تحلل الدولة السودانية


محمد القاضي و عبدالحافط عبداللطيف 
تستند الدولة في تأسيسها على عقد إجتماعي، يراعي تحقيق العدالة لأفراد المجتمع، من حيث :أولا ، الحماية و الأمان من الإستغلال، و إمكان التقاضي بحرية، و احترام القواعد القانونية على مستوى الحقوق و الواجبات. والقاعدة القانونية تمثل حالة واسعة وشاملة، يراد لها حين وضعها، استيعاب كافة الحالات الاجتماعية لمختلف الوقائع المعتادة و غير المعتادة، و التي تتحول بدورها إلى قواعد قانونية يرجى منها _ بتراكمها _ تحقيق العدالة الواسعة و الشاملة. ثانيا، الفرص المتساوية، في التنافس و الترقي، والتي تستند على قواعد واضحة يحتكم لها الناس بشفافية تامة، و يرتضون نتائجها. ثالثاً، الرعاية الإجتماعية بكافة جوانبها الصحية، و التثقيفية، و الحاجات الإنسانية و الروحية. ولابد من أجل استقرار الدولة والمجتمع؛ تطبيق القواعد بعدالة: تسري على الجميع و بشفافية تطمئن المجتمع على التطبيق المنصف والعادل. ولن يتحقق ذلك، إلا في مناخ من الحرية، و الرضا التام بالرضوخ لهذه الضوابط؛ لأن في ذلك ضمان لكل أفراد المجتمع؛ أنهم، وبقدر إحترامهم للواجبات؛ فحقوقهم محفوظة. ويتحقق ذلك في ظل توفر مؤسسات الدولة على الإستقلالية عن تأثير أي سلطة ما، سواء كانت سلطة آيديولوجية أو مالية او غيرها، ذات نفوذ يمكنها من تحقيق أجندتها. إضافة إلى مبدأ فصل السلطات الذي يوفر نوع من التوازن و المراقبة المتبادلة، لضمان تحقيق العدالة وإنفاذ حكم القانون. إضافة لذلك توفر السلطة الرابعة (الاعلام) للمجتمع مراقبة أداء السلطة التنفيذية و مؤسسات الدولة.
يلحظ الجميع في السودان اليوم ، ما يمكن أن نسميه تحلل أوصال الدولة السودانية، و تراجع أداء المؤسسات العامة و عجزها؛ بل و تحولها الى مؤسسات لتحقيق المطامع الخاصة. كل ذلك يعود_ في ظننا_ لعملية كسر القواعد. ومع شظف العيش، نتيجة تراجع الأحوال المعيشية؛ تبدو الصورة أكثر قتامة و ثقيلة الوطأة . و قد كانت الضربة الأولى لبناء الدولة ، هي : عملية الإحلال والإبدال في مؤسسات الدولة عبر طرد آلاف الموظفين و إحلال الموالين، مع الإبقاء على فئة مستضعفة لا تملك حق المبادرة والنقد، ومسلوبة الإرادة من قبل مختطفي السلطة الجدد! وتغيرت_تبعا لذلك_ معايير التوظيف المعروفة وحل محلها معيار الولاء التنظيمي في بدايات الانقاذ، والذي استبدل لاحقا بالولاء الشخصي والعشائري في العشرية الأخيرة للانقاذ. هذه الطبقة لا تنطبق عليها القواعد المتعارف عليها، والتي تم تجميدها لصالح إدارة فردية أحادية، يمثلها مندوب الطبقة الحاكمة، و الذي يعمل وفق قواعد التمكين لا على قواعد الحقوق والمصلحة العامة. أما الضربة الثانية فقد جاءت من الاقتصاد؛ فقد أراد أصحاب المشروع تحريك الاقتصاد الجامد عبر سياسة التحرير الاقتصادي. وهو أمر سليم نظريآ ، إلا أن أصحاب المشروع لم يتنبهوا لضعف بنية الإقتصاد الإنتاجي، وتقليدية نظم الرعاية الإجتماعية العشائرية. وفي الوقت الذي تبنوا فيه اقتصاد السوق فقد هدموا اهم أسسه التي يقوم عليها، وهو: مبدأ تكافؤ الفرص، والذي بدونه يصبح اقتصاد السوق معولا لهدم روح المبادرة والتطور والابداع. ونعلم جميعا كيف تم تسخير جهاز الدولة لمصلحة التنظيم وأفراده؛ فكانت النتيجة إنفلات الحالة الاقتصادية و إستباحة العناصر الطفيلية الانقاذية، لكافة مصادر الثروة و تجييرها للصالح الخاص. مما خلق حالة من التضخم المريع، أعجز الجميع. والأسوأ من ذلك، كانت الثروة المتحققة من ريع البترول_ في فترة ما_ ومصادر الثروة الاخرى؛ وسيلة لبناء شبكة محسوبية لتحالفات قبلية عشائرية وأيضا وسيلة لاستحداث مليشيات موازية للجيش، لازالت تمظهرات ذلك ماثلة في المشهد الحالي.
ما نراه الآن من فساد و تدهور إداري و لا مبالاة ؛ هو: نتاج كسر القواعد و إنعدام العدالة! حيث تأخذ القلة المتنفذة بالتمكين كل شيء و تترك للغالبية الفتات. ولا تسري أحكام القانون على هذه الفئة، و يسري على من عداهم، والحالات معلومة للكافة. و تترك فئات الشعب تحت رحمة الجشع بلا سند أو دعم، مباشر و غير مباشر. وغير المباشر المقصود به ، كمثال: تعليم جيد و مجاني ،لا يحوج الفقراء إلى إخراج أبنائهم من المدارس و في حال بقوا فيها، لن ينتفعوا منها لتدهور قدراتها. وسمح لهم الفساد واستغلال جهاز الدولة في تدمير القيم الموروثة، باستخدام الاموال التي تحققت لهم من ذلك في شراء الذمم وترغيب الناس من خلال الهبات والمنح والفرص الوظيفية، مما جعل نظرة كثير من الناس تتغير تجاه حرمة المال العام واصبح عندهم استباحته أمرا غير مستنكر! حين شاع كل ذلك، كانت النتيجة الماثلة : أحقاد و فساد، ونهب و دمار و فردانية . فما الذي يدفع الإنسان المواطن لاحترام القانون، في ظل انكشاف ظهره أمام الهجوم المشترك لتحالف التمكين الطفيلي!؟
إننا الآن أمام لحظة تاريخية مفصلية تمتاز بالسيولة في كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل حتى القيم والاخلاق. و هي : نتاج سياسة انقاذية تمكينية، كان مآلها _ بفعل التراكم السالب _ كوارث ، يعلم الله وحده، إلى أين ستؤدي بنا. على أنه يمكن القول أن الدولة السودانية تتحلل ! فهل من منقذ؟!.

تاريخ الخبر: 2022-12-22 00:24:00
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 52%
الأهمية: 61%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية