لطالما اتسم المشهد المالي العالمي بعدم اليقين، فعلى مر التاريخ، زعزعت العديد من الانهيارات السوقية والركود الاقتصادي أسس أقوى المؤسسات المالية.

على بعد أشهر قليلة من نهاية العام، وفي الوقت الذي نجح فيه الاقتصاد الأمريكي بتجنب الوقوع في شرك الركود، خرجت أصوات تحذر من إمكانية أن تواجه وول ستريت، مركز النظام المالي العالمي، الانهيار في المستقبل القريب.

أحد أبرز تلك الأصوات كانت للمستثمر المخضرم مايكل بوري، الذي اشتهر بتنبؤاته الدقيقة بانهيار سوق العقارات عام 2008، وذلك بعدما أقدم على الرهان بأكثر من 1.6 مليار دولار على انهيار سوق الأسهم الأمريكي بحلول نهاية العام الجاري.

أدى كل هذا الخوف وعدم اليقين إلى انطلاق همسات حول الانهيار المحتمل التالي لسوق الأسهم، وهو الأول منذ بداية وباء فيروس كورونا في عام 2020. فهل يستطيع السوق الاستمرار في تصحيح نفسه؟ أم أن الانهيار ما زال يلوح في الأفق؟

ما المقصود بانهيار سوق الأسهم؟

انهيار سوق الأسهم يشير إلى وضع تراجع حاد وشديد في قيمة الأسهم المتداولة في البورصة، وهو يمثل هبوطاً حاداً ومستمراً في أسعار الأسهم على مدى فترة زمنية معينة. يحدث انهيار سوق الأسهم عادة عندما يصبح هناك تراكم كبير للبيع والضغط على الأسعار دون وجود توازن مع الطلب.

هناك عدة عوامل قد تسهم في حدوث انهيار سوق الأسهم، مثل عدم اليقين الاقتصادي، وأخبار سلبية تؤثر في السوق، وزيادة في أسعار الفائدة، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وأحياناً حتى التداولات الأوتوماتيكية والخوارزميات التي يمكن أن تزيد من تقلبات السوق.

وقد يؤدي انهيار سوق الأسهم إلى آثار اقتصادية واجتماعية خطيرة، مثل تقلص الثروات الشخصية، وخسائر لصناديق التقاعد والاستثمار، وتراجع الثقة في الاقتصاد، وزيادة في معدلات البطالة وهي الأمور التي حدثت في انهيارات سابقة.

"الانهيار قادم لا محالة"

ذكرت صحيفة ذا إندبندنت البريطانية أن مايكل بيري، الذي مثَّل شخصيته الممثل الأمريكي الشهير كريستيان بيل في فيلم "The Big Short"، قد راهن بأكثر من 1.6 مليار دولار على أن انهيار وول ستريت سيحدث لا محالة بحلول نهاية هذا العام.

وتُظهر إيداعات لجنة الأوراق المالية الأمريكية، الصادرة يوم 14 أغسطس/آب، أن بيري راهن على خيارات سلبية في سوق أسهم "ستاندرد آند بورز 500″ وبورصة "ناسداك 100″، وكلاهما يمثل الاقتصاد الأمريكي بشكل عام. يذكر أنه في الدوائر المالية، غالباً ما تحظى تنبؤات مايكل بيري الهبوطية باهتمام أكثر من رهاناته المتفائلة.

بدورها، قالت شبكة سي إن إن الأمريكية إن بيري استخدم أكثر من 90% من محفظته للمراهنة على تراجع السوق. وتبيّن أن شركة بيري الاستثمارية "Scion Asset Management" اشترت عقوداً بـ866 مليون دولار في "خيارات البيع" ضد صندوق يتتبع مؤشر "ستاندرد آند بورز 500″، وعقوداً بـ739 مليون دولار في خيارات البيع ضد صندوق يتتبع مؤشر "ناسداك 100".

ويأتي هذا الرهان رغم ارتفاع مؤشر "ستاندرد آند بورز" بنسبة 16%، ومؤشر "ناسداك 100" بنسبة 38% هذا العام.

في المقابل، وفي ظل الخلفية المشمسة لسوق الأسهم المتصاعد على ما يبدو، يرى أحد المحللين المخضرمين أن رهان بيري على انهيار سوق الأسهم مجرد رهان خاسر. وقال مارك تشايكن، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة "تشايكن أناليتكس": سيكون مخطئاً مثل ما كان مايك ويلسون مخطئاً. في إشارة إلى كبير استراتيجيي الأسهم في بنك مورغان ستانلي، الذي فوجئ بالارتفاع التاريخي في الأسهم هذا العام بعد توقعات سلبية سابقة.

ومع ذلك تجدر الإشارة الى أن بيرى توقع عدة أحداث بدقة خلال السنوات الأخيرة، ومنها على سبيل المثال تحذيره فى وقت مبكر من أبريل/نيسان 2020 من أن التضخم قد يصبح مشكلة. وعندما وصل نمو الأسعار إلى أعلى مستوى له فى 40 عاماً الصيف الماضى توقع بشكل صحيح أنه سينخفض فى غضون أشهر. كما أنه قرع جرس الإنذار بشأن جموح أسعار العملات المشفرة قبل أن تنخفض العام الماضى.

مَن مايكل بوري؟

مايكل بوري. الصورة: Dimitrios Kambouris/Getty Images (Others)

مايكل بوري طبيب ومستثمر ومدير صندوق تحوط أمريكي حصل على تقدير كبير لتوقعاته الدقيقة للأزمة المالية لعام 2008 ودوره في الأحداث التي صورها الكتاب والفيلم اللاحق "The Big Short"، الذي أدى دوره فيه الممثل كريستيان بيل.

استفاد بوري من أزمة الرهن العقاري عن طريق البيع على المكشوف في سوق سندات الرهن العقاري لعام 2007، وحقق أرباحاً لنفسه تُقدر بنحو 100 مليون دولار، بالإضافة إلى ما يقرب من 700 مليون دولار لمستثمريه.

في عام 2008، أغلق بوري شركته "Scion Capital" للتركيز على استثماراته الشخصية. وبعد ذلك، في عام 2011، أسس شركة "Scion Asset Management"، وهي شركة استثمار خاصة لا يزال يديرها اليوم ومقرها في وادي السيليكون، كاليفورنيا.

مرونة وول ستريت

أثارت المخاوف بشأن التضخم وارتفاع أسعار الفائدة ومجموعة من الأحداث العالمية الفوضوية خلال عام 2022 موجة بعد موجة من التقلبات في سوق الأسهم. وفي في الوقت الذي تكثر فيه التوقعات والتكهنات، يرى الكثير من الخبراء أن السوق، الذي يشهد تداول مليارات الدولارات يومياً، قائم على شبكة معقدة من الترابطات التي تجعل الانهيار المفاجئ لوول ستريت أقل احتمالية مما قد يعتقده البعض.

وكانت الدروس المستفادة من الأزمة المالية لعام 2008 قد دفعت إلى إجراء إصلاحات تنظيمية مهمة لتعزيز استقرار الأسواق المالية. إذ جعلت هذه الإصلاحات النظام المالي أكثر مرونة من خلال فرض لوائح أكثر صرامة على المؤسسات المالية، وتعزيز ممارسات إدارة المخاطر، وضمان قدر أكبر من كفاية رأس المال.

وترتبط صحة وول ستريت ارتباطاً وثيقاً بالحالة العامة للاقتصاد الأمريكي. ومع ذلك، فإن الاقتصاد الأمريكي شديد التنوع، حيث تساهم قطاعات مختلفة مثل التكنولوجيا والرعاية الصحية والتصنيع بشكل كبير في نموه. يعمل هذا التنوع كعازل، مما يقلل من تأثير أزمة وول ستريت المحتملة على الاقتصاد الأوسع. على عكس الوضع في عام 1929 أو 2008، عندما تسببت الإخفاقات المنهجية في حدوث ركود عالمي، فإن المشهد الاقتصادي الحالي أكثر قوة وقدرة على التكيف.

انهيارات تاريخية

على مر التاريخ، مر السوق بالكثير من حالات الصعود والهبوط الشديدة. وعند النظر إلى الوراء، نجد أن انهيار وول ستريت هو أمر صعب للغاية، ولكنه شيء يمكن التغلب عليه وإعادة إحيائه بناءً على التجارب السابقة، ومنها:

1- الكساد الكبير عام 1929: على مدار أيام قليلة، انخفض مؤشر "داو جونز الصناعي" (DJIA) بنسبة 25% تقريباً. لقد استغرق الأمر ما يزيد قليلاً عن عقد حتى يعود الاقتصاد إلى مستويات ما قبل الكساد. كانت الصناعة من الحرب العالمية الثانية هي التي ساعدت في إعادة الأمور وتشغيلها.

2- انهيار سوق الأسهم عام 1987: خسر السوق 22.6% من قيمته في يوم واحد عُرف لاحقاً باسم الاثنين الأسود. لكن في غضون عامين، استعادت وول ستريت كل شيء فقدته.

3- أزمة 11 سبتمبر 2001: تسببت الهجمات الإرهابية على مبنى التجارة في هزة كبيرة في السوق، لكنها صححت نفسها بسرعة فائقة. فبعد شهر واحد فقط، عادت سوق الأسهم إلى مستويات 10 سبتمبر/أيلول واستمرت في الارتفاع طوال نهاية عام 2001.

4- الركود العظيم عام 2008: فقد مؤشر "داو جونز الصناعي" أكثر من 50% من قيمته في وقت قصير جداً. ولكن بعد عامين، عاد السوق أقوى من أي وقت مضى، واستمر في الصعود من عام 2009 إلى ما قبل انهيار فيروس كورونا مباشرة.

5- انهيار فيروس كورونا عام 2020: في مارس/آذار 2020، تسببت جائحة كوفيد-19 في أسرع انهيار عالمي في التاريخ المالي. ومع ذلك، تعافت سوق الأسهم بسرعة كبيرة، وأغلق العام نفسه بارتفاع قياسي.

في الواقع، يقول الاقتصاديون الآن إن الركود الناجم عن انهيار فيروس كورونا كان الأقصر على الإطلاق، إذ استمر شهرين فقط.

TRT عربي