عُرى بلورى

أعرف أننى سأموت منزويًا فى طريق عام، هناك بجوار قاعدة أسمنتية لكوبرى علوى. وسوف يكون الشارع خاليًا من المارة تقريبًا. غير أننى أرى بوضوح الكلب مبتور الساق الذى حدق بى، سوف يتأمل المشهد طويلًا دون أن يفهم لماذا يموت البشر هكذا!

أستطيع الآن أن أشم رائحة اليوريا وهى تخرج من أعضاء السكارى، لكنّ أحدًا لم يسمعنى وأنا أصرخ، إن كفنى ضيق حتى يخنقنى، وقبرى مثقوب تصفر فيه الريح.

هل كان الوقت شتاءً؟

لقد حملنى التاكسى إلى طريق لم أذهب إليه قبلًا، واعتذر السائق بأنه لا يستطيع أن يمضى لأكثر من ذلك، ولو فعل فلن يعرف كيف يعود! لذا كان علىّ أن أحدد موقعى بنفسى، فضلًا عن أننى لا أملك ساعة يد.

لقد ارتفعت تعريفة التاكسى فجأة وأنا فيه، هذا ما استطاع السائق أن يقوله. لم أكن أعبأ بما سوف أدفعه، فقد أتفادى نظرات الموتى التى أُثمل عينيه بهم.

هل هو ميت أيضًا! لمَ تلك الأسنان التى بلون الجرانيت تلاحقنى فى مرآته الأمامية، فأمد رأسى من النافذة لأتقيأ.

قال: إنه يكره أن يركب السكارى سيارته، ثم أوقفها فجأة وانفتح الباب أتوماتيكيًا، فكل شىء مبرمج بدقة، ومعد سلفًا كما علمت بعد ذلك. إن هذا المكان هو ما يجب أن أنزل فيه بالضبط.

فهل كان الوقت شتاءً حقًا؟

الشارع خالٍ من المارة تمامًا. فقط كلب مبتور الساق يعبر وحيدًا. الأسفلت مبلول فعلًا، لكنى لا أعرف يقينًا، إذا ما كان ذلك بفعل المطر؟ ثم إن السماء نفسها تمارس قهرًا مزاجيًا: يمكنها مثلًا أن تمطر صيفًا، وسوف أصاب بالإنفلونزا، فلست متحفظًا فى ملابسى بما يكفى.

كان ينبغى أن أتناول كثيرًا من فيتامين «C» بلا قلق بشأن الحموضة المعدية، فثمة أقراص يمكنها أن تقدمه متعادلًا، لكننى لا أعرف يقينًا إذا كان الوقت شتاءً حقًا؟

كأننى رأيت المكان من قبل. وكأن هذا قد حدث من قبل. كل ما حدث، يحدث من جديد.

ثمة مارة قليلون يتجولون بطول الساحل، والمسافات بين العشاق مناسبة للبنت التى تبيع المناديل الورقية. فى هذه المرة بالذات لست فى حاجة إليها. إذ تجرعت كميات هائلة من الليمون ومضادات الهيستامين حتى لا أضطر للعطاس فى وجه عشيقتى، وليس ثمة عرق على الإطلاق، والعادات السرية لم تعد تناسب الذين تجاوزوا الأربعين، فلماذا أشترى المناديل؟

هل تفرض الأماكن طقوسها علينا؟

لقد رأيت الجميع يشترون، وكنت هناك أجول بين ثنائيات العشاق، أختزن المشاهدات اليومية، بلا يقين من أنها لم تحدث من قبل.

كنت أفكر على نحو غريب فى لقاءاتنا السرية. النور مطفأ لتوهم الجيران بأنها ليست موجودة. وليتأكد الإيهام تمامًا، كان الجيران يطفئون أنوارهم أيضًا. وكنت كلما انتهيت فكرت فى هذا الأمر: إن كان هذا قد حدث فعلًا.. والآن؟ أم أنه حدث من قبل؟ لم يرنا أحد ونحن نفعله. لا يقين.. لا يقين، وفيما هى تضمنى إليها، وتغمرنى بعرى بلورى، شفاف بلا عمق كنت أرى مشهد موتى أسفل الكوبرى.

قلت: لقد رآنى الكلب مبتور الساق، وتشمم المكان الذى سأموت فيه.

كانت تبدأ من جديد، تقول:

- ربما يلزمنا فضيحة لنرتوى.

وبفرض أنها أضاءت النور، فهل يضىء الجيران أنوارهم لنرى أنفسنا؟

سوف تظل الأفعال لا تحدث بالنسبة لمن لا يرونها، وسوف نجد أنفسنا مضطرين للبدء من جديد.

«حين تشعر فجأة بأن الناس حولك يتحدثون لغات شتى، كانوا يتحركون بطريقة توحى بأنه لا أحد يفهم الآخر، باستثناء تلك الأصوات القبيحة التى يطلقونها، شخرات ولعنات ولكمات يسددونها فى الهواء، وهم يكزون على أسنانهم من الغيظ».

- هل تشم رائحة عرقهم؟

تبدو كفتات خبز متخمرة فى مسقاة الفراريج، وفى نهاية المشهد سوف ترى البالرينات يسبحن أمام لجنة المحكمين ذوى الشعور المستعارة.

لماذا يتصرف مدير مجمع الأسماك بهذه الوقاحة؟

كيف أيقن أننى لن أنفعل لو غازلها بعبارات مكشوفة كتلك؟

ثم إننى على سبيل الكبرياء، لم أتابع أثر كلماته على وجهها، لقد خجلت من الالتفات خلفى حيث كنت أسبقها بخطوة.

وما أدرانى الآن أنها ابتسمت له؟

ثم إنها لما كنا فى السينما وكانت الأشياء تحدث على شاشة مسطحة، ضمتنى إليها فجأة. قالت وهى ترتعش: لا تتركنى يا ابن الكلب.. ولكنى الآن لا أذكر إن كنا ونحن نغادر المكان صافحناه أم لا؟ أقصد مدير مجمع الأسماك، لكن رائحة السمك ظلت تفوح من جلدهما كلما تعرينا، فأصبح لنا جسدًا.

تاريخ الخبر: 2023-03-19 12:23:17
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 69%

آخر الأخبار حول العالم

رئيس نيجيريا يصل إلى الرياض - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-27 03:23:49
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية