شرق السودان.. استحقاقات التأسيس والصراعات البينية


مجدي عبد القيوم (كنب)

الإقليم المنسي

لعنة الموارد أم نهبها؟

المسار الوحيد لحل مشكلة الشرق يمر عبر وحدة أهله

قضية الشرق يحلها أصحاب المصلحة الحقيقيين

لا مناص من طىء صفحة الخلافات للمساهمة في إعادة هيكلة الدولة

لابد من انعقاد مؤتمر قضايا شرق السودان

_____________

كزهرة الربيع رائع في صفوه
وفي انفعاله تهتاج ثورة انتحار
وداعة الحملان في سكونها شظية إنفجار

من قصيدة فيزي ويزي

لعلني وأنا ابتدر المقال بابيات من قصيدة شاعر الامبراطورية البريطانية روديارد كيبلنج المشهورة الفيزي ويزي التي يصف فيها شجاعة المقاتل البجاوي في معركة تاماي التي دخلت تاريخ البسالة والجرأة والاقدام على امتداد التاريخ البشري، انتقيت تحديدا من تلك القصيدة ما يشير إلى طبيعة البجاوي وفى تقديري أن الرجل عايش البجاوي واقترب منه كثيرا فتلك سمات خبرناها بحكم معايشة طويلة، “فالأدروب” كما عُرف في المصطلح الشعبي المتداول هو بحق مجبول على نقاء الدواخل مفطور على بياض السريرة مترع بمحبة الآخر ممراح وقاد الذهن حاضر البديهة، وفي الوقت نفسه شرس ومقدام غير هياب ولا وجل.

انتقيت تلك الأبيات التي رسمت بالكلمات صورة إنسان الشرق ذلك الإقليم المنسي لعهود تطاولت وفي الذهن يترأى خاطر، ترى هل تلك السمات هي إحدى مسببات تلك الأزمة التي عصفت وما انفكت بشرق السودان؟

لعلك تلك السمات تراها مجسدة لو تأملت شخصية الشاعر الباذخ الأدروب الأسمر ابو آمنة حامد التي تبدو في شعره الذي يعبر عن دواخله فهو بمثلما بدأ رقيقا مترع العاطفة جياشها في قوله:

يا حبيبي كلما
قلبى المغرم احتمى
بك وانزاح ملهما
عاد كأس بلا حبب

هو نفسه عاد ليس كما كأس الحب الطاغي بل قوة وصلابة وهو يقول:

ما نسيناك
جاي تعمل إيه معانا
بعدما بدلتنا
ما سقيناك
احلى ما في عمرنا
من عواطف وما
سليناك
جاي تعمل إيه؟

إنك أن تخيلت الصورة الذهنية لهذا الموقف ترى الحسم والقدرة العجيبة على مغالبة النفس و”القطع ناشف” في أبهى تجلياتها.
إنك تلمح هنا ذات الشخصية التي أبدع في وصفها الشاعر الإنجليزي التي ابتدرت بها المقال.

هذه السمات التي لا يسبر اغوارها العميقة إلا من عايشها والتصق بها التصاقا حميما وهي التي تشكل محددات السلوك وليس من شكل للبجاوي صورة ذهنية من خلال مخيلة شعبية وطفق يبحث عن حل قضايا الشرق في ردهات الصوالين والقاعات المترفة وورش الكلام “الفاضى وخمج” على قول الشاعر التي يحشد لها المنظمون “الدوبليرات” ممن استمرأوا ارتياد كل الفعاليات.

صحيح إن الشرق يعاني من إفرازات ضعف التنمية البشرية إلا أنه وبالمقابل يتميز بكوادر نوعية ذات كفاءة وتأهيل عاليين في مختلف المجالات وبالطبع هم أقدر على إيجاد حلول ناجعة لمشاكل أهلهم ومناطق.

هذا الإقليم المنسي الذي يرزح تحت “الثالوث الشرير” حتى الآن بسبب تداعيات انعدام التنمية المتوازنة على الرغم مما يذخر به من موارد، سيظل كعب اخيل الذي ينسف أي استقرار ما لم “ندع العيش لخبازه”.

لقد أتاحت ثورة ديسمبر المظفرة فرصة ثمينة لإعادة تأسيس الدولة السودانية ومعالجة الظلامات التاريخية الناجمة عن إشكاليات انعدام التنمية المتوازنة فدخلت أغلب أقاليم السودان اللعبة وانخرطت في هذه العملية، إلا أن الإقليم الشرقى ولأسباب متعددة اتخذ موقفا مغايرا من العملية الجارية، ومع الإيمان المطلق بتلك الأسباب إلا أن التقدير أن هكذا موقف سيضر بقضية الشرق أكثر مما يفيدها وسيجعل كل التضحيات التي قدمت لأجل القضية البجاوية تذهب هدرا.

إننا نعتقد أنه ليس من مصلحة الشرق الاكتفاء بالموقف السالب المنطلق من الرفض المبدئي لكل ما يُطرح بل ينبغي أن يتفاعل أهل الشرق بلا استثناء مع الجهود الجارية لإعادة تأسيس الدولة السودانية.

دون الأيغال في جفاف الأرقام للتدليل على هذه المأساة الإنسانية وبلا افاضة في تلك الصورة فإنه من المؤكد إن من بين تلك المأساة أن الموارد الضخمة التي يتمتع بها الإقليم يذهب جل عائدها إلى محفظة قومية لا ينال منها أهل الإقليم إلا الفتات.

مؤكد أن توزيع الثروة يرتبط وثيقا بملف السلطة وأعني السلطة الحقيقية وفقا لنظام فيدرالي حقيقي وليس منزوع الدسم كما هو الحال الآن.

في الاونة الأخيرة تجاوزت مسألة ضعف نصيب الإقليم من موارده إلى ما هو أسوأ فبدأ أن الإقليم أصيب بلعنة الموارد، فبات نهباً لحملة شرسة لنهب موارده التي هي موارد للبلاد ككل، من خلال مشاريع للشركات عابرة للقارات ووكلاءها من رأس المال الطفيلي في السودان.

هذا المشروع الذي يهدف إلى الاستحواذ على موارد الإقليم جر عليه نزاعات مفتعلة بين السكان الأصليين ألقت بظلالها على السلم الإجتماعي والتعايش الذي ظل أحد أبرز سمات مجتمع الإقليم تاريخيا.

هذه النزاعات التي تقف وراها عدة جهات مستخدمة ذات المنهج المعلوم فى إثارة القلاقل الاجتماعية عمقت من الأزمة ولعل المتابع عن قرب للمشهد يلحظ بوضوح أنه وعلى الرغم من أن القضية ليست عصية على الحل إلا أن المحاولات باءت بالفشل.

صحيح إن عدم معرفة طبيعة الشخصية البجاوية كما سلف وجهل أغلب من تصدوا الملف بالحقائق على الأرض والإصرار على فرض رؤى وحلول لا حظ لها من النجاح واتباع منهج الوصاية واقصاء اهل المصلحة الحقيقيين من مكوني البجا عقد من الأزمة إلا أننا لا يمكن أن نغفل الأطراف والإصابع الخارجية الإقليمية في رسم المشهد الماسأوي.

في التقدير أن معركة نهب الموارد معركة وطنية بامتياز ينبغي أن يشارك فيها كل الشعب السوداني وأن لا نترك أهل الإقليم كحراس للبوابة الشرقية لوحدهم يجابهون عدو شرس يتربص بهم ليزيدهم فاقة لا إملاق ويشعل النار تحت أقدامهم، والمطلوب من سكان الإقليم الاصليين إشراك كل قاطني الإقليم من مختلف القوميات، فهذه البلاد تخص كل سكانها.

مؤكد أن البلاد الآن تتجه نحو إعادة تأسيس الدولة طال الزمن أو قصر، بمعالجة القضايا المركزية التاريخية ومن بينها قضايا شكل الحكم والسلطة والثروة.

هذه الفرصة التاريخية التي أفرزتها ثورة ديسمبر المجيدة، لا يتأتى لأهلنا في شرق السودان المشاركة الفاعلة فيها على الأقل لضمان حقوقه الطبيعية ومعالجة تداعيات انعدام التنمية المتوازنة إلا أن استطاعوا معالجة الاختلافات البينية وتقديم أقصى ما يمكن من تنازلات من كل الأطراف وشراء مستقبل إنسان الشرق بالماضي.

المطلوب من كل الأطراف لجم جواد الخلاف الجامح والاحتكام لصوت العقل وطىء صفحة الاختلافات بكل ابعادها.

إن “المسار” الوحيد الذي يؤدي إلى حل مشكلة الشرق هو طىء الخلافات البينية وفتح صفحة جديدة “فنهاية العالم ليست خلف النافذة”.

هذا هو شرط اللحاق واستحقاق التأسيسي الوجوبي

كذلك المطلوب من الأطراف الأخرى سيما الرسمية عدم تسليم ملف الشرق لجهات لا تدرك خصوصية الإقليم.
ينبغي على الجهات الرسمية التعاطي مع ملف شرق السودان بأقصى درجة من الحذر وإبعاد أي عناصر مرفوضة من قبل أهل الشرق، سيما تلك التي يرون أنها تسببت فى خلق الأزمة بين مكوني البجا أو صبت الزيت على نار الخلافات.

والمطلوب من القوى السياسية التحلي بالنضج وروح المسؤلية الوطنية بعيدا عن المزايدات والصراع لأجل المكاسب الحزبية الضيقة والتصدي للمحاولات الحثيثة من أطراف إقليمية لنهب موارد البلاد.

إن كان من ثمة اشارة حرية بعدم أفعالها فهي إن على القوى السياسية عدم التعاطي مع أزمة شرق السودان وفقا لمحددات اللعبة السياسية وقوانيها فقط، فشرق السودان كمنطقة تعاني تداعيات انعدام التنمية المتوازنة ومن بينها وأهمها التنمية البشرية تتداخل فيه السلطة الرسمية مع سلطة الإدارة الأهلية بل ربما كانت الأخيرة هي الأقوى بحكم طبيعة المجتمع في هذه اللحظة التاريخية و التي لا يمكن القفز فوقها.

ليس من الحصافة إقصاء مؤسسة الإدارة الأهلية بل يعد هذا ضربا من المستحيل وليس مقبولا تصنيف الشخصيات العامة في إقليم يعاني من إشكاليات التنمية البشرية وفقا للقاموس السياسي أو المعايير التي يمكن أن تستخدم في الفضاء العام والابتعاد عن الانتقائية في التعامل واستخدام المصطلحات المخادعة من شاكلة فلول وإغراق أو اجتزاء مقولات المفكرين بلا سند معرفي.

في التقدير ومن خلال المعايشة ومتابعة عن كثب لملف الشرق إن انعقاد مؤتمر قضايا الشرق هو المنبر القادر على إحداث اختراق وإيجاد حل.

لقد فشلت كل المحاولات التي هدفت لحل الأزمة المعقدة لأنها أرادت القفز فوق الواقع ومعالجة الأزمة نظريا على الرغم من الأصوات التي تنادي بضرورة انعقاد المؤتمر.

إن انعقاد المؤتمر بعد التحضير الجيد كفيل بمعالجة كل الأسباب التي أدت إلى هذا المشكل سيما أن أغلب أهلنا في الشرق يتفقون على مرجعيات ووثائق المؤتمر والتي تشمل كل الاتفاقيات السابقة ابتداء من اتفاقية اسمرا وانتهاء بجوبا مرورا بمؤتمر أركويت وسنكات وكل الفعاليات التي تناولت القضية بالتشريح.

إننا نرى أنه ينبغي التركيز الآن على التحضير الجيد والدقيق لانعقاد مؤتمر قضايا الشرق.

تاريخ الخبر: 2023-01-19 12:23:11
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 67%

آخر الأخبار حول العالم

جاري القروض الصغرى المستحقة يصل إلى 8,4 مليار درهم في متم 2022

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 18:26:17
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

العلماء يعثرون على قبر أفلاطون بفضل الذكاء الاصطناعي "صورة"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 18:26:01
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 68%

العلماء يعثرون على قبر أفلاطون بفضل الذكاء الاصطناعي "صورة"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 18:26:10
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 55%

جاري القروض الصغرى المستحقة يصل إلى 8,4 مليار درهم في متم 2022

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 18:26:11
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية