خلف جابر يكتب: هيلين كيلر على مسرح الهناجر

أن يولد الإنسان أصم وأبكم؛ فهو بذلك أضحى قلعة مغلقة على ذاتها. قلعة مات كل حمامها الزاجل؛ فلا هي تبعث برسائلها لأحد، ولا تنتظر ردًا من خارجها. تلك هي الحياة التي عاشتها الأديبة والناشطة الأمريكية هيلين كيلر. فبعد ١٩ شهرًا من ميلادها أصيبت بحمى، فقدت على أثرها السمع والبصر تمامًا، لكنّ يدًا إلهية امتدت إليها؛ وهبتها النور والمعرفة وتصاوير ما يدور خارج زنزانتها الأبدية؛ ومن ثم خرجت لنا معجزة لا عاجزة، وقدوة لا عبرة.
السينما استوحت من قصة هيلر أفلامًا كثيرة؛ أشهرها الفيلم الهندي Blac من إخراج يانجاي ليلا بهنسالي. لكن الفن أبدًا لم يطو صفحتها بعد؛ فضمن مشروع تعمل عليه المخرجة الشابة تغريد عبدالرحمن، قوامه مسرحة الأفلام السينمائية، وقفت هيلر ليلة أمس على مسرح الهناجر بدار الأوبرا، وقفت تحمل اسم "سعاد"، في نص رقيق وفلسفي؛ أعدته للمسرح الكاتبة الشابة إسراء محبوب.
النص الذي حمل اسم الفيلم الهندي؛ بدأ من اكتشاف الأم على لسان زوجها عجز ابنتهما عن السمع والبصر، لكن سعاد كانت أسوأ حظًا من هيلر، فأبوها لم يرسل في طلب معلم لها؛ بل كان قاسيًا في نسخته المسرحية، ينكر ابنته ويسعى إلى طردها خارج عالمه، حتى شروعه في أن يرمي بها إلى ملجأ يرعاها. لولا أمها "ثريا هانم" التي انتصرت لفطرتها تجاه طفلة لا تعرف بوجودها من الأساس، وهي الشخصية التي أجادت تقديمها الممثلة الشابة نورهان صالح.
أما الأب في رواية سعاد، فقد نجح الممثل الشاب محمد حمام في أن يدفعك إلى كره وجوده على خشبة المسرح، متمنيًا لو غاب عن عالم الطفلة المسكينة، غير متكئ على ملامحه فقط؛ بل تخرج قسوته منسابة من روحه. لكن سرعان ما تكتشف أنه لم يكن سوى هارب من الأمل، الذي هو أثقل على روحه من ابنته "المسخ". الفرحة التي تظهر على ملامحه فور تغير طفيف في شخصية ابنته؛ تجعلك تعيد قراءته، وفي الحالتين كان الفضل لممثل موهوب، ممسك بتلابيب شخصيته.
على المسرح مرت سعاد بمرحلتي الطفولة والشباب، في الأولى جسدتها الطفلة كارما سامح، وفي الثانية الممثلة الشابة يارا المليجي. وفي المرحلتين؛ ذابت الممثلتان في الشخصية، قدمتا سعاد كما لو أنهما قادمتان من عالمها في نزهة قصيرة.  الطفلة كارما سامح، جعلت الجميع يظن في كونها من ذوي الهمم. كانت تتحرك على المسرح بخطوات من ولدت كفيفة، لم تنس حركات وجهها غير المتزنة، التي هي إحدى علامات من ولدوا غير مبصرين، لا من أضاعوا بصرهم في الطريق.
يارا المليجي، وبعدما اكتشفت في «سعاد» أن العطب لم يطل أحبالها الصوتية، كانت أقرب إلى الكمال، كانت مثالًا واضحًا على الممثل الحرباء. وقد قدمت دورها بأداء ستانيسلافسكيا، أي بخلاف اهتمامها بالشكل الخارجي للشخصية، إلا أنها خرجت بسعاد من عالمها المظلم إلى خشبة المسرح، حيث يتضح مدى اهتمامها بدراسة الشخوص من الداخل؛ كما لو كانوا أناسًا حقيقيين، ومن ثم لم تسع إلى استجداء دموع الحاضرين؛ لكن ثمة صدق مخيف في أدائها طرف أعين الجميع.
المسافة ما بين سعاد الطفلة، التي تفتقر إلى آدميتها، بشكل يردنا إلى الإنسان في صورته الأولى؛ أي إنسان الغابة الذي يفتقر إلى اجتماعيته، وينزوي في وحدته خائفًا وعنيفًا، وصولًا إلى سعاد الشابة التي تحاول اللحاق بالجامعة، قطعها معلمًا اقتطع من عجينة الرسل، وهبها النور والمعرفة؛ التي ترى سعاد «أنها الله». هو «أستاذ رفعت»، الذي مشى رحلته مدفوعًا بتجربته الشخصية في عجزه عن إنقاذ شقيقته. متخليًا عن معاقرته الخمر؛ ذلك لأنه أضحى بـ سعاد في غير حاجة إلى أن يغيب عن وعيه، لا لكي يكسب ثقة والدها كما يبدو. كل تلك المشاعر ما كانت ستصل لولى الممثل الشاب الموهوب محمود سليمان.
قدم «سليمان» شخصية المُعلم بتنويعات صوتية ما بين الرقة الشديدة التي تدفعك إلى البكاء، وما بين علو صوت المتمكن لا الصارخ. هو ممثل عارف بخشبة المسرح، مدرك لأبعاد خطواته عليها. يتحرك كمن يروض حيوانًا مفترسًا، بينما يداعب بطبقات صوته الإنسان داخله.
تحرك محمود سليمان في خطوط درامية نسجتها الكاتبة إسراء محبوب. حاولت به كثيرًا اقتحام القلعة المظلمة المسماة «سعاد». استخدمت له حوارًا فلسفيًا بديعًا، ومعرفة تامة بلغة برايل، لكن لأنها تعرف أن القلاع ربما يحتاج اختراقها إلى مهرج لا سيف أو حراب؛ ابتدعت الكاتبة شخصية «عنايات» و«سمير» و«عطية»، الذين قدمهم الممثلون الشباب: آية خلف، ومحمود عساف، رامي جابر. وقد أضافوا إلى النص حسًا ساخرًا؛ سهل تجرع مرارة التجربة الحياتية للفتاة الكفيفة الصماء.
«Blac» هو عرض مسرحي مكتمل.. كل في مكانه يؤدي دوره بإتقان، فلا يمكن أن تغفل ديكور رنا أشرف، الذي لم يتخل عن بساطته وواقعيته وتوظيف أركان المسرح بما لا يشكل عبئًا على عين المشاهد. إضاءة وليد درويش أيضًا كان لها دور كبير في صنع عالم سعاد. النور المتسع كلما اتسعت بصيرة الفتاة لم يأت عبثًا؛ بل وعلى طريقة الفن يشير ولا يقول. كل شعاع ضوء محسوب ومدروس، ذلك لأن صناعة نفسية الكفيف أصعب من إنارة عالم المبصرين.
العرض، الذي هو جزء من مشروع مسرحة السينما؛ للمخرجة تغريد عبدالرحمن؛ وأظنها لم تفقد الفيلم السينمائي كثيرًا من عناصره؛ خرج متماسكًا وجاذبًا للجمهور حتى آخر مشهد، وقد أعدته إسراء محبوب بحسها الفلسفي، على طريقة السيناريو السيدفيلدية. وهو مشروع مبشر، يستحق أن يشاهده صناع السينما، خلال ليالي عرضه على مسرح الهناجر.

تاريخ الخبر: 2023-02-14 00:21:53
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

طلبة الطب يعودون إلى الاحتجاج

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:25
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

طلبة الطب يعودون إلى الاحتجاج

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:19
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 67%

بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:02
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 67%

بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 15:26:10
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية