في أحد المؤتمرات جمعتني المصادفة مع إحدى السياسيات السويديات، تنتمي إلى الحركة الديمقراطية التي لعبت دوراً كبيراً في فرض سياسية حظر توريد السلاح إلى تركيا في وقت سابق. كانت خلفية هذا الحظر تعود إلى أسباب مزعومة تتعلق بسياسة تركيا "المنافية لحقوق الإنسان" تجاه الأكراد. وفي معرض الحديث تَطرَّقنا إلى هذا الحظر وأسبابه، وقد فوجئت من القناعة المترسخة عندها، وعند الحركة التي تنتمي إليها بطبيعة الحال، حول فكرة مفادها أن تركيا تحارب الأكراد، وهو ما ينافي الواقع جملة وتفصيلاً.

صعقتني هذه الفكرة بالتحديد، إذ بدا لي أن هؤلاء القوم بعيدون جدّاً عن الواقع. دفعني الفضول إلى استكشاف خلفيات هذه القناعة ومن أين أتت. وهنا كانت المفاجأة الكبرى لي والصدمة الثانية، إذ أخبرتني بأن هذه القناعة مستقاة من عضو في الحركة لديهم سويدي من أصول كردية. وعندما سألتها كيف يمكن أن تقوموا برسم سياسة كاملة ضد دولة كبيرة في المنطقة بناء على مجرد رأي منحاز قد يمثّل جزءاً بسيطاً من الحقيقية، أخبرتني أن "هذا الشخص هو عضو في الحركة الديمقراطية لدينا، لذلك فالأخذ برأيه يُعَدّ مبرراً ويحمل صفة المصداقية".

لم تبدُ لي حجتها مقنعة على الإطلاق، فالتصورات المسبقة تلعب دوراً مهمّاً في تشكيل الانحيازات السياسية مع طرف ضد طرف آخر. أخبرتها أن الفكرة التي لديها مغلوطة تماماً، فتركيا لا تعادي الأكراد على الإطلاق، وقد استطاع الأكراد أن يصلوا في سلم وظائف الدولة في تركيا إلى مستويات عليا.

أخبرتها أن ما تحاربه تركيا على وجه التحديد هو جماعات انفصالية اختارت طريق العنف والإرهاب من أجل تحقيق أهدافها السياسية، على رأسها تنظيم PKK الإرهابي وما يرتبط به من جماعات إقليمية مثل PYD في سوريا.

ذكّرت محدّثتي بحقيقية أن تنظيم PKK مصنَّف على قوائم الإرهاب الأمريكية والأوروبية. ومن الجدير بالنظر إعادة المقاربة الأوروبية في التعاطي مع هذه الكيانات على هذه القاعدة بعيداً عن الكيل بمكيالين. فليس من المنطقي، وفي سياق السياسية الكيدية ضد تركيا، أن يعامل بعض الدول الأوروبية أفراد PKK على قاعدة حقوق الإنسان والنشاط السياسي المدني السلمي، في حين أن نشاطهم يُعَدّ بشكل واضح للعيان إرهابيّاً من حيث طبيعته وأهدافه ووسائله.

إن نظرة فاحصة إلى نشاط هذه الجماعات "الإرهابية" ترى أنه حتى المدنيون الأكراد هم أيضاً يكتوون بنارهم. بطبيعة الحال هذا لا ينفي أن للأكراد حقوقاً مشروعة، ولكن يجب الحديث عن هذه الحقوق ضمن المسار السياسي والمدني المتعارف عليه في الأعراف الديمقراطية، لا في حمل السلاح والسعي نحو الانفصال.

اتضح لي أن لدى عديد من صناع القرار في أوروبا فهماً مغلوطاً عن تركيا، وهو فهم متأتٍّ من تصورات قامت على أنصاف الحقائق أو على حقائق مزيفة. لا يُعَدّ هذا أمراً بسيطاً، ففي عصر المعلومات ووسائل التواصل والإنترنت، يُعَدّ الاستمرار على هذا النهج من التصورات المغلوطة غير مبرَّر، خصوصاً بين دول تربط بينها مصالح أمنية واقتصادية كبيرة وواسعة.

بطبيعة الحال هذه ليست بالظاهرة الجديدة، فعلماء السياسية يسمونها Mirror of Perception، أي مرآة التصورات، بحيث يقوم رئيس دولة باتخاذ قرارات بناء على تصوراته التي شكّلها عن العالم والنظام الدولي واللاعبين على الساحة الدولية بعيداً عن الواقع. قادت هذه التصورات المسبقة العالم إلى العديد من الأزمات الدولية والحروب. فتصوُّر الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف المسبق عن الرئيس الأمريكي جون كينيدي ومدى ضعفه وعدم امتلاكه للحسم في سياساته، قاد المعسكرين الغربي والشرقي إلى أزمة كادت تسبب في اندلاع حرب نووية عالمية في بداية ستينيات القرن الماضي تُعرَف بأزمة صواريخ كوبا.

علينا إذاً أن لا نقلّل من خطر التصورات الخاطئة على الأمن والسلم الدوليَّين. لم تضع الحرب الأوكرانية أوزارها، ولكن ربما لاحقاً سنرى من يُجري تحقيقياً حول الأحداث ليكتشف لنا أن التصورات الخاطئة أيضاً لعبت دوراً في الوصول إلى هذه الأزمة المأساوية. فهل أخطأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصوره حول عزم الغرب وتحديداً أوروبا على اتخاذ إجراءات عقابية ضد موسكو بهذا الشكل الواسع والحاسم والسريع؟ وهل أخطأ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حول عزم بوتين على شن الحرب؟ وهل أخطأ مجدداً في تصوره بأن تقف الولايات المتحدة في صفة بشكل أكثر حزماً مما فعلت لردع موسكو وضم بلاده إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؟

هذه تساؤلات برسم الإجابة. من الصعب الوصول إلى إجابات حاسمة حولها ما دامت الحرب مشتعلة. غير أن المؤكد هنا أن التصورات الخاطئة ستكون أحد أهمّ مكونات الإجابة لاحقاً.

بالعودة إلى الموضوع السويدي، تحتاج ستوكهولم والعديد من العواصم الأوروبية إلى إعادة ضبط تصوراتها حول تركيا في هذه الأوقات الحرجة التي تعيشها المنطقة. يجب على هذه الدول أن تبدي تفهماً أكبر لمخاوف تركيا الأمنية من الجماعات الانفصالية والإرهابية. وبدلاً من إخضاع تركيا لسياسات العقوبات الاقتصادية وحظر توريد السلاح يجب على هذه الدول أن تدرك أهمية تركيا في استراتيجية الأمن الأوروبية، ولذلك من الضروري العمل مع أنقرة لتقوية أمن حدودها ومعالجة أزمة الجماعات الإرهابية من خلال التعاون المشترك المباشر.

من الجيد التذكير هنا بأن السويد وفنلندا قد وقّعَتا مع تركيا على مذكرة تفاهم ثلاثية في أواخر يونيو/حزيران بشأن عضوية البلدين الأخيرين في حلف الناتو، على هامش قمة التكتل في العاصمة الإسبانية مدريد، تعهد فيها البلدان بالتعاون التام مع أنقرة في مكافحة التنظيمات الإرهابية. وفي هذا السياق أفادت وكالة الأناضول بأن السويد قد سلّمَت مطلوباً يُدعى محمود طاط محكوماً عليه بالسجن 6 أعوام و10 أشهر لانتمائه إلى تنظيم PKK الإرهابي. وكان طاط، حسب الوكالة، قد توجه إلى السويد عام 2015 هرباً من عقوبة السجن الصادرة بحقه في تركيا.

رضخت السويد لهذا النوع من التعاون على أثر شعورها بالتهديد بعد عملية الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية. رأت أن حلف الناتو أصبح ضرورة أمنية لا مفر منها. ودخولها في الناتو كان واضحاً أنه لن يمرّ إلا عبر بوابة أنقرة. على الرغم من الطبيعة الانتهازية لهذه الخطوة السويدية فإنها خطوة في المسار الصحيح، ويجب أن تتعزز بناءً على قناعة بضرورة مشاركة أنقرة مخاوفها الأمنية والتعاون معها على قاعدة المصالح المشتركة للحلفاء.



جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي