اليوم وبعد ما يُقارب عشرة آلاف عام من الثورة الزراعية قد نكون أمام نقلة نوعية مشابهة في تأثيرها على البشر، تتمحور حول الذكاء الصناعي وحول "عبودية" جديدة.

في كتابه الشهير والممتع (العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري) يقدّم المؤرخ يوفال هراري طرحاً مثيراً، مفاده أنّ الثورة الزراعية كانت أهم نقطة تحوّل في التاريخ البشري كلّه، وأنّ الانتقال من "الصيد و الجمع" إلى "الغرس والحصاد" لم يكن تحولاً في طبيعة العمل فقط، بل انتقالاً بالإنسانية ذاتها من كينونة مضطربة مقيدة بأغلال البحث الدائم عن الطعام، إلى كينونة حرّة مستدامة ترعرعت فيها، بجانب القمح، اللغة والثقافة والأديان وغيرها من الخصائص التي نستخدمها اليوم للتعريف عن ذواتنا.

ثمّ يواصل هراري طرحه ليفاجئنا بفرضية أنّ الحقيقة هي أنّ القمح هو الذي استأنس (أو حتى استعبَد) الإنسان وليس العكس، فالقمح هو الذي استغل حاجة الإنسان ليتحول من نبتة بائسة لا تكاد تكون ذات قيمة، إلى أكثر الكائنات الحية انتشاراً وقوة في معادلة البقاء، وأنّ الثمن الذي دفعناه كبشر عبيد للقمح في هذا الانتقال من الصيد والجمع إلى الغرس والحصاد هو مجتمع الحضر الذي تميزه هيكليات الظلم المبنية على تكديس المادة.

اليوم وبعد ما يُقارب عشرة آلاف عام من الثورة الزراعية قد نكون أمام نقلة نوعية مشابهة في تأثيرها على البشر، تتمحور حول الذكاء الصناعي وحول "عبودية" جديدة، فمع سرعة تطور وانتشار خوارزميات الذكاء الصناعي قد نجد أنفسنا في القريب العاجل أمام سيناريو تحول لا يُغير فقط كيف نعيش، بل يُغير بشكل أساسي من هويتنا كبشر.

ومثل القمح فإنّ الذكاء الصناعي يمكن أن ينتهي به الأمر إلى "تدجيننا"، وذلك ليس في شكل روبوتات واعية كما يجري تصويرها في أفلام الخيال العلمي غالباً، ولكن من خلال تسلل أكثر صمتاً وانتشاراً في كل جانب من جوانب حياتنا يؤسس لعلاقة جديدة بين الإنسان والخورازمية لا يمكن معها الفصل بين هذا وتلك بالسهولة التي نتصورها.

فعالم اليوم هو عالم ننتقل فيه بسرعة من خوارزميات "سيري" التي تنظمّ أجنداتنا اليومية إلى خوارزميات السيارة التي تتّخذ عنّا قرار الوقوف أو السير أمام إشارة أو عائق مروري ما، إلى خورازميات التواصل الاجتماعي التي تضعنا في فقاعة ترفيهية مرسومة بدقة، ثم ربّما إلى خوارزميات أخرى تأخذ عنّا قرارات أكثر مصيرية، وهو عالم يطرح كل يوم وبشكل جدّي سؤالاً جذرياً حول ما نظن أنّه أهم ما يميزنا كبشر: حرية الاختيار.

تحديات حوكمة الذكاء الصناعي

تمتلك تقنيات الذكاء الصناعي ثلاث خصائص رئيسية تجعل منها أمراً لا يشبه أي تقدّم أو تطوّر أو تغيير سبق في تاريخ البشرية كلّه.

أولا: سرعة التطور

تطور تقنيات الذكاء الصناعي ليس سريعاً فقط، بل هو تحليق خيالي السرعة، لدرجة أنّ بعض العلماء يعتقدون بأنّ العقل البشري غير قادرٍ على استيعاب تلك السرعة، وأنّه غير مؤهل لذلك.

فمن الناحية الرياضية يحكم تطور تلك التقنيات ما يُعرَف بالنمو الأسي المضاعف، أي أنّها تتسارع تباعاً لدالة أُسية أساسها دالة أُسية كذلك.

وفي تراثنا العربي قصة شهيرة حول عالم الرياضيات الذي يعلّم الأمير لعبة الشطرنج، ثم يقترح أن تكون مكافأته عن ذلك حبة قمح في أول مربع على الرقعة تتضاعف مع كل رقعة تليها، وبعد سخرية الأمير وحاشيته من ضآلة كمية القمح في البداية تكون خلاصة القصة، أنّ الأمير يدرك أنّه لن يستطيع أن يدفع ثمن تلك المكافأة ولو باع كل ملكه لأن نمو المكافأة في هذه القصة نمو أُسّي.

فلنا أن نتخيل سرعة النمو إذا كان أصل الدالة أُسياً كذلك وإذا لم تكن تحدّنا مربعات رقعة الشطرنج الأربعة والستون.

ومثل الأمير في القصة ستكون مطاردة أي مشرّع لتقنيات الذكاء الصناعي لحوكمتها مباشرة شبيهةً بإنسان يركض محاولاً اللحاق بسفينة فضاء تتحرك بسرعة الضوء.

ثانياً: التسليع وسعة الانتشار والإتاحة

علاوةً على سرعة النمو والتطور، فتقنيات الذكاء الصناعي ليست حكراً على برج عاجي، لأنّها لا تحتاج إلى منشآت ضخمة، كما في حال تقنيات الطاقة النووية مثلاً، أو مختبرات كبيرة التمويل، كما في حال تقنيات الحوسبة الكمومية مثلاً، بل هي تقنيات قابلة للاستخدام والتطوير على أجهزة بسيطة نسبياً وبقدر معقول من التكلفة والمستوى المعرفي.

اليوم، وبعد أقل من نصف عام على إطلاق النسخة الأولى من تشات جي بي تي، أضحت أدوات وخدمات الذكاء الصناعي سلعة شبه يومية لعشرات الملايين من المستخدمين العاديين.

وفي الغد القريب حين تربط ميكروسوفت نسختها من الذكاء الصناعي (كوبايلوت copilot) في جميع منتجات ويندوز وأوفيس سيصل العدد إلى مئات الملايين وربما المليارات.

هذا المستوى من الانتشار والإتاحة والتسليع، ليس فقط بالنسبة للاستخدام بل والتطوير أيضاً بخاصة فيما يتعلق بتقنيات الذكاء الصناعي القائمة على النماذج اللغوية الضخمة، هذا المستوى يجعل أيّة محاولة كلاسيكية مركزية لحوكمة هذه التقنيات ضرباً من المحال.

ثالثا: القصور المعرفي

تقوم خوارزميات الذكاء الصناعي الحالية -خوارزميات الشبكات العصبية- على محاكاة جزئية لفرضية غير مثبتة علمياً حول كيفية التفكير الإنساني، مضيفة إليها حوسبات إحصائية معقدة لتحليل كم ضخم من البيانات.

وينتج عن هذه المحاكاة الجزئية الفرضية قصور معرفي يحدّ قدرتنا على التنبؤ بنتائج استخدام هذه التقنيات في سياق ما، لأنّ الإدراك المعرفي في هذه الحالة مقتصر على الكيفية ولا يشمل الماهية.

ولذلك فحتى أكبر خبراء الذكاء الصناعي اليوم لا يمكنهم التنبؤ حول نتائج استخدام نسخة محددة من منتج محدد في سياق محدد، ناهيك عن التنبؤ بنتائج الاستخدام والتسليع واسع الانتشار وفي سياقات لم يجرِ تعريفها بعد.

في الحوكمة التنويرية الحديثة، تعدّ المعرفة حجر أساس تتكئ عليه كل آليات التشريع والرقابة والعقاب، وانتفاء هذه المعرفة يعني أنّ أساليب الحوكمة التنويرية سيكون مصيرها الفشل؛ لأنّها ستحاول حوكمة الذكاء الصناعي كما حاولت الكنيسة حوكمة السحر والشعوذة في القرون الوسطى مثلاً.

نحو نهج جديد في حوكمة التقنية

كما أثبتت سُبل الحوكمة المركزية فشلها في تنظيم التقنيات الرقمية العابرة للحدود كوسائل التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال فهي ستفشل أيضاً في حوكمة وتقنين الذكاء الصناعي، بخاصة إذا أصرّت على تبني أُطر مركزية قائمة على الحظر والتقييد.

لأنّ مثل هذه الأُطر الصلبة تخاطر بخنق الابتكار وغالباً ما تصبح قديمة قبل أن يجري تنفيذها بالكامل، وفي حال الذكاء الصناعي قبل البدء بتنفيذها أصلاً، وسيبدو المشرّع فيها كمن يحاول السيطرة على أمواج بحرية شديدة القوة والارتفاع باستعمال شبكة صيد يدوية متهالكة.

البديل الجديد والواعد هو "الحوكمة بالمنفعة"، وهو نهج لامركزي مبني على ركائز الشفافية والتعاون والتعزيز الإيجابي، في هذا النموذج وبدلاً من نهج "من أعلى إلى أسفل" تصبح الحوكمة مسؤولية جماعية تشترك فيها مجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومات والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني، من خلال إنشاء نظام بيئي يشجع على الشفافية والمساءلة.

فلا يكون فيها أصحاب المصلحة مجرّد مشاركين سلبيين، ولكن مساهمين نشطين في تشكيل مشهد الذكاء الاصطناعي، علاوةً على ذلك، يعترف هذا النهج بأهمية حلقات التغذية المرتدة، إنّها تُمكّن من التطور المستمر لآليات الحوكمة من خلال دمج الأفكار والدروس المستفادة من نشر أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهذا يضمن أنّ إطار الحوكمة لا يزال متكيفاً ومتجاوباً مع مشهد الذكاء الاصطناعي المتغير باستمرار.

في المقالات القادمة سنتعمق أكثر في الدروس والعِبر المستقاة من المحاولات الحالية لحوكمة الذكاء الصناعي، مثل مشروع القانون الأوروبي وردود الفعل عليها، وفي الحاجة إلى نظرة شاملة جديدة للحوكمة لا تأخذ الذكاء الصناعي فقط بعين الاعتبار، بل علاقة التشريع بحد ذاته بخطر أكبر يتعلق بالخوارزموقراطية أو حكم الخوارزميات كنظام بدأ يلقي مراسيه في مجتمعاتنا منذ اليوم.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي