بين شريكين رئيسيين في مرحلة بالغة الدقة، مزدوجة العنوان: الحرب الروسية تعلى أوكرانيا من جهة، وتبِعاتها الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية، خصوصاً في قطاع الطاقة.
ويؤكد مصدر سياسي فرنسي أن «اللحظة غير ملائمة لتهاوي العلاقة الوثيقة بين العاصمتين، والتي كانت تُعدّ ضمانة استقرار الاتحاد».
حقيقة الأمر أنه منذ وصوله إلى قصر الأليزيه، يسعى ماكرون للترويج لـ«دفاع أوروبي مشترك» و«استقلالية استراتيجية». ورغم أن برلين لم تتبنَّ بشكل كامل طرحه، فإنها مشت نحوه نصف المسافة. والقناعة الفرنسية أن مشروعاً كهذا لا يمكن أن يتحول إلى واقع من غير دعم ألمانيا. والحال أن خيار برلين تزعّم تحالف أوروبي من 14 دولة لبناء «الدرع الفضائي الأوروبي» بعيداً عن فرنسا، والارتكاز إلى التعاون مع الولايات المتحدة من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، أثار حفيظة باريس إلى حد بعيد؛ لأنه يضع جانباً التكنولوجيا الفضائية الأوروبية ولا يسهم في تعزيز صناعاتها الدفاعية. يضاف إلى ذلك أن برلين لم تعد متحمسة لمشروعين دفاعيين تُعوّل عليهما فرنسا للسنوات المقبلة؛ وهما: بناء طائرة القتال المستقبلية من الجيل الجديد، وأيضاً دبابة المستقبل. والمشروعان انطلقا قبل عدة سنوات، إلا أن تحفُّظ برلين يمكن أن يطيح بهما.
اللافت أن المشروع الألماني لا يحظى بدعم دول غرب أوروبا، بل يستند إلى مشاركة من شرق ووسط القارة القديمة، إضافة إلى مساهمة بريطانية ورعاية أميركية، ما يعني، وفق القراءة الفرنسية، أن برلين تريد أن تعيد النظر في تموضعها الاستراتيجي وزيادة الاهتمام بجوارها الشرقي. وهذا التوجه الجديد يفسر ما يدعو إليه شولتز من ضرورة فتح أبواب الاتحاد الأوروبي أمام دول البلقان الغربي ودول أخرى، ولا يمانع في توسيعه إلى 30 عضواً، وحتى إلى 36 عضواً. والحال أن باريس غير مستعجلة على استقبال أعضاء جدد، وتركز بدلاً من ذلك على قيام «نواة صلبة» داخل الاتحاد لمزيد من الاندماج. فضلاً عن ذلك، ترى باريس أن الدرع الصاروخي الفضائي لا يتوافق مع الضرورات الدفاعية الفرنسية التي تستند إلى قوة الدرع النووية التي تتمتع بها فرنسا. والحال أن هذه القراءة تختلف جذرياً عن قراءة برلين ودول شرق أوروبا التي تستشعر الحاجة لـ«الدرع» لمواجهة أي تهديد روسي محتمَل، علماً بأن جميعها تنضوي تحت لواء الحلف الأطلسي الذي يُرخي مظلّته عليها. وبفضل الـ100 مليار يورو الإضافية التي خصّصتها برلين لميزانيتها الدفاعية، فإنها قادرة على السير سريعاً بهذا المشروع من خلال شراء شبكة «باتريوت» الأميركية ومنظومة «أرو» الإسرائيلية، إلى جانب منظومة «إيريس – تي» التي تنتجها الصناعة الدفاعية الألمانية.
لكن باريس ترى أن المشروع، كما هو، لا يساعد الصناعات الأوروبية ولا يسهم في بناء «الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية».
بيْد أن الخلاف الفرنسي الألماني يمتد أيضاً إلى قطاع الطاقة. والأسبوع الماضي، فشلت القمة الأوروبية التي استضافتها بروكسيل في الاتفاق على خطة لكبح أسعار مشتريات الغاز وخفض كلفة الكهرباء التي تصيب أسعارها المرتفعة الأفراد والشركات على السواء. ونقطة الخلاف الرئيسية أنه، بدعمٍ من هولنده والدانمارك، ترفض تحديد سقف لأسعار الغاز، وتشدد على ضرورة ترك الأسعار للعبة السوق. وفي نظرها، فإن خيار وضع سقف للأسعار سيدفع منتجي الغاز إلى توجيه إنتاجهم إلى الأسواق الأعلى سعراً، ما سينعكس سلباً على أوروبا. وفي المقابل فإن موقف باريس والعديد من البلدان الأوروبية يدفع باتجاه وضع سقف لمشتريات الغاز، ما يشلّ عمل المفوضية التي عجزت حتى اليوم عن تقديم مقترحات تَلقى موافقة من جميع الأطراف. ولم يتردد الرئيس الفرنسي الذي التقى شولتز في بروكسيل في التحذير من «عزلة» ألمانية يراها «مُضرة» للعمل الجماعي. يضاف إلى ما سبق أن برلين غير مرتاحة لخيارات باريس بالتركيز على الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء، في حين أن ألمانيا ستتخلى عنها نهائياً في الربيع المقبل، ولم تقبل تمديد العمل بـ3 محطات إلا بشكل مؤقت.
وعارضت باريس رغبة ألمانية بمدّ مشروع أنبوب الغاز بين إسبانيا وفرنسا إلى ألمانيا، وهو ما لا تريده باريس. ولإكمال الصورة تجدر الإشارة إلى أن باريس أبدت عدم ارتياحها لخطة شولتز لحقن الاقتصاد الألماني بـ200 مليار يورو للتغلب على أزمة الطاقة ومساعدة الشركات المتعثرة، وذلك من غير أي تنسيق مع الشركاء الأوروبيين؛ وعلى رأسهم فرنسا التي ترى في ذلك إخلالاً بقواعد السوق والمنافسة الشريفة.
وبالنظر لكل الملفات الخلافية، فإن المتابعين لموضع العلاقات الفرنسية الألمانية لا يتوقعون نتائج «ثورية»، بل يرجحون الاتفاق على تكثيف الاتصالات سعياً لترطيب الأجواء بين الحليفين القريبين وتمكينهما من العودة إلى العمل معاً، كما كانت حالهما في العقود الماضية.


تاريخ الخبر: 2022-10-26 12:24:31
المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 95%
الأهمية: 100%

آخر الأخبار حول العالم

قيادي بحماس: إذا استمر العدوان فلن يكون هناك وقف لإطلاق النار

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 03:26:08
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 64%

يُتوقع تسليمه شهر نوفمبر: تسارع وتيرة إصلاح المصعد الهوائي بعنابة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 03:24:32
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

قيادي بحماس: إذا استمر العدوان فلن يكون هناك وقف لإطلاق النار

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 03:26:00
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية