التنوع الاقتصادي ما بين تقلبات أسعار النفط والسياسة المالية


يشكل التنويع الاقتصادي أحد أساسيات التنمية المستدامة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وذلك من خلال تنويع القاعدة الإنتاجية سواء في تعدد أنواع السلع والخدمات وكذلك الأسواق بما فيها الدولية. ومثل هذا التوجه في السياسة الاقتصادية سوف يعزز بالتالي قدرة الاقتصاد للدول على التكيف مع التقلبات الاقتصادية وتحديات المنافسة العالمية لضمان الآفاق الإيجابية للنمو على المدى الطويل في مواجهـة نضـوب المصادر الطبيعية، خصوصاً في الدول التي تعتمد على مصدر واحد للدخل كالنفط مثلاً. كمـا أن التنويع الاقتصادي يساهم بوتيرة متسارعة في تطوير بيئة الأعمال والتي سوف تؤدي إلى ابتكار مجالات جديدة من النشاط الاقتصـادي يمكنها أن تتسع لتلبية الزيادة في الاحتياجات الأساسية للسكان والتـي تدور حول توفير فرص العمل، والغذاء، والصحة والتعليم، والمسكن.

إن نظرة سريعة على هيكل الاقتصاد السعوي، تكشف لنا أن المملكة لا تزال تعتمد بشكل رئيسي في دخلها القومي على إنتاج سلعة واحدة وهو النفط، حيث بلغت مساهمة قطاع النفط بالأسعار الثابتة 40.1% في الربع الثالث عام 2022، في حين شكلت مساهمة القطاعات الإنتاجية للقطاع الخاص 46.1% وجاءت مساهمة الخدمات الحكومية بنحو 13.8%. علاوة على ذلك، فإن القطاعات غير النفطية في حد ذاتها غالبا ما تعتمد علـى الـنفط باعتباره المصدر الرئيسي لصناعة القيمة المضافة، والتي تشـتمل علـى مصـافي التكرير والصناعات البتروكيماوية، والأنشطة التي تشتق من صناعة النفط وبعـض القطاعـات غير النفطية مثل البناء والتشييد الذي يعتمد بشكل كبير على الانفاق الرأسمالي الحكومي، (الرسم البياني 1).

الرسم البياني 1: مساهمة القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الأجمالي

وفي مواجهة هذا التحدي تنبت المملكة العربية السعودية في خططها الخمسية التنموية من الخطة الأولى في بداية السبعينات وحتى الخطة العاشرة الأخيرة هدف التنويع الاقتصادي ضمن الأهداف التنموية الأخرى، غير أن تغيير هذا الواقع لم يزل غير ممكناً. فبعد أن تدرجت مساهمة قطاع النفط في الانخفاض خلال عقدي التسعينات والألفية الأولى حتى بلغت 42% في عام 2012 على إثر النجاحات المبكرة في التنويع الرأسي في قطاعي التكرير والبتروكيماويات، فإنه ظل محتفظاً بهذه النسبة من إجمالي الناتج المحلي، و أصبح من الصعب إحداث تغير كبير في جانب التنويع الاقتصادي الأفقي خارج القطاعات التي تعتمد على النفط بشكل مباشر أو غير مباشر.

إن بطء وتيرة التنوع الاقتصادي الأفقي تعود بشكل أساسي لضعف ترابط السياسة المالية بالخطط التنموية، حيث إن عائدات النفط وفوائضها المتراكمة التي شهدتها بعض الدورات الاقتصادية أوجدت حالة من الإسراف في الإنفاق الجاري على حساب الإنفاق الاستثماري. وفي ذات السياق أدت معدلات إنتاج النفط المرتفعة، والتي قد تكون قد فرضتها التزامات المملكة الدولية في المحافظة على استقرار أسواق النفط العالمية، وبالتالي الزائدة عن الحاجة في استيعاب إيراداتها محلياً بكفاءة إلى التوسـع في إجمالي الاستهلاك العام والخاص بمستوى مرتفع مما تسبب في نمو حجم الواردات من السلع ليس فقط بما يفوق حجم الصادرات غير النفطية، بل تجاوزت قيمة هذه الواردات في بعض السنوات حتى الإيرادات النفطية مما انعكس سلباً على الهياكل الإنتاجية المحلية، خصوصاً في غياب سياسة واضحة لدعم المنتج المحلي حينها.

كما تكمن المشكلة في استمرار هيمنة قطاع النفط ومحدودية مساهمة القطاعات الأخرى في الناتج المحلي بأن هذا المصدر الرئيسي للإيرادات الذي تعتمد عليه الحكومة في تمويـل النفقـات الجاريـة والرأسمالية في ميزانية الدولة تتداخل فيه عوامل داخلية وخارجية، حيث إن العوامل الخارجية تبقى هي الأكثر تأثيراً في تحديـد حجـم الإنتـاج ومستويات الأسعار، وبالتالي في مستويات الإيرادات الحكومية من هذا المورد. وقد لازمت هذه السمة النفط طيلة العقود الماضية كونه سلعة إستراتيجية والتي كان من شأنها أن تجعل اقتصاد المملكة عرضة لتقلبات أسواق النفط العالمية والتي لا ينحصر تأثيراتها في قطاع النفط والغاز، بل تمتد آثارها على جميع الأنشطة الاقتصادية سواءً تلك السلعية أو الخدمية نتيجة ترابطها مع الإنفاق الحكومي، والذي يتضح من خلال التذبذب في نسب مساهمة القطاعات الاقتصادية في إجمالي النمو الاقتصادي، (الرسم البياني 2).

لقد دفع تحدي التنوع الاقتصادي المملكة مؤخراً في عام 2016 إلى تبني إسـتراتيجية اقتصادية جديدة تأخذ بعين الاعتبار هذا الواقع لتكون منطلقا لتنويع الاقتصاد وتنويع مصادر الإيرادات الحكومية والتي أعلنت عنها الحكومة في رؤية 2030 حيث يقع تحتها 13 برنامجاً لتحقيق هذه الرؤية تسعى كلها إلى اسـتغلال كافة الإمكانيات المتاحة في البلاد، سواء كانت الطبيعية أو المكتسبة كالمعادن، والنفط والتكنولوجيا والمهارات البشرية وغيرها، بالإضـافة إلـى تبني السياسات المالية والاقتصادية التي من شأنها اختيار الاستثمار الأمثل للموارد المالية من حيث قياس المكاسب والخسائر للمشاريع الإنمائية مع التركيز على زيادة وتيرة تدفقات الاستثمارات الأجنبية بما يعظم أيضاً استقطاب المعارف والتكنولوجيا.

وبرغم حصة القطاع النفطي الكبيرة من الناتج المحلي فأنه ليس له القدرة على استيعاب قوة العمل المتنامية أو ان يكون مصدرا مستداما للوظائف، بل ساهم في تشكيل الهيكل الاقتصادي نحو الأنشـطة كثيفـة الاسـتخدام للطاقة مثل صناعة تكرير النفط والبتروكيماويات، والأسمنت، والحديد، والألومنيوم. وإن هذه الصناعات تشكل تنويعاً رئيسيا والتي هي أيضاً ذات كثافة رأسمالية عاليـة ولا تولـد إلا فرص عمل قليليه مقارنة بالقطاعات الأخرى، مما أدى إلى ضعف دور تنمية العنصر البشري في عملية تنويع الهيكل الإنتاجي. كما ساهم ذلك في تركز فرص العمل في الوظائف الحكومية سواءً المدنية أو الأمنية والعسكرية والتي يقدر أن بلغ إجماليها 3.2 مليون، حيث يشكل تعويضات الموظفين متوسط 50% من إجمالي الإيرادات الحكومية السنوية. وقد حققت المملكة تقدما في تنويع اقتصاداها رئسياً، حيث ارتفع مؤشر التنويع الاقتصادي والمسمى ((Complexity Index من نحو( 0.1) ما بين 1995 و2005 ليبلغ( 0.86 ) في عام 2020، كما تحسن ترتيب المملكة ما بين دول العالم في هذا المؤشر من المركز 41 في عام 2010 إلى المركز 32 في عام 2020، (الرسم البياني 3).

وفي حين أن جهود التنويع الاقتصادي تشكل أهمية أكبر في الدول المصدرة للنفط والغاز في ظل التقلبات العالية لأسعار النفط وتأثيراتها على استقرار الاقتصاد الكلي بالنسبة للدول المصدرة للنفط كالمملكة العربية السعودية، فأنه أيضاً ذات أهمية لكل الاقتصادات حيث تتبنى جميع الدول سياسات تعني بالتنويع الاقتصادي. ويهدف مؤشر التنويع الاقتصادي (complexity Index) الذي يتم إعداده من قبل مركز هارفرد للتنمية إلى قياس القدرات الإنتاجية للنظام الاقتصادي والمعرفة المتراكمة للدولة من عدة أبعاد والتي يتم التعبير عنها في ترابط الأنشطة الاقتصادية في 127 دولة. واستنادا على هذا المؤشر خلال الفترة 1996- 2021، شهد ترتيب المملكة تحسناُ إلا أن ماليزيا على سبيل المثال التي ابتدأت من مستوى أدنى من مستوى المملكة في هذا المؤشر في عام 1996 تجاوزت المملكة خلال العقدين الماضيين حيث اتسعت الفجوة ليبلغ تقييم مؤشر ماليزيا(1.1) في 2021، و كذلك المكسيك والتي هي دولة نفطية فقد قارب مقياس هذا المؤشر مستوى ماليزيا، في حين شهدت كوريا الجنوبية تطوراً سريعاً في التنوع الاقتصادي ليبلغ المؤشر (2.1)، و تحقق المركز الخامس في التنوع الاقتصادي عالمياً، (الرسم البياني 4).

*نقلا عن صحيفة "مال".

تاريخ الخبر: 2023-02-10 15:18:14
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 89%
الأهمية: 91%

آخر الأخبار حول العالم

قيادي بحماس: إذا استمر العدوان فلن يكون هناك وقف لإطلاق النار

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 03:26:00
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

قيادي بحماس: إذا استمر العدوان فلن يكون هناك وقف لإطلاق النار

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 03:26:08
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 64%

يُتوقع تسليمه شهر نوفمبر: تسارع وتيرة إصلاح المصعد الهوائي بعنابة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 03:24:32
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية