فى معنى السعادة (١)


في أوبريت “صاحب السعادة” لإسماعيل ياسين يقول: “كلنا عايزين سعادة… بس إيه هى السعادة؟ وإيه معنى السعادة؟”، وفى محاولة للبحث عن هذا المعنى الغائب، تم استحضار ثلاثة أشياء مرغوبة وهى المال والغرام والزواج، ولكن جميعها لا تفى بالغرض المنشود وتسعد صاحبها. وهذا هو واقع الحال فمنذ القدم انشغل البشر بالتفكير فى السعادة وسبل الوصول اليها، بداية من الشخص العادى وحتى الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس والاجتماع والأدباء والفنانين، وإذا الشخص العادى يتوق إليها ولا يفكر فيما تعنيه، فإن الجهود الفكرية، التي انشغلت بالمعنى والقيمة،لم تثمر عن تعريف واضح للسعادة، وفي أحسن الأحوال جاءت ثمار التعريف متنوعة ومتعددة وبها الكثير من الإحالات إلى المشاعر الإيجابية والمثل العليا. وقديما قال الفيلسوف الإسلامى مسكويه فى كتابه “تهذيب الأخلاق”، “إن الناس مختلفون فى السعادة الإنسانية، ولأنها أشكلت عليهم إشكالا شديدا احتاجوا أن يتعبوا فى الإبانة عنها وإطالة الكلام فيها..”

والشئ الوحيد المشترك والمؤكد بين هذا الجمع من الباحثين عن السعادة، هو اعتبار السعادة الهدف الأسمى الذي يتطلع إليه البشر الملاحقين بالتعاسة والألم. فالإنسان يعيش حياته تحت سلطتى “اللذة والألم”، وكل منهما قد يفضى إلى الآخر، بل قد يصل الأمر أحيانا، أن يجد بعض الناس اللذة فى الألم أو الإيلام (أى إيلام الآخرين)، كما قد يعتقد البعض أن الألم نتيجة حتمية لسطوة الملذات والرغبات. وفى مسار البحث عن السعادة، يسير البشر في كل اتجاه وحتى تخيل وتسمية “حبوب للسعادة”، فإن لم يجدوها فى الحياة الدنيا والتى هى كد وشقاء، تمنوها فى الآخرةويصبح الزهد فى الحياة الدنيا هو السبيل للسعادة الدائمة فى الآخرة.

وعلى الرغم من بريق كلمة السعادة، إلا أنها من حيث المعنى توجدفى منطقة رمادية وكأنها السر المكنون من يجده ينتصر على التعاسة والألم. ونجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن معناها فى منعرجات ومفترقات طرق، مثلا: هل السعادة شئ نناله بالجهد والتخطيط أم أنها تأتينا كفرصة أو نفحة إلهية؟ هل هى دائمة أم شعور عابر؟ وهل تلبية الرغبات تحقق السعادة أم أن الزهد والترفع على الملذات هو السبيل إليها وإلى ديموتها؟ وهل هى دنيوية أم أخروية؟ وهل السعادة ذاتية أم جماعية؟ وماذا يحدث عندما تتعارض السعادة الفردية مع المصلحة العامة؟ وإلى أى مدى تؤثر الحالة المزاجية للشخص أو الجماعة على الإحساس بالسعادة؟. وفى الحقيقة أن هذه التساؤلات ليست عبثية أو خارج السياق، فهى معيقات فعلية أمام التوافق حول معنى السعادة.

ومن باب إزالة بهض الالتباس، ينبغى القول أنه ما من شك فى أن الأحداث المبهجة تسبب شعور مؤقت بالفرح والابتهاج، وعادة ما تأتى بعد مرحلة من الشقاء والعناء أو التوتر، مثل لحظة النجاح فى شئ ما كنيل شهادة أو منصب، وحتى لحظة تسجيل هدف لفريق نشجعه، وفى لحظة الوصول بعد عناء السفر، أو العودة إلى مكان نحبه، أو لقاء مبهج إلخ؛. فالمؤقت سنة الحياة، وفق المقولة الشائعة “لا الفرح بيدوم ولا الحزن بيدوم”، وأحيانا يتحول سبب السعادة إلى سبب من أسباب التعاسة أو الشقاء، مثل الزيجات التعيسة بعد قصة حب قوية، فالنفس البشرية قلقلة ومتغيرة وقد يستعصى عليها الإشباع أو ما يسمى الرضا الشامل. ولعل التعبير الأفضل على ذلك نجده فى رباعيات صلاح جاهين: “لا تجبر الإنسان ولا تخيّره .. يكفيه ما فيه من عقل بيحيّره .. اللي النهارده بيطلبه ويشتهيه .. هو اللي بكره ح يشتهي يغيّره”.

ويعد التناقض بين الرغبات الذاتية والمصلحة العامة، أحد الأمور التى تحد من قوة السعادة اجتماعيا، وتجعلنا نفكر فى حدودها قبل معناها. تماما مثل حالة شخص فى قطار يجد لذته ومتعته فىاستخدام الجهاز المحمول للاستماع إلى شئ ما، سواء كان أغنية، أو مباراة، أو فيلم، او حتى تلاوة دينية، وأن هذه الرغبة تتعارض مع رغبة (وحق) الآخرين فى الهدوء والراحة. فى الحقيقة أن الرهان على مفهوم السعادة لحل هذا التناقض لن يكون مجديا، وينبغى اللجوء إلى مفهوم الحقوق لأنه أكثر واقعية واكثر تحديدا، وإذا ما تم تفعيله فلن يكون للسعادة قيمة، إلا بالقدر الذى تحدده معايير الحقوق الشخصية والجماعية.

وثمة تناقض آخر يتعلق بمصداقية المشاعر التى نعتقد أنها تعبر عن السعادة، صحيح أن هناك الكثير من المشاعر الإيجابية التى تجعلنا مبتهجين أو مرتاحى البال. ولكن بالمقابل، فإن السعادة أحد مجالات التفاخر والتباهى، فعادة ما يتظاهر الناس بالسعادة، وقد يكون ذلك من أجل إخفاء التعاسة، أو بدافع الرغبة فى إظهار التماسك وعدم الإنكسار، فتبدو استعراضات السعادة وكأنها رسالة إيهام فى ساحة العلاقات الاجتماعية والعاطفية. وهو الأمر الذى استشرىبفعل وسائل التواصل الاجتماعى حيث نجد فيض من السعادة على وجوه لا نعرف إذا ما كانت سعيدة أم تعيسة؟ وتأتينا مقولات مثل “السعادة قرار”، وكأنها مقولة سحرية تمكن التعساء من استحضار السعادة المفقودة! وفى عالم محفوف بالمخاوف والضغوط، ربما تكون أكثر أشكال السعادة حضورا هى تلك البهجة المصطنعة التى نشاهدها فى الإعلانات التجارية بهدف التسويق، فكل سلعة يجرى عرضها وكأنها مفتاح السعادة.

والخلاصة، أنه فى حين يتحدث الجميع عن السعادة ويطلبونها أو يتفاخرون بها أحيانا، إلا أننا لا نعرف فى العادة معنى هذه الحالة التى نسميها “سعادة”، وكثيرا ما يتم الخلط بينها وبين مشاعرالفرح والابتهاج العابرة. ولعل السؤال الموضوعى، إذن، هو لماذا توجد صعوبة فى إيجاد تعريف شامل ومتسق عن معنى السعادة؟ وهذا ما سيتم تناوله فى الجزء الثانى من هذا المقال، أما صعوبات قياس السعادة، فسوف تأتى فى الجزء الثالث.

تاريخ الخبر: 2022-10-31 09:22:06
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

دوري أبطال أوروبا.. دياز يواجه مزراوي في ذهاب نصف نهائي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-30 15:27:20
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 70%

دوري أبطال أوروبا.. دياز يواجه مزراوي في ذهاب نصف نهائي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-30 15:27:21
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية