ويحدثونك عن الاستقلال


ويحدثونك عن الاستقلال

خالد فضل

(1)

محدثي الشاب عبر الهاتف يقول لي بالحرف الواحد: أستاذ، ليت الاستعمار لم يغادر بلادنا حتى الآن، أنا بكل وضوح مع عودة الاستعمار، عسى يأتي خواجات يعمرون لنا بلدنا بعد أن فشلنا في المحافظة على ما كان قد تحقق ناهيك عن الزيادة عليه.

عباراته صادمة لأول وهلة، ولكن بعد تأمل بسيط يكتشف المرء أنّ ثمّ حقيقة بين ثنايا غضبه النبيل، ذاك الشاب في الواقع يعبر عن خيبة أمل كبيرة لدى قطاعات واسعة من السودانيين، فذكرى الاستقلال لا تعدو كونها عطلة رسمية.

وسنوياً يتم اجترار البرنامج الوئائقي عن لحظات رفع العلم عالياً خفاقاً (تعبيراً عن كبرياء أمّة وعنواناً لعزيمة وشعب)؛ كما تقول العبارات المحفوظة تبع إذاعة نشيد العلم كل صباح (لست متأكداً الآن إن كانت كذلك).

(2)

هل كان العلم العالي الخفاق تعبيراً عن كبرياء الأمة، وعنواناً لعزيمة الشعب؟ الإجابة مع الأسف ليست نعم بمل الفيه، فخلال 54 مرّة من اجترار هذه الذكرى، والتي وصلت الآن للمرّة 67، كان كبرياء الأمة رهناً لإرادة فرد حاكم متجبر، وسم نظامه بما شاء، وتحت لافتة أي مكون جاء، المهم أنّ ضابطاً في الجيش السوداني يذيع بيان انقلابه على إرادة الأمة الحقيقية، فعلها عبود، وتلاه النميري، ثم البشير وهاهو البرهان يسير على ذات النسق، هؤلاء الضباط (الرحمة لمن مات منهم والعدالة مطلب في وجه الأحياء)، هم في الواقع من أبناء هذا الشعب لا شك في ذلك، لكنهم أخطأوا في حق بلدهم وأهلم بتصدرهم لما ليس من واجباتهم المهنية، وتعبئتهم التاريخ الوطني بعد الاستقلال بممارسات الديكتاتورية من إهدار حقوق الإنسان، وحكم الفرد، والبطش والتنكيل بالمعارضين، وحماية الفساد والمفسدين، وكل هذه ممارسات حقيقية حدثت، وتتنافى جذرياً مع مفهوم كبرياء الشعب وعزيمته.

ثمّ من هو هذا الشعب الذي من المفترض أنّ العلم العالي الخفاق يعبر عن تطلعاته ويشحذ عزيمته؟ أهو شعب المديريات الجنوبية- سابقاً- والذي ظلّ لـ40 سنة كاملة يتعرض لعنف الدولة الوطنية، أم هم شعب جبال النوبة والذي عانى وما يزال من ويلات الحرب وقسوتها لحوالي 25 سنة مثل شعب النيل الأزرق، أم هم شعب دارفور لـ16سنة، وشعب شرق السودان لـ10 سنوات على الأقل؟ هذا هو تاريخنا منذ لحظة رفع العلم عالياً خفاقاً على سارية مقر الحاكم العام الاستعماري وتحويله للقصر الجمهوري (غير الاستعماري)!!

(3)

أمحق ذلك الشاب في طلبه للاستعمار الخواجي عوضاً عن الاستغلال الوطني؟ وجيل عظيم من بناتنا وأولادنا ممن يسودون الحاضر ويتوقون للمستقبل، رأيناهم رأي العين وهم ينشدون بناء مستقبل مغاير للماضي التعيس، عشنا معهم لحظات الشعور بالفخار والعزة والعزيمة، دغدغت عواطفنا لحظات خروجهم المهيب في وجه الديكتاتور العنيد  البشير، وهتافهم الداوي (تسقط بس)، وراقبناهم عن كثب وهم يشيدون في ساحة الاعتصام بروفة سودان الحلم الفسيح، رقصنا معهم كل تموجات الجسد السوداني، تذوقنا طعام نساء وادي هور في رمضان، وسمعنا الخطباء والمنشدين، وظللت صلاة الجمعة (مظلات) المسيحيين. بدأت نواة الغد في الانبثاق، وبدأ العلم يرفرف عالياً خفاقاً وفناناً وامتدت ألوانه لكيلومترات بحجم مساحة الجمهورية البروفة، وكانت حواضر الولايات حاضرة في مشهد الوطن المرتجى، وقراه، وحتى مخيمات النازحين واللاجئين دغدغها الأمل في نهاية المأساة وبدء طريق الاستقلال، وعواصم الدياسبورا تنهض بالنداء الجميل من لدن طوكيو إلى لوس انجلويس، فجأة انتكست الراية، تفرق الشباب ما بين قتيل وجريح ومفقود، واكتظت المشارح بالجثث التي توصف بـ(المجهولة)!! أهذا هو جزاء هؤلاء الشباب، أهكذا تصنع الشعوب مستقبلها، وجريمة فض الإعتصام لم تكن الأخيرة، تبعتها المجازر وقتل الأنفس في كل أرجاء البلاد الوسيعة التي يرفرف فوقها العلم العالي الخفاق، لست أدري أتعبيراً عن إرادة الأمة أم عنوانا لـ(خيبتها المجلجلة).

(4)

آن الأوان للكف عن الاحتفال الباهت، والمنلوج الممجوج، والأغنيات التي لا تطابق واقع الحال، يجب أن نتأمل بحس إنساني، تلك الأرواح التي تزهق يومياً، والدماء التي تسيل في كل بقعة، والحال التعيس الذي يعيش في كنفه ملايين المواطنين، الأطفال والنساء والمرضى والفقراء والمنفيين والنازحين، هل هذه موجبات نواح أم كرنفال أفراح، بلادنا منذ الاستقلال تهوي إلى أسفل، من درك إلى درك، ونحن نحتفل بالاستقلال!! عجباً.

تاريخ الخبر: 2023-01-08 12:24:12
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية