عن دم كرم وظاهرة العنف المجتمعي
عن دم كرم وظاهرة العنف المجتمعي
انتشر مؤخرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي هاشتاج حق كرم الشهاوي لازم يرجع, والذي أطلقه أصدقاء الشاب كرم ذي الواحد والعشرين ربيعا الذي كان يستعد لأداء امتحانات نصف العام في كلية التجارة بكفر الشيخ.
إلا أن يد الغدر أسقطت كرم بعد أن تعرض لضربة شومة خلف الظهر ليدخل علي أثرها العناية المركزة لكنه سرعان ما فارق الحياة ليكتب سطرا جديدا من سطور صفحة سوداء باتت تسيطر علي كتاب الوطن.
صفحة تلونت سطورها بدماء الأبرياء الذين يسقطون بفعل التردي الاجتماعي وفقدان الثقة في القادم والجهل والبلطجة وغياب العدالة الناجزة.
رحل كرم تاركا أمه الثكلي التي ترملت مبكرا جدا ووهبت حياتها لتربية طفلها الوحيد تجلس كل مساء تغزل خيوط الأمل وتصنع الأحلام بعالم وردي وترقي اجتماعي يليق بتفوقه الدراسي والتزامه في كل مراحلها.
تفتح وعي كرم منذ طفولته علي أحضان أمه فصار يشعر أنه المسئول عن تلك السيدة يتفوق كي يسعدها وينتظر يوم التخرج كي تفخر به وتتباهي بما فعلت فقد نجحت في أن تربي هذا الشاب المتفوق الخلوق.
لكن قسوة الغدر لم تسمح لهما بتلك اللحظة وحرمت الأم من حلم عمره واحد وعشرون عاما لتستيقظ علي كابوس مرعب ومخيف يصعب استيعابه فقد تركها كرم الآن ورحل إلي عالم أكثر رحمة وهدوء وسكينة, ليسكن بين جفونها سحاب الحزن وتسيطر علي قلبها غيوم الضياع.. نعم سقطت الأم الثكلي في الأسي الأبدي الذي لن يخفف من وطأته سوي في حالة واحدة.. وهو القصاص بالحكم القضائي العادل علي الجاني.
كان يكرم يوزع علي كل من حوله طاقات الأمل ومعاني الشهامة والإيثار فهذه شيمة أهلنا البسطاء دائما.
لكن كل هذه المعاني سقطت مخضبة في دمه الزكي ليدفع ثمن شهامته وينتصر بموته لكل شيء نبيل تعلمه علي يد أمه التي منحته من أنفاسها وباتت تنتظر أن تنبت زرعتها الوحيدة غدا مشرقا وحياة هانئة ومستقبلا مضيئا.
سقط الطالب الجامعي علي يد غادرة اغتالت أحلام الأم وبعثرت في طرقات قرية برنبال أشواك الفقد والألم والكآبة ليترك الجميع في وضع لا يحسدون عليه تحاصرهم الأحزان والفقد وغصة في القلب لن تزول.
برنبال تلك القرية القديمة قدم التاريخ والطيبة مثل النيل في سكونه أحزان عديدة وامتلأت عيونها بالدموع وغرقت دروبها في الأسي لكن حالة كرم ليست كسابقتها فقد سكن الحزن البشر والشجر والمنازل واكتسي الجميع الحداد حتي أعتاب المنازل التي طالما جلس عليها كرم في أحضان أمه يستمع إلي حكايات نساء الحي حول التراث والذكريات الضاربة في التاريخ.
أصبح كرم جزءا من تلك الذكريات التي سوف تتناقلها الأجيال القادمة فقد دفع حياته ثمن شهامته وتدخله لإنهاء مشاجرة بين طلاب في كلية التجارة بجامعة كفر الشيخ لكن الموت دائما يخطف النبلاء ويحصد الطيبين.
في السنوات الأخيرة أصبح المجتمع المصري شديد القسوة وفي كل صباح -تقريبا- نطالع حوادث شديدة القسوة والغرابة لدرجة أن الواقع قد تجاوز في بشاعته ما يمكن أن يتخيله صناع الدراما في السينما والتليفزيون.
ماذا حدث للمصريين؟.. يمكن أن نرصد جميعا تلك الظواهر التي سيطرت علي مجتمعنا وتمكنت منه مثل العنف الأسري وتزايد معدلات الجريمة وانتشار حالات القتل علي الملأ وفي وضح النهار لكن الأخطر في تلك الظاهرة الدموية أن معظم أبطالها (الجاني والمجني عليه) من الشباب دون سن الثلاثين, ثم أن اللافت للنظر أنهم/ أنهن يرتكبون تلك الجرائم بقلب بارد, بشكل مخيف ومقلق فقد صار الدم سهلا وإزهاق الأرواح أمرا بسيطا وهينا جدا ودون أي إحساس بالذنب أو بالندم.
قد يعتبر البعض أن تأخر إجراءات التقاضي أحد أسباب تزايد تلك الظاهرة ويؤكدون ذلك بعدة أمثلة من أشهرها حالة الضحية نيرة أشرف وما تلاها من حوادث مشابهة ماتزال المحاكمات متداولة رغم أنها قضايا رأي عام ومثبتة بالصوت والصورة.. أتفق تماما مع أن العدالة البطيئة ظلم بعينه.
لكن علينا أيضا وفي المقدمة أن ننشغل بالبحث في أصل الظواهر ومحاولة الكشف عن عوامل تنامي حالة العنف في المجتمع, أدرك أن علي رأسها عوامل اقتصادية وقيمية والجانب السلبي من تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والسينما والتلفزيون وتراجع دور مؤسسات التعليم ومراكز الشباب ودور العبادة وغيرها العديد من العوامل التي تحتاج إلي دراسة عميقة وسريعة قبل فوات الأوان.. وقبل أن يسقط كرم جديد علي يد مجرم جديد وتتحول حياة أم وأسرة بكاملها إلي حالة بؤس وحزن مقيم في الضلوع.