وعود سخية
وعود سخية
للانتقام لذة لحظية لا تدوم, تخلف بعدها ندما شديدا, تدمر المنتقم وتتركه فريسة للشعور بالذنب, الانتقام ابن القهر, مصنع الاضطراب النفسي, إنه الثأر للنفس المصحوب بالكراهية الشديدة والرغبة العارمة في رد الصفعة للمسيء, هذه هي العقدة التي حاولت أحداث المسلسل العربي وعود سخية حلها, عبر خمس عشرة حلقة تم عرضها علي عدد من القنوات الفضائية ضمن الحشد الهائل من الدراما الرمضانية التي سلطت الضوء هذا العام علي حقوق المرأة وتأثير الظلم المجتمعي عليها, ذلك الظلم الذي يرتد في وجه المجتمع مرة أخري عبر الثأر او الاستسلام للقهر.
بطلة وعود سخية, النجمة حنان مطاوع, التي أبدعت في تجسيد دور الفتاة المقهورة ابنة الأسرة الفقيرة, التي لم تنل حظها من التعليم, تمتلك قلبا عطوفا, وتعول والدها الكفيف, لكنها لم تنج من الأطماع, فنصب لها زوج السيدة التي تعمل في منزلها خادمة, فخا ليقايضها علي شرفها مقابل إجراء جراحة لوالدها, وبينما ترفض العرض تنقض عليها سيدتها لتتهمها في عرضها, وتفضحها في الحي, فيتخلي خطيب سخية عنها بل ويحاول الاعتداء عليها, ويقوم صديقه بتصوير الواقعة ونشرها علي مواقع التواصل الاجتماعي, فيشاع عنها أنها فتاة فاسدة الأخلاق, وتصبح مطمعا لكل عابر, فتضطر سخية لترك سكنها والحي الذي تربت فيه, لم يحتمل والدها عجزه عن الدفاع عنها أو رد كرامتها, فينهار تحت وطأة المرض ولا تجد المال الذي يعينها علي علاجه فيموت, لتتحول سخية الطيبة إلي امرأة شريرة تعود لتنتقم من الجميع.
ركز النص والإخراج في كل مشهد من مشاهد المسلسل علي العلاقة الوثيقة بين قهر النساء تحت سيف الظلم المجتمعي القائم علي النوع الاجتماعي, وتحول المجتمع إلي ساحة صراع كبيرة, فبطلات المسلسل واحدة مطمع للرجال لكونها فقيرة وحيدة, وأخري تنكفئ علي حالها لجلب لقمة العيش والإنفاق علي ولدها الذي لا يعوله أب مدمن ومنحرف, وثالثة تعاني من الخيانة المستمرة من زوج يلهث خلف شهواته, كل ذلك في سياق درامي بسيط, مبني علي حكاية من الحارة المصرية التي تشبه آلاف الحكايات اليومية التي تعبر علينا ولا نلتفت اليها ونعتبرها قصصا عادية, بينما هي أزمة مجتمعية محتدمة وعنف موجه ضد المراة, وهكذا جذبتنا وعود سخية لقاع الحقيقة, لنقف أمام أنفسنا عراة في مرايا الواقع الظالم للنساء, ذلك الواقع الذي يجور عليها فقط لأنها أنثي, فيقتص منها بكل السبل, وكأنه يثأر من صبرها علي القهر عبر قرون.
وبعيدا عن الحبكة الدرامية التي -من وجهة نظري- كان ينقصها بعض الإتقان في الإخراج, ولم يحالف المخرج أحمد حسن التوفيق في جزء منها, أجد أن حنان مطاوع أعطت من روحها وأعصابها ما يفوق الوصف, لتجسد الشعور بالقهر لدي المرأة في مجتمع ذكوري بامتياز, والإحساس بمذلة الفقر, وبطش القادرين, بعمق في الأداء وصدق منقطع النظير, دموعها أبكتنا, وشرها أوجعنا, وتوبتها نفذت إلي أعماقنا عبر بساطة النص الذي يحسب له أنه ابتعد عن الشعارات الرنانة المتعلقة بحقوق المرأة, ليتجنب المسحة غير الواقعية التي تقع فيها بعض الأعمال, لذلك فإن البطل الأول للعمل هو المؤلف أحمد صبحي الذي أبدع في النص وكان واقعيا جدا للدرجة التي لا يستطيع المشاهد معها اتهام صبحي بالمبالغة, ولا يمكنه التحول عن الشاشة, حتي يعلم الخاتمة المريرة للثأر في حياة ليست عادلة. ويصل في نهاية وعود سخية إلي أن الانتقام رغم أنه اختيار الشخص المقهور إلا أنه لا يجدي ولا يطفئ نار القهر بل يزيدها اشتعالا. وإن الغفران الذي يأتي مبكرا هو طوق النجاة الوحيد من مشاعر القهر والذنب والمذلة التي انتجتها أيادي الظلم.
لم تكن سخية أو حنان مطاوع, هي الوحيدة التي أبدعت في هذا العمل الفني, لكن حظي أيضا الفنان أحمد كشك بتميز شديد, جسد كشك دور حمادة المدمن عديم الأخلاق, الذي يفعل أي شيء من أجل المال, فاستخدمته سخية ليكون اليد التي تضرب بها, ورغم ذلك وصفته بأنه نجس اليد ودني, كشك يتمتع بموهبة فذة, وتلقائية, قام بالدور بدون أي أفتعال, بأداء يدفعك للضحك مع خفة ظله والتعاطف مع قلة حيلته والبكاء لضعفه, والنفور من تدنيه, شخصية مركبة لشاب عاش ضحية لليتم والتشرد, تخلي عن مسئوليته تجاه ابنه, وألقي الحمل علي زوجته, وعلي مستوي آخر من الصراع يتعرض المؤلف للجانب النفسي من شخصية حمادة, فهو الزوج المتيم بحب زوجته لكنه يخذلها كل يوم ويضربها ويخونها, ولا يستطيع الاستغناء عنها, وحينما يرحل ولدهما عن الحياة علي أثر حقنة مضاد حيوي فاسدة, يختل حمادة وتنفك العقدة فيطلق زوجته. إنها مهارة الربط بين السبب والنتيجة في شخصية حمادة, التي تشير إلينا علي مواطن الضعف الإنساني وتقدم العبرة لجمهور المشاهدين, ففي لحظات الصدق والإفاقة من الصدمات نقرر الاستغناء عن أنانيتنا ونؤمن بمحدودية قدراتنا وعيوبنا فنترك من نحب ليكون حرا منا.
وعود سخية.. مسلسل بسيط بدون مط أو إطالة, استطاع تسليط الضوء علي الآثار المدمرة لكل أشكال العنف ضد المرأة, المادي والجسدي والنفسي, والتي تطال المجتمع بأكمله وتضربه في أساسه, فالمرأة هي الأم التي تربي وتنشئ الأجيال فماذا ننتظر من امرأة مقهورة جسديا وماديا ونفسيا؟